الباحث القرآني
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ [[في أ: "الآية".]] الْكَرِيمَاتِ: أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقدَم رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ: "أَبُو عَامِرٍ الراهبُ"، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّر فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ علْم أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ. فَلَمَّا قَدم رسولُ اللَّهِ ﷺ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِق اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ، وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ، وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فألَّبهم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ، وَامْتَحَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. [[في ت، ك، أ: "للتقوى".]]
وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَجُرِحَ فِي وَجْهِهِ وكُسِرت ربَاعِيتُه الْيُمْنَى السُّفْلَى، وشُجَّ رَأْسُهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وسبُّوه. فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَر. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فِرَارِهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وتمرَّد، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا، فَنَالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ [[في ت، أ: "المسلمون".]] مِنْ أُحُدٍ، وَرَأَى أَمْرَ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ [[في أ: "صلى الله عليه وسلم".]] فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى هِرَقْلَ، مَلِكِ الرُّومِ، يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَوَعَدَهُ ومَنَّاه، وَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ يَعِدُهُمْ ويُمنَّيهم أَنَّهُ سيقدمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعقلا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَنْ يَقْدَمُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبه ويكونَ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ، وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِمْ، لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: "إِنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
فَلَمَّا قَفَلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ [[في أ: "صلى الله عليه وسلم".]] رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرار، وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ مَسْجِدِ قُبَاءَ، الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ مَنْ هَدَمه قَبْلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ] ﴾ [[زيادة من أ.]] وَهُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، ابْتَنَوْا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ، ابْنُوا مَسْجِدًا وَاسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَآتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ [[في ت، ك: "فتجب".]] أَنْ تُصَلِيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ إِلَى ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .
وَكَذَا رُوي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، وَمُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عُمَر بن قتادة وغيرهم، قالوا: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -يَعْنِي: مِنْ تَبُوكَ -حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ -بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ -وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصِلِّيَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفر وَحَالِ شُغل -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ". فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ أَتَاهُ خبرُ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُم أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ -أَوْ: أَخَاهُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ -أَخَا بَلْعِجْلَانَ فَقَالَ: "انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ". فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمَ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي. فَدَخَلَ أَهْلَهُ فَأَخَذَ سَعَفا مِنَ النَّخْلِ، فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يَشتدَّان حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا﴾ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا خُذَامُ بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عُبَيد بْنِ زَيْدٍ، أَحَدُ [[في أ: "جد".]] بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشِّقَاقِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، ومعتِّب بْنُ قُشير، مِنْ [بَنِي] [[زيادة من ت، أ، وابن هشام.]] ضُبَيعة بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَذْعَرِ، مِنْ بَنِي ضُبَيعة بْنِ زَيْدٍ، وعَبَّاد بْنُ حُنَيف، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ: مُجَمِّع بْنُ جَارِيَةَ، وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ ونَبْتَل [بْنُ] [[زيادة من ت، أ، وابن هشام.]] الْحَارِثِ، وَهُمْ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبَحْزَجٌ وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثمان وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيعة، [وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ] [[زيادة من ت، أ، وابن هشام.]] رَهْطُ أَبِي لَبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. [[السيرة النبوية لابن هشام (٢/٥٣٠) ورواه الطبري في تفسيره (١٤/٤٦٨) . وانظر الكلام على هذه الرواية وتفنيدها في كتاب الفاضل: عداب الحمش "ثعلبة بن حاطب المفترى عليه (ص ١٣٨) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾ أَيْ: الَّذِينَ بَنَوْهُ ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى﴾ أَيْ: مَا أَرَدْنَاهُ بِبُنْيَانِهِ إِلَّا خَيْرًا وَرِفْقًا بِالنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ: فِيمَا قَصَدُوا وَفِيمَا نوَوا، وَإِنَّمَا بَنُوهُ ضِرارا لِمَسْجِدِ قُباء، وَكَفْرًا بِاللَّهِ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: "الرَّاهِبُ" لَعَنَهُ اللَّهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْأُمَّةُ تَبَع لَهُ فِي ذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَقُومَ فِيهِ، أَيْ: يُصَلِّي فِيهِ أَبَدًا.
ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُباء الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ بِنَائِهِ عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَجَمْعًا لِكَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ ومَعقلا وَمَوْئِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مسجد قباء؛ ولهذا جاء فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُباء كعُمرة". [[رواه الترمذي في السنن برقم (٣٢٤) وابن ماجه في السنن برقم (١٤١١) من طريق أبي أسامة - عبد الحميد بن جعفر - عن أبي الأبرد مولى بني الخطمة - عن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه، وبه. وقال الترمذي - كما في تحفة الأشرف (١/٢٧٥) : "حديث حسن صحيح، ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من حديث أبي أسامة".]] وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يزورُ مَسْجِدَ قُباء رَاكِبًا وَمَاشِيًا [[صحيح مسلم برقم (١٣٩٩) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.]] وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ وَنُزُولِهِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي عَيَّن لَهُ جِهَة الْقِبْلَةِ [[سنن أبي داود برقم (٤٤) وسنن الترمذي برقم (٣١٠٠) ، وسنن ابن ماجة برقم (٣٥٧) .]] فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِيَ مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "نزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: "مَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا خَرَجَ مِنَّا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْغَائِطِ إِلَّا غَسَلَ فَرْجَهُ -أَوْ قَالَ: مَقْعَدَتَهُ -فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ. "هُوَ هَذَا". [[المعجم الكبير (١١/٦٧) وفيه محمد بن حميد وهو ضعيف، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن.]]
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَين بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا شُرَحْبِيلُ، عَنْ عُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ حَدّثه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُباء، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ [عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ] [[زيادة من ت، أ، والمسند.]] فِي الطَّهور فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَهَّرُونَ بِهِ؟ " فَقَالُوا: وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ -مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا.
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزيمة فِي صَحِيحِهِ. [[المسند (٣/٤٢٢) وصحيح ابن خزيمة برقم (٨٣) وقال الهيثمي في المجمع (١/٢١٢) : "وفيه شرحبيل بن سعد ضعفه مالك وابن معين وأبو زرعة ووثقه ابن حبان".]]
وَقَالَ هُشَيْم، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لعُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ. "مَا هَذَا الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَغْسِلُ الْأَدْبَارَ بِالْمَاءِ. [[رواه الطبري في تفسيره (١٤/٤٨٧) .]]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمارة الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ خُزَيمة بْنِ ثَابِتٍ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ قَالَ: كَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ. [[رواه الطبري في تفسيره (١٤/٤٨٧) .]]
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ -يَعْنِي: ابْنَ مغْوَل -سَمِعْتُ سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا [[في أ: "لقد".]] قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَعْنِي: قُبَاءَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ خَيْرًا، أَفَلَا تُخْبِرُونِي؟ ". يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ: الاستنجاءُ بِالْمَاءِ. [[المسند (٦/٦) .]]
وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَقَتَادَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي هُوَ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعيم، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. [[المسند (٥/١١٦) .]]
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أسِّسَ على التقوى، فقال أحدهما: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ [[في ت، أ: "الرسول".]] ﷺ. وقال الآخر: هو مسجد قباء.
فَأَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلَاهُ، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" [[المسند (٥/٣٣١) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٣٤) : "رجاله رجال الصحيح".]] تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" [[المسند (٣/٨٩) .]] تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هُوَ مَسْجِدِي".
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ [[المسند (٣/٧) وسنن الترمذي برقم (٣٠٩٩) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٢٢٨) .]] وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أُنَيْس بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي خَدْرة، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ العَمْري: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ" لَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ: "فِي ذَاكَ [خَيْرٌ كَثِيرٌ] [[زيادة من ت، ك، أ، والمسند. وفي أ: "خير كبير".]] يَعْنِي: مَسْجِدَ قُبَاءٍ. [[المسند (٣/٢٣) .]]
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ -حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الْخَرَّاطُ الْمَدَنِيُّ، سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ [[في ت، ك، أ: "سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد".]] فَقُلْتُ: كَيْفَ سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ فَقَالَ أَبِي: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي بَيْتٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ الْمَسْجِدُ [[في أ: "أي مسجد".]] الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا". ثُمَّ قَالَ: [فقلتُ لَهُ: هَكَذَا] [[زيادة من ت، ك، أ، والطبري.]] سمعتَ أَبَاكَ يَذْكُرُهُ؟.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهِ [[تفسير الطبري (١٤/٤٧٧) وصحيح مسلم برقم (١٣٩٨) .]] وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ، بِهِ. [[صحيح مسلم برقم (١٣٩٨) .]]
وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْقَدِيمَةِ الْمُؤَسَّسَةِ مِنْ أَوَّلِ بِنَائِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ مَعَ جَمَاعَةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعِبَادِ الْعَامِلِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ [[في ت، ك، أ: "من".]] مُلَابَسَةِ الْقَاذُورَاتِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ شَبِيبًا أَبَا رَوْحٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ بِهِمُ [[في ت، أ: "فيها".]] الرُّومَ فَأَوْهَمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّهُ يَلْبَسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، إِنْ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ مِنْ ذِي الكَلاع: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَهُ [[المسند (٣/٤٧١، ٤٧٢) .]] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِكْمَالَ الطَّهَارَةِ يُسَهِّلُ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ، وَيُعِينُ عَلَى إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا وَالْقِيَامِ بِمَشْرُوعَاتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ إِنَّ الطَّهُورَ بِالْمَاءِ لَحَسَنٌ، وَلَكِنَّهُمُ الْمُطَّهِّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ، وَالتَّطْهِيرُ مِنَ الشِّرْكِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ، فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِأَهْلِ قُبَاءٍ: "قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ، فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟ " فَقَالُوا: نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ. ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ فَسَأَلَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ.
ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ولم يرو عنه سوى ابنه. [[مسند البزار برقم (٢٤٧) وقال الهيثمي في المجمع (١/٢١٢) : "فيه محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري ضعفه البخاري والنسائي وهو الذي أشار بجلد مالك".]] قُلْتُ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ [[في ت، ك، أ: "الفقهاء به".]] وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَوْ كُلِّهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayahs_start":107,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا وَكُفۡرࣰا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادࣰا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ","لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدࣰاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا وَكُفۡرࣰا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادࣰا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق