الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أرْحامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إنْ أرادُوا إصْلاحًا ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "قُرُوءٍ" عَلى وزْنِ فُعُولٍ، اللامُ هَمْزَةٌ. ورُوِيَ عن نافِعٍ شَدُّ الواوِ دُونَ هَمْزٍ. وقَرَأ الحَسَنُ: "ثَلاثَةُ قَرْوَ" بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الراءِ وتَنْوِينِ الواوِ خَفِيفَةً. وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ مَقْصِدُهُ الِاسْتِبْراءُ، لا أنَّهُ عِبادَةٌ، ولِذَلِكَ خَرَجَتْ مِنهُ مَن لَمْ يَبْنِ بِها، بِخِلافِ عِدَّةِ الوَفاةِ الَّتِي هي عِبادَةٌ. (p-٥٥٧)وَ"المُطَلَّقاتُ" لَفْظُ عُمُومٍ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ في المَدْخُولِ بِهِنَّ، ولَمْ تَدْخُلْ في العُمُومِ المُطَلَّقَةُ قَبْلَ البِناءِ، ولا الحامِلُ، ولا الَّتِي لَمْ تَحِضْ، ولا القاعِدُ. وقالَ قَوْمٌ: تَناوَلَهُنَّ العُمُومُ ثُمَّ نُسِخْنَ، وهَذا ضَعِيفٌ، فَإنَّما الآيَةُ فِيمَن تَحِيضُ، وهو عُرْفُ النِساءِ، وعَلَيْهِ مُعْظَمُهُنَّ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنِ النَصِّ عَلَيْهِ. والقُرْءُ في اللُغَةِ: الوَقْتُ المُعْتادُ تَرَدُّدُهُ، وقُرْءُ النَجْمِ: وقْتُ طُلُوعِهِ، وكَذَلِكَ وقْتُ أُفُولِهِ. وقُرْءُ الرِيحِ: وقْتُ هُبُوبِها. ومِنهُ قَوْلُ الراجِزِ: ؎ يا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلى فارِضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحائِضِ أرادَ وقْتَ غَضَبِهِ. فالحَيْضُ عَلى هَذا: يُسَمّى قُرْءًا، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «اتْرُكِي الصَلاةَ أيّامَ إقْرائِكِ»، أيْ أيّامَ حَيْضِكِ، وكَذَلِكَ عَلى هَذا النَظَرِ يُسَمّى الطُهْرُ قُرْءًا، لِأنَّهُ وقْتٌ مُعْتادٌ تَرَدُّدُهُ، يُعاقِبُ الحَيْضَ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ وفي كُلِّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ∗∗∗ تَشُدُّ لِأقْصاها عَزِيمُ عَزائِكا ؎ مُوَرِّثَةٍ مالًا وفي الحَيِّ رِفْعَةٌ ∗∗∗ بِما ضاعَ فِيها مِن قُرُوءِ نِسائِكا أيْ: مِن أطْهارِهِنَّ. وقالَ قَوْمٌ: القُرْءُ مَأْخُوذٌ مِن قُرْءِ الماءِ في الحَوْضِ، وهو جَمْعُهُ، فَكَأنَّ الرَحِمَ تَجْمَعُ الدَمَ وقْتَ الحَيْضِ، والجِسْمُ يَجْمَعُهُ وقْتَ الطُهْرِ. واخْتُلِفَ أيُّهُما أرادَ اللهُ تَعالى بِالثَلاثَةِ الَّتِي حَدَّدَها لِلْمُطَلَّقَةِ؟ فَقالَ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيُّ، وابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، ومُجاهِدٌ، والرَبِيعُ، وقَتادَةُ، وأصْحابُ الرَأْيِ، وجَماعَةٌ كَبِيرَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: المُرادُ الحَيْضُ، فَإذا طَلَّقَ الرَجُلُ امْرَأتَهُ في طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اسْتَقْبَلَتْ حَيْضَةً، ثُمَّ حَيْضَةً، ثُمَّ حَيْضَةً. فَإذا اغْتَسَلَتْ مِنَ الثالِثَةِ خَرَجَتْ مِن (p-٥٥٨)العِدَّةِ. وقالَ بَعْضُ مَن يَقُولُ بِالحَيْضِ: إذا طَهُرَتْ مِنَ الثالِثَةِ انْقَضَتِ العِدَّةُ قَبْلَ الغُسْلِ، هَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِ. وقالَتْ عائِشَةُ، وابْنُ عُمَرَ، وجَماعَةٌ مِنَ الصَحابَةِ والتابِعِينَ، ومَن بَعْدَهُمْ، مِنهم سُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، ومالكٌ: المُرادُ الأطْهارُ، فَإذا طَلَّقَ الرَجُلُ امْرَأتَهُ في طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِما بَقِيَ مِنهُ ولَوْ ساعَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، ثُمَّ ثالِثًا بَعْدَ حَيْضَةٍ ثانِيَةٍ، فَإذا رَأتِ الدَمَ مِنَ الحَيْضَةِ الثالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأزْواجِ، وخَرَجَتْ مِنَ العِدَّةِ. فَإنَّ طَلَّقَ مُطَلِّقٌ في طُهْرٍ قَدْ مَسَّ فِيهِ لَزِمَهُ الطَلاقُ، وقَدْ أساءَ، واعْتَدَّتْ بِما بَقِيَ مِن ذَلِكَ الطُهْرِ. وقَوْلُ ابْنِ القاسِمِ، ومالِكٍ: إنَّ المُطَلَّقَةَ إذا رَأتْ أوَّلَ نُقْطَةٍ مِنَ الحَيْضَةِ الثالِثَةِ، خَرَجَتْ مِنَ العِصْمَةِ، وهو مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ وغَيْرِهِ. وقالَ أشْهَبُ: لا تَنْقَطِعُ العِصْمَةُ والمِيراثُ حَتّى يَتَحَقَّقَ أنَّهُ دَمُ حَيْضٍ لِئَلّا يَكُونُ دَفْعَةَ دَمٍ مِن غَيْرِ الحَيْضِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما خَلَقَ﴾ فَقالَ ابْنُ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ، والرَبِيعُ، وابْنُ زَيْدٍ، والضَحّاكُ: هو الحَيْضُ والحَمْلُ جَمِيعًا ومَعْنى النَهْيِ عَنِ الكِتْمانِ، النَهْيُ عَنِ الإضْرارِ بِالزَوْجِ، وإذْهابُ حَقِّهِ. فَإذا قالَتِ المُطَلَّقَةُ حِضْتُ -وَهِيَ لَمْ تَحِضْ- ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنَ الِارْتِجاعِ، وإذا قالَتْ: لَمْ أحِضْ -وَهِيَ قَدْ حاضَتْ- ألْزَمَتْهُ مِنَ النَفَقَةِ ما لَمْ يَلْزَمْهُ فَأضَرَّتْ بِهِ، أو تَقْصِدْ بِكَذِبِها في نَفْيِ الحَيْضِ ألّا يَرْتَجِعَ حَتّى تَتِمَّ العِدَّةُ ويَقْطَعَ الشَرْعُ حَقَّهُ، وكَذَلِكَ الحامِلُ تَكْتُمُ الحَمْلَ لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ مِنَ الِارْتِجاعِ. وقالَ قَتادَةُ: كانَتْ عادَتُهُنَّ في الجاهِلِيَّةِ أنْ يَكْتُمْنَ الحَمْلَ لِيُلْحِقْنَ الوَلَدَ بِالزَوْجِ الجَدِيدِ، فَفي ذَلِكَ نَزَلَتِ الآيَةُ. وقالَ السُدِّيُّ: سَبَبُ الآيَةِ: أنَّ الرَجُلَ كانَ إذا أرادَ أنْ يُطَلِّقَ امْرَأتَهُ سَألَها: أبِها حَمْلٌ؟ مَخافَةَ أنْ يَضُرَّ بِنَفْسِهِ ووَلَدِهِ في فِراقِها. فَأمَرَهُنَّ اللهُ بِالصِدْقِ في ذَلِكَ. وقالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ، وعِكْرِمَةُ: المُرادُ بِـ "ما خَلَقَ" الحَيْضُ. ورُوِيَ عن عُمْرَ، وابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ الحَمْلُ. والعُمُومُ راجِحٌ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ ما يَقْتَضِي أنَّهُنَّ مُؤْتَمَناتٌ عَلى ما ذَكَرَ، ولَوْ (p-٥٥٩)كانَ الِاسْتِقْصاءُ مُباحًا لَمْ يُمْكِنْ كَتْمٌ. وقَرَأ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: "فِي أرْحامِهِنَّ" بِضَمِّ الهاءِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الآيَةُ. أيْ حَقُّ الإيمانِ، فَإنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ألّا يَكْتُمْنَ الحَقَّ، وهَذا كَما تَقُولُ: إنْ كُنْتَ حُرًّا فانْتَصِرْ وأنْتَ تُخاطِبُ حُرًّا. وقَوْلُهُ: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾. البَعْلُ: الزَوْجُ، وجَمْعُهُ عَلى بُعُولَةٍ شاذٌّ لا يَنْقاسُ، لَكِنَّ هو المَسْمُوعُ. وقالَ قَوْمٌ: الهاءُ فِيهِ دالَّةٌ عَلى تَأْنِيثِ الجَماعَةِ، وقِيلَ: هي هاءُ تَأْنِيثٍ دَخَلَتْ عَلى بُعُولٍ، وبُعُولٍ لا شُذُوذَ فِيهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "بِرِدَّتِهِنَّ" بِزِيادَةِ تاءٍ. وقَرَأ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ "بِرَدِّهِنَّ" بِضَمِّ الهاءِ، ونَصَّ اللهُ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ لِلزَّوْجِ أنْ يَرْتَجِعَ امْرَأتَهُ المُطَلَّقَةَ ما دامَتْ في العِدَّةِ، والإشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" هي إلى المُدَّةِ، ثُمَّ اقْتَرَنَ بِما لَهم مِنَ الرَدِّ شَرْطُ إرادَةِ الإصْلاحِ دُونَ المُضارَّةِ، كَما تَشَدَّدَ عَلى النِساءِ في كَتْمِ ما في أرْحامِهِنَّ، وهَذا بَيانُ الأحْكامِ الَّتِي بَيْنَ اللهِ تَعالى، وبَيْنَ عِبادِهِ في تَرْكِ النِساءِ الكِتْمانَ، وإرادَةِ الرِجالِ الإصْلاحَ، فَإنَّ قَصَدَ أحَدٌ بَعْدَ هَذا إفْسادًا، أو كَتَمَتِ امْرَأةٌ ما في رَحِمِها، فَأحْكامُ الدُنْيا عَلى الظاهِرِ والبَواطِنِ إلى اللهِ تَعالى، يَتَوَلّى جَزاءَ كُلِّ ذِي عَمَلٍ وتَضْعُفُ هَذِهِ الآيَةُ قَوْلُ مَن قالَ في المُولِي: إنَّ بِانْقِضاءِ الأشْهُرِ الأرْبَعَةِ تَزُولُ العِصْمَةُ بِطَلْقَةٍ بائِنَةٍ لا رَجْعَةَ فِيها، لِأنَّ أكْثَرَ ما تُعْطِي ألْفاظَ القُرْآنِ أنَّ تَرْكَ الفَيْءِ في الأشْهُرِ الأرْبَعَةِ هو عَزْمُ الطَلاقِ، وإذا كانَ ذَلِكَ فالمَرْأةُ مِنَ المُطْلَّقاتِ اللِوائِي يَتَرَبَّصْنَ وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ذَلِكَ في التَزَيُّنِ والتَصَنُّعِ والمُؤاتاةِ. وقَرَأ الضَحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ في حُسْنِ العِشْرَةِ، وحِفْظِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وتَقْوى اللهِ فِيهِ. والآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ حُقُوقِ الزَوْجِيَّةِ وقَوْلُهُ: ﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ (p-٥٦٠)دَرَجَةٌ﴾. قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى فَضْلِ حَظِّهِ عَلى حَظِّها في الجِهادِ والمِيراثِ وما أشْبَهَهُ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وابْنُهُ: ذَلِكَ في الطاعَةِ، عَلَيْها أنْ تُطِيعَهُ، ولَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يُطِيعَها، وقالَ عامِرٌ الشَعْبِيُّ: "ذَلِكَ الصَداقُ الَّذِي يُعْطِي الرَجُلُ، وأنَّهُ يُلاعِنُ إنْ قَذَفَ، وتُحَدُّ إنْ قَذَفَتْ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تِلْكَ الدَرَجَةُ إشارَةٌ إلى حَضِّ الرِجالِ عَلى حُسْنِ العِشْرَةِ، والتَوَسُّعِ لِلنِّساءِ في المالِ والخُلُقِ، أيْ إنَّ الأفْضَلَ يَنْبَغِي أنْ يَتَحامَلَ عَلى نَفْسِهِ. وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ بارِعٌ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: "الدَرَجَةُ": الإنْفاقُ وأنَّهُ قَوّامٌ عَلَيْها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الدَرَجَةُ": مِلْكُ العِصْمَةِ وأنَّ الطَلاقَ بِيَدِهِ: وقالَ حُمَيْدٌ: "الدَرَجَةُ": اللِحْيَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا إنْ صَحَّ عنهُ ضَعِيفٌ لا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الآيَةِ ولا مَعْناها. وإذا تَأمَّلْتَ هَذِهِ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ فَيَجِيءُ مِن مَجْمُوعِها دَرَجَةٌ تَقْتَضِي التَفْضِيلَ. و"عَزِيزٌ" لا يُعْجِزُهُ أحَدٌ، و"حَكِيمٌ" فِيما يُنَفِّذُهُ مِنَ الأحْكامِ والأُمُورِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب