الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلاَّ الحُسْنى واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: ١٠٧ ـ ١٠٨].
في هذه الآيةِ: تعظيمُ المساجدِ أنْ تُبنى لغيرِ اللهِ، ولو كانتْ في ظاهرِها أنّها له، لأنّها مَجمَعُ المؤمِنين، ودَلالةٌ على توحيدِ ربِّ العالَمين، وهي بيوتُه، وأهلُها زُوّارُه، فيجِبُ أنْ تُطهَّرَ عن كلِّ مَقصَدِ سوءٍ.
وقد بُنِيَ مسجدُ الضِّرارِ بكيدٍ بينَ النصارى والمُنافِقينَ، فقد كان في الخَزْرَجِ رجلٌ يُقالُ له: أبو عامرٍ، تنَصَّرَ وترهَّبَ وتنسَّكَ في الجاهليَّةِ بالنصرانيَّةِ، ولمّا قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ، وظهَر أمْرُه، وقَوِيَتْ شوكتُه، غاظَهُ ذلك وتربَّصَ به الدوائرَ، وفَكَّرَ وقَدَّر، وقُتِلَ كيف قدَّر، ولَحِقَ بقُرَيْشٍ يُحَرِّضُهم، ثمَّ لَحِقَ بهِرَقْلَ وأَبْدى نصرانيَّتَهُ، وأنّه على مِلَّتِهم ويُريدُ الخَلاصَ مِن مِلَّةِ محمدٍ، فكاتَبَ قومًا مِن المنافِقينَ بتلك المكيدةِ، لِيَبْنُوا المسجدَ ويكونَ مكانًا له يأمَنُ على مَن يُريدُهُ مِن المُنافِقينَ، ويَلتقِي بهم ويُمْلِي عليهم، ويَجمَعُ السِّلاحَ لقتالِ النبيِّ ﷺ وأصحابِه، فبَنَوُا المسجدَ، وجاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يَلتمِسونَ برَكَتَه وتشريعَهُ للصلاةِ فيه، وفي هذا عِظَمُ تواطُؤِ المنافِقينَ مع اليهودِ والنَّصارى.
طُرُقُ المُنافِقينَ في حَرْبِ الإسلامِ:
وللمُنافِقينَ مسالكُ وطرقٌ في حربِ الإسلامِ والإضرارِ به، وإضعافِهِ وتشويهِ أهلِه، وجامعُ طُرُقِهِمْ في ذلك طريقانِ:
الطـريقُ الأولُ: محاربتُهُ بالممنوعِ، وهذا الطريقُ يَسلُكونَهُ في حالِ قُوَّتِهم وأَمْنِهم، فيتَّخِذونَ وسائلَ ظاهرةَ المُحادَّةِ للإسلامِ مِن خارجِه، بإعانةِ الكفارِ مِن أهلِ الكتابِ وغيرِهم بالمالِ واللِّسانِ وغيرِ ذلك، كما يَفعَلُ مُنافِقو المدينةِ معَ يَهودِها، حينَما يَنصُرونَهُمْ ويُعَزِّرُونَهُمْ ويُثبِّتونَهُمْ ويَعِدُونَهُمْ بالمُؤاخاةِ واتِّحادِ المصيرِ معَهم.
الطريقُ الثاني: محاربتُهُ بالمشروعِ، وهذا الطريقُ يَسلُكونَهُ في حالِ ضَعْفِهم وخَوْفِهم، فيتَّخِذونَ وسائلَ مشروعةً يُحسِنُ الناسُ الظنَّ بها، ويُقبِلونَ عليها، لِيُدخِلوا مِن خلالِها ما يُريدونَ مِن خُبْثٍ وشَرٍّ، وهذا يكونُ باستعمالِ وسائلِ الإسلامِ، كبناءِ المساجدِ وطباعةِ الكتبِ واستعمالِ أدلَّةِ التشريعِ المُشتبِهةِ لتسهيلِ مُرُورِ ما يُريدونَ مِن الشرِّ باسْمِ الإسلامِ، فإذا وجَدوا دليلًا مُشتبِهًا يَعْضُدُ شَرَّهم، تمسَّكوا به وأذاعُوه وأشاعُوه، ليتَترَّسوا به، وإذا وجَدُوا دليلًا صريحًا مُحْكَمًا يُعارِضُ هواهُمْ، كَشَحُوا بوُجُوهِهِمْ عنه.
وتعظيمُ المتشابِهاتِ اختبارٌ لموقفِ المُنافِقينَ مِنها، قال تعالى: ﴿فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧].
ومِن هذا الطريقِ بَنَوْا مسجدَ الضِّرارِ، لمّا عجَزوا عن حربِ الإسلامِ مِن خارجِه، بَدَؤُوا به مِن داخِلِه، مع ما في بناءِ المساجدِ مِن إنفاقِ مالٍ وجهدٍ، إلاَّ أنّهم بذَلُوا ذلك لجُمْلةٍ مِن المَقاصِدِ الظاهرةِ والخفيَّةِ:
منها: شَقُّ صفِّ جماعةِ المُسلِمينَ حولَ النبيِّ ﷺ في مَسْجِدِهِ ومَجْلِسِه، وتدليسُهُمْ أنّهم لم يَجْمَعوا الناسَ حولَهُمْ إلاَّ لأجلِ عبادةِ اللهِ، لا لأجلِ الدُّنيا، وإنّما غايتُهم تعطيلُ ما يَدْعو إليه رسولُ اللهِ ﷺ، وهذا ما لا يُدرِكُهُ أهلُ الغَفْلةِ والغَرارةِ مِن المؤمنِينَ.
ومنهـا: أنّهم يُريدونَ الانفِرادَ بالمؤمِنِينَ، فيَجلِسونَ إليهم، ويُحدِّثونَ بما يُريدونَ مِن الهوى والفتنةِ، ولا يَسْمَعُهُمْ أحدٌ كالنبيِّ ﷺ وخيارِ الصحابةِ وكبارِهم، لأنّهم لن يتَخلَّفُوا عن الصلاةِ في مسجدِ النبيِّ ﷺ، وقد كان للمُنافِقينَ وجاهَةٌ وظهورٌ أولَ الأمرِ، يَقُومُونَ ويتَحدَّثونَ ويُسمَعُ لهم قبلَ انكشافِ أمرِهم، كما كان لِعَبْدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ مقامٌ في مسجدِ النبيِّ ﷺ يَخطُبُ فيه يومَ الجُمُعةِ قبلَ غزوةِ أُحُدٍ، ويُذكِّرُ الناسَ ويَحُثُّهم على الاقتداءِ برسولِ اللهِ ﷺ واتِّباعِه.
ومنها: أنّهم يُريدونَ أن تكونَ لهم يدٌ عُلْيا على الإسلامِ وأهلِه، فيَثِقُ الناسُ بهم، ويقومونَ بقيادتِهم في مصالحِهم الأُخرى، وإذا قالوا، سُمِعَ لهم، فيَطمَعونُ في العلوِّ على الإسلامِ والهَيْمَنَةِ عليه بواسطةِ تشييدِ صُروحِه.
وهذا إذا كان في مَساجِدَ ظاهرةٍ وهي بيوتُ اللهِ، فكيف مَكْرُهم بما هو دُونَ ذلك مِن خِدْمةِ العِلمِ ونشرِ الخيرِ وتشييدِ وسائِلِ الإعلامِ وغيرِ ذلك، ممّا هو أكثَرُ خَفاءً وأشدُّ لبسًا على المُسلِمينَ؟!
قولُه تعالى: ﴿وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلاَّ الحُسْنى﴾، فيه: أنّ اللهَ دلَّلَ للنبيِّ والمؤمنينَ على سُوءِ قَصْدِ المُنافِقينَ بما سلَفَ مِن أفعالِهم وقُرْبِهم ممَّن يُحارِبُ اللهَ ورسولَه، وكانوا على قُرْبٍ ومودَّةٍ مِن أبي عامرٍ الراهبِ النَّصْرانيِّ عدوِّ النبيِّ ﷺ وأصحابِهِ، قال ابنُ عبّاسٍ ومجاهِدٌ وعُرْوةُ بنُ الزُّبَيْرِ وغيرُهم بأنّه المقصودُ بقولِه: ﴿وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ [[«تفسير الطبري» (١١/٦٧٦ ـ ٦٧٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٨٠).]].
وفي هذا: أنّه مِن العقلِ والحِكْمةِ سَبْرُ الأحوالِ السابقةِ للناسِ قبلَ الحُكْمِ على فعلٍ ظاهرٍ فعَلُوه، وعدَمُ فصلِ ما سبَقَ منهم عمّا لَحِقَ، فإنّ أفعالَ المُنافِقينَ تُفهَمُ بسِياقاتِها لا بذاتِها، فمَن نظَرَ إلى بعضِها بذاتِه، استحسَنَها واغتَرَّ بها، وزعَمَ الجاهلُ توبتَهُمْ وصلاحَ أمرِهم، وهذا ظاهرٌ في الآيةِ.
وفيما سبَقَ لمّا بيَّنَ اللهُ لنبيِّه أنّهم لو خرَجُوا للجهادِ ـ وهو عملٌ عظيمٌ صالحٌ ـ لَأَفْسَدُوا فيه، كما قال: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إلاَّ خَبالًا﴾ [التوبة: ٤٧]، ثمَّ قال مبيِّنًا دليلًا ظاهرًا للحُكْمِ عليهم: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ﴾ [التوبة: ٤٨]، فسِيرتُهُمُ السابقةُ بتقليبِ الأمورِ وقصدِ الفتنةِ حَرِيَّةٌ أنْ تَجْعَلَهم بَعِيدينَ عن فِعْلِ الخيرِ بِنِيَّةٍ صادقةٍ، بل لغاياتِ شرٍّ وفتنةٍ.
تأكيدُ المُنافِقينَ أفعالَهُمُ الصالِحةَ بالأَيْمانِ:
وفي قولِه تعالى: ﴿ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلاَّ الحُسْنى واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ﴾ أنّ كثرةَ الأَيْمانِ لتأكيدِ الأفعالِ الصالحةِ مِن علامةِ المُنافِقينَ، لأنّ المؤمِنَ تَكْفِيهِ سِيرَتُهُ السابِقةُ وظاهرُ فعلِه لإحسانِ المؤمنينَ الظَّنَّ به، وإنِ احتاجَ إلى اليمينِ فعِنْدَ الحاجةِ إليها في الأمورِ المشتبِهةِ، لا الأمورِ البيِّنةِ، فبناءُ المساجدِ لا يَحْتاجُ إلى يمينٍ مِن مؤمِنٍ لِبَيانِ حُسْنِ قصدِه، ولكنَّ المنافِقَ يَعلَمُ مُناقَضةَ باطنِهِ لظاهِرِه، فيُكثِرُ الأَيْمانَ لتسكينِ ما يَعلَمُهُ مِن نَفْسِهِ ويَعتقِدُ اطِّلاعَ الناسِ عليه، والمنافِقُ تَعجِزُ أفعالُهُ عن الإقناعِ فيُؤكِّدُها بأَيْمانِه.
قولُهُ تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ بَنى المُنافِقونَ مسجِدَ الضِّرارِ قريبًا مِن مسجدِ قُباءٍ، ليكونَ مِثلَهُ في القصدِ والبُعْدِ عن مسجدِ النبيِّ ﷺ، فلا يُتَّهَمُوا بقُرْبِهِ مِن مسجدِهِ فيُهدَمَ، فإنّ حالَهُ كحالِ قُباءٍ، ويَظُنُّونَ أنّ حُكْمَهُ كحُكْمِه.
المَسْجِدُ الذي أُسِّسَ على التَّقْوى:
اختُلِفَ في المرادِ بالمسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقْوى المذكورِ في الآيةِ، وتَردَّدَ قولُ السلفِ والخَلَفِ فيه بينَ مسجدِ النبيِّ ﷺ وبينَ مسجدِ قُباءٍ، وسببُ الخلافِ: أنّ اللهَ ذكَر وصْفَ المسجدِ، وكلُّ واحدٍ مِن المسجدَيْنِ أحَقُّ بالوصفِ مِن وجهٍ، وذلك أنّ مسجدَ النبيِّ ﷺ أحَقُّ بوصفِ التَّقْوى في قولِه: ﴿أُسِّسَ عَلى التَّقْوى﴾، ومسجدُ قُباءٍ أحَقُّ بالسَّبْقِ بالبناءِ في قولِه: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾، فقد بُنِيَ قبلَ مسجدِ النبيِّ ﷺ، وقد اختَلَفَ السلفُ في ذلك على أقوالٍ ثلاثةٍ:
الـقـولُ &#١٣٣،الأولُ: قولُ جماعةِ السلفِ، أنّ المرادَ به مسجدُ النبيِّ ﷺ، فقد ثبَتَ في مسلمٍ، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: «دَخَلْتُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسائِهِ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أيُّ المَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى؟ قالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِن حَصْباءَ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قالَ: (هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذا)، لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ»[[أخرجه مسلم (١٣٩٨).]].
وفي «المسنَدِ»، مِن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ نحوُهُ[[أخرجه أحمد (٥/٣٣١).]]، وهذا القولُ رُوِيَ عن عمرَ وابنِ عمرَ وزيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ المسيَّبِ[[«تفسير الطبري» (١١/٦٨٢، ٦٨٣)، و«تفسير ابن كثير» (٤/٢١٦).]].
القولُ الـثـاني: قولُ ابنِ سيرينَ، أنّ المرادَ به كلُّ مسجدٍ بُنِيَ على التَّقْوى بالمدينةِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٨٢).]].
القولُ الثالثُ: قولُ ابنِ عبّاسٍ، رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، بأنّه مسجدُ قُباءٍ[[«تفسير الطبري» (١١/٦٨٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٨٢).]]، لأنّه أولُ مسجدٍ بُنِيَ في الإسلامِ لمّا نزَل النبيُّ على بني عمرِو بنِ عَوْفٍ في قُباءٍ يومَ الاثنَيْنِ، فأقامَ فيهم فأسَّسَ مسجدَ قُباءٍ، ثمَّ ارتحَلَ عنهم يومَ الجُمُعةِ إلى بني سالمِ بنِ عوفٍ، فصلّى عِندَهم الجمعةَ، وهي أولُ جمعةٍ في الإسلامِ، ثمَّ ذهَبَ ودخَلَ المدينةَ، ونزَلَ على بني مالكِ بنِ النَّجّارِ على أبي أيُّوبَ، فأَسَّسَ مسجِدَهُ بالمِرْبَدِ الذي كان للغُلامَيْنِ اليتيمَيْنِ.
وبقولِ ابنِ عبّاسٍ قال الشَّعْبيُّ والحسنُ وأبو سَلَمةَ وعُرْوةُ وسعيدُ بنُ جبيرٍ وقتادةُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٨٢)، و«تفسير ابن كثير» (٤/٢١٤).]]، وسياقُ الآيةِ يعضُدُ ذلك، وذلك مِن وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنّ مسجدَ قباءٍ أسبَقُ مِن جهةِ البناءِ، والآيةُ جاءتْ في تقييدِ وصفِ المسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقْوى بأنّه الأسبقُ في الزمَنِ، وهو قولُه: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾، ولو جاءَ الوصفُ بأنّه الذي أُسِّسَ على التَّقْوى مجرَّدًا عن التقييدِ، لكان الأَحَقَّ به مَسْجِدُ النبيِّ ﷺ، لأنّه أولى مساجدِ المدينةِ بالوصفِ بلا خلافٍ.
وأمّا حديثُ أبي سعيدٍ السابقُ، فقد جاء جوابُ النبيِّ ﷺ على قَدْرِ سؤالِ أبي سعيدٍ، وهو قولُهُ: (أيُّ المَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى؟)، ولم يُقيِّدْه بـ(أوَّلِ يَوْمٍ)، كما في روايةِ مسلمٍ في «صحيحِه»، فكان جوابُ النبيِّ ﷺ: (لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ).
الوجهُ الثاني: أنّ مسجِدَ الضِّرارِ بُنِيَ قريبًا مِن قُباءٍ، كما قالَهُ بعضُ المفسِّرينَ، كابنِ عبّاسٍ والضحّاكِ وقتادةَ والسُّدِّيِّ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٧٩).]]، وأرادَ المُنافِقونَ تشبيهَهُ به، ولم يُريدوا تشبيهَهُ بمسجدِ النبيِّ ﷺ، فقُربُهُ مِن مسجدِهِ ضِرارٌ بيِّنٌ، وقربُهُ مِن قُباءٍ ضِرارٌ خفيٌّ، وهذا ما أرادُوهُ، وقد كان النبيُّ يأتي إلى مسجدِ قُباءٍ كلَّ سَبْتٍ للصلاةِ فيه، وكان المُنافِقونَ يَرْجُونَ أنْ يأتيَ إلى مَسْجِدِهم يُشرِّعُ الصلاةَ فيه ولو مَرَّةً، لِيَتَّخِذُوا ذلك سبيلًا لجَذْبِ الناسِ إليه، وقد بيَّن اللهُ لنبيِّه وللمؤمِنِينَ الفَرْقَ بينَ المسجدَيْنِ، وأمّا مسجدُ النبيِّ ﷺ، فأمرُهُ بيِّنٌ في فضلِهِ والصلاةِ فيه، وليس محلَّ مُشابَهةٍ لمسجدِ الضِّرارِ عندَ المُنافِقينَ، ولا عندَ غيرِهم.
الوجهُ الثالثُ: أنّ مسجدَ النبيِّ ﷺ يقومُ فيه النبيُّ وصحابتُهُ بصَلَواتِهم في يَوْمِهم ولَيْلَتِهم، وفيه مَجلِسُهم، والأحَقُّ بقولِه: ﴿أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ المسجدُ الذي لا يقومُ فيه النبيُّ ﷺ دَوْمًا كقُباءٍ، وظاهرُ الحالِ: أنّ قيامَهُ بمَسجدِهِ متحقِّقٌ دائمٌ، وقيامَهُ في قُباءٍ عارِضٌ، فجاء التنبيهُ عليه، وحَمْلُ الدليلِ على التأسيسِ أوْلى مِن التأكيدِ، لأنّه أقرَبُ إلى مسجدِ الضِّرارِ مكانًا ومَنزِلةً عندَ المُنافِقينَ.
الـوجـهُ الـرابـعُ: أنّ سياقَ الآيةِ دالٌّ على أنّ المرادَ مسجدُ قباءٍ، فقد ذكَرَ اللَّهُ وصفًا بعدَ ذلك: ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾، والمقصودُ به: مسجدُ قباءٍ ومَن يُصلِّي فيه.
وفي قولِه تعالى: ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ إشارةٌ إلى أنّ النظافةَ مِن الإيمانِ، وأنّ القَذارةَ مِن النِّفاقِ، وذلك أنّ ظاهرَهُ أنّ المُنافِقينَ في مَسْجِدِ الضِّرارِ ليسوا كذلك.
هَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرارِ وصُرُوحِ الفِتْنةِ:
ولمّا كان النبيُّ ﷺ ذا قُدْرةٍ وسلطانٍ، هدَمَ مسجِدَ الضِّرارِ، وفي هذا دليلٌ على أنّه يجبُ على الإمامِ أنْ يَهدِمَ صروحَ الشرِّ والفتنةِ ولو كان ظاهرُها خيرًا، ولا يُعذَرُ بتَرْكِها إلاَّ لسببَيْنِ:
الأولُ: أن يكونَ عاجِزًا، وليس ذا قُدْرةٍ وقُوَّةٍ على ذلك.
الثاني: أن يَغلِبَ على الظنِّ حصولُ فِتْنةٍ بهَدْمِها أعظَمَ مِن فتنةِ بَقائِها، وهذا يُحكَمُ بالعِلْمِ والعدلِ لا بتوهُّمِ فتنةٍ لا حقيقةَ لها ولا لقَدْرِها، وكثيرًا ما يتراخى السُّلْطانُ فيترُكُ الشرورَ لفِتَنٍ متوهَّمةٍ، ويُقدِمُ أهلُ الغَيْرةِ والحميَّةِ على دفعِ شرٍّ بقُدْرةٍ متوهَّمةٍ وفتنةٍ لاحقةٍ متحقِّقةٍ أعظَمَ، وهذا بابٌ يُقضى فيه بتجرُّدٍ وعِلمٍ، فلا يكفي فيه التجرُّدُ بلا عِلْمٍ، ولا يكفي فيه العِلْمُ بلا تجرُّدٍ.
دُخُولُ صُرُوحِ الشَّرِّ والفِتْنةِ:
أمَرَ اللهُ نبيَّه ﷺ بهَجْرِ مسجدِ الضِّرارِ وعدمِ القيامِ فيه بقولِه: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾، وذلك لأنّ مقامَ القدوةِ يَختلِفُ عن مقامِ غيرِه، فتوجَّهَ الخطابُ إلى النبيِّ ﷺ مِن دونِ المؤمنينَ، لأنّهم له تَبَعٌ، ثمَّ قامَ النبيُّ ﷺ بهَدْمِه، وبذلك يُستأصَلُ شرُّه، ويتحقَّقُ كمالُ الكفايةِ للإسلامِ والمُسلِمينَ منه.
وقد كان النبيُّ ﷺ قبلَ ذلك يَغْشى نَوادِيَ المشرِكينَ وأعيادَهم مُنكِرًا عليهم كُفْرَهم وشِرْكَهم ومُخالفتَهم لأمرِ اللهِ، ولمّا كان في المدينةِ وقَوِيَ سُلْطانُهُ واشتَدَّ أمرُهُ، نهاهُ اللهُ عن المُقامِ في أماكنِ الشرِّ والفتنةِ، كمَسْجِدِ الضِّرارِ، لاختلافِ الحالَيْنِ، حالِ القُدْرةِ، وحالِ العَجْزِ، وكلُّ صرحٍ للشِّرْكِ والفسقِ يدخُلُ في هذا الحُكْمِ، ومنها غِشْيانُ المَنابرِ الإعلاميَّةِ والمَحافِلِ العامَّةِ والنوادي والمَجامِعِ، فإنه في حالِ العجزِ عن إزالتِها، فإنّ دخولَها وغِشْيانَها على حالَتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: دخولُها للقيامِ بنقيضِ مقاصدِ الشرِّ الذي أُقيمَتْ له، فإذا كان المكانُ وُضِعَ للشِّرْكِ، فيَجِبُ عندَ دخولِهِ قصدُ النهيِ عن الشِّرْكِ، لأنّ دخولَ القدوةِ لها بما يُخالِفُ هذا القصدَ الذي أُقِيمَتْ له يُعَدُّ تشريعًا، ويُعَدُّ سكوتُهُ تأييدًا لها.
وقد كان النبيُّ ﷺ يَغشى نواديَ قريشٍ وقبائلِ العربِ، فيَأْمُرُهم بالتوحيدِ وينهاهُم عن الشِّرْكِ، ويأمُرُ بأصولِ الفِطْرةِ العظيمةِ، ويَنهاهُم عمّا بدَّلوا منها، ولم يكُنِ النبيُّ ﷺ يعتادُ الإنكارَ عليهم بما يَعلَمُ حُرْمَتَهُ مِن أفعالِهم وأقوالِهم التي هي دونَ الشِّرْكِ، فكان يبدَأُ بالشرِّ مِن أعلاهُ، ويَرِدُ إلى أشهَرِ أسواقِ العربِ يَعرِضُ دِينَهُ في عُكاظ ومَجَنَّةَ وذي المَجازِ، كما روى أحمدُ، مِن حديثِ أبي الزُّبَيْرِ، عن جابرٍ، قال: مَكَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَتْبَعُ النّاسَ فِي مَنازِلِهِمْ بعُكاظٍ ومَجَنَّةَ، وفِي المَواسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: (مَن يُؤْوِينِي؟ مَن يَنْصُرُنِي حَتّى أُبَلِّغَ رِسالَةَ رَبِّي، ولَهُ الجَنَّةُ؟)، حَتّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، أوْ مِن مُضَرَ ـ كَذا قالَ ـ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ لا يَفْتِنْكَ، ويَمْشِي بَيْنَ رِجالِهِمْ، وهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالأَصابِعِ[[أخرجه أحمد (٣/٣٢٢).]].
وقَصَدَ هذه الأسواقَ، لأنّها أشهَرُ أسواقِ العربِ ومَجْمَعُهم، وإذا ذُكِرَتْ مَجامعُ العربِ، كانتْ هذه الثلاثةُ أوَّلَها، وقد روى البخاريُّ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قال: «كانَتْ عُكاظٌ، ومَجَنَّةُ، وذُو المَجازِ: أسْواقًا فِي الجاهِلِيَّةِ»[[أخرجه البخاري (٢٠٥٠).]].
وكانتِ العربُ تَرقُبُ هذه الأسواقَ كلَّ عامٍ، وتتوافَدُ إليها، وتُظهِرُ الشِّرْكَ والفِسْقَ مقرونًا ببيعٍ وشراءٍ وإنشادِ شعرٍ، وقد كانتْ عُكاظٌ أعظَمَ تلك الأسواقِ بينَ نَخْلَةَ والطائفِ، وأمّا ذو المَجازِ، فكان خلْفَ عرَفةَ، وأمّا مَجَنَّةُ ـ بفتحِ الميمِ وكسرِها، وبفتحِ الجيمِ والنونِ المشدَّدةِ ـ فهو مكانٌ على أميالٍ يسيرةٍ مِن مكةَ بناحيةِ مَرِّ الظَّهْرانِ، وقد كانتِ العربُ تُقِيمُ بسوقِ عكاظٍ شهرَ شوّالٍ، ثمَّ تتحوَّلُ إلى مَجَنَّةَ فتُقيمُ فيه عِشرينَ يومًا مِن ذي القَعْدةِ، ثمَّ تتحوَّلُ إلى سوقِ ذي المَجازِ، وهو على يَمينِ القادمِ مِن عَرَفةَ مِن جهةِ المُغَمَّسِ.
وغِشْيانُ هذه المواضعِ قد يكونُ واجبًا على القدوةِ إذا كان لا يَصِلُ إلى الناسِ إلاَّ بها، كما كان يَفعَلُهُ النبيُّ ﷺ.
الحالةُ الثانيةُ: دخولُها لغيرِ ما يُناقِضُ مقاصدَ الشرِّ الذي أُقِيمَتْ له، كمَن يأتي صروحَ الشِّرْكِ والكفرِ لأمرٍ مباحٍ أو مشروعٍ، لكنَّه مفضولٌ لا فاضلٌ، فهذا الدخولُ لا يجوزُ، لأنّه يَتضمَّنُ تأييدَ القدوةِ وتشريعَهُ لشرٍّ عظيمٍ بإنكارِ ما هو أقلُّ منه، كمَن يأتي صروحَ الشِّرْكِ أو الكبائرِ كالزِّنى لِيَتَحَدَّثَ عن فضائلِ الأعمالِ والأقوالِ والآدابِ والسلوكِ والتربيةِ، وبمقدارِ قدوتِهِ في الناسِ وأَثَرِهِ عليهم يكونُ إثمُهُ وتعظُمُ فتنتُه للناسِ، وكثيرًا ما يَغترُّ بعضُ المُصلِحينَ بما يَقولونَ مِن خيرٍ، ويَغْفُلونَ عمّا يَتْرُكُونَهُ مِن شرٍّ، فيَشْغَلُهُمُ المفضولُ عن الفاضلِ مِن الدِّينِ، فيَفتِنونَ ويُفتَنونَ، فمِن أعظَمِ فتنةِ المُصلِحينَ اختِلالُ مَراتبِ الشريعةِ في دَعْوَتِهم.
ومَن دخَلَها مِن سَوادِ المُسلِمينَ ممَّن لا يُعتَدُّ بقولِهِ ولا يُؤْبَهُ له، فإثمُهُ بمقدارِ ما يَلحَقُهُ هو في نفسِه مِن شرٍّ منها، وبمقدارِ ما يكثِّرُ به مِن سَوادِهم، وبحَسَبِ ما يتحقَّقُ له مِن منفعةٍ، وما يَلحَقُه وغيرَهُ مِن مَفسَدةٍ.
تعدُّدُ المساجدِ في الحَيِّ الواحدِ:
ولا يجوزُ بناءُ مسجدٍ مُجاورٍ لمسجدِ الحيِّ، ما دامَ الناسُ يَسمَعونَ الأذانَ مِن فوقِ سطحِ المسجدِ بلا مُكبِّراتٍ في زمنِ سكونِ الرِّياحِ، وبلا ضجيجِ الأسواقِ والطرُقاتِ، فإنّ هذا يفرِّقُ جماعةَ الناسِ، ويعطِّلُ بعضَ المقاصدِ مِن جَمْعِهم، فمِن المقاصدِ تَعارُفُهم، وأداءُ الحقوقِ بينهم، مِن صلاحِ حالٍ، وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ، ودفعٍ للبغضاءِ فيما بينَهم، فإنّ الجِيرانَ وأهلَ الرَّحِمِ إنْ تعدَّدَتْ مَساجِدُهم تَهاجَرُوا، كلٌّ بمَسْجِدِه، ولو جمَعَهُمْ مسجدٌ واحدٌ، تَعارَفوا وتقاربَتْ نُفوسُهم برُؤْيةِ بعضِهم بعضًا، وتَغافَلَ بعضُهم عن زَلَّةِ بعضٍ، وقد كان بعضُ السلفِ يُسمِّي تعدُّدَ المساجدِ في المكانِ المتقارِبِ والحيِّ الواحدِ بِدْعةً، ويُروى أنّ أنسَ بنَ مالكٍ لمّا دخَل البَصْرةَ جعَلَ كلَّما خَطا خُطْوَتَيْنِ رأى مسجِدًا، فقال: ما هذه البِدْعةُ؟! كلَّما كَثُرَتِ المساجدُ قلَّ المُصَلُّونَ، أشهَدُ لقد كانتِ القبيلةُ بأَسْرِها ليس فيها إلاَّ مسجدٌ واحدٌ، وكان أهلُ القبيلةِ يتَناوَبونَ المسجدَ الواحدَ في الحيِّ مِن الأحياءِ[[«المدخل» لابن الحاج (٢/١٠٠).]].
وأمّا إنْ تباعَدَتْ أطرافُ الحيِّ والبلدِ حتّى لا يَسمَعُ الناسُ الأذانَ لو نُودِيَ مِن فوقِ سَطْحِهِ بلا مكبِّرٍ زمَنَ هدوءٍ وبلا صَخَبٍ، فلا حرَجَ مِن بناءِ مساجدَ، كما بَنى النبيُّ ﷺ مَساجِدَ في المدينةِ لأهلِها، كمسجِدِ قُباءٍ ومسجدِ بني زُرَيْقٍ وغيرِهما، وقد قيَّد النبيُّ ﷺ حضورَ الجماعةِ بسَماعِ النِّداءِ، كما قال ﷺ لِمَنِ التمَسَ رُخْصةً بتَرْكِها: (هَلْ تَسْمَعُ النِّداءَ بِالصَّلاةِ؟)، قال: نعَمْ، قال: (فَأَجِبْ) [[أخرجه مسلم (٦٥٣).]]، ومَن سمِع النِّداءَ مِن جهتَيْنِ وتَقارَبَ منه مسجدانِ، لم يَفقِدْهُ الجميعُ، لأنّ كلَّ واحدٍ يظُنُّهُ في الآخَرِ، فلا يُعرَفُ المؤمِنونَ مِن المُنافِقينَ، ولا يتَمايَزُ الصّالِحونَ، وتَضْعُفُ الشهادةُ للناسِ بالإيمانِ وتَزْكِيَتُهم بالخيرِ.
وإذا كَثُرَ الناسُ وتَزاحَموا في المسجدِ حتّى لا يُطيقَهم، فالأَولى أنْ يُوَسِّعُوهُ أو يُبدِّلوهُ بمكانٍ أوسَعَ منه، ولا يَبْنُوا مسجدًا قريبًا منه فتتعدَّدَ المساجدُ في المكانِ المُتقارِبِ، كما نصَّ على هذا أحمدُ بنُ حنبلٍ وغيرُه.
وإذا تعذَّر ذلك، كما يكونُ في العواصمِ المزدَحِمةِ، والمدنِ الكبيرةِ بالناسِ، والأبنيةِ المرتفِعةِ الشاهِقةِ التي يتعذَّرُ معَها جَمْعُهم في مسجدِ الحيِّ، فبعضُ الأبنيةِ الشاهقةِ اليومَ مَن يَسْكُنُها معَ صِغَرِ أرضِها آلافُ الناسِ، ولو كانوا على الأرضِ، لكانوا حيًّا كاملًا أو قريةً كاملةً، وإذا كانتِ الحالةُ تلك، فلا حرَجَ مِن تعدُّدِ المساجدِ في المكانِ المُتقارِبِ، لاجتماعِ مَفسدتَيْنِ، فيجوزُ ارتكابُ أدْناهُما:
المَفْسَـدةُ &#١٣٤،الأُولى: تَرْكُهُمْ للصلاةِ جماعةً وهَجْرُهم للمساجدِ، لعدمِ وجودِ أماكنَ لهم فيها، ولا يَجِدونَ بُدًّا مِن سُكْنى بُيوتِهم تلك.
والمَفْسَدةُ الثانيةُ: تعدُّدُ المساجدِ في الحيِّ والمكانِ المُتقارِبِ.
والمفسدةُ الأُولى أعظَمُ، لأنّ العُذْرَ بتعدُّدِ المساجدِ ظاهرٌ، والفتنةَ في مِثْلِه في الدِّينِ أقَلُّ مِن الفتنةِ مِن وقوعِها في حيٍّ قليلِ العددِ كثيرِ المساجدِ، وقال صالحُ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ لأبيه: كم يُستحَبُّ أن يكونَ بينَ المسجدَيْنِ إذا أرادُوا أن يَبْنُوا إلى جانبِهِ مسجدًا؟ قال: لا يُبنى مسجدٌ يُرادُ به الضَّرَرُ لمسجدٍ إلى جانبِهِ، فإنْ كَثُرَ الناسُ حتّى يَضِيقُ عليهم، فلا بأسَ، يُبْنى وإنْ قَرُبَ ذلك منه[[«مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح» (١/٢٩٤).]].
قولُه تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ أخَذَ منه بعضُ الفقهاءِ استحبابَ الصلاةِ في المسجدِ القديمِ عندَ تعدُّدِ المساجدِ في البلدِ أو الحيِّ، فقد ذكَرَ اللهُ عِلَّةَ التفضيلِ للمسجدِ أنّه أُرِيدَ به وجهُ اللهِ، ثمَّ أنّه بُنِيَ قديمًا، وهذا يدُلُّ على فَضْلِ الأَقْدَمِ على الأحدَثِ، لأنّ الغالبَ أنّ أوَّلَ المساجدِ يُبنى في البلدِ لا يُرادُ منه إلاَّ الصلاةُ وعبادةُ اللهِ، بخلافِ المساجدِ اللاحِقةِ له، فقد يقعُ في نفوسِ عامِرِيها المُنافَسةُ والجاهُ، وربَّما قصدُ الضِّرارِ والتفريقِ، فإنّ أوَّلَ الأعمالِ أصْدَقُها.
أوْلى المساجِدِ بالصلاةِ عندَ كَثْرَتِها:
وإذا تعدَّدَتِ المساجدُ في البلدِ أو الحيِّ الواحدِ، فقد اختُلِفَ في أيِّها أوْلى بالصلاةِ فيها:
فمِنهم: مَن قال بتفضيلِ الأقدَمِ، لظاهِرِ الآيةِ، وقد قال ثابتٌ البُنانيُّ: «كنتُ أُقبِلُ مع أنسِ بنِ مالكٍ مِن الزّاوِيَةِ، فإذا مَرَّ بمسجدٍ، قال: أمُحْدَثٌ هذا؟ فإنْ قلتُ: نَعَمْ، مَضى، وإنْ قلتُ: عَتِيقٌ، صلّى»، رواهُ أبو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ في كتابِه الصلاةِ[[«فتح الباري» لابن رجب (٢/٥٨٣)، وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦٢٤٥).]].
وبهذا كان يَعملُ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ، كما رَوى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن عوفٍ، قال: «قَدِمَ عامِلٌ لِمُعاوِيَةَ، وكانَ بَعَثَهُ عَلى الصَّدَقاتِ، فَنَزَلَ مَنزِلًا، فَإذا هُوَ بِمَسْجِدَيْنِ، قالَ: أيُّهُما أقْدَمُ؟ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَأَتى الَّذِي هُوَ أقْدَمُهُما»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦٢٤٣).]].
وبه كان يعملُ أبو وائلٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦٢٤٤).]]، ومجاهِدٌ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦٢٤٦).]]، رواهُ عنهما ليثٌ، أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ.
ومنهم: مَن قال بتفضيلِ المسجدِ الأكثرِ جماعةً على المسجدِ الأقدَمِ، وذلك لقولِهِ ﷺ: (إنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزْكى مِن صَلاتِهِ وحْدَهُ، وصَلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أزْكى مِن صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وما كَثُرَ فَهُوَ أحَبُّ إلى اللهِ تَعالى)، رواهُ أحمد وأصحابُ «السنن»[[أخرجه أحمد (٥/١٤٠)، وأبو داود (٥٥٤)، والنسائي (٨٤٣).]].
والأظهَرُ: أنّه إنْ كان في البلدِ أو الحيِّ الكبيرِ مساجدُ متعدِّدةٌ: مسجدُ الحيِّ القريبُ الذي يصلِّي فيه جِيرانُ الرجُلِ، ومسجدٌ قديمٌ، ومسجدٌ أكثَرُ جماعةً، فإنّ مسجدَ الحيِّ والجِيرانِ أولى بالتقديمِ، لأنّه يتحقَّقُ مَقاصِدُ عظيمةٌ غيرُ مَقاصِدِ الجماعةِ، كالإحسانِ إلى أهلِ الحيِّ وتعاهُدِهم، وقضاءِ حاجتِهم، وصِلَتِهم، وإجابةِ دَعْوتِهم، فهذا عملٌ عظيمٌ قصَدَتْهُ الشريعةُ بالتفضيلِ بِذاتِه، وإذا قصَدَ الرجُلُ مسجدًا قديمًا لا يُصلِّي فيه أهلُ حيِّه وجيرانُه، فاتَهُ ذلك الفضلُ.
وأمّا عملُ أنسِ بنِ مالكٍ، فكان مارًّا ببلدٍ ليس بلدَهُ، وفي حيٍّ ليس حيَّه، وهذا حُكْمٌ خاصٌّ لمَن كان كحالِهِ، وانتفَتْ عنه تلك المَقاصِدُ، فمَن كان حالُه كحالِ أنسٍ، فحُكْمُهُ كحُكْمِه، وقد رَوى منصورٌ، عن الحسَنِ: «أنّه سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَدَعُ مَسْجِدَ قَوْمِهِ ويَأْتِي غَيْرَهُ، قالَ: فَقالَ الحَسَنُ: كانُوا يُحِبُّونَ أنْ يُكَثِّرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ بِنَفْسِهِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦٢٤٨).]].
وإذا تقارَبَ في الحيِّ مسجدانِ عن يمينٍ وشمالٍ، فالأفضلُ الصلاةُ في الأقدَمِ منهما، لاستواءِ المَقاصِدِ فيهما وتميُّزِ أحدِهما بفضلٍ.
وإذا تقارَبَ في الحيِّ مسجدانِ: قديمٌ قليلُ الجماعةِ، وحديثٌ كثيرُ الجماعةِ، وكلاهُما يتساويانِ في بقيَّةِ المَقاصِدِ، فمذهبُ الحنابلةِ: أنّ القديمَ أوْلى، والأَظْهَرُ: أنّ المُصلِّيَ يَقصِدُ الأخشَعَ لقَلْبِهِ، لأنّ الصلاةَ في مسجدٍ حديثٍ مع خشوعٍ أوْلى مِن الصلاةِ في مسجدٍ قديمٍ يُساوِيهِ في القُرْبِ بلا خشوعٍ، لأنّ الخشوعَ قلبُ الصلاةِ ولُبُّها.
ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يترُكَ جماعةَ المُسلِمينَ ويُفارِقَ المساجدَ بحُجَّةِ الخشوعِ في صلاتِه منفرِدًا، ولو كان ذلك صحيحًا، فيجبُ عليه شهودُ الجماعةِ مع اجتهادٍ في الخشوعِ، ولو فاتَهُ الخشوعُ وتعذَّرَ عليه، فهو مأجورٌ بشهودِ الجماعةِ، غيرُ آثمٍ بفَواتِ خشوعٍ لا يَستطيعُه، ولا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلاَّ وُسْعَها.
{"ayahs_start":107,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا وَكُفۡرࣰا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادࣰا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ","لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدࣰاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا وَكُفۡرࣰا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادࣰا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق