الباحث القرآني
بابُ الأقْراءِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾: اِخْتَلَفَ السَّلَفُ في المُرادِ بِـ "اَلْقُرْءِ"؛ اَلْمَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقالَ عَلِيٌّ؛ وعُمَرُ؛ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؛ وابْنُ عَبّاسٍ؛ وأبُو مُوسى: هو الحَيْضُ؛ وقالُوا: هو أحَقُّ بِها ما لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ؛ ورَوى وكِيعٌ؛ عَنْ عِيسى الحافِظِ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِن أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ الخَبَرَ فالخَبَرَ؛ مِنهم أبُو بَكْرٍ؛ وعُمَرُ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ؛ وابْنُ عَبّاسٍ؛ قالُوا: اَلرَّجُلُ أحَقُّ بِامْرَأتِهِ ما لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ؛ وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ.
وقالَ ابْنُ عُمَرَ؛ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ؛ وعائِشَةُ: إذا دَخَلَتْ في الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها؛ قالَتْ عائِشَةُ: "اَلْأقْراءُ: اَلْأطْهارُ"؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَةٌ أُخْرى: أنَّها إذا دَخَلَتْ في الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها؛ ولا تَحِلُّ لِلْأزْواجِ حَتّى تَغْتَسِلَ؛ وقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا: اَلْأقْراءُ: اَلْحَيْضُ؛ وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ والأوْزاعِيِّ؛ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ إلّا أنَّ أصْحابَنا قَدْ قالُوا: لا تَنْقَضِي عِدَّتُها؛ إذا كانَتْ أيّامُها دُونَ العَشَرَةِ؛ حَتّى تَغْتَسِلَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ؛ أوْ يَذْهَبَ وقْتُ صَلاةٍ؛ وهو قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ إلّا أنَّهُ قالَ: "اَلْيَهُودِيَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ في ذَلِكَ مِثْلُ المُسْلِمَةِ"؛ وهَذا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِمَّنْ جَعَلَ الأقْراءَ الحَيْضَ؛ غَيْرُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ وقالَ أصْحابُنا: اَلذِّمِّيَّةُ تَنْقَضِي عِدَّتُها بِانْقِطاعِ الدَّمِ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ؛ لا غُسْلَ عَلَيْها؛ فَهي في مَعْنى مَنِ اغْتَسَلَتْ فَلا تَنْتَظِرُ بَعْدَ انْقِطاعِ الدَّمِ شَيْئًا آخَرَ؛ وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إذا انْقَطَعَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ بَطَلَتِ الرَّجْعَةُ؛ ولَمْ يُعْتَبَرِ الغُسْلُ؛ وقالَ مالِكٌ؛ والشّافِعِيُّ: اَلْأقْراءُ: اَلْأطْهارُ؛ فَإذا طَعَنَتْ في الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَقَدْ بانَتْ؛ وانْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ حَصَلَ مِنَ اتِّفاقِ السَّلَفِ وُقُوعُ اسْمِ الأقْراءِ عَلى المَعْنَيَيْنِ؛ مِنَ الحَيْضِ؛ ومِنَ الأطْهارِ؛ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّ اللَّفْظَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لَهُما لَما تَأوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِما؛ لِأنَّهم أهْلُ اللُّغَةِ؛ والمَعْرِفَةِ بِمَعانِي الأسْماءِ؛ وما يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ المَعانِي مِنَ العِباراتِ؛ فَلَمّا تَأوَّلَها فَرِيقٌ عَلى الحَيْضِ؛ وآخَرُونَ عَلى الأطْهارِ؛ (p-٥٦)عَلِمْنا وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِما؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ هَذا الِاخْتِلافَ قَدْ كانَ شائِعًا بَيْنَهُمْ؛ مُسْتَفِيضًا؛ ولَمْ يُنْكِرْ واحِدٌ مِنهم عَلى مُخالِفِيهِ في مَقالَتِهِ؛ بَلْ سَوَّغَ لَهُ القَوْلَ فِيهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى احْتِمالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ؛ وتَسْوِيغِ الِاجْتِهادِ فِيهِ؛ ثُمَّ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِما؛ أوْ مَجازًا فِيهِما؛ أوْ حَقِيقَةً في أحَدِهِما؛ مَجازًا في الآخَرِ؛ فَوَجَدْنا أهْلَ اللُّغَةِ مُخْتَلِفِينَ في مَعْنى القُرْءِ في أصْلِ اللُّغَةِ؛ فَقالَ قائِلُونَ مِنهُمْ: هو اسْمٌ لِلْوَقْتِ؛ حَدَّثَنا بِذَلِكَ أبُو عَمْرٍو؛ غُلامُ ثَعْلَبٍ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ أنَّهُ كانَ إذا سُئِلَ عَنْ مَعْنى القُرْءِ لَمْ يَزِدْهم عَلى: "اَلْوَقْتُ"؛ وقَدِ اسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎يا رُبَّ مَوْلًى حاسِدٍ مُباغِضِ ∗∗∗ عَلَيَّ ذِي ضِغْنٍ وضَبٍّ فارِضِ
؎لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحائِضِ
يَعْنِي وقْتًا تَهِيجُ فِيهِ عَداوَتُهُ؛ وعَلى هَذا تَأوَّلُوا قَوْلَ الأعْشى:
؎وفِي كُلِّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ∗∗∗ تَشُدُّ لِأقْصاها عَزِيمَ عَزائِكا
؎مُوَرِّثَةٍ مالًا وفي الحَيِّ رِفْعَةً ∗∗∗ لِما ضاعَ فِيها مِن قُرُوءِ نِسائِكا
يَعْنِي وقْتَ وطْئِهِنَّ؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَتَأوَّلُهُ عَلى الطُّهْرِ نَفْسِهِ؛ كَأنَّهُ قالَ: لِما ضاعَ فِيها مِن طُهْرِ نِسائِكَ؛ وقالَ الشّاعِرُ:
؎كَرِهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ ∗∗∗ إذا هَبَّتْ لِقارِئِها الرِّياحُ
يَعْنِي لِوَقْتِها في الشِّتاءِ؛ وقالَ آخَرُونَ: هو الضَّمُّ؛ والتَّأْلِيفُ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ:
؎تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ عَلى خَلاءٍ ∗∗∗ وقَدْ أمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحِينا
؎ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أدْماءَ بِكْرٍ ∗∗∗ هِجانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا
يَعْنِي لَمْ تَضُمَّ في بَطْنِها جَنِينًا؛ ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ"؛ إذا جَمَعْتُهُ؛ و"قَرَوْتُ الأرْضَ"؛ إذا جَمَعْتَ شَيْئًا إلى شَيْءٍ؛ وسَيْرًا إلى سَيْرٍ؛ ويَقُولُونَ: "ما قَرَأتِ النّاقَةُ سَلًى قَطُّ"؛ أيْ: ما اجْتَمَعَ رَحِمُها عَلى ولَدٍ قَطُّ؛ ومِنهُ: "أقْرَأتِ النُّجُومُ"؛ إذا اجْتَمَعَتْ في الأُفُقِ؛ ويُقالُ: "أقْرَأتِ المَرْأةُ"؛ إذا حاضَتْ؛ فَهي مُقْرِئٌ؛ ذَكَرَهُ الأصْمَعِيُّ؛ والكِسائِيُّ؛ والفَرّاءُ.
وحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: هو الخُرُوجُ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ؛ وهَذا قَوْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شاهِدٌ مِنَ اللُّغَةِ؛ ولا هو ثابِتٌ عَمَّنْ يُوثَقُ بِهِ مِن أهْلِها؛ ولَيْسَ فِيما ذَكَرْنا مِنَ الشَّواهِدِ ما يَلِيقُ بِهَذا المَعْنى؛ فَهو ساقِطٌ؛ مَرْدُودٌ؛ ثُمَّ يَقُولُ: وإنْ كانَتْ حَقِيقَتُهُ الوَقْتَ؛ فالحَيْضُ أوْلى بِهِ؛ لِأنَّ الوَقْتَ إنَّما يَكُونُ وقْتًا لِما يَحْدُثُ فِيهِ؛ والحَيْضُ هو الحادِثُ؛ ولَيْسَ الطُّهْرُ شَيْئًا أكْثَرَ مِن عَدَمِ الحَيْضِ؛ ولَيْسَ هو شَيْئًا حادِثًا؛ (p-٥٧)فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الحَيْضُ أوْلى بِمَعْنى الِاسْمِ؛ وإنْ كانَ هو الضَّمَّ؛ والتَّأْلِيفَ؛ فالحَيْضُ أوْلى بِهِ؛ لِأنَّ دَمَ الحَيْضِ إنَّما يَتَألَّفُ ويَجْتَمِعُ مِن سائِرِ أجْزاءِ البَدَنِ؛ في حالِ الحَيْضِ؛ فَمَعْناهُ أوْلى بِالِاسْمِ أيْضًا.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما يَتَألَّفُ الدَّمُ ويَجْتَمِعُ في أيّامِ الطُّهْرِ؛ ثُمَّ يَسِيلُ في أيّامِ الحَيْضِ؛ قِيلَ لَهُ: أحْسَنْتَ؛ إنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ؛ ودَلالَتُهُ قائِمَةٌ عَلى ما ذَكَرْنا؛ لِأنَّهُ قَدْ صارَ القُرْءُ اسْمًا لِلدَّمِ؛ إلّا أنَّكَ زَعَمْتَ أنَّهُ يَكُونُ اسْمًا لَهُ في حالِ الطُّهْرِ؛ وقُلْنا: يَكُونُ اسْمًا لَهُ في حالِ الحَيْضِ؛ فَلا مَدْخَلَ إذًا لِلطُّهْرِ في تَسْمِيَتِهِ بِالقُرْءِ؛ لِأنَّ الطُّهْرَ لَيْسَ هو الدَّمَ؛ ألا تَرى أنَّ الطُّهْرَ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا مَعَ عَدَمِ الدَّمِ تارَةً؛ ومَعَ وُجُودِهِ أُخْرى؛ عَلى أصْلِكَ؟ فَإذًا القُرْءُ اسْمٌ لِلدَّمِ؛ ولَيْسَ بِاسْمٍ لِلطُّهْرِ؛ ولَكِنَّهُ لا يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ إلّا بَعْدَ ظُهُورِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ؛ إلّا في هَذِهِ الحالِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَلا يُتَيَقَّنُ كَوْنُهُ في الرَّحِمِ في حالِ الطُّهْرِ؛ فَلَمْ يَجُزْ كُونُهُ في حالِ الطُّهْرِ أنْ نُسَمِّيَهُ بِاسْمِ القُرْءِ؛ لِأنَّ القُرْءَ اسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ؛ ولا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ سَيَلانِهِ؛ وقَبْلَ العِلْمِ بِوُجُودِهِ؛ وأيْضًا.. فَمِن أيْنَ لَكَ العِلْمُ بِاجْتِماعِ الدَّمِ في الرَّحِمِ في حالِ الطُّهْرِ؛ واحْتِباسِهِ فِيهِ؛ ثُمَّ سَيَلانِهِ في وقْتِ الحَيْضِ؟ فَإنَّ هَذا قَوْلٌ عارٍ مِن دَلِيلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ؛ ويَرُدُّهُ ظاهِرُ الكِتابِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ [لقمان: ٣٤]؛ فاسْتَأْثَرَ (تَعالى) بِعِلْمِ ما في الأرْحامِ؛ ولَمْ يُطْلِعْ عِبادَهُ عَلَيْهِ؛ فَمِن أيْنَ لَكَ القَضاءُ بِاجْتِماعِ الدَّمِ في حالِ الطُّهْرِ؛ ثُمَّ سَيَلانِهِ في وقْتِ الحَيْضِ؟ وما أنْكَرْتُ مِمَّنْ قالَ: إنَّما يَجْتَمِعُ مِن سائِرِ البَدَنِ؛ ويَسِيلُ في وقْتِ الحَيْضِ؛ لا قَبْلَ ذَلِكَ؛ ويَكُونُ أوْلى بِالحَقِّ مِنكَ؛ لِأنّا قَدْ عَلِمْنا يَقِينًا وُجُودَهُ في هَذا الوَقْتِ؛ ولَمْ نَعْلَمْ وُجُودَهُ في وقْتٍ قَبْلَهُ؛ فَلا يُحْكَمُ بِهِ لِوَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ؛ وإذْ قَدْ بَيَّنّا وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِما؛ وبَيَّنّا حَقِيقَةَ ما يَتَناوَلُهُ هَذا الِاسْمُ في اللُّغَةِ؛ فَلْيَدُلَّ عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْحَيْضِ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ في الحَقِيقَةِ؛ وأنَّ إطْلاقَهُ عَلى الطُّهْرِ إنَّما هو مَجازٌ؛ واسْتِعارَةٌ؛ وإنْ كانَ ما قَدَّمْنا مِن شَواهِدِ اللُّغَةِ؛ وما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِن حَقِيقَتِها؛ كافِيَةً في الدَّلالَةِ عَلى أنَّ حَقِيقَتَهُ تَخْتَصُّ بِالحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ؛ فَنَقُولُ: لَمّا وجَدْنا أسْماءَ الحَقائِقِ الَّتِي لا تَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّياتِها بِحالٍ؛ ووَجَدْنا أسْماءَ المَجازِ قَدْ يَجُوزُ أنْ تَنْتَفِيَ عَنْها في حالٍ؛ وتَلْزَمَها في أُخْرى؛ ثُمَّ وجَدْنا اسْمَ القُرْءِ غَيْرَ مُنْتَفٍ عَنِ الحَيْضِ بِحالٍ؛ ووَجَدْناهُ قَدْ يَنْتَفِي عَنِ الطُّهْرِ؛ لِأنَّ الطُّهْرَ مَوْجُودٌ في الآيِسَةِ؛ والصَّغِيرَةِ؛ ولَيْسَتا مِن ذَواتِ الأقْراءِ؛ عَلِمْنا أنَّ اسْمَ القُرْءِ لِلطُّهْرِ الَّذِي بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ مَجازٌ؛ ولَيْسَ بِحَقِيقَةٍ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُجاوَرَتِهِ لِلْحَيْضِ؛ كَما يُسَمّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ؛ إذا كانَ مُجاوِرًا لَهُ؛ وكانَ مِنهُ بِسَبَبٍ؛ ألا تَرى أنَّهُ حِينَ جاوَرَ الحَيْضَ سُمِّيَ بِهِ؛ وحِينَ لَمْ (p-٥٨)يُجاوِرْهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مَجازٌ في الطُّهْرِ؛ حَقِيقَةٌ في الحَيْضِ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ الحَيْضُ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ أنَّهُ لَمّا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ؛ واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ المُرادَ أحَدُهُما؛ فَلَوْ أنَّهُما تَساوَيا في الِاحْتِمالِ لَكانَ الحَيْضُ أوْلاهُما؛ وذَلِكَ لِأنَّ لُغَةَ النَّبِيِّ ﷺ ورَدَتْ بِالحَيْضِ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ بِقَوْلِهِ: «"اَلْمُسْتَحاضَةُ تَدَعُ الصَّلاةَ أيّامَ أقْرائِها"؛» وقالَ لِفاطِمَةَ بِنْتِ أبِي حُبَيْشٍ: «"فَإذا أقْبَلَ قُرْؤُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ؛ وإذا أدْبَرَ فاغْتَسِلِي؛ وصَلِّي ما بَيْنَ القُرْءِ إلى القُرْءِ"؛» فَكانَتْ لُغَةُ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ القُرْءَ: اَلْحَيْضُ؛ فَوَجَبَ ألّا يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ إلّا مَحْمُولًا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ - لا مَحالَةَ - نَزَلَ بِلُغَتِهِ ﷺ؛ وهو المُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - مُرادَ الألْفاظِ المُحْتَمِلَةِ لِلْمَعانِي؛ ولَمْ تَرِدْ لُغَتُهُ بِالطُّهْرِ؛ فَكانَ حَمْلُهُ عَلى الحَيْضِ أوْلى مِنهُ عَلى الطُّهْرِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما حَدَّثَنا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البَصْرِيُّ؛ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ؛ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ؛ عَنْ مُظاهِرِ بْنِ أسْلَمَ؛ عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ عَنْ عائِشَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «طَلاقُ الأمَةِ ثِنْتانِ؛ وقُرْؤُها حَيْضَتانِ» .
قالَ أبُو عاصِمٍ: فَحَدَّثَنِي مُظاهِرٌ قالَ: حَدَّثَنِي بِهِ القاسِمُ؛ عَنْ عائِشَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ؛ إلّا أنَّهُ قالَ: «"وعِدَّتُها حَيْضَتانِ"؛» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ شاذانَ قالَ: حَدَّثَنا مُعَلّى قالَ: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسى؛ عَنْ عَطِيَّةَ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «تَطْلِيقُ الأمَةِ تَطْلِيقَتانِ؛ وعِدَّتُها حَيْضَتانِ "؛» فَنَصَّ عَلى الحَيْضَتَيْنِ في عِدَّةِ الأمَةِ؛ وذَلِكَ خِلافُ قَوْلِ مُخالِفِينا؛ لِأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ عِدَّتَها طُهْرانِ؛ ولا يَسْتَوْعِبُونَ لَها حَيْضَتَيْنِ.
وإذا ثَبَتَ أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ حَيْضَتانِ كانَتْ عِدَّةُ الحُرَّةِ ثَلاثَ حِيَضٍ؛ وهَذانِ الحَدِيثانِ - وإنْ كانَ وُرُودُهُما مِن طَرِيقِ الآحادِ - فَقَدِ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ عَلى اسْتِعْمالِهِما في أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ عَلى النِّصْفِ مِن عِدَّةِ الحُرَّةِ؛ فَأوْجَبَ ذَلِكَ صِحَّتَهُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا حَدِيثُ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ - في سَبايا أوْطاسٍ -: "لا تُوطَأُ حامِلٌ حَتّى تَضَعَ؛ ولا حائِلٌ حَتّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ"؛» ومَعْلُومٌ أنَّ أصْلَ العِدَّةِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِبْراءِ؛ فَلَمّا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ اسْتِبْراءَ الأمَةِ بِالحَيْضَةِ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ وجَبَ أنْ تَكُونَ العِدَّةُ بِالحَيْضِ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ إذْ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَوْضُوعٌ في الأصْلِ لِلِاسْتِبْراءِ؛ أوْ لِمَعْرِفَةِ بَراءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الحَبَلِ؛ وإنْ كانَ قَدْ تَجِبُ العِدَّةُ عَلى الصَّغِيرَةِ؛ والآيِسَةِ؛ لِأنَّ الأصْلَ لِلِاسْتِبْراءِ؛ ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الآيِسَةِ؛ والصَّغِيرَةِ؛ لِئَلّا يُتَرَخَّصَ في الَّتِي قارَبَتِ البُلُوغَ؛ وفي الكَبِيرَةِ؛ الَّتِي قَدْ يَجُوزُ أنْ تَحِيضَ؛ وتَرى الدَّمَ بِتَرْكِ العِدَّةِ؛ فَأوْجَبَ عَلى الجَمِيعِ العِدَّةَ؛ احْتِياطًا لِلِاسْتِبْراءِ الَّذِي ذَكَرْنا؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ (p-٥٩)أيْضًا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿واللائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنَ نِسائِكم إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤]؛ فَأوْجَبَ الشُّهُورَ عِنْدَ عَدَمِ الحَيْضِ؛ فَأقامَها مَقامَها؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الأصْلَ هو الحَيْضُ؛ كَما أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣]؛ عَلِمْنا أنَّ الأصْلَ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ إلى الصَّعِيدِ هو الماءُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) حَصَرَ الأقْراءَ بِعَدَدٍ يَقْتَضِي اسْتِيفاءَهُ لِلْعِدَّةِ؛ وهو قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ واعْتِبارُ الطُّهْرِ فِيهِ يَمْنَعُ اسْتِيفاءَها بِكَمالِها فِيمَن طَلَّقَها لِلسُّنَّةِ؛ لِأنَّ طَلاقَ السُّنَّةِ أنْ يُوقِعَهُ في طُهْرٍ لَمْ يُجامِعْها فِيهِ؛ فَلا بُدَّ إذا كانَ كَذَلِكَ مِن أنْ يُصادِفَ طَلاقُهُ طُهْرًا قَدْ مَضى بَعْضُهُ؛ ثُمَّ تَعْتَدَّ بَعْدَهُ بِطُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ؛ فَهَذانِ طُهْرانِ وبَعْضُ الثّالِثِ؛ فَلَمّا تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ الثَّلاثِ إذا أرادَ طَلاقَ السُّنَّةِ؛ عَلِمْنا أنَّ المُرادَ الحَيْضُ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ العَدَدِ المَذْكُورِ في الآيَةِ بِكَمالِهِ؛ ولَيْسَ هَذا كَقَوْلِهِ ( تَعالى): ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧]؛ فالمُرادُ شَهْرانِ؛ وبَعْضُ الثّالِثِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَحْصُرْها بِعَدَدٍ؛ وإنَّما ذَكَرَها بِلَفْظِ الجَمْعِ؛ والأقْراءُ مَحْصُورَةٌ بِعَدَدٍ؛ وإنَّما ذَكَرَها بِلَفْظِ الجَمْعِ؛ والأقْراءُ مَحْصُورَةٌ بِعَدَدٍ لا يَحْتَمِلُ الأقَلَّ مِنهُ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: "رَأيْتُ ثَلاثَةَ رِجالٍ"؛ ومُرادُكَ رَجُلانِ؛ وجائِزٌ أنْ تَقُولَ: "رَأيْتُ رِجالًا"؛ والمُرادُ رَجُلانِ؟ وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧]؛ مَعْناهُ: عَمَلُ الحَجِّ في أشْهُرٍ مَعْلُوماتٍ؛ ومُرادُهُ: في بَعْضِها؛ لِأنَّ عَمَلَ الحَجِّ لا يَسْتَغْرِقُ الأشْهُرَ؛ وإنَّما يَقَعُ في بَعْضِ الأوْقاتِ مِنها؛ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلى اسْتِيفاءِ العَدَدِ؛ وأمّا الأقْراءُ فَواجِبٌ اسْتِيفاؤُها لِلْعِدَّةِ؛ فَإنْ كانَتِ الأقْراءُ الأطْهارَ؛ فَواجِبٌ أنْ يُسْتَوْفى العَدَدُ المَذْكُورُ؛ كَما يُسْتَغْرَقُ الوَقْتُ كُلُّهُ؛ فَيَكُونُ جَمِيعُ أوْقاتِ الطُّهْرِ عِدَّةً إلى انْقِضاءِ عَدَدِها؛ فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصارُ بِهِ عَلى ما دُونَ العَدَدِ المَذْكُورِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ الحَيْضَ؛ إذا أمْكَنَ اسْتِيفاءُ العَدَدِ عِنْدَ إيقاعِ طَلاقِ السُّنَّةِ؛ وكَما لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصارُ في عِدَّةِ الآيِسَةِ؛ والصَّغِيرَةِ؛ عَلى شَهْرَيْنِ وبَعْضِ الثّالِثِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤]؛ كَذَلِكَ لَمّا ذَكَرَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لَمْ يَجُزْ أنْ تَكُونَ اثْنَيْنِ وبَعْضَ الثّالِثِ.
فَإنْ قِيلَ: إذا طَلَّقَها في الطُّهْرِ فَبَقِيَّتُهُ قُرْءٌ تامٌّ؛ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُها بِوُجُودِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ الثّالِثِ؛ إذا كانَ الجُزْءُ مِنهُ قُرْءًا تامًّا؛ فَإنْ قِيلَ: اَلْقُرْءُ هو الخُرُوجُ مِن حَيْضٍ؛ أوْ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ إلّا أنَّهم قَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَوْ طَلَّقَها وهي حائِضٌ لَمْ يَكُنْ خُرُوجُها مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ مُعْتَدًّا بِهِ قُرْءًا؛ فَإذا ثَبَتَ أنَّ خُرُوجَها مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ غَيْرُ مُرادٍ بَقِيَ الوَجْهُ الآخَرُ؛ وهو خُرُوجُها مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ ويُمْكِنُ اسْتِيفاءُ ثَلاثَةِ أقْراءٍ كامِلَةٍ إذا طَلَّقَها في الحَيْضِ؛ قِيلَ لَهُ: قَوْلُ القائِلِ: اَلْقُرْءُ هو خُرُوجٌ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ أوْ مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ؛ قَوْلٌ يَفْسُدُ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها أنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا (p-٦٠)فِي مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ فَقالَ مِنهم قائِلُونَ: هي الحَيْضُ؛ وقالَ آخَرُونَ: هي الأطْهارُ؛ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهُمْ: إنَّهُ خُرُوجٌ مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ؛ أوْ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ فَقَوْلُ القائِلِ بِما وصَفْتَ خارِجٌ عَنْ إجْماعِ السَّلَفِ؛ وقَدِ انْعَقَدَ الإجْماعُ مِنهم بِخِلافِهِ؛ فَهو ساقِطٌ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ أهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا في مَعْناهُ في أصْلِ اللُّغَةِ؛ عَلى ما قَدَّمْنا مِن أقْوالِهِمْ فِيهِ؛ ولَمْ يَقُلْ مِنهم أحَدٌ فِيما ذُكِرَ مِن حَقِيقَتِهِ ما يُوجِبُ احْتِمالَ خُرُوجِها مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ؛ أوْ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ فَيَفْسُدُ مِن هَذا الوَجْهِ أيْضًا؛ ويَفْسُدُ أيْضًا مِن جِهَةِ أنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعى مَعْنًى لِاسْمٍ مِن طَرِيقِ اللُّغَةِ فَعَلَيْهِ أنْ يَأْتِيَ بِشاهِدٍ مِنها عَلَيْهِ؛ أوْ رِوايَةٍ عَنْ أهْلِها فِيهِ؛ فَلَمّا عَرِيَ هَذا القَوْلُ مِن دَلالَةِ اللُّغَةِ؛ ورِوايَةٍ فِيها؛ سَقَطَ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى؛ وهي أنَّهُ لَوْ كانَ القُرْءُ اسْمًا لِلِانْتِقالِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتَ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَدْ سُمِّيَ بِهِ في الأصْلِ غَيْرُهُ عَلى وجْهِ الحَقِيقَةِ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنَ الِانْتِقالِ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ؛ إذْ مَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ مَوْضُوعٍ لَهُ في أصْلِ اللُّغَةِ؛ وإنَّما هو مَنقُولٌ مِن غَيْرِهِ؛ فَإذا لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِن ضُرُوبِ الِانْتِقالِ بِهَذا الِاسْمِ عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ لَهُ؛ وأيْضًا لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ انْتِقالُها مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ قُرْءًا؛ ثُمَّ انْتِقالُها مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ قُرْءًا ثانِيًا؛ ثُمَّ انْتِقالُها مِنَ الطُّهْرِ الثّانِي إلى الحَيْضِ قُرْءًا ثالِثًا؛ فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُها بِدُخُولِها في الحَيْضَةِ الثّانِيَةِ؛ إذْ لَيْسَ بِحَيْضٍ عَلى أصْلِكَ اسْمُ القُرْءِ بِالِانْتِقالِ مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ؛ دُونَ الِانْتِقالِ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ.
فَإنْ قِيلَ: الظّاهِرُ يَقْتَضِيهِ؛ إلّا أنَّ دَلالَةَ الإجْماعِ مَنَعَتْ مِنهُ؛ قِيلَ لَهُ: ما أنْكَرْتُ مِمَّنْ قالَ لَكَ: إنَّ المُرادَ الِانْتِقالُ مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ؛ إلّا أنَّهُ إذا طَلَّقَها في الحَيْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِانْتِقالِها مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ فِيهِ؛ بِدَلالَةِ الإجْماعِ؛ وحُكْمُ اللَّفْظِ باقٍ بَعْدَ ذَلِكَ في سائِرِ الِانْتِقالاتِ؛ مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ؛ فَإذا لَمْ يُمْكِنْهُ الِانْفِصالُ مِمّا ذَكَرْنا؛ وتَعارَضا؛ سَقَطا؛ وزالَ الِاحْتِجاجُ بِهِ.
فَإنْ قِيلَ: اِعْتِبارُ خُرُوجِها مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ أوْلى مِنَ اعْتِبارِ خُرُوجِها مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ؛ لِأنَّ في انْتِقالِها مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ دَلالَةً عَلى بَراءَةِ رَحِمِها مِنَ الحَبَلِ؛ وخُرُوجُها مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ غَيْرُ دالٍّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أنْ تَحْبَلَ المَرْأةُ في آخِرِ حَيْضِها؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ تَأبَّطَ شَرًّا:
؎ومُبَرَّأً مِن كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ∗∗∗ وفَسادِ مُرْضِعَةٍ وداءٍ مُغْيَلِ
يَعْنِي أنَّ أُمَّهُ لَمْ تَحْبَلْ بِهِ في بَقِيَّةِ حَيْضِها؛ فَيُقالُ لَهُ: قَوْلُكَ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَحْبَلَ بِهِ في بَقِيَّةِ حَيْضِها؛ قَوْلٌ خَطَأٌ؛ لِأنَّ الحَبَلَ لا يُجامِعُهُ الحَيْضُ؛ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"لا تُوطَأُ حامِلٌ حَتّى تَضَعَ؛ ولا حائِلٌ (p-٦١)حَتّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ"؛» فَجَعَلَ وُجُودَ الحَيْضِ عِلْمًا لِبَراءَةِ رَحِمِها مِنَ الحَبَلِ؛ فَثَبَتَ أنَّ الحَمْلَ والحَيْضَ لا يَجْتَمِعانِ؛ ومَتى حَمَلَتِ المَرْأةُ وهي حائِضٌ ارْتَفَعَ الحَيْضُ؛ ولا يَكُونُ الدَّمُ المَوْجُودُ مِنَ الحَبَلِ حَيْضًا؛ وإنَّما يَكُونُ دَمَ اسْتِحاضَةٍ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُكَ: إنَّ خُرُوجَها مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى بَراءَةِ رَحِمِها؛ قَوْلٌ خَطَأٌ؛ وأمّا اسْتِشْهادُهُ بِقَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا فَإنَّهُ مِنَ العَجائِبِ؛ وما عِلْمُ هَذا الشّاعِرِ الجاهِلِ بِذَلِكَ؛ وقَدْ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ [لقمان: ٣٤]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿عالِمُ الغَيْبِ﴾ [الجن: ٢٦]؛ يَعْنِي أنَّهُ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ ذَلِكَ؛ دُونَ خَلْقِهِ؛ وأنَّ الخَلْقَ لا يَعْلَمُونَ مِنهُ إلّا ما عَلَّمَهُمْ؛ مَعَ دَلالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ عَلى انْتِفاءِ اجْتِماعِ الحَيْضِ؛ والحَبَلِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ ما ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا؛ لِأنَّهُ إذا كانَتِ العِدَّةُ بِالأقْراءِ إنَّما هي لِاسْتِبْراءِ الرَّحِمِ مِنَ الحَبَلِ؛ والطُّهْرُ لا اسْتِبْراءَ فِيهِ؛ لِأنَّ الحَمْلَ طُهْرٌ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ الِاعْتِبارُ بِالحِيَضِ؛ الَّتِي هي عِلْمٌ لِبَراءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الحَبَلِ؛ إذْ لَيْسَ في الطُّهْرِ دَلالَةٌ عَلَيْهِ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّ العِدَّةَ بِالأقْراءِ اسْتِبْراءٌ أنَّها لَوْ رَأتِ الدَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ بِها حَبَلٌ كانَتِ العِدَّةُ هي الحَبَلُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العِدَّةَ لِذَواتِ الأقْراءِ؛ إنَّما هي اسْتِبْراءٌ مِنَ الحَبَلِ؛ والِاسْتِبْراءُ مِنَ الحَبَلِ إنَّما يَكُونُ بِالحَيْضِ؛ لا بِالطُّهْرِ؛ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ لِلصَّغِيرَةِ؛ والآيِسَةِ؛ طُهْرٌ صَحِيحٌ؛ ولَيْسَ بِاسْتِبْراءٍ؛ والمَعْنى الآخَرُ أنَّ الطُّهْرَ مُقارِنٌ لِلْحَبَلِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ الِاسْتِبْراءَ لا يَقَعُ بِما يُقارِنُهُ؛ وإنَّما يَقَعُ بِما يُنافِيهِ؛ وهو الحَيْضُ؛ فَيَكُونُ دَلالَةً عَلى بَراءَةِ رَحِمِها مِنَ الحَبَلِ؛ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ العِدَّةُ بِالحِيَضِ؛ دُونَ الأطْهارِ؛ واحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ الأطْهارَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ «وقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِعُمَرَ حِينَ طَلَّقَ ابْنُهُ امْرَأتَهُ حائِضًا: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها؛ ثُمَّ لْيَدَعْها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ؛ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"».
قالَ: فَهَذا يَدُلُّ مِن وجْهَيْنِ عَلى أنَّها بِالأطْهارِ؛ أحَدُهُما قَوْلُهُ؛ بَعْدَ ذِكْرِهِ الطَّلاقَ في الطُّهْرِ: «"فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"؛» وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الطُّهْرِ؛ دُونَ الحَيْضِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ العِدَّةَ بِالأطْهارِ؛ دُونَ الحَيْضِ؛ والثّانِي قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١]؛ وذَلِكَ عُقَيْبَ الطَّلاقِ في الطُّهْرِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُحْصى هو بَقِيَّةَ الطُّهْرِ؛ وهو الَّذِي يَلِي الطَّلاقَ؛ فَيُقالُ لَهُ: أمّا قَوْلُهُ: «"فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"؛» فَإنَّ اللّامَ قَدْ تَدْخُلُ في ذَلِكَ لِحالٍ ماضِيَةٍ؛ ومُسْتَقْبَلَةٍ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﷺ: «"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ"؛» يَعْنِي لِرُؤْيَةٍ ماضِيَةٍ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها﴾ [الإسراء: ١٩]؛ يَعْنِي الآخِرَةَ؟ فاللّامُ هَهُنا لِلِاسْتِقْبالِ؛ والتَّراخِي؛ ويَقُولُونَ: "تَأهَّبَ لِلشِّتاءِ"؛ يَعْنِي وقْتًا مُسْتَقْبَلًا؛ (p-٦٢)مُتَراخِيًا عَنْ حالِ التَّأهُّبِ؛ وإذا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْماضِي؛ والمُسْتَقْبَلِ؛ ومَتى تَناوَلَ المُسْتَقْبَلَ فَلَيْسَ في مُقْتَضاهُ وُجُودُهُ عُقَيْبَ المَذْكُورِ بِلا فَصْلٍ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ؛ ووَجَدْنا قَوْلَهُ ﷺ لِابْنِ عُمَرَ؛ فِيهِ ذِكْرُ حَيْضَةٍ ماضِيَةٍ؛ والحَيْضَةُ المُسْتَقْبَلَةُ مَعْلُومَةٌ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً؛ وذَلِكَ في قَوْلِهِ: «"مُرْهُ فَلْيُراجِعْها؛ ثُمَّ لْيَدَعْها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ تَحِيضَ؛ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ؛ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ يُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"؛» فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ إشارَةً إلى الحَيْضَةِ الماضِيَةِ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العِدَّةَ إنَّما هي الحَيْضُ؛ وجائِزٌ أنْ يُرِيدَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً؛ إذْ هي مَعْلُومٌ كَوْنُها عَلى مُجْرى العادَةِ؛ فَلَيْسَ الطُّهْرُ حِينَئِذٍ بِأوْلى بِالِاعْتِبارِ مِنَ الحَيْضِ؛ لِأنَّ الحَيْضَ في المُسْتَقْبَلِ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا؛ فَجائِزٌ أنْ يُرادَ بِهِ؛ إذا كانَ مَعْلُومًا؛ كَما أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ طُهْرًا بَعْدَ الطَّلاقِ؛ وإنَّما ذَكَرَ طُهْرًا قَبْلَهُ؛ ولَكِنَّ الطُّهْرَ لَمّا كانَ مَعْلُومًا وُجُودُهُ بَعْدَ الطَّلاقِ؛ إذا طَلَّقَها فِيهِ؛ عَلى مُجْرى العادَةِ؛ جازَ عِنْدَكَ رُجُوعُ الكَلامِ إلَيْهِ؛ وإرادَتُهُ بِاللَّفْظِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَجائِزٌ أنْ تَحِيضَ عُقَيْبَ الطَّلاقِ بِلا فَصْلٍ؛ فَلَيْسَ إذًا في اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ في الِاعْتِدادِ بِهِ هو الطُّهْرُ دُونَ الحَيْضِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَوْ طَلَّقَها في آخِرِ الطُّهْرِ فَحاضَتْ عُقَيْبَ الطَّلاقِ بِلا فَصْلٍ؛ فَإنَّ عِدَّتَها يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الحَيْضَ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ بِمُقْتَضى لَفْظِهِ ﷺ؛ إذْ لَيْسَ في اللَّفْظِ ذِكْرُ حَيْضٍ بَعْدَ الطَّلاقِ؛ ولا طُهْرٍ؛ فَإذا حاضَتْ عُقَيْبَ الطَّلاقِ كانَ ذَلِكَ عِدَّتَها.
ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ أحَدٌ؛ في اعْتِبارِ الحَيْضِ؛ بَيْنَ وُجُودِهِ عُقَيْبَ الطَّلاقِ؛ ومُتَراخِيًا عَنْهُ؛ فَأوْجَبَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الحَيْضُ هو المُعْتَدَّ بِهِ مِنَ الأقْراءِ؛ دُونَ الطُّهْرِ؛ فَإنْ قِيلَ: اَلْحَيْضَةُ الماضِيَةُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ تَكُونَ مُرادَةً بِالخَبَرِ؛ لِأنَّ ما قَبْلَ الطَّلاقِ مِنَ الحَيْضِ لا يَكُونُ عِدَّةً؛ قِيلَ لَهُ: إذا كانَتْ تَعْتَدُّ بِهِ بَعْدَ الطَّلاقِ جازَ أنْ يُسَمِّيَها عِدَّةً؛ كَما قالَ (تَعالى): ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]؛ فَسَمّاهُ زَوْجًا قَبْلَ النِّكاحِ؛ ويَلْزَمُ مُخالِفَنا مِن ذَلِكَ ما لَزِمَنا؛ لِأنَّهُ ﷺ ذَكَرَ الطُّهْرَ؛ وأمَرَهُ أنْ يُطَلِّقَها فِيهِ؛ ولَمْ يَذْكُرِ الطُّهْرَ الَّذِي بَعْدَ الطَّلاقِ؛ فَقَدْ سَمّى الطُّهْرَ الَّذِي قَبْلَهُ عِدَّةً؛ لِأنَّهُ بِهِ تَعْتَدُّ عِنْدَكَ؛ فَما أنْكَرْتُ أنْ تُسَمّى الَّتِي قَبْلَ الطَّلاقِ عِدَّةً؛ إذْ كانَتْ بِها تَعْتَدُّ؛ وأمّا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١]؛ فَإنَّ الإحْصاءَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالطُّهْرِ؛ دُونَ الحَيْضِ؛ لِأنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ فالإحْصاءُ يَلْحَقُهُ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الَّذِي يَلِي الطَّلاقَ هو الطُّهْرَ؛ وقَدْ أُمِرْنا بِالإحْصاءِ؛ فَأوْجَبَ أنْ يَنْصَرِفَ الأمْرُ بِالإحْصاءِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ الأمْرَ عَلى الفَوْرِ؛ قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ الإحْصاءَ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى أشْياءَ ذَوِي عَدَدٍ؛ فَأمّا شَيْءٌ واحِدٌ قَبْلَ انْضِمامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ؛ فَلا عِبْرَةَ بِإحْصائِهِ؛ فَإذًا لُزُومُ الإحْصاءِ يَتَعَلَّقُ بِما يُوجَدُ في (p-٦٣)المُسْتَقْبَلِ مِنَ الأقْراءِ؛ مُتَراخِيًا عَنْ وقْتِ الطَّلاقِ؛ ثُمَّ حِينَئِذٍ الطُّهْرُ لا يَكُونُ أوْلى بِهِ مِنَ الحَيْضِ؛ إذْ كانَتْ سِمَةُ الإحْصاءِ تَتَناوَلُهُما جَمِيعًا؛ وتَلْحَقُهُما عَلى وجْهٍ واحِدٍ؛ وأيْضًا فَيَلْزَمُكَ عَلى هَذا أنْ تَقُولَ: إنَّها لَوْ حاضَتْ عُقَيْبَ الطَّلاقِ أنْ تَكُونَ عِدَّتُها بِالحَيْضِ؛ لِلُزُومِ الإحْصاءِ عُقَيْبَهُ؛ والَّذِي يَلِيهِ في هَذِهِ الحالِ الحَيْضُ؛ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هو العِدَّةَ.
وقالَ بَعْضُ المُخالِفِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ في أحْكامِ القُرْآنِ: قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ مَعْناهُ: في عِدَّتِهِنَّ؛ كَما يَقُولُ الرَّجُلُ: "كَتَبَ لِغُرَّةِ الشَّهْرِ"؛ مَعْناهُ: في هَذا الوَقْتِ؛ وهَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ "فِي" هي ظَرْفٌ؛ واللّامُ - وإنْ كانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَلى مَعانٍ - فَلَيْسَ في أقْسامِها الَّتِي تَتَصَرَّفُ عَلَيْها؛ وتَحْتَمِلُها؛ كَوْنُها ظَرْفًا؛ والمَعانِي الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَيْها لامُ الإضافَةِ كَثِيرَةٌ؛ مِنها: لامُ المِلْكِ؛ كَقَوْلِكَ: "لَهُ مالٌ"؛ ولامُ الفِعْلِ؛ كَقَوْلِكَ: "لَهُ كَلامٌ؛ ولَهُ حَرَكَةٌ"؛ ولامُ العِلَّةِ؛ كَقَوْلِكَ: "قامَ لِأنَّ زَيْدًا جاءَهُ؛ وأعْطاهُ لِأنَّهُ سَألَهُ"؛ ولامُ النِّسْبَةِ؛ كَقَوْلِكَ: "لَهُ أبٌ؛ ولَهُ أخٌ"؛ ولامُ الِاخْتِصاصِ؛ كَقَوْلِكَ: "لَهُ عِلْمٌ؛ ولَهُ إرادَةٌ"؛ ولامُ الِاسْتِغاثَةِ؛ كَقَوْلِكَ: "يا لَبَكْرٍ؛ ويا لَدارِمٍ"؛ ولامُ "كَيْ"؛ وهو قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولِيَرْضَوْهُ ولِيَقْتَرِفُوا﴾ [الأنعام: ١١٣]؛ ولامُ العاقِبَةِ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨]؛ فَهَذِهِ المَعانِي الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَيْها هَذِهِ اللّامُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنها ما ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ؛ وهو مَعَ ذَلِكَ ظاهِرُ الفَسادِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ مَعْناهُ: في عِدَّتِهِنَّ؛ فَيَنْبَغِي أنْ تَكُونَ العِدَّةُ مَوْجُودَةً حَتّى يُطَلِّقَها فِيها؛ كَما لَوْ قالَ قائِلٌ: "طَلَّقَها في شَهْرِ رَجَبٍ"؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يُطَلِّقَها قَبْلَ أنْ يُوجَدَ مِنهُ شَيْءٌ؛ فَبانَ بِذَلِكَ فَسادُ قَوْلِ هَذا القائِلِ؛ وتَناقُضُهُ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١]؛ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهُ الطُّهْرُ الَّذِي مَسْنُونٌ فِيهِ طَلاقُ السُّنَّةِ؛ أنَّهُ لَوْ طَلَّقَها بَعْدَ الجِماعِ في الطُّهْرِ لَكانَ مُخالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ ولَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ ما تَعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الفَرِيقَيْنِ؛ بِكَوْنِهِ جَمِيعًا مِن حَيْضٍ؛ أوْ طُهْرٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لِإيقاعِ طَلاقِ السُّنَّةِ في وقْتِ الطُّهْرِ؛ بِكَوْنِهِ عِدَّةً مُحْصاةً مِنها؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ طَلَّقَها وهي حائِضٌ لَكانَتْ مُعْتَدَّةً عُقَيْبَ الطَّلاقِ؛ ونَحْنُ مُخاطَبُونَ بِإحْصاءِ عِدَّتِها؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لِلُزُومِ الإحْصاءِ؛ ولا لِوَقْتِ طَلاقِ السُّنَّةِ؛ لِكَوْنِهِ هو المُعْتَدَّ بِهِ؛ دُونَ غَيْرِهِ.
وقالَ القائِلُ - الَّذِي قَدَّمْنا ذِكْرَ اعْتِراضِهِ في هَذا الفَصْلِ -: وقَدِ اعْتَبَرْتُمْ - يَعْنِي أهْلَ العِراقِ - مَعانِيَ أُخَرَ؛ غَيْرَ الأقْراءِ مِنَ الِاغْتِسالِ؛ أوْ مُضِيِّ وقْتِ الصَّلاةِ؛ واللَّهُ (تَعالى) إنَّما أوْجَبَ العِدَّةَ بِالأقْراءِ؛ ولَيْسَ الِاغْتِسالِ؛ ولا مُضِيِّ وقْتِ الصَّلاةِ في شَيْءٍ؛ فَيُقالُ لَهُ: لَمْ نَعْتَبِرْ غَيْرَ الأقْراءِ الَّتِي هي عِنْدَنا؛ ولَكِنّا لَمْ نَتَيَقَّنِ انْقِضاءَ الحَيْضِ؛ والحُكْمَ بِمُضِيِّهِ؛ إلّا بِأحَدِ مَعْنَيَيْنِ؛ لِمَن كانَتْ أيّامُها دُونَ العَشَرَةِ؛ وهو (p-٦٤)الِاغْتِسالُ؛ واسْتِباحَةُ الصَّلاةِ بِهِ؛ فَتَكُونُ طاهِرًا بِالِاتِّفاقِ - عَلى ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ؛ وعَلِيٍّ؛ وعَبْدِ اللَّهِ؛ وعُظَماءِ السَّلَفِ: مِن بَقاءِ الرَّجْعَةِ إلى أنْ تَغْتَسِلَ؛ أوْ يَمْضِيَ عَلَيْها وقْتُ الصَّلاةِ -؛ فَيَلْزَمُها فَرْضُها؛ فَيَكُونُ لُزُومُ فَرْضِ الصَّلاةِ مُنافِيًا لِبَقاءِ حُكْمِ الحَيْضِ؛ وهَذا إنَّما هو كَلامٌ في مُضِيِّ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ؛ ووُقُوعِ الطُّهْرِ مِنها؛ ولَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الكَلامِ في المَسْألَةِ في شَيْءٍ؛ ألا تَرى أنّا نَقُولُ: إنَّ أيّامَها إذا كانَتْ عَشَرَةً انْقَضَتْ عِدَّتُها بِمُضِيِّ العَشَرَةِ؛ اغْتَسَلَتْ أوْ لَمْ تَغْتَسِلْ؛ لِحُصُولِ اليَقِينِ بِانْقِضاءِ الحَيْضَةِ؛ إذْ لا يَكُونُ الحَيْضُ عِنْدَنا أكْثَرَ مِن عَشَرَةٍ؛ فالمُلْزِمُ لَنا - ذَلِكَ عَلى اعْتِبارِ الحَيْضِ - مُغْفَلٌ في إلْزامِهِ؛ واضِعٌ لِلْأقْراءِ في غَيْرِ مَوْضِعِها.
قالَ أبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقَدْ أفْرَدْنا لِهَذِهِ المَسْألَةِ كِتابًا؛ واسْتَقْصَيْنا القَوْلَ فِيها أكْثَرَ مِن هَذا؛ وفِيما ذَكَرْناهُ هَهُنا كِفايَةٌ.
وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ (تَعالى) مِنَ العِدَّةِ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ؛ ومُرادُهُ؛ مَقْصُورٌ عَلى الحُرَّةِ؛ دُونَ الأمَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ السَّلَفِ أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ عَلى النِّصْفِ مِن عِدَّةِ الحُرَّةِ؛ وقَدْ رَوَيْنا عَنْ عَلِيٍّ؛ وعُمَرَ؛ وعُثْمانَ؛ وابْنِ عُمَرَ؛ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ؛ وآخَرِينَ مِنهُمْ؛ أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ عَلى النِّصْفِ مِن عِدَّةِ الحُرَّةِ؛ وقَدْ رَوَيْنا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ طَلاقَ الأمَةِ تَطْلِيقَتانِ؛ وعِدَّتُها حَيْضَتانِ»؛ والسُّنَّةُ والإجْماعُ قَدْ دَلّا عَلى أنَّ مُرادَ اللَّهِ (تَعالى) في قَوْلِهِ: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ هو الحَرائِرُ؛ دُونَ الإماءِ.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾: رَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي الضُّحى؛ عَنْ مَسْرُوقٍ؛ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ قالَ: "كانَ مِنَ الأمانَةِ أنِ ائْتُمِنَتِ المَرْأةُ عَلى فَرْجِها".
ورَوى نافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ - قالَ: "اَلْحَيْضَ؛ والحَبَلَ"؛ وقالَ عِكْرِمَةُ: "اَلْحَيْضَ"؛ والحَكَمُ عَنْ مُجاهِدٍ؛ وإبْراهِيمَ؛ أحَدُهُما: "اَلْحَمْلَ"؛ وقالَ الآخَرُ: "اَلْحَيْضَ"؛ وعَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ اسْتَحْلَفَ امْرَأةً أنَّها لَمْ تَسْتَكْمِلِ الحَيْضَ؛ وقَضى بِذَلِكَ عُثْمانُ.
وقالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا وعَظَها بِتَرْكِ الكِتْمانِ دَلَّ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُها في وُجُودِ الحَيْضِ؛ أوْ عَدَمِهِ؛ وكَذَلِكَ في الحَبَلِ؛ لِأنَّهُما جَمِيعًا مِمّا خَلَقَ اللَّهُ (تَعالى) في رَحِمِها؛ ولَوْلا أنَّ قَوْلَها فِيهِ مَقْبُولٌ لَما وُعِظَتْ بِتَرْكِ الكِتْمانِ؛ ولا كِتْمانَ لَها؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ المَرْأةَ إذا قالَتْ: "أنا حائِضٌ"؛ لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِها وطْؤُها؛ وأنَّها إذا قالَتْ: "قَدْ طَهُرْتُ"؛ حَلَّ لَهُ وطْؤُها؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّهُ إذا قالَ لَها: "أنْتِ طالِقٌ إنْ حِضْتِ"؛ فَقالَتْ: "قَدْ حِضْتُ"؛ طُلِّقَتْ؛ وكانَ قَوْلُها كالبَيِّنَةِ؛ وفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ سائِرِ الشُّرُوطِ؛ إذا عُلِّقَ بِها الطَّلاقُ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ: "إنْ دَخَلْتِ الدّارَ؛ وكَلَّمْتِ زَيْدًا"؛ فَقالُوا: لا يُقْبَلُ قَوْلُها؛ إذا لَمْ يُصَدِّقْها الزَّوْجُ؛ إلّا بِبَيِّنَةٍ؛ وتُصَدَّقُ في الحَيْضِ؛ والطُّهْرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أوْجَبَ عَلَيْنا (p-٦٥)قَبُولَ قَوْلِها في الحَيْضِ؛ والحَبَلِ؛ وفي انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ وذَلِكَ مَعْنًى يَخُصُّها؛ ولا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُها؛ فَجُعِلَ قَوْلُها كالبَيِّنَةِ؛ فَكَذَلِكَ سائِرُ ما تَعَلَّقَ مِنَ الأحْكامِ بِالحَيْضِ؛ فَقَوْلُها مَقْبُولٌ فِيهِ.
وقالُوا: لَوْ قالَ لَها: "عَبْدِي حُرٌّ إنْ حِضْتِ"؛ فَقالَتْ: "قَدْ حِضْتُ"؛ لَمْ تُصَدَّقْ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ في غَيْرِها؛ أعْنِي عِتْقَ العَبْدِ؛ واللَّهُ (تَعالى) إنَّما جَعَلَ قَوْلَها كالبَيِّنَةِ في الحَيْضِ فِيما يَخُصُّها مِنَ انْقِضاءِ عِدَّتِها؛ ومِن إباحَةِ وطْئِها؛ أوْ حَظْرِهِ؛ فَأمّا فِيما لا يَخُصُّها؛ ولا يَتَعَلَّقُ بِها؛ فَهو كَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ؛ فَلا تُصَدَّقُ عَلَيْهِ؛ ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في تَصْدِيقِ المُؤْتَمَنِ فِيما يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ لَمّا وعَظَهُ بِتَرْكِ البَخْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ فِيهِ؛ ولَوْلا أنَّهُ مَقْبُولُ القَوْلِ فِيهِ لَما كانَ مَوْعُوظًا بِتَرْكِ البَخْسِ؛ وهو لَوْ بَخَسَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ؛ ومِنهُ أيْضًا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الشّاهِدَ إذا كَتَمَ؛ أوْ أظْهَرَ؛ كانَ المَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ فِيما كَتَمَ؛ وفِيما أظْهَرَ؛ لِدَلالَةِ وعْظِهِ إيّاهُ بِتَرْكِ الكِتْمانِ عَلى قَبُولِ قَوْلِهِ فِيها.
وذَلِكَ كُلُّهُ أصْلٌ في أنَّ كُلَّ مَنِ ائْتُمِنَ عَلى شَيْءٍ فالقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ؛ كالمُودَعِ إذا قالَ: "قَدْ ضاعَتِ الوَدِيعَةُ"؛ أوْ "قَدْ رَدَدْتُها"؛ وكالمُضارِبِ؛ والمُسْتَأْجِرِ؛ وسائِرِ المَأْمُونِينَ عَلى الحُقُوقِ؛ ولِذَلِكَ قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ ثُمَّ قَوْلَهُ (تَعالى) - عَطْفًا عَلَيْهِ -: ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِأمانَةٍ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ أمانَةً لَما عَطَفَ الأمانَةَ عَلَيْهِ؛ إذْ كانَ الشَّيْءُ لا يُعْطَفُ عَلى نَفْسِهِ؛ وإنَّما يُعْطَفُ عَلى غَيْرِهِ.
ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾؛ إنَّما هو مَقْصُورُ الحُكْمِ عَلى الحَبَلِ؛ دُونَ الحَيْضِ؛ لِأنَّ الدَّمَ إنَّما يَكُونُ حَيْضًا إذا سالَ؛ ولا يَكُونُ حَيْضًا وهو في الرَّحِمِ؛ لِأنَّ الحَيْضَ هو حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالدَّمِ الخارِجِ؛ فَما دامَ في الرَّحِمِ فَلا حُكْمَ لَهُ؛ ولا مَعْنى لِاعْتِبارِهِ؛ ولا ائْتِمانِ المَرْأةِ عَلَيْهِ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا صَحِيحٌ؛ إذِ الدَّمُ لا يَكُونُ حَيْضًا إلّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الرَّحِمِ؛ ولَكِنَّ دَلالَةَ الآيَةِ قائِمَةٌ عَلى ما ذَكَرْنا؛ وذَلِكَ لِأنَّ وقْتَ الحَيْضِ إنَّما يُرْجَعُ فِيهِ إلى قَوْلِها؛ إذْ لَيْسَ كُلُّ دَمٍ سائِلٍ حَيْضًا؛ وإنَّما يَكُونُ حَيْضًا بِأسْبابٍ أُخَرَ؛ نَحْوَ الوَقْتِ؛ والعادَةِ؛ وبَراءَةِ الرَّحِمِ عَنِ الحَبَلِ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ؛ وكانَتْ هَذِهِ الأُمُورُ إنَّما تُعْلَمُ مِن جِهَتِها؛ فَهي إذا قالَتْ: "قَدْ حِضْتُ ثَلاثَ حِيَضٍ"؛ فالقَوْلُ قَوْلُها؛ بِمُقْتَضى الآيَةِ؛ وكَذَلِكَ إذا قالَتْ: "لَمْ أرَ دَمًا؛ ولَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي"؛ فالقَوْلُ قَوْلُها؛ وكَذَلِكَ إذا قالَتْ: " قَدْ أسْقَطْتُ سُقْطًا قَدِ اسْتَبانَ خَلْقُهُ؛ وانْقَضَتْ عِدَّتِي"؛ فالقَوْلُ قَوْلُها؛ وإنَّما التَّصْدِيقُ مُتَعَلِّقٌ بِحَيْضٍ قَدْ وُجِدَ؛ ودَمٍ قَدْ (p-٦٦)سالَ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الحَيْضَ لا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِلَوْنِ الدَّمِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما اخْتُصَّتْ هي بِالرُّجُوعِ إلى قَوْلِها؛ دُونَنا؛ لِأنَّها وإيّانا مُتَساوُونَ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الألْوانِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ دَمَ الحَيْضِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ بِلَوْنِهِ مِن لَوْنِ دَمِ الِاسْتِحاضَةِ؛ وأنَّهُما عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ؛ فَفِيهِ دَلالَةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الحَيْضَ بِلَوْنِ الدَّمِ؛ وإنَّما لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلّا مِن جِهَتِها عِنْدَ سُقُوطِ اعْتِبارِ لَوْنِ الدَّمِ؛ لِما وصَفْنا مِن أنَّ وقْتَ الحَيْضِ؛ والعادَةَ فِيهِ؛ ومِقْدارَهُ؛ وأوْقاتَ الطُّهْرِ؛ إنَّما يُعْلَمُ مِن جِهَتِها؛ إذْ لَيْسَ كُلُّ دَمٍ حَيْضًا؛ وكَذَلِكَ وُجُودُ الحَمْلِ النّافِي لِكَوْنِ الدَّمِ حَيْضًا؛ وإسْقاطُ سُقْطٍ؛ كُلُّ ذَلِكَ المَرْجِعُ فِيهِ إلى قَوْلِها؛ لِأنّا لا نَعْلَمُهُ نَحْنُ؛ ولا نَقِفُ عَلَيْهِ؛ إلّا مِن جِهَتِها؛ فَلِذَلِكَ جُعِلَ القَوْلُ فِيهِ قَوْلَها.
وذَكَرَ هِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أنَّ قَوْلَ المَرْأةِ مَقْبُولٌ في وُجُودِ الحَيْضِ؛ ويُحْكَمُ بِبُلُوغِها إذا كانَتْ قَدْ بَلَغَتْ سِنًّا تَحِيضُ فِيهِ مِثْلُها؛ وذَلِكَ لِما ذَكَرْنا مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾؛ قالَ مُحَمَّدٌ: ولَوْ قالَ صَبِيٌّ مُراهِقٌ: "قَدِ احْتَلَمْتُ"؛ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ؛ حَتّى يُعْلَمَ الِاحْتِلامُ؛ أوْ بُلُوغُ سِنٍّ يَكُونُ مِثْلُهُ بالِغًا فِيها؛ فَفارِقٌ بَيْنَ الحَيْضِ؛ والِاحْتِلامِ؛ والفارِقُ بَيْنَهُما أنَّ الحَيْضَ إنَّما يُعْلَمُ مِن جِهَتِها؛ لِتَعَلُّقِهِ بِالأوْقاتِ؛ والعادَةِ؛ والمَعانِي الَّتِي لا تُعْلَمُ مِن جِهَةٍ غَيْرِها؛ ودَلالَةُ الآيَةِ عَلى قَبُولِ قَولِها فِيهِ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ الِاحْتِلامُ؛ لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ خُرُوجُ المَنِيِّ عَلى وجْهِ الدَّفْقِ؛ والشَّهْوَةِ؛ بِأسْبابٍ أُخَرَ غَيْرِ خُرُوجِهِ؛ ولا اعْتِبارَ فِيهِ بِوَقْتٍ؛ ولا عادَةٍ؛ فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِيهِ حَتّى نَعْلَمَ يَقِينًا صِحَّةَ ما قالَ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى؛ أنَّ دَمَ الحَيْضِ؛ والِاسْتِحاضَةِ؛ لَمّا كانا عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ؛ لَمْ يَجُزْ لِمَن شاهَدَ الدَّمَ أنْ يَقْضِيَ لَهُ بِحُكْمِ الحَيْضِ؛ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى قَوْلِها؛ إذْ كانَ إنَّما هو شَيْءٌ تَعْلَمُهُ هي دُونَنا؛ وأمّا الِاحْتِلامُ فَلا يَشْتَبِهُ فِيهِ خُرُوجُ المَنِيِّ عَلى أحَدٍ شاهَدَهُ؛ وهو يُدْرَكُ ويُعْلَمُ مِن غَيْرِ التِباسٍ مِنهُ بِغَيْرِهِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نَحْتَجْ فِيهِ إلى الرُّجُوعِ إلى قَوْلِهِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾؛ لَيْسَ بِشَرْطٍ في النَّهْيِ عَنِ الكِتْمانِ؛ وإنَّما هو عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ؛ وأنَّهُ مِن شَرائِطِ الإيمانِ؛ فَعَلَيْها ألّا تَكْتُمَ.
ومَن يُؤْمِنُ؛ ومَن لا يُؤْمِنُ؛ في هَذا النَّهْيِ سَواءٌ؛ وهو كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [النور: ٢]؛ وقَوْلِ مَرْيَمَ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ١٨] .
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾؛ قَدْ تَضَمَّنَ ضُرُوبًا مِنَ الأحْكامِ؛ أحَدُها أنَّ ما دُونَ الثَّلاثِ لا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ؛ ولا يُبْطِلُها؛ وإخْبارٌ بِبَقاءِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَهُ؛ لِأنَّهُ سَمّاهُ بَعْلًا بَعْدَ الطَّلاقِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى بَقاءِ التَّوارُثِ؛ وسائِرِ أحْكامِ الزَّوْجِيَّةِ؛ ما دامَتْ مُعْتَدَّةً؛ ودَلَّ عَلى أنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ؛ (p-٦٧)ما دامَتْ مُعْتَدَّةً؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فِي ذَلِكَ﴾؛ يَعْنِي فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الثَّلاثَةِ القُرُوءِ؛ ودَلَّ عَلى أنَّ إباحَةَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ مَقْصُورَةٌ عَلى حالِ إرادَةِ الإصْلاحِ؛ ولَمْ يُرِدْ بِها الإضْرارَ بِها؛ وهو كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ فَإنْ قِيلَ: فَما مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾؛ مَعَ بَقاءِ الزَّوْجِيَّةِ؛ وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ فِيما قَدْ زالَ عَنْهُ مِلْكُهُ؛ فَأمّا فِيما هو في مِلْكِهِ فَلا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: "بِرَدِّها إلى مِلْكِهِ"؛ مَعَ بَقاءِ مِلْكِهِ فِيها؟ قِيلَ لَهُ: لَمّا كانَ هُناكَ سَبَبٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ زَوالُ النِّكاحِ عِنْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ جازَ إطْلاقُ اسْمِ الرَّدِّ عَلَيْهِ؛ ويَكُونُ ذَلِكَ بِمَعْنى المانِعِ مِن زَوالِ الزَّوْجِيَّةِ بِانْقِضاءِ العِدَّةِ؛ فَسَمّاهُ رَدًّا؛ إذْ كانَ رافِعًا لِحُكْمِ السَّبَبِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ زَوالُ المِلْكِ؛ وهو كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ وهو مُمْسِكٌ لَها في هَذِهِ الحالِ؛ لِأنَّها زَوْجَتُهُ؛ وإنَّما المُرادُ الرَّجْعَةُ المُوجِبَةُ لِبَقاءِ النِّكاحِ بَعْدَ انْقِضاءِ الحَيْضِ؛ الَّتِي لَوْ لَمْ تَكُنِ الرَّجْعَةُ لَكانَتْ مُزِيلَةً لِلنِّكاحِ؛ وهَذِهِ الرَّجْعَةُ - وإنْ كانَتْ إباحَتُها مَعْقُودَةً بِشَرِيطَةِ إرادَةِ الإصْلاحِ - فَإنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهُ إذا راجَعَها مُضارًّا في الرَّجْعَةِ؛ مُرِيدًا لِتَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْها؛ أنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ؛ وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً إذا وقَعَتْ عَلى وجْهِ الضِّرارِ؛ لَما كانَ ظالِمًا لِنَفْسِهِ بِفِعْلِها.
وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ أيْضًا عَلى جَوازِ إطْلاقِ لَفْظِ العُمُومِ في مُسَمَّياتٍ؛ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ ما انْتَظَمَهُ العُمُومُ؛ فَلا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبارَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيما يَشْمَلُهُ في غَيْرِ ما خُصَّ بِهِ المَعْطُوفُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ عامٌّ في المُطَلَّقَةِ ثَلاثًا؛ وفِيما دُونَها؛ لا خِلافَ في ذَلِكَ؛ ثُمَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾؛ حُكْمٌ خاصٌّ فِيمَن كانَ طَلاقُها دُونَ الثَّلاثِ؛ ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاقْتِصارَ بِحُكْمِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ عَلى ما دُونَ الثَّلاثِ؛ ولِذَلِكَ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ؛ والسُّنَّةِ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]؛ وذَلِكَ عُمُومٌ في الوالِدَيْنِ؛ الكافِرَيْنِ؛ والمُسْلِمَيْنِ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [لقمان: ١٥]؛ وذَلِكَ خاصٌّ في الوالِدَيْنِ المُشْرِكَيْنِ؛ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عُمُومَ أوَّلِ الخِطابِ في الفَرِيقَيْنِ؛ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ والكُفّارِ؛ واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
(p-٦٨)
* * *
بابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأةِ .. وحَقِّ المَرْأةِ عَلى الزَّوْجِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾؛ قالَ أبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخْبَرَ اللَّهُ (تَعالى) في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلى صاحِبِهِ حَقًّا؛ وأنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْها؛ لَيْسَ لَها عَلَيْهِ مِثْلُهُ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾؛ ولَمْ يُبَيِّنْ في هَذِهِ الآيَةِ ما لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ مِنَ الحَقِّ مُفَسَّرًا؛ وقَدْ بَيَّنَهُ في غَيْرِها؛ وعَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ؛ فَمِمّا بَيَّنَهُ اللَّهُ (تَعالى)؛ مِن حَقِّ المَرْأةِ عَلَيْهِ؛ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ١٩]؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ وبِما أنْفَقُوا مِن أمْوالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]؛ وكانَتْ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِن حُقُوقِها عَلَيْهِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤]؛ فَجَعَلَ مِن حَقِّها عَلَيْهِ أنْ يُوَفِّيَها صَداقَها؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠]؛ فَجَعَلَ مِن حَقِّها عَلَيْهِ ألّا يَأْخُذَ مِمّا أعْطاها شَيْئًا؛ إذا أرادَ فِراقَها؛ وكانَ النُّشُوزُ مِن قِبَلِهِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الِاسْتِبْدالِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩]؛ فَجَعَلَ مِن حَقِّها عَلَيْهِ تَرْكُ إظْهارِ المَيْلِ إلى غَيْرِها؛ وقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مِن حَقِّها القَسْمُ بَيْنَها وبَيْنَ سائِرِ نِسائِهِ؛ لِأنَّ فِيهِ تَرْكَ إظْهارِ المَيْلِ إلى غَيْرِها؛. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ عَلَيْهِ وطْأها؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩]؛ يَعْنِي: لا فارِغَةً فَتَتَزَوَّجُ؛ ولا ذاتَ زَوْجٍ؛ إذْ لَمْ يُوَفِّها حَقَّها مِنَ الوَطْءِ؛ ومِن حَقِّها ألّا يُمْسِكَها ضِرارًا؛ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن بَيانِهِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنَّ إذا تَراضَوْا بَيْنَهم بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٢]؛ إذا كانَ خِطابًا لِلزَّوْجِ فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّ مِن حَقِّها؛ إذا لَمْ يَمِلْ إلَيْها؛ ألّا يَعْضُلَها عَنْ غَيْرِهِ بِتَرْكِ طَلاقِها؛ فَهَذِهِ كُلُّها مِن حُقُوقِ المَرْأةِ عَلى الزَّوْجِ؛ وقَدِ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الآياتُ إثْباتَها لَها.
ومِمّا بَيَّنَ اللَّهُ (تَعالى) مِن حَقِّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأةِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ﴾ [النساء: ٣٤]؛ فَقِيلَ فِيهِ: حِفْظُ مائِهِ في رَحِمِها؛ ولا تَحْتالُ في إسْقاطِهِ؛ ويَحْتَمِلُ حِفْظَ فِراشِها عَلَيْهِ؛ ويَحْتَمِلُ: حافِظاتٌ لِما في بُيُوتِهِنَّ مِن مالِ أزْواجِهِنَّ؛ ولِأنْفُسِهِنَّ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِاحْتِمالِ اللَّفْظِ لَهُ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ [النساء: ٣٤]؛ قَدْ أفادَ ذَلِكَ لُزُومَها طاعَتَهُ؛ لِأنَّ وصْفَهُ بِالقِيامِ عَلَيْها يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿واللاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ (p-٦٩)واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أطَعْنَكم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا﴾ [النساء: ٣٤]؛ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَلَيْها طاعَتَهُ في نَفْسِها؛ وتَرْكَ النُّشُوزِ عَلَيْهِ.
وقَدْ رُوِيَ في حَقِّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأةِ؛ وحَقِّ المَرْأةِ عَلَيْهِ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ؛ بَعْضُها مُواطِئٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ؛ وبَعْضُها زائِدٌ عَلَيْهِ؛ مِن ذَلِكَ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البَصْرِيُّ؛ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ؛ وغَيْرُهُ؛ قالَ: حَدَّثَنا حاتِمُ بْنُ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفاتٍ؛ فَقالَ: اِتَّقُوا اللَّهَ في النِّساءِ؛ فَإنَّكم أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمانَةِ اللَّهِ؛ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ؛ وإنَّ لَكم عَلَيْهِنَّ ألّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإنْ فَعَلْنَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ ولَهُنَّ عَلَيْكم رِزْقُهُنَّ؛ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» .
ورَوى لَيْثٌ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ؛ عَنْ عَطاءٍ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «جاءَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ما حَقُّ الزَّوْجِ عَلى الزَّوْجَةِ؟ فَذَكَرَ فِيها أشْياءَ: "لا تَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِن بَيْتِهِ إلّا بِإذْنِهِ؛ فَإنْ فَعَلَتْ كانَ لَهُ الأجْرُ؛ وعَلَيْها الوِزْرُ"؛ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ما حَقُّ الزَّوْجِ عَلى زَوْجَتِهِ؟ قالَ: "لا تَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ إلّا بِإذْنِهِ؛ ولا تَصُومُ يَوْمًا إلّا بِإذْنِهِ"».
ورَوى مِسْعَرٌ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَيْرُ النِّساءِ امْرَأةٌ إذا نَظَرْتَ إلَيْها سَرَّتْكَ؛ وإذا أمَرْتَها أطاعَتْكَ؛ وإذا غِبْتَ عَنْها حَفِظَتْكَ في مالِكَ ونَفْسِها؛ ثُمَّ قَرَأ: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ [النساء: ٣٤]؛ اَلْآيَةَ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الآيَةِ في إيجابِ التَّفْرِيقِ؛ إذا أعْسَرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِها؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) جَعَلَ لَهُنَّ مِنَ الحَقِّ عَلَيْها مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ؛ فَسَوّى بَيْنَهُما؛ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَسْتَبِيحَ بُضْعَها مِن غَيْرِ نَفَقَةٍ يُنْفِقُها عَلَيْها؛ وهَذا غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها أنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنِ البُضْعِ؛ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُما؛ ويَسْتَحِقُّ البُضْعَ عَلَيْها مِن أجْلِها؛ لِأنَّهُ قَدْ مَلَكَ البُضْعَ بِعَقْدِ النِّكاحِ؛ وبَدَلُهُ هو المَهْرُ؛ والوَجْهُ الثّانِي أنَّها لَوْ كانَتْ بَدَلًا لَما اسْتَحَقَّتِ التَّفْرِيقَ بِالآيَةِ؛ لِأنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾؛ فاقْتَضى ذَلِكَ تَفْضِيلَهُ عَلَيْها فِيما يَتَعَلَّقُ بَيْنَهُما مِن حُقُوقِ النِّكاحِ؛ وأنْ يَسْتَبِيحَ بُضْعَها؛ وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى نَفَقَتِها؛ وأيْضًا فَإنْ كانَتِ النَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْها بِتَسْلِيمِها نَفْسَها في بَيْتِهِ فَقَدْ أوْجَبْنا لَها عَلَيْهِ مِثْلَ ما أبَحْنا مِنها لَهُ؛ وهو فَرْضُ النَّفَقَةِ؛ وإثْباتُها في ذِمَّتِهِ لَها؛ فَلَمْ تَخْلُ في هَذِهِ الحالِ مِن إيجابِ الحَقِّ لَها؛ كَما أوْجَبْناهُ لَهُ عَلَيْها؛ ومِمّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾؛ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الأحْكامِ؛ إيجابُ مَهْرِ المِثْلِ؛ إذا لَمْ يُسَمِّ لَها مَهْرًا؛ لِأنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْها بُضْعَها بِالعَقْدِ؛ واسْتَحَقَّ عَلَيْها تَسْلِيمَ نَفْسِها إلَيْهِ؛ فَعَلَيْهِ (p-٧٠)لَها مِثْلُ مِلْكِهِ عَلَيْها؛ ومِثْلُ البُضْعِ هو قِيمَتُهُ؛ وهي مَهْرُ المِثْلِ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]؛ فَقَدْ عُقِلَ بِهِ وُجُوبُ قِيمَةِ ما يَسْتَمْلِكُهُ عَلَيْهِ؛ بِما لا مِثْلَ لَهُ مِن جِنْسِهِ؛ وكَذَلِكَ مِثْلُ البُضْعِ هو مَهْرُ المِثْلِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الواجِبَ مِن ذَلِكَ ما لا شَطَطَ فِيهِ؛ ولا تَقْصِيرَ؛ كَما «قالَ ﷺ في المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها؛ ولَمْ يُسَمِّ لَها مَهْرًا؛ ولَمْ يَدْخُلْ بِها: "لَها مَهْرُ مِثْلِ نِسائِها؛ ولا وكْسَ؛ ولا شَطَطَ"؛» وقَوْلُهُ: «"أيُّما امْرَأةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ ولِيِّها فَنِكاحُها باطِلٌ؛ فَإنْ دَخَلَ بِها فَلَها مَهْرُ مِثْلِ نِسائِها؛ ولا وكْسَ؛ ولا شَطَطَ"؛» فَهَذا هو المَعْنى المَعْرُوفُ المَذْكُورُ في الآيَةِ؛ وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ أيْضًا عَلى أنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَها عَلى أنَّهُ لا مَهْرَ لَها؛ فَإنَّ المَهْرَ واجِبٌ لَها؛ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَن شَرَطَ نَفْيَ المَهْرِ في النِّكاحِ؛ وبَيْنَ مَن لَمْ يَشْرِطْ في إيجابِهِ لَها مِثْلَ الَّذِي عَلَيْها.
وقَوْلُهُ: ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: مِمّا فُضِّلَ بِهِ الرَّجُلُ عَلى المَرْأةِ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ (تَعالى) مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٤]؛ فَأخْبَرَ بِأنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْها بِأنْ جُعِلَ قَيِّمًا عَلَيْها.
وقالَ (تَعالى): ﴿وبِما أنْفَقُوا مِن أمْوالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]؛ فَهَذا أيْضًا مِمّا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّفْضِيلَ عَلَيْها؛ ومِمّا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْها ما ألْزَمَها اللَّهُ مِن طاعَتِهِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أطَعْنَكم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا﴾ [النساء: ٣٤]؛ ومِن دَرَجاتِ التَّفْضِيلِ ما أباحَهُ لِلزَّوْجِ مِن ضَرْبِها عِنْدَ النُّشُوزِ؛ وهِجْرانِ فِراشِها؛ ومِن وُجُوهِ التَّفْضِيلِ عَلَيْها ما مَلَكَ الرَّجُلُ مِن فِراقِها بِالطَّلاقِ؛ ولَمْ تَمْلِكْهُ؛ ومِنها أنَّهُ جَعَلَ لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْها ثَلاثًا سِواها؛ ولَمْ يَجْعَلْ لَها أنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ؛ ما دامَتْ في حِبالِهِ؛ أوْ في عِدَّةٍ مِنهُ؛ ومِنها زِيادَةُ المِيراثِ عَلى قَسْمِها؛ ومِنها أنَّ عَلَيْها أنْ تَنْتَقِلَ إلى حَيْثُ يُرِيدُ الزَّوْجُ؛ ولَيْسَ عَلى الزَّوْجِ اتِّباعُها في النَّقْلَةِ؛ والسُّكْنى؛ وأنَّهُ لَيْسَ لَها أنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلّا بِإذْنِ زَوْجِها؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ضُرُوبٌ أُخَرُ مِنَ التَّفْضِيلِ؛ سِوى ما ذَكَرْنا؛ مِنها حَدِيثُ إسْماعِيلَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ؛ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ؛ عَنْ جابِرٍ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «"لا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ؛ ولَوْ كانَ ذَلِكَ كانَ النِّساءُ لِأزْواجِهِنَّ"؛» وحَدِيثُ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ؛ عَنْ حَفْصٍ؛ اِبْنِ أخِي أنَسٍ؛ عَنْ أنَسٍ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ؛ ولَوْ صَلُحَ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأمَرْتُ المَرْأةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها؛ مِن عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْها؛ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كانَ مِن قَدَمِهِ إلى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً بِالقَيْحِ والصَّدِيدِ؛ ثُمَّ لَحَسَتْهُ لَما أدَّتْ حَقَّهُ» .
ورَوى الأعْمَشُ؛ عَنْ أبِي حازِمٍ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إلى فِراشِهِ؛ فَأبَتْ؛ فَباتَ غَضْبانَ عَلَيْها؛ لَعَنَتْها المَلائِكَةُ (p-٧١)حَتّى تُصْبِحَ» .
وفِي حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ؛ «عَنْ عَمَّةٍ لَهُ؛ أنَّها أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: "أذاتُ زَوْجٍ أنْتِ؟"؛ فَقالَتْ: نَعَمْ؛ قالَ: "فَأيْنَ أنْتِ مِنهُ؟"؛ قالَتْ: ما آلُوهُ إلّا ما عَجَزْتُ عَنْهُ؛ قالَ: "فانْظُرِي أيْنَ أنْتِ مِنهُ؛ فَإنَّما هو جَنَّتُكِ؛ أوْ نارُكِ"».
ورَوى سُفْيانُ؛ عَنْ أبِي زِيادٍ؛ عَنِ الأعْرَجِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"لا تَصُومُ المَرْأةُ يَوْمًا وزَوْجُها شاهِدٌ؛ مِن غَيْرِ رَمَضانَ؛ إلّا بِإذْنِهِ"».
وحَدِيثُ الأعْمَشِ؛ عَنْ أبِي صالِحٍ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النِّساءَ أنْ يَصُمْنَ إلّا بِإذْنِ أزْواجِهِنَّ».
فَهَذِهِ الأخْبارُ؛ مَعَ ما تَضَمَّنَتْهُ دَلالَةُ الكِتابِ؛ تُوجِبُ تَفْضِيلَ الزَّوْجِ عَلى المَرْأةِ في الحُقُوقِ الَّتِي يَقْتَضِيها عَقْدُ النِّكاحِ؛ وقَدْ ذُكِرَ في قَوْلِهِ ( تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ نَسْخٌ في مَواضِعَ؛ أحَدُها ما رَواهُ مُطْرِفٌ؛ عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ؛ «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ عِدَّةُ النِّساءِ في الطَّلاقِ؛ والمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها؛ قُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ بَقِيَ نِساءٌ لَمْ تَنْزِلْ عِدَّتُهُنَّ بَعْدُ؛ الصِّغارُ؛ والكِبارُ؛ والحُبْلى؛ فَنَزَلَتْ: ﴿واللائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنَ نِسائِكُمْ﴾ [الطلاق: ٤]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]»؛ ورَوى عَبْدُ الوَهّابِ؛ عَنْ سَعِيدٍ؛ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ فَجَعَلَ عِدَّةَ المُطَلَّقَةِ ثَلاثَ حِيَضٍ؛ ثُمَّ نَسَخَ مِنها الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِها في العِدَّةِ؛ ونُسِخَ مِنَ الثَّلاثَةِ القُرُوءِ امْرَأتانِ: ﴿واللائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنَ نِسائِكم إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ [الطلاق: ٤]؛ فَهَذِهِ العَجُوزُ؛ الَّتِي لا تَحِيضُ؛ ﴿واللائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤]؛ فَهَذِهِ البِكْرُ؛ عِدَّتُها ثَلاثَةُ أشْهُرٍ؛ ولَيْسَ الحَيْضُ مِن أمْرِها في شَيْءٍ؛ ونُسِخَ مِنَ الثَّلاثَةِ القُرُوءِ الحامِلُ؛ فَقالَ: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]؛ فَهَذِهِ أيْضًا لَيْسَتْ مِنَ القُرُوءِ في شَيْءٍ؛ إنَّما أجَلُها أنْ تَضَعَ حَمْلَها.
قالَ أبُو بَكْرٍ: أمّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى نَسْخِ شَيْءٍ؛ وإنَّما أكْثَرُ ما فِيهِ أنَّهم سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ عِدَّةِ الصَّغِيرَةِ؛ والآيِسَةِ؛ والحُبْلى؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم عَلِمُوا خُصُوصَ الآيَةِ؛ وأنَّ الحُبْلى لَمْ تَدْخُلْ فِيها؛ مَعَ جَوازِ أنْ تَكُونَ مُرادَةً بِها؛ وكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ؛ لِأنَّهُ كانَ جائِزًا أنْ يَشْتَرِطَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ بَعْدَ بُلُوغِها؛ وإنْ طُلِّقَتْ وهي صَغِيرَةٌ؛ وأمّا الآيِسَةُ فَقَدْ عُقِلَ مِنَ الآيَةِ أنَّها لَمْ تُرَدْ بِها؛ لِأنَّ الآيِسَةَ هي الَّتِي لا يُرْجى لَها حَيْضٌ؛ فَلا جائِزَ أنْ يَتَناوَلَها مُرادُ الآيَةِ بِحالٍ؛ وأمّا حَدِيثُ قَتادَةَ؛ فَإنَّهُ ذَكَرَ أنَّ الآيَةَ كانَتْ عامَّةً في اقْتِضائِها إيجابَ العِدَّةِ بِالأقْراءِ في المَدْخُولِ بِها؛ وغَيْرِ المَدْخُولِ بِها؛ وأنَّهُ نُسِخَ مِنها غَيْرُ المَدْخُولِ بِها؛ وهَذا مُمْكِنٌ أنْ يَكُونَ كَما قالَ.
وأمّا قَوْلُهُ: ونُسِخَ عَنِ الثَّلاثَةِ القُرُوءٍ امْرَأتانِ؛ وهُما الآيِسَةُ؛ والصَّغِيرَةُ؛ فَإنَّهُ أطْلَقَ لَفْظَ النَّسْخِ في الآيَةِ؛ وأرادَ بِهِ التَّخْصِيصَ؛ وكَثِيرًا ما يُوجَدُ (p-٧٢)عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وعَنْ غَيْرِهِ؛ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ؛ إطْلاقُ لَفْظِ النَّسْخِ؛ ومُرادُهُمُ التَّخْصِيصُ؛ فَإنَّما أرادَ قَتادَةُ بِذِكْرِ النَّسْخِ في الآيِسَةِ التَّخْصِيصَ؛ لا حَقِيقَةَ النَّسْخِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ إلّا فِيما قَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ؛ وثَبَتَ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ تَكُونَ الآيِسَةُ مُرادَةً بِعِدَّةِ الأقْراءِ؛ مَعَ اسْتِحالَةِ وُجُودِها مِنها؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ أرادَ التَّخْصِيصَ؛ وقَدْ يَحْتَمِلُ وجْهًا؛ عَلى بُعْدٍ؛ عِنْدَنا؛ وهو أنْ يَكُونَ مَذْهَبُ قَتادَةَ أنَّ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُها؛ وإنْ كانَتْ شابَّةً؛ تُسَمّى آيِسَةً؛ وأنَّ عِدَّتَها مَعَ ذَلِكَ الأقْراءُ؛ وإنْ طالَتِ المُدَّةُ فِيها.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُها مِنَ الآيِساتِ؛ تَكُونُ عِدَّتُها عِدَّةَ الآيِسَةِ؛ وإنْ كانَتْ شابَّةً؛ وهو مَذْهَبُ مالِكٍ؛ فَإنْ كانَ إلى هَذا ذَهَبَ؛ في مَعْنى الآيِسَةِ؛ فَهَذِهِ جائِزٌ أنْ تَكُونَ مُرادَةً بِالأقْراءِ؛ لِأنَّها يُرْجى وُجُودُها مِنها.
وأمّا قَوْلُهُ: ونُسِخَ مِنَ الثَّلاثَةِ القُرُوءٍ الحامِلُ؛ فَإنَّ هَذا أيْضًا جائِزٌ؛ سائِغٌ؛ لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ وُرُودُ العِبارَةِ بِأنَّ عِدَّةَ الحامِلِ ثَلاثُ حِيَضٍ؛ بَعْدَ وضْعِ الحَمْلِ؛ وإنْ كانَتْ مِمَّنْ لا تَحِيضُ؛ وهي حامِلٌ؛ فَجائِزٌ أنْ تَكُونَ عِدَّتُها ثَلاثَةَ قُرُوءٍ؛ بَعْدَ وضْعِ الحَمْلِ؛ فَنُسِخَ بِالحَمْلِ؛ إلّا أنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَدْ أخْبَرَ أنَّ الحامِلَ لَمْ تَكُنْ مُرادَةً بِعِدَّةِ الأقْراءِ؛ وأنَّهم سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأخْبَرَ بِأنَّهُ لَمْ تَنْزِلْ في الحامِلِ؛ والآيِسَةِ؛ والصَّغِيرَةِ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ ( تَعالى) ذَلِكَ؛ ولَيْسَ يَجُوزُ إطْلاقُ النَّسْخِ عَلى الحَقِيقَةِ؛ إلّا فِيما قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ؛ ووُرُودُ الحُكْمِ النّاسِخِ لَهُ مُتَأخِّرًا عَنْهُ؛ إلّا أنْ يُطْلَقَ لَفْظُ النَّسْخِ؛ والمُرادُ التَّخْصِيصُ عَلى وجْهِ المَجازِ؛ فَلا يَضِيقُ؛ وأوْلى الأشْياءِ بِنا حَمْلُهُ عَلى وجْهِ التَّخْصِيصِ؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾؛ لَمْ يَرِدْ إلّا خاصًّا في المُطَلَّقاتِ ذَواتِ الحَيْضِ؛ المَدْخُولِ بِهِنَّ؛ وأنَّ الآيِسَةَ؛ والصَّغِيرَةَ؛ والحامِلَ؛ لَمْ يَرِدْنَ قَطُّ بِالآيَةِ؛ إذْ لَيْسَ مَعَنا تارِيخٌ لِوُرُودِ هَذِهِ الأحْكامِ؛ ولا عُلِمَ بِاسْتِقْرارِ حُكْمِها؛ ثُمَّ نَسْخِهِ بَعْدَهُ؛ فَكَأنَّ هَذِهِ الآياتِ ورَدَتْ مَعًا؛ وتَرَتَّبَتْ أحْكامُها عَلى ما اقْتَضاها مِنَ اسْتِعْمالِها؛ وبُنِيَ العامُّ عَلى الخاصِّ مِنها.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجْهٌ آخَرُ مِنَ النَّسْخِ في هَذِهِ الآيَةِ؛ وهو ما رَوى الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ؛ عَنْ أبِيهِ عَطِيَّةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾؛ وذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ كانَ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ كانَ أحَقَّ بِرَدِّها؛ وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا؛ فَنَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩] .
وعَنِ الضَّحّاكِ بْنِ مُزاحِمٍ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ وقالَ: ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤]؛ فَنُسِخَ؛ واسْتَثْنى مِنها؛ فَقالَ: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ (p-٧٣)طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ ورُوِيَ فِيها وجْهٌ آخَرُ؛ وهو ما رَوى مالِكٌ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ؛ عَنْ أبِيهِ قالَ: كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ؛ ثُمَّ راجَعَها قَبْلَ أنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ كانَ ذَلِكَ لَهُ؛ وإنْ طَلَّقَها ألْفَ مَرَّةٍ؛ فَعَمَدَ رَجُلٌ إلى امْرَأتِهِ؛ فَطَلَّقَها حَتّى إذا شارَفَتِ انْقِضاءَ العِدَّةِ راجَعَها؛ ثُمَّ طَلَّقَها؛ ثُمَّ قالَ: واللَّهِ لا آوِيكِ إلَيَّ؛ ولا تَحِلِّينَ مِنِّي أبَدًا؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]؛ فاسْتَقْبَلَ النّاسُ الطَّلاقَ جَدِيدًا مِن يَوْمِئِذٍ؛ مَن كانَ مِنهم طَلَّقَ؛ أوْ لَمْ يُطَلِّقْ.
ورَوى شَيْبانُ؛ عَنْ قَتادَةَ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾؛ قالَ: في القُرُوءِ الثَّلاثَةِ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩]؛ لِكُلِّ مَرَّةٍ قُرْءٌ؛ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ ما كانَ قَبْلَها؛ فَجَعَلَ اللَّهُ حَدَّ الطَّلاقِ ثَلاثًا؛ فَجَعَلَهُ أحَقَّ بِرَجْعَتِها؛ ما لَمْ تُطَلَّقْ ثَلاثًا.
{"ayah":"وَٱلۡمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ وَلَا یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِیۤ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ یُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوۤا۟ إِصۡلَـٰحࣰاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِی عَلَیۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَیۡهِنَّ دَرَجَةࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق