الباحث القرآني

﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فادّارَأْتُمْ﴾ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ يُفِيدُ أنَّ كِتْمانَ القاتِلِ لا يَنْفَعُهُ، وقِيلَ: حالٌ، أيْ والحالُ أنَّكم تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، والهاءُ في (اضْرِبُوهُ) عائِدٌ عَلى النَّفْسِ بِناءً عَلى تَذْكِيرِها، إذْ فِيها التَّأْنِيثُ، وهو الأشْهَرُ، والتَّذْكِيرُ، أوْ عَلى تَأْوِيلِ الشَّخْصِ، أوِ القَتِيلِ، أوْ عَلى أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ ذا نَفْسٍ، وبَعْدَ الحَذْفِ أُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، وقِيلَ: الأظْهَرُ أنَّ التَّذْكِيرَ لِتَذْكِيرِ المَعْنى، وإذا كانَ اللَّفْظُ مُذَكَّرًا، والمَعْنى مُؤَنَّثًا، أوْ بِالعَكْسِ، فَوَجْهانِ، وذُكِّرَ هَذا الضَّمِيرُ مَعَ سَبْقِ التَّأْنِيثِ تَفَنُّنًا، أوْ تَمْيِيزًا بَيْنَ هَذا الضَّمِيرِ والضَّمِيرِ الَّذِي بَعْدَهُ تَوْضِيحًا، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالبَعْضِ أيُّ بَعْضٍ كانَ، إذْ لا فائِدَةَ في تَعَيُّنِهِ (p-294)ولَمْ يَرِدْ بِهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ، واخْتُلِفَ بِمَ ضَرَبُوهُ؟ فَقِيلَ: بِلِسانِها أوْ بِأصْغَرَيْها، أوْ بِفَخِذِها اليُمْنى، أوْ بِذَنَبِها، أوْ بِالغُضْرُوفِ، أوْ بِالعَظْمِ الَّذِي يَلِيهِ، أوْ بِالبَضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الكَتِفَيْنِ، أوْ بِالعَجَبِ، أوْ بِعَظْمٍ مِن عِظامِها، ونُقِلَ أنَّ الضَّرْبَ كانَ عَلى جِيدِ القَتِيلِ، وذَلِكَ قَبْلَ دَفْنِهِ، ومَن قالَ: إنَّهم مَكَثُوا في تَطَلُّبِها أرْبَعِينَ سَنَةً، أوْ أنَّهم أُمِرُوا بِطَلَبِها ولَمْ تَكُنْ في صُلْبٍ ولا رَحِمٍ قالَ: إنَّ الضَّرْبَ عَلى القَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ، والأظْهَرُ أنَّهُ المُباشِرُ بِالضَّرْبِ لا القَبْرُ، وفي بَعْضِ الآثارِ أنَّهُ قامَ وأوْداجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، فَقالَ: قَتَلَنِي ابْنُ أخِي، وفي رِوايَةٍ: فُلانٌ وفُلانٌ لِابْنَيْ عَمِّهِ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا، فَأُخِذا وقُتِلا، وما ورِثَ قاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وفي بَعْضِ القِصَصِ أنَّ القاتِلَ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعالى ما قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَ بِالحَقِّ بَعْدَ مُعايَنَتِهِ، قالَ الماوَرْدِيُّ: وإنَّما كانَ الضَّرْبُ بِمَيِّتٍ لا حَياةَ فِيهِ لِئَلّا يَلْتَبِسَ عَلى ذِي شُبْهَةٍ أنَّ الحَياةَ إنَّما انْقَلَبَتْ إلَيْهِ مِمّا ضُرِبَ بِهِ، فَلِإزالَةِ الشُّبْهَةِ، وتَأكُّدِ الحُجَّةِ كانَ ذَلِكَ، ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ تُفِيدُ تَحَقُّقَ المُشَبَّهِ، وتَيَقُّنَهُ بِتَشْبِيهِ المَوْعُودِ بِالمَوْجُودِ، والمُماثَلَةُ في مُطْلَقِ الإحْياءِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ أيْ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ، والتَّكَلُّمُ مِنَ اللَّهِ تَعالى مَعَ مَن حَضَرَ وقْتَ الحَياةِ، والكافُ خِطابٌ لِكُلِّ مَن يَصِحُّ أنْ يُخاطَبَ ويَسْمَعَ هَذا الكَلامَ، لِأنَّ أمْرَ الإحْياءِ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الِاعْتِناءَ بِشَأْنِهِ أنْ يُخاطَبَ بِهِ كُلُّ مَن يَصِحُّ مِنهُ الِاسْتِماعُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أُولَئِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُرِيكُمْ﴾ إلَخْ، ولا بُدَّ عَلى هَذا مِن تَقْدِيرِ القَوْلِ، أيْ قُلْنا، أوْ وقُلْنا لَهم كَذَلِكَ لِيَرْتَبِطَ الكَلامُ بِما قَبْلَهُ، وقِيلَ: حَرْفُ الخِطابِ مَصْرُوفٌ إلَيْهِمْ، وكانَ الظّاهِرُ كَذَلِكم عَلى وفْقِ ما بَعْدَهُ، إلّا أنَّهُ أفْرَدَهُ بِإرادَةِ كُلِّ واحِدٍ، أوْ بِتَأْوِيلِ فَرِيقٍ، ونَحْوِهِ قَصْدًا لِلتَّخْفِيفِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّكَلُّمُ مَعَ مَن حَضَرَ نُزُولَ الآيَةِ، وعَلَيْهِ لا تَقْدِيرَ، إذْ يَنْتَظِمُ بِدُونِهِ، بَلْ رُبَّما يَخْرُجُ مَعَهُ مِنَ الِانْتِظامِ، وأبْعَدَ الماوَرْدِيُّ فَجَعَلَهُ خِطابًا مِن مُوسى نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، ﴿ويُرِيكم آياتِهِ﴾ مُسْتَأْنَفٌ أوْ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، والظّاهِرُ أنَّ الآياتِ جَمْعٌ في اللَّفْظِ والمَعْنى، والمُرادُ بِها الدَّلائِلُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها هَذا الإحْياءُ، والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالجَمْعِ لِاشْتِمالِهِ عَلى أُمُورٍ بَدِيعَةٍ مِن تَرَتُّبِ الحَياةِ عَلى الضَّرْبِ بِعُضْوٍ مَيِّتٍ، وإخْبارِ المَيِّتِ بِقاتِلِهِ، وما يُلابِسُهُ مِنَ الأُمُورِ الخارِقَةِ لِلْعاداتِ، وفي المُنْتَخَبِ أنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الآيَةِ الواحِدَةِ بِالآياتِ، لِأنَّها تَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ القادِرِ عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، المُخْتارِ في الإيجادِ والإبْداعِ، وعَلى صِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى بَراءَةِ ساحَةِ مَن لَمْ يَكُنْ قاتِلًا، وعَلى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلى مَن باشَرَ القَتْلَ، ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ أيْ لِكَيْ تَعْقِلُوا الحَياةَ بَعْدَ المَوْتِ، والبَعْثَ والحَشْرَ، فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى إحْياءِ نَفْسٍ واحِدَةٍ قَدَرَ عَلى إحْياءِ الأنْفُسِ كُلِّها لِعَدَمِ الِاخْتِصاصِ، ﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ أوْ لِكَيْ يَكْمُلَ عَقْلُكُمْ، أوْ لَعَلَّكم تَمْتَنِعُونَ مِن عِصْيانِهِ، وتَعْمَلُونَ عَلى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ، وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أحْكامًا فِقْهِيَّةً انْتَزَعُوها واسْتَدَلُّوا عَلَيْها مِن قِصَّةِ هَذا القَتِيلِ، ولا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ، ولا أرى لِذِكْرِ ذَلِكَ طائِلًا سِوى الطُّولِ هَذا. ومِن بابِ الإشارَةِ: إنَّ البَقَرَةَ هي النَّفْسُ الحَيَوانِيَّةُ حِينَ زالَ عَنْها شَرَهُ الصِّبا، ولَمْ يَلْحَقْها ضَعْفُ الكِبَرِ، وكانَتْ مُعْجَبَةً رائِقَةَ النَّظَرِ لا تُثِيرُ أرْضَ الِاسْتِعْدادَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، ولا تَسْقِي حَرْثَ المَعارِفِ والحِكَمِ الَّتِي فِيها بِالقُوَّةِ بِمِياهِ التَّوَجُّهِ إلى حَضْرَةِ القُدْسِ، والسَّيْرِ إلى رِياضِ الأُنْسِ، وقَدْ سَلِمَتْ لِتَرْعى أزْهارَ الشَّهَواتِ، ولَمْ تُقَيَّدْ بِقُيُودِ الآدابِ والطّاعاتِ، فَلَمْ يَرْسَخْ فِيها مَذْهَبٌ واعْتِقادٌ، ولَمْ يَظْهَرْ عَلَيْها ما أُودِعَ فِيها مِن أنْوارِ الِاسْتِعْدادِ، وذَبْحُها قَمْعُ هَواها ومَنعُها عَنْ (p-295)أفْعالِها الخاصَّةِ بِها، بِشَفْرَةِ سِكِّينِ الرِّياضَةِ، فَمَن أرادَ أنْ يَحْيا قَلْبُهُ حَياةً طَيِّبَةً، ويَتَحَلّى بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ والعُلُومِ الحَقِيقِيَّةِ ويَنْكَشِفَ لَهُ حالُ المُلْكِ والمَلَكُوتِ، وتَظْهَرَ لَهُ أسْرارُ اللّاهُوتِ والجَبَرُوتِ، ويَرْتَفِعَ ما بَيْنَ عَقْلِهِ ووَهْمِهِ مِنَ التَّدارُؤِ والنِّزاعِ الحاصِلِ بِسَبَبِ الإلْفِ لِلْمَحْسُوساتِ، فَلْيَذْبَحْها، ولْيُوصِلْ أثَرَهُ إلى قَلْبِهِ المَيِّتِ، فَهُناكَ يَخْرُجُ المَكْتُومُ، وتَفِيضُ بِحارُ العُلُومِ، وهَذا الذَّبْحُ هو الجِهادُ الأكْبَرُ، والمَوْتُ الأحْمَرُ، وعُقْباهُ الحَياةُ الحَقِيقِيَّةُ، والسَّعادَةُ الأبَدِيَّةُ ؎ومَن لَمْ يَمُتْ في حُبِّهِ لَمْ يَعِشْ بِهِ ودُونَ اجْتِناءِ النَّحْلِ ما جَنَتِ النَّحْلُ وقَدْ أُشِيرَ بِالشَّيْخِ والعَجُوزِ والطِّفْلِ والشّابِّ المَقْتُولِ عَلى ما في بَعْضِ الآثارِ في هَذِهِ القِصَّةِ إلى الرُّوحِ والطَّبِيعَةِ الجِسْمانِيَّةِ والعَقْلِ والقَلْبِ، وتَطْبِيقُ سائِرِ ما في القِصَّةِ بَعْدَ هَذا إلَيْكَ، هَذا وسَلامُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب