الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ ﴿وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها واللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتى ويُرِيكم آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ (p-٢٥٠)"ذَلُولٌ" مُذَلَّلَةٌ بِالعَمَلِ والرِياضَةِ، تَقُولُ بَقَرَةٌ ذَلُولٌ، بَيِّنَةُ الذِلِّ، بِكَسْرٍ الذالِ، ورَجُلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ الذُلِّ بِضَمِّ الذالِ وذَلُولٌ نَعْتٌ لـِ "بَقَرَةٌ" أو عَلى إضْمارِ هِيَ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السِلْمِيُّ "لا ذَلُولَ" بِنَصْبِ اللامِ. و ﴿تُثِيرُ الأرْضَ﴾ مَعْناهُ بِالحِراثَةِ، وهي عِنْدَ قَوْمٍ: جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى صِفَةِ البَقَرَةِ أيْ: لا ذَلُولَ مُثِيرَةٌ. وقالَ قَوْمٌ: "تُثِيرُ" فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ، والمَعْنى إيجابُ الحَرْثِ، وأنَّها كانَتْ تَحْرُثُ ولا تَسْقِي، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ، لِأنَّها مِن نَكِرَةٍ. و"تَسْقِي الحَرْثَ" مَعْناهُ بِالسانِيَةِ أو غَيْرِها مِنَ الآلاتِ، و"الحَرْثَ": ما حُرِثَ وزُرِعَ. و"مُسَلَّمَةٌ" بِناءُ مُبالَغَةٍ مِنَ السَلامَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، وأبُو العالِيَةِ: مَعْناهُ مِنَ العُيُوبِ، وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: مَعْناهُ مِنَ الشِياتِ والألْوانِ، وقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ مِنَ العَمَلِ. و﴿لا شِيَةَ فِيها﴾ أيْ لا خِلافَ في لَوْنِها، هي صَفْراءُ كُلُّها، لا بَياضَ فِيها، ولا حُمْرَةَ، ولا سَوادَ. قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وغَيْرُهُ. والمُوشِي المُخْتَلِطُ الألْوانِ، ومِنهُ وشِيَ الثَوْبُ (p-٢٥١)تَزْيِينُهُ بِالألْوانِ، ومِنهُ الواشِي لِأنَّهُ يُزَيِّنُ كَذِبَهُ بِالألْوانِ مِنَ القَوْلِ، والثَوْرُ الأُشَّيْهُ الَّذِي فِيهِ بَلْقَةٌ. يُقالُ: فَرَسٌ أبْلَقُ، وكَبْشٌ أخْرَجُ، وتَيْسٌ أبْرَقُ، وكَلْبٌ أبْقَعُ، وثَوْرٌ أشْيَعُ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنى البُلْقَةِ. وهَذِهِ الأوصافُ في البَقَرَةِ سَبَبُها أنَّهم شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، ودِينُ اللهِ يُسْرٌ، والتَعَمُّقُ في سُؤالِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ مَذْمُومٌ. وقِصَّةُ وُجُودِ هَذِهِ البَقَرَةِ عَلى ما رُوِيَ أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، وكانَتْ لَهُ عَجَلَةٌ فَأرْسَلَها في غَيْضَةٍ، وقالَ: اللهُمَّ إنِّي اسْتَوْدَعْتُكَ هَذِهِ العَجَلَةَ لِهَذا الصَبِيِّ، وماتَ الرَجُلُ، فَلَمّا كَبُرَ الصَبِيُّ قالَتْ لَهُ أُمُّهُ: إنَّ أباكَ قَدِ اسْتَوْدَعَ اللهُ عَجَلَةً لَكَ، فاذْهَبْ فَخُذْها، فَذَهَبَ، فَلَمّا رَأتْهُ البَقَرَةُ جاءَتْ إلَيْهِ حَتّى أخَذَ بِقَرْنَيْها، وكانَتْ مُسْتَوْحِشَةً فَجَعَلَ يَقُودُها نَحْوَ أُمِّهِ، فَلَقِيَهُ بَنُو إسْرائِيلَ ووَجَدُوا بَقَرَتَهُ عَلى الصِفَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِها. ورَوَتْ طائِفَةٌ أنَّهُ كانَ رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ بَرًّا بِأبِيهِ، فَنامَ أبُوهُ يَوْمًا وتَحْتَ رَأْسِهِ مَفاتِيحُ مَسْكَنِهِما، فَمَرَّ بِهِ بائِعُ جَوْهَرٍ، فَسامَهُ فِيهِ بِسِتِّينَ ألْفًا، فَقالَ لَهُ ابْنُ النائِمِ: اصْبِرْ حَتّى يَنْتَبِهَ أبِي، وأنا آخُذُهُ مِنكَ بِسَبْعِينَ ألْفًا، فَقالَ لَهُ صاحِبُ الجَوْهَرِ: نَبِّهْ أباكَ وأنا أُعْطِيكَهُ بِخَمْسِينَ ألْفًا، فَداما كَذَلِكَ حَتّى بَلَغَهُ مِائَةَ ألِفٍ وانْحَطَّ صاحِبُ الجَوْهَرِ إلى ثَلاثِينَ ألْفًا، فَقالَ لَهُ ابْنُ النائِمِ: واللهِ لا اشْتَرَيْتُهُ مِنكَ بِشَيْءٍ، بِرّا بِأبِيهِ، فَعَوَّضَهُ اللهُ مِنهُ أنْ وُجِدَتِ البَقَرَةُ عِنْدَهُ. وقالَ قَوْمٌ: وُجِدَتْ عِنْدَ عَجُوزٍ تَعُولُ يَتامى كانَتِ البَقَرَةُ لَهُمْ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلافٍ في قِصَّتِها، هَذا مَعْناهُ، فَلَمّا وُجِدَتِ البَقَرَةُ سامُوا صاحِبَها؟، فاشْتَطَّ عَلَيْهِمْ، وكانَتْ قِيمَتُها عَلى ما رُوِيَ عن عِكْرِمَةَ ثَلاثَةُ دَنانِيرَ، فَأتَوْا بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، (p-٢٥٢)وَقالُوا: إنَّ هَذا اشْتَطَّ عَلَيْنا، فَقالَ لَهُمْ: أرْضُوهُ في مِلْكِهِ فاشْتَرُوها مِنهُ بِوَزْنِها مَرَّةً، قالَهُ عُبَيْدَةُ السَلْمانِيُّ، وقِيلَ: بِوَزْنِها مَرَّتَيْنِ، وقالَ السُدِّيُّ: بِوَزْنِها عَشْرُ مَرّاتٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَتْ لِرَجُلٍ يَبِرُّ أُمَّهُ، وأُخِذَتْ مِنهُ بِمَلْءِ جِلْدِها دَنانِيرَ، وحَكى مَكِّيٌّ أنَّ هَذِهِ البَقَرَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَماءِ، ولَمْ تَكُنْ مِن بَقَرِ الأرْضِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ أنَّها كانَتْ وحْشِيَّةً. و"الآنَ" مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، ولَمْ يَتَعَرَّفْ بِهَذِهِ الألِفِ واللامِ، ألا تَرى أنَّها لا تُفارِقُهُ في الِاسْتِعْمالِ؟ وإنَّما بُنِيَ لِأنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى حَرْفِ التَعْرِيفِ، ولِأنَّهُ واقِعٌ مَوْقِعَ المُبْهَمِ، إذْ مَعْناهُ هَذا الوَقْتُ، هو عِبارَةٌ عَمّا بَيْنَ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ، وقُرِئَ: "قالُوا الآنَ" بِسُكُونِ اللامِ وهَمْزَةٍ بَعْدَها، و"قالُوا الآنَ" بِمُدَّةٍ عَلى الواوِ وفَتْحِ اللامِ دُونَ هَمْزٍ، و"قالُوا الآنَ" بِحَذْفِ الواوِ مِنَ اللَفْظِ دُونَ هَمْزٍ، و"قالُوا الآنَ" بِقَطْعِ الألِفِ الأُولى وإنْ كانَتْ ألِفَ وصْلٍ، كَما تَقُولُ: يا أللَّهُ. و﴿جِئْتَ بِالحَقِّ﴾ مَعْناهُ عِنْدَ مَن جَعَلَهم عُصاةً: بَيَّنْتَ لَنا غايَةَ البَيانِ، و﴿جِئْتَ بِالحَقِّ﴾ الَّذِي طَلَبْناهُ، لا أنَّهُ كانَ يَجِيءُ قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ومَعْناهُ عِنْدَ ابْنِ زَيْدٍ الَّذِي حَمَلَ مُحاوَرَتَهم عَلى الكُفْرِ: الآنَ صَدَقْتَ، وأذْعَنُوا في هَذِهِ الحالِ حِينَ بُيِّنَ لَهم أنَّها سَلِيمَةٌ، وقِيلَ: إنَّهم عَيَّنُوها مَعَ هَذِهِ الأوصافِ، وقالُوا هَذِهِ بَقَرَةُ فُلانٍ، وهَذِهِ الآيَةُ تُعْطِي أنَّ الذَبْحَ أصْلٌ في البَقَرِ، وإنْ نُحِرَتْ أجْزَتْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾، عِبارَةٌ عن تَثَبُّطِهِمْ في ذَبْحِها، وقِلَّةِ مُبادَرَتِهِمْ (p-٢٥٣)إلى أمْرِ اللهِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: كانَ ذَلِكَ مِنهم لِغَلاءِ البَقَرَةِ وكَثْرَةِ ثَمَنِها، وقالَ غَيْرُهُ: كانَ ذَلِكَ خَوْفَ الفَضِيحَةِ في أمْرِ القاتِلِ. وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ لِلْمَعْهُودِ مِن قِلَّةِ انْقِيادِهِمْ، وتَعَنُّتِهِمْ عَلى الأنْبِياءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُ القَتِيلِ الَّذِي يُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾، والمَعْنى قُلْنا لَهُمُ اذْكُرُوا إذْ "قَتَلْتُمْ" و"ادّارَأْتُمْ" أصْلُهُ: تَدارَأْتُمْ. ثُمَّ أُدْغِمَتِ التاءُ في الدالِ، فَتَعَذَّرَ الِابْتِداءُ بِمُدْغَمٍ فَجُلِبَتْ ألِفُ الوَصْلِ، ومَعْناهُ تَدافَعْتُمْ أيْ دَفَعَ بَعْضُكم قَتْلَ القَتِيلِ إلى بَعْضٍ. قالَ الشاعِرُ: ؎ صادَفَ دَرْءُ السَيْلِ دَرْءًا يَدْفَعُهُ...................................... وقالَ الآخَرُ: ؎ مُدْرَأٌ يَدْرَأُ الخُصُومَ بِقَوْلٍ ∗∗∗ مِثْلَ حَدِّ الصَمْصامَةِ الهِنْدُوانِيِّ (p-٢٥٤)والضَمِيرُ في قَوْلِهِ:"فِيها" عائِدٌ عَلى النَفْسِ، وقِيلَ عَلى القَتَلَةِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو السُوارِ الغَنَوِيُّ: "وَإذْ قَتَلْتُمْ نَسَمَةً فادّارَأْتُمْ". وقَرَأتْ فِرْقَةٌ "فَتَدارَأْتُمْ" عَلى الأصْلِ. ومَوْضِعُ "ما" نُصِبَ بِمُخْرِجٍ والمَكْتُومُ هو أمْرُ المَقْتُولِ. وقَوْلُهُ: ﴿اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾، آيَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى عَلى يَدَيْ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، أنْ أمَرَهم أنْ يَضْرِبُوا بِبَعْضِ البَقَرَةِ القَتِيلَ، فَيَحْيى ويُخْبِرَ بِقاتِلِهِ، فَقِيلَ: ضَرَبُوهُ: وقِيلَ: ضَرَبُوا قَبْرَهُ لِأنَّ ابْنَ عَبّاسٍ ذَكَرَ أنَّ أمْرَ القَتِيلِ وقَعَ قَبْلَ جَوازِ البَحْرِ، وأنَّهم دامُوا في طَلَبِ البَقَرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وقالَ القُرَظِيُّ: لَقَدْ أمَرُوا بِطَلَبِها وما هي في صُلْبٍ ولا رَحِمٍ بَعْدُ. وقالَ السُدِّيُّ: ضَرَبَ بِاللُحْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الكَتِفَيْنِ وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وعُبَيْدَةُ السَلْمانِيُّ: ضَرَبَ بِالفَخِذِ، وقِيلَ ضَرَبَ بِاللِسانِ، وقِيلَ: بِالذَنَبِ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: بِعَظْمٍ مِن عِظامِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتى﴾ الآيَةُ، الإشارَةُ بِ "ذَلِكَ" إلى الإحْياءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَصَصُ الآيَةِ، إذْ في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ. وفي هَذِهِ الآيَةِ حَضٌّ عَلى العِبْرَةِ، ودَلالَةٌ عَلى البَعْثِ في الآخِرَةِ، وظاهِرُها أنَّها خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ حِينَئِذٍ، حُكِيَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ لِيَعْتَبِرَ بِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّها خِطابٌ لِمُعاصِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ، وأنَّها مَقْطُوعَةٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾، واسْتَدَلَّ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ بِهَذِهِ النازِلَةِ عَلى تَجْوِيزِ قَوْلِ القَتِيلِ، وأنْ تَقَعَ مَعَهُ القَسامَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب