الباحث القرآني

* (فصل) ومن تلاعب الشيطان باليهود في حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها. وفى القصة أنواع من العبر: منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوه رسول الله تعالى عليه وآله وسلم. ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين. ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم. ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عدل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم لا يجوز عليه العبث. ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة في هداية المهتدين، وإعذار وإنذارا للضال. ومنها: أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت، وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أي بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعتق رقبة، وأطعم مسكينا، وصم يوما، ونحو ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فإن الآية غنية عن البيان المنفصل، مبينة بنفسها، ولكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم. قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبي العالية "لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها. ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار. وذلك نوع من الكفر. فإن القوم لما قال لهم نبيهم: ﴿إنَّ اللهَ يَأْمُرُ كم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةَ﴾ [البقرة: ٦٧]. قابلوا هذا الأمر بقولهم: ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧]. فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه، قالوا: ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧]. وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله. فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به. ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك. فلما قال لهم: ﴿أعُوذَ بِاللهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلينَ﴾ [البقرة: ٦٧]. وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها. فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها. فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال، توقفوا في الامتثال، ولم يكادوا يفعلون. ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: ﴿الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١]. فإن أرادوا بذلك: إنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر. وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله: ﴿إنَّ اللهَ يَأْمُرُ كم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]. فإنه لا إجمال في الأمر، ولا في الفعل، ولا في المذبوح، فقد جاء رسول الله ﷺ بالحق من أول مرة. قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى "الآن جئت بالحق" وزعم أن ذلك نفى منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، قال: وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جهلا منهم، وهفوة من هفواتهم. ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها. قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول "إن القوم بعد أن أحيى الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله. وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآيات والحق" قال الله تعالى: ﴿ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذلِكَ فَهِى كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤]. ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا. فإن القاتل قصده ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول. ومنها: أن بني إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب. ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة. والبقر من أبلد الحيوان، حتى ليضرب به المثل. والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل. ففى الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقى، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب