الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧٣ ] ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى ويُرِيكم آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ "فَقُلْنا اضْرِبُوهُ" أيِ: المَقْتُولَ "بِبَعْضِها" أيِ: البَقَرَةِ. يَعْنِي فَضَرَبُوهُ فَحَيى وأخْبَرَ بِقاتِلِهِ. كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ "كَذَلِكَ" أيْ: مِثْلُ هَذا الإحْياءِ العَظِيمِ عَلى هَذِهِ الهَيْئَةِ الغَرِيبَةِ "يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى" يَوْمَ القِيامَةِ "ويُرِيكم آياتِهِ" أيْ: دَلائِلَهُ الدّالَّةَ عَلى أنَّهُ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالآياتِ هَذا الإحْياءُ. والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالجَمْعِ لِاشْتِمالِهِ عَلى أُمُورٍ بَدِيعَةٍ مِن تَرَتُّبِ الحَياةِ عَلى عُضْوٍ مَيِّتٍ، وإخْبارُهُ بِقاتِلِهِ، وما يُلابِسُهُ مِنَ الأُمُورِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ "لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ" لِتَكُونُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الآياتِ عَلى رَجاءٍ مِن أنْ يَحْصُلَ لَكم عَقْلٌ، فَيُرْشِدُكم إلى اعْتِقادِ البَعْثِ وغَيْرِهِ، مِمّا تُخْبِرُ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ تَعالى. (p-١٥٧)قالَ الرّاغِبُ: وقَوْلُهُ ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ قِيلَ هو حِكايَةٌ عَنْ قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْمِهِ، وقِيلَ بَلْ هو خِطابٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ، تَنْبِيهًا عَلى الِاعْتِبارِ بِإحْيائِهِ المَوْتى. تَنْبِيهاتٌ: (الأوَّلُ): قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَما لِلْقِصَّةِ لَمْ تُقَصَّ عَلى تَرْتِيبِها، وكانَ حَقُّها أنْ يُقَدَّمَ ذِكْرُ القَتِيلِ والضَّرْبِ بِبَعْضِ البَقَرَةِ عَلى الأمْرِ بِذَبْحِها ؟ فَيُقالُ: وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها، فَقُلْنا اذْبَحُوا بَقَرَةً واضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ؟ (أُجِيبَ): بِأنَّ كُلَّ ما قُصَّ مِن قَصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ، إنَّما قُصَّ تَعْدِيدًا لِما وُجِدَ مِنهم مِنَ الجِناياتِ، وتَقْرِيعًا لَهم عَلَيْها، ولِما جُدِّدَ فِيهِمْ مِنَ الآياتِ العِظامِ. وهاتانِ قِصَّتانِ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما مُسْتَقِلَّةٌ بِنَوْعٍ مِنَ التَّقْرِيعِ وإنْ كانَتا مُتَّصِلَتَيْنِ مُتَّحِدَتَيْنِ. فالأُولى لِتَقْرِيعِهِمْ عَلى الِاسْتِهْزاءِ، وتَرْكِ المُسارَعَةِ إلى الِامْتِثالِ وما يَتْبَعُ ذَلِكَ. والثّانِيَةُ لِلتَّقْرِيعِ عَلى قَتْلِ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، وما يَتْبَعُهُ مِنَ الآيَةِ العَظِيمَةِ. وإنَّما قُدِّمَتْ قِصَّةُ الأمْرِ بِذَبْحِ البَقَرَةِ عَلى ذِكْرِ القَتِيلِ، لِأنَّهُ لَوْ عَمِلَ عَلى عَكْسِهِ لَكانَتْ قِصَّةً واحِدَةً، ولَذَهَبَ الغَرَضُ في تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. ولَقَدْ رُوعِيَتْ نُكْتَةٌ، بَعْدَ ما اسْتُؤْنِفَتِ الثّانِيَةُ، اسْتِئْنافَ قِصَّةٍ بِرَأْسِها أنْ وصَلَتْ بِالأُولى دَلالَةً عَلى اتِّحادِهِما بِضَمِيرِ البَقَرَةِ لا بِاسْمِها الصَّرِيحِ في قَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها، حَتّى تَبَيَّنَ أنَّهُما قِصَّتانِ فِيما يَرْجِعُ إلى التَّقْرِيعِ، وتَثْنِيَتُهُ بِإخْراجِ الثّانِيَةِ مَخْرَجَ الِاسْتِئْنافِ مَعَ تَأْخِيرِها. وأنَّها قِصَّةٌ واحِدَةٌ بِالضَّمِيرِ الرّاجِعِ إلى البَقَرَةِ. اهـ. وقالَ الحَرالِيُّ: قُدِّمَ نَبَأُ قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ذِكْرِ نِدائِهِمْ في القَتِيلِ، ابْتِداءً بِأشْرَفِ القَصْدَيْنِ مِن مَعْنى التَّشْرِيعِ الَّذِي هو القائِمُ عَلى أفْعالِ الِاعْتِداءِ وأقْوالِ الخُصُومَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ. (التَّنْبِيهُ الثّانِي) قالَ الرّاغِبُ: قَدِ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ النّاسِ ذَلِكَ وما حَكاهُ اللَّهُ مِنهُ، وأنْكَرَ (p-١٥٨)حُصُولَ ذَلِكَ الفِعْلِ عَلى الحَقِيقَةِ وقالَ: ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِن حَيْثُ الطَّبِيعَةُ، وأيْضًا فَإنَّ ذَلِكَ لا يُعْرَفُ فِيهِ حِكْمَةٌ إلَهِيَّةً. فَأمّا اسْتِبْعادُهُ ذَلِكَ مِن حَيْثُ الطَّبِيعَةُ فَإنَّما هو اسْتِبْعادٌ لِلْإحْياءِ والنُّشُورِ، ولِذَلِكَ مَوْضِعٌ لا يَخْتَصُّ بِالتَّفْسِيرِ. ومَن كانَ ذَلِكَ طَرِيقَتَهُ فَلا خَوْضَ مَعَهُ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ. وأمّا الحِكْمَةُ فِيهِ فَظاهِرَةٌ إذْ هو مِنَ المُعْجِزاتِ المَحْسُوسَةِ الباهِرَةِ لِلْعُقُولِ. وأمّا تَخْصِيصُ البَقَرَةِ، فَإنَّ كَثِيرًا مِن حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى لا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ الوُقُوفُ عَلَيْهِ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ في تَخْصِيصِ بَقَرَةٍ عَلى وصْفٍ مَخْصُوصٍ إلّا تَوافُرَ المَأْمُورِينَ بِذَلِكَ عَلى طَلَبِها، واسْتِيجابَ الثَّوابِ في بَذْلِ ثَمَنِها، وجَلْبَ نَفْعٍ تَوَفَرَ إلى صاحِبِها -لَكانَ في ذَلِكَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ. وفِي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الجَماعَةَ الَّتِي حُكْمُهم واحِدٌ يَجُوزُ أنْ يُنْسَبَ الفِعْلُ إلَيْهِمْ، وإنْ كانَ واقِعًا مِن بَعْضِهِمْ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا، كَأنَّ الجُمْلَةَ المُرَكَّبَةَ مِن شَخْصٍ واحِدٍ يَصِحُّ أنْ يُنْسَبَ إلَيْها ما وقَعَ مِن عُضْوٍ مِنها. وقَدْ ذَكَرَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ قِصَّةَ البَقَرَةِ وصاحِبِها بِرِواياتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ نُورِدْ شَيْئًا مِنها لِأنَّهُ لَمْ يَرْوِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ، ولا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ فائِدَةٍ. كَما أنَّ البَعْضَ مِنَ البَقَرَةِ لَمْ يَجِئْ مِن طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ بَيانُهُ. فَنَحْنُ نُبْهِمُهُ كَما أبْهَمَهُ اللَّهُ تَعالى، إذْ لَيْسَ في تَعْيِينِهِ لَنا فائِدَةٌ دِينِيَّةٌ ولا دُنْيَوِيَّةٌ، وإنْ كانَ مُعَيَّنًا في نَفْسِ الأمْرِ، وأيًّا كانَ فالمُعْجِزَةُ حاصِلَةٌ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب