الباحث القرآني

﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ﴾: عَطْفٌ عَلى "فادّارَأْتُمْ"؛ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ؛ والِالتِفاتُ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ؛ والضَّمِيرُ لِلنَّفْسِ؛ والتَّذْكِيرُ بِاعْتِبارِ أنَّها عِبارَةٌ عَنِ الرَّجُلِ؛ أوْ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ؛ أوِ القَتِيلِ؛ ﴿بِبَعْضِها﴾؛ أيْ: بِبَعْضِ البَقَرَةِ؛ أيِّ بَعْضٍ كانَ؛ وقِيلَ: بِأصْغَرَيْها؛ وقِيلَ: بِلِسانِها؛ وقِيلَ: بِفَخِذِها اليُمْنى؛ وقِيلَ: بِأُذُنِها؛ وقِيلَ: بِعُجْبِها؛ وقِيلَ: بِالعَظْمِ الَّذِي يَلِي الغُضْرُوفَ؛ وهَذا أوَّلُ القِصَّةِ؛ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ الضَّمِيرُ الرّاجِعُ إلى البَقَرَةِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها فَقُلْنا اذْبَحُوا بَقَرَةً؛ فاضْرِبُوهُ بِبَعْضِها"؛ وإنَّما غُيِّرَ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الحِكايَةِ لِتَكْرِيرِ التَّوْبِيخِ؛ وتَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ؛ فَإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن قَتْلِ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ؛ والِاسْتِهْزاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ والِافْتِياتِ عَلى أمْرِهِ؛ وتَرْكِ المُسارَعَةِ إلى الِامْتِثالِ بِهِ جِنايَةٌ عَظِيمَةٌ؛ حَقِيقَةٌ بِأنْ تُنْعى عَلَيْهِمْ بِحِيالِها؛ ولَوْ حُكِيَتِ القِصَّةُ عَلى تَرْتِيبِ الوُقُوعِ لَما عُلِمَ اسْتِقْلالُ كُلٍّ مِنها بِما يُخَصُّ بِها مِنَ التَّوْبِيخِ؛ وإنَّما حُكِيَ الأمْرُ بِالذَّبْحِ عَنْ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ كالأمْرِ بِالضَّرْبِ؛ لِما أنَّ جِناياتِهِمْ كانَتْ بِمُراجَعَتِهِمْ إلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ والِافْتِياتِ عَلى رَأْيِهِ؛ ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾؛ عَلى إرادَةِ قَوْلٍ مَعْطُوفٍ عَلى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ؛ أيْ: فَضَرَبُوهُ؛ فَحَيِيَ؛ وقُلْنا: كَذَلِكَ يُحْيِي.. إلَخْ.. فَحُذِفَتِ الفاءُ الفَصِيحَةُ في "فَحَيِيَ"؛ مَعَ ما عُطِفَ بِها؛ وما عُطِفَ هو عَلَيْهِ لِدَلالَةِ "كَذَلِكَ" عَلى ذَلِكَ؛ فالخِطابُ في "كَذَلِكَ" حِينَئِذٍ لِلْحاضِرِينَ عِنْدَ حَياةِ القَتِيلِ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلْحاضِرِينَ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ فَلا حاجَةَ حِينَئِذٍ إلى تَقْدِيرِ القَوْلِ؛ بَلْ تَنْتَهِي الحِكايَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿بِبَعْضِها﴾؛ مَعَ ما قُدِّرَ بَعْدَهُ؛ فالجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ؛ أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الإحْياءِ العَجِيبِ يُحْيِي اللَّهُ (تَعالى) المَوْتى يَوْمَ القِيامَةِ؛ ﴿وَيُرِيكم آياتِهِ﴾؛ ودَلائِلَهُ الدّالَّةَ عَلى أنَّهُ (تَعالى) عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالآياتِ هَذا الإحْياءُ؛ والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالجَمْعِ لِاشْتِمالِهِ عَلى أُمُورٍ بَدِيعَةٍ مِن تَرَتُّبِ الحَياةِ عَلى عُضْوٍ مَيْتٍ؛ وإخْبارِهِ بِقاتِلِهِ؛ وما يُلابِسُهُ مِنَ الأُمُورِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ؛ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾؛ أيْ: لِكَيْ تَكْمُلَ عُقُولُكُمْ؛ وتَعْلَمُوا أنَّ مَن قَدَرَ عَلى إحْياءِ نَفْسٍ قادِرٌ عَلى إحْياءِ الأنْفُسِ كُلِّها؛ أوْ تَعْمَلُوا عَلى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ؛ ولَعَلَّ الحِكْمَةَ في اشْتِراطِ ما اشْتُرِطَ في الإحْياءِ - مَعَ ظُهُورِ كَمالِ قدرته عَلى إحْيائِهِ ابْتِداءً؛ بِلا واسِطَةٍ أصْلًا - اشْتِمالُهُ عَلى التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ (تَعالى)؛ وأداءِ الواجِبِ؛ ونَفْعِ اليَتِيمِ؛ والتَّنْبِيهِ عَلى بَرَكَةِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ (تَعالى)؛ والشَّفَقَةِ عَلى الأوْلادِ؛ ونَفْعِ بِرِّ الوالِدَيْنِ؛ وأنَّ مِن حَقِّ الطّالِبِ أنْ يُقَدِّمَ قُرْبَةً؛ ومِن حَقِّ المُتَقَرِّبِ أنْ يَتَحَرّى الأحْسَنَ؛ ويُغالِيَ بِثَمَنِهِ؛ كَما يُرْوى عَنْ عُمْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ ضَحّى بِنَجِيبَةٍ اشْتَراها بِثُلْثِمائَةِ دِينارٍ؛ وأنَّ المُؤَثِّرَ هو اللَّهُ (تَعالى)؛ وإنَّما الأسْبابُ أماراتٌ لا تَأْثِيرَ لَها؛ وأنَّ مَن رامَ أنْ يَعْرِفَ أعْدى عَدُوِّهِ السّاعِي في إماتَتِهِ المَوْتَ الحَقِيقِيَّ فَطَرِيقُهُ أنْ يَذْبَحَ بَقَرَةَ نَفْسِهِ الَّتِي هي قُوَّتُهُ الشَّهَوِيَّةُ حِينَ زالَ عَنْها شَرَهُ الصِّبا؛ ولَمْ يَلْحَقْها ضَعْفُ الكِبَرِ؛ وكانَتْ مُعْجِبَةً؛ رائِقَةَ المَنظَرِ؛ غَيْرَ مُذَلَّلَةٍ في طَلَبِ الدُّنْيا؛ مُسَلَّمَةً عَنْ دَنَسِها؛ لا سِمَةَ بِها مِن قَبائِحِها؛ بِحَيْثُ يَتَّصِلُ أثَرُهُ إلى نَفْسِهِ؛ فَيَحْيا بِها حَياةً طَيِّبَةً؛ ويُعْرِبُ عَمّا بِهِ يَنْكَشِفُ الحالُ؛ ويَرْتَفِعُ ما بَيْنَ العَقْلِ؛ والوَهْمِ؛ مِنَ التَّدارُؤِ؛ والجِدالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب