الباحث القرآني

﴿والمُطَلَّقاتُ﴾ أيْ: ذَواتِ الأقْراءِ مِنَ الحَرائِرِ المَدْخُولِ بِهِنَّ لِما قَدْ بُيَّنَ في الآياتِ والأخْبارِ أنْ لا عِدَّةَ عَلى غَيْرِ المَدْخُولِ بِها، وأنَّ عِدَّةَ مَن لا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أوْ كِبَرٍ أوْ حَمْلٍ بِالأشْهُرِ ووَضْعِ الحَمْلِ، وأنَّ عِدَّةَ الأمَةِ قُرْآنِ أوْ شَهْرانِ، (فَألْ) لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْراقِ؛ لِأنَّهُ هَهُنا مُتَعَذِّرٌ لِما بُيِّنَ، فَتُحْمَلُ عَلى الجِنْسِ كَما في (لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ)، ويُرادُ مِنهُ ما ذُكِرَ بِقَرِينَةِ الحُكْمِ، وهَذا مَذْهَبُ ساداتِنا الحَنَفِيَّةِ؛ لِأنَّ الكَلامَ المُسْتَقِلَّ غَيْرَ المَوْصُولِ عِنْدَهم ناسِخٌ لِلْعامِّ، والنُّسَخُ إنَّما يَصِحُّ إذا ثَبَتَ عُمُومُ الحُكْمِ السّابِقِ - ولا عُمُومَ هَهُنا - وقالَ الشّافِعِيَّةُ: إنَّ (المُطَلَّقاتِ) عامٌّ، وقَدْ خَصَّ البَعْضَ بِكَلامٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مَوْصُولٍ، واعْتَرَضُهُ الإمامُ بِأنَّ التَّخْصِيصَ إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ الباقِي (p-131)تَحْتَ العامِّ أكْثَرَ، وهَهُنا لَيْسَ كَذَلِكَ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنِهِ مِمّا لا شاهِدَ لَهُ، فَإنَّ المَذْكُورَ في كُتُبِ الأُصُولِ أنَّ العامَّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلى أنْ يَبْقى تَحْتَهُ ما يَسْتَحِقُّ بِهِ مَعْنى الجَمْعِ؛ لِئَلّا يَلْزَمُ إبْطالَ الصِّيغَةِ فَلْيَفْهَمْ. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ أيْ: يَنْتَظِرْنَ، وهو خَبَرٌ قُصِدَ مِنهُ الأمْرُ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ، فَلا يَحْتاجُ في وُقُوعِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ إلى التَّأْوِيلِ عَلى رَأْيِ مَن لَمْ يُجَوِّزْ وُقُوعَ الإنْشاءِ خَبَرًا مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وقِيلَ: إنَّ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ خَبَرِيَّةٌ بِمَعْنى الأمْرِ؛ أيْ: لِيَتَرَبَّصِ (المُطَلَّقاتُ) ولا يَخْفى أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلَيْهِ، وتَغْيِيرُ العِبارَةِ لِلتَّأْكِيدِ بِدَلالَتِهِ عَلى التَّحْقِيقِ؛ لِأنَّ الأصْلَ في الخَبَرِ الصِّدْقُ والكَذِبُ احْتِمالٌ عَقْلِيٌّ، والإشْعارُ بِأنَّهُ مِمّا يَجِبُ أنْ يُسارِعَ إلى امْتِثالِهِ؛ حَيْثُ أُقِيمَ اللَّفْظُ الدّالُّ عَلى الوُقُوعِ مَقامَ الدّالِّ عَلى الطَّلَبِ، وفي ذِكْرِهِ مُتَأخِّرًا عَنِ المُبْتَدَأِ فَضْلُ تَأْكِيدٍ لِما فِيهِ مِن إفادَةِ التَّقْوى عَلى أحَدِ الطَّرِيقَيْنِ المَنقُولَيْنِ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ القاهِرِ والسَّكّاكِيِّ، وقُيِّدَ (التَّرَبُّصُ) هُنا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿بِأنْفُسِهِنَّ﴾ وتَرَكَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ﴾ لِتَحْرِيضِ النِّساءِ عَلى (التَّرَبُّصِ)؛ لِأنَّ (الباءَ) لِلتَّعْدِيَةِ فَيَكُونُ المَأْمُورُ بِهِ أنْ يَقْمَعْنَ أنْفُسَهُنَّ ويَحْمِلْنَها عَلى الِانْتِظارِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِكَوْنِهِنَّ ماثِلاتٍ إلى الرِّجالِ، وذَلِكَ مِمّا يَسْتَنْكِفْنَ مِنهُ، فَإذا سَمِعْنَ هَذا تَرَبَّصْنَ، وهَذا بِخِلافِ الآيَةِ السّابِقَةِ، فَإنَّ المَأْمُورَ فِيها (بِالتَّرَبُّصِ) الأزْواجُ، وهم وإنْ كانُوا طامِحِينَ إلى النِّساءِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمُ اسْتِنْكافٌ مِنهُ، فَذِكْرُ (الأنْفُسِ) فِيها لا يُفِيدُ تَحْرِيضَهم عَلى التَّرَبُّصِ ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ نَصْبٌ عَلى الظَّرْفِ لِكَوْنِهِ عِبارَةً عَنِ المُدَّةِ، والمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّ (التَّرَبُّصَ) مُتَعَدٍّ، قالَ تَعالى: ﴿ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكم أنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: يَتَرَبَّصْنَ التَّزَوُّجَ، وفي حَذْفِهِ إشْعارٌ بِأنَّهُنَّ يَتْرُكْنَ التَّزَوُّجَ في هَذِهِ المُدَّةِ بِحَيْثُ لا يَتَلَفَّظْنَ بِهِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ؛ أيْ يَتَرَبَّصْنَ مُضِيَّها، (والقُرُوءُ) جَمْعُ قُرْءٍ بِالفَتْحِ والضَّمِّ، والأوَّلُ أفْصَحُ، وهو يُطْلَقُ لِلْحَيْضِ؛ لِما أخْرَجَ النَّسائِيُّ وأبُو داوُدَ والدّارَقُطْنِيُّ: «”أنَّ فاطِمَةَ ابْنَةَ أبِي حُبَيْشٍ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي امْرَأةٌ أُسْتَحاضُ، فَلا أطْهُرُ، أفَأدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقالَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: لا، دَعِي الصَّلاةَ أيّامَ أقْرائِكَ“،» ويُطْلَقُ لِلطُّهْرِ الفاصِلِ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ كَما في ظاهِرِ قَوْلِ الأعْشى: ؎أفِي كُلِّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لِأقْصاها عَزِيمَ عَزائِكا ؎مُورِثَةً مالًا وفي الحَيِّ رِفْعَةٌ ∗∗∗ لِما ضاعَ فِيها مِن قُرُوءِ نِسائِكا أيْ: أطْهارِهِنَّ؛ لِأنَّها وقْتُ الِاسْتِمْتاعِ ولا جِماعَ في الحَيْضِ في الجاهِلِيَّةِ أيْضًا، وأصْلُهُ الِانْتِقالُ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ لِاسْتِلْزامِهِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ كَما قالَ الرّاغِبُ: إنَّ الطّاهِرَ الَّتِي لَمْ تَرَ الدَّمَ لا يُقالُ لَها ذاتَ قُرْءٍ والحائِضُ الَّتِي اسْتَمَرَّ لَها الدَّمُ لا يُقالُ لَها ذَلِكَ أيْضًا، والمُرادُ بِالقُرْءِ في الآيَةِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ الِانْتِقالُ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ في قَوْلٍ قَوِيٍّ لَهُ، أوِ الطُّهْرُ المُنْتَقَلُ مِنهُ كَما في المَشْهُورِ، وهو المَرْوِيُّ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عُمَرَ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ وخَلْقٍ كَثِيرٍ لا الحَيْضُ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِمَعْقُولٍ ومَنقُولٍ؛ أمّا الأوَّلُ فَهو أنَّ المَقْصُودَ مِنَ العِدَّةِ بَراءَةُ الرَّحِمِ مِن ماءِ الزَّوْجِ السّابِقِ، والمُعَرِّفُ لِبَراءَةِ الرَّحِمِ هو الِانْتِقالُ إلى الحَيْضِ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى انْفِتاحِ فَمِ الرَّحِمِ، فَلا يَكُونُ فِيهِ العُلُوقُ؛ لِأنَّهُ يُوجِبُ انْسِدادَ فَمِ الرَّحِمِ عادَةً دُونَ الحَيْضِ، فَإنَّ الِانْتِقالَ مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ يَدُلُّ عَلى انْسِدادِ فَمِ الرَّحِمِ، وهو مَظَنَّةُ العُلُوقِ، فَإذا جاءَ بَعْدَهُ الحَيْضُ عُلِمَ عَدَمُ انْسِدادِهِ. وأمّا الثّانِي فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ واللّامُ لِلتَّأْقِيتِ والتَّخْصِيصِ بِالوَقْتِ، فَيُفِيدُ أنَّ مَدْخُولَهُ وقْتٌ لِما قَبْلَهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ و﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ فَيُفِيدُ أنَّ العِدَّةَ وقْتُ الطَّلاقِ والطَّلاقُ (p-132)فِي الحَيْضِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِما أخْرَجَ الشَّيْخانِ «أنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وهي حائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قالَ: ”مُرْهُ فَلْيُراجِعْها، ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وإنْ شاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ - تَعالى - أنْ يُطَلَّقَ لَها النِّساءُ“،» وهو أحَدُ الأدِلَّةِ أيْضًا عَلى أنَّ العِدَّةَ بِالأطْهارِ، وذَهَبَ ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ إلى أنَّ المُرادَ بِالقُرْءِ الحَيْضُ، وهو المُرْوَيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ والحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ وجَمٍّ غَفِيرٍ، وكَوْنُ الِانْتِقالِ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ هو المُعَرِّفُ لِلْبَراءَةِ إذا سَلَّمَ مُعارِضٌ، بِأنَّ سَيَلانَ الدَّمِ هو السَّبَبُ لِلْبَراءَةِ المَقْصُودَةِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ اعْتِبارَ المُعَرَّفِ أوْلى مِنَ اعْتِبارِ السَّبَبِ، ولَيْسَ هَذا مِنَ المُكابَرَةِ في شَيْءٍ، عَلى أنَّ المُهِمَّ في مِثْلِ هَذِهِ المَباحِثِ الأدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ، وفِيما ذَكَرُوهُ مِنها بِحْثٌ؛ لِأنَّ لامَ التَّوْقِيتِ لا تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مَدْخُولُها ظَرْفًا لِما قَبْلَها، فَفي الرِّضى أنَّ اللّامَ في نَحْوِ جِئْتُكَ لِغُرَّةِ كَذا هي المُفِيدَةُ لِلِاخْتِصاصِ الَّذِي هو أصْلُها، والِاخْتِصاصُ هَهُنا عَلى ثَلاثَةِ أضْرُبٍ: إمّا أنْ يَخْتَصَّ الفِعْلُ بِالزَّمانِ بِوُقُوعِهِ فِيهِ نَحْوَ كَتَبْتُهُ لِغُرَّةِ كَذا، أوْ يَخْتَصُّ بِهِ لِوُقُوعِهِ بَعْدَهُ نَحْوَ لِلَيْلَةٍ خِلْتُ، أوِ اخْتَصَّ بِهِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَهُ نَحْوَ لِلَيْلَةٍ بَقِيتُ، فَمَعَ الإطْلاقِ يَكُونُ الِاخْتِصاصُ لِوُقُوعِهِ فِيهِ، ومَعَ قَرِينَةٍ نَحْوَ خِلْتُ يَكُونُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَهُ، ومَعَ قَرِينَةٍ نَحْوَ بَقِيتُ لِوُقُوعِهِ قَبْلَهُ انْتَهى. وفِيما نَحْنُ فِيهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ قَبْلَهُ؛ لِأنَّ التَّطْلِيقَ يَكُونُ قَبْلَ العِدَّةِ لا مُقارِنًا لَها، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (فِي قَبْلِ عِدَّتِهِنَّ)، فَفي الصِّحاحِ: القَبْلُ والقَبُلُ نَقِيضُ الدَّبْرِ والدُّبُرِ، ووَقَعَ السَّهْمُ بِقُبُلِ الهَدَفِ وبِدُبِرِهِ، وقُدَّ قَمِيصُهُ مِن قُبُلٍ ودُبُرٍ؛ أيْ: مِن مُقَدَّمِهِ ومُؤَخَّرِهِ، ويُقالُ: أنْزِلُ بِقُبُلِ هَذا الجَبَلِ – أيْ: بِسَفْحِهِ – فَمَعْنى: (فِي قَبْلِ عِدَّتِهِنَّ) في مُقَدَّمِ عِدَّتِهِنَّ وأمامَها - كَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الأمْثِلَةِ - وما ذَكَرَهُ مِن أنَّ قَبْلَ الشَّيْءِ أوَّلُهُ يَرْجِعُ إلى هَذا أيْضًا، وعَلى تَسْلِيمِ عَدَمِ الرُّجُوعِ يَرْجِعُ المُقَدَّمُ عَلى الأوَّلِ بِالتَّبادُرِ وكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ والتَّأْيِيدِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ المِقْدارِ، والحَدِيثُ الَّذِي أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ جَعْلَهُ دَلِيلًا عَلى أنَّ (العِدَّةَ) هي الأطْهارُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى جَعْلِ الإشارَةِ لِلْحالَةِ الَّتِي هي الطُّهْرُ، ولا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَإنَّ (اللّامَ) فِي: (يُطَلَّقُ لَها النِّساءُ) كاللّامِ في لِعِدَّتِهِنَّ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى (فِي) وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى (قَبْلَ) فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُشارُ إلَيْهِ الحَيْضَ، وأنَّثَ اسْمَ الإشارَةِ مُراعاةً لِلْخَبَرِ كالضَّمِيرِ إذا وقَعَ بَيْنَ مَرْجِعٍ مُذَكَّرٍ وخَبَرٍ مُؤَنَّثٍ، فَإنَّ الأوْلى عَلى ما عَلَيْهِ الأكْثَرُ مُراعاةُ الخَبَرِ؛ إذْ ما مَضى فاتَ، والمَعْنى: فَتِلْكَ الحِيَضُ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ - تَعالى - أنْ يُطَلَّقَ قَبْلَها النِّساءُ - لا أنْ يُطَلَّقَ فِيها النِّساءُ – كَما فَهِمَهُ ابْنُ عُمَرَ وأوْقَعَ الطَّلاقَ فِيهِ، وقَوْلُ الخَطّابِيُّ: الأقْراءُ الَّتِي تَعْتَدُّ بِها المُطَلَّقَةُ الأطْهارُ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ (فَتِلْكَ العِدَّةُ بَعْدَ الطُّهْرِ) مُجابٌ عَنْهُ، بِأنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ الطُّهْرِ لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُشارًا إلَيْهِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ الطُّهْرِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الحَيْضَ المَحْفُوفَ بِالطُّهْرِ يَكُونُ عِدَّةً، وحِينَئِذٍ لا يَحْتاجُ ذِكْرُ الطُّهْرِ الثّانِي إلى نُكْتَةٍ، وهي أنَّهُ إذا راجَعَها في الطُّهْرِ الأوَّلِ بِالجِماعِ لَمْ يَكُنْ طَلاقُها فِيهِ لِلسُّنَّةِ، فَيَحْتاجُ لِلطُّهْرِ الثّانِي لِيَصِحَّ فِيهِ إيقاعُ الطَّلاقِ السُّنِّيِّ، وأنْ لا يَكُونَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلاقِ فَقَطْ، وأنْ يَكُونَ كالتَّوْبَةِ عَنِ المَعْصِيَةِ بِاسْتِبْدالِ حالِهِ، وأنْ يُطَوِّلَ مَقامَهُ مَعَها، فَلَعَلَّهُ يُجامِعُها، فَيَذَهْبُ ما في نَفْسِها مِن سَبَبِ الطَّلاقِ، فَيُمْسِكُها هَذا ما يَرْجِعُ إلى الدَّفْعِ، وأمّا الِاسْتِدْلالُ عَلى أنَّ (القُرْءَ) الحَيْضُ فَهو ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ والدّارَقُطْنِيُّ عَنْ عائِشَةَ أنَّهُ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «”طَلاقُ الأمَةِ تَطْلِيقَتانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتانِ“،» فَصَرَّحَ بِأنَّ عِدَّةَ الأمَةِ حَيْضَتانِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الحُرَّةِ والأمَةِ بِاعْتِبارِ مِقْدارِ العِدَّةِ لا في جِنْسِها، فَيَلْتَحِقُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ لِلْإجْمالِ الكائِنِ بِالِاشْتِراكِ بَيانًا، وكَوْنُهُ لا يُقاوَمُ، ما أخْرَجَهُ (p-133)الشَّيْخانِ في قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ تَعالى عَنْهُما – لِضَعْفِهِ؛ لِأنَّ فِيهِ مُظاهِرًا، ولَمْ يُعْرَفْ لَهُ سِواهُ، لا يَخْلُو عَنْ بَحْثٍ، أمّا أوَّلًا فَلِما عَلِمْتَ أنَّ ذَلِكَ الحَدِيثَ لَيْسَ بِنَصٍّ في المُدَّعِي، وأما ثانِيًا فَلِأنَّ تَعْلِيلَ تَضْعِيفِ مَظاهِرٍ غَيْرِ ظاهِرٍ، فَإنَّ ابْنَ عَدِيٍّ أخْرَجَ لَهُ حَدِيثًا آخَرَ ووَثَّقَهُ ابْنُ حِبّانَ، وقالَ الحاكِمُ: ومَظاهِرٌ شَيْخٌ مِن أهْلِ البَصْرَةِ ولَمْ يَذْكُرْهُ أحَدٌ مِن مُتَقَدِّمِي مَشايِخِنا بِجُرْحٍ، فَإذًا إنْ لَمْ يَكُنِ الحَدِيثُ صَحِيحًا كانَ حَسَنًا، ومِمّا يُصَحِّحُ الحَدِيثَ عَمَلُ العُلَماءِ عَلى وفْقِهِ، قالَ التِّرْمِذِيُّ عُقَيْبَ رِوايَتِهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، والعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِن أصْحابِ الرَّسُولِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وغَيْرِهِمْ، وفي الدّارَقُطْنِيِّ قالَ القاسِمُ وسالِمٌ: وعَمِلَ بِهِ المُسْلِمُونَ، وقالَ مالِكٌ: شُهْرَةُ الحَدِيثِ تُغْنِي عَنْ سَنَدِهِ، كَذا في الفَتْحِ، ومِن أصْحابِنا مَنِ اسْتَدَلَّ بِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِنَ القُرْءِ الطُّهْرَ لَزِمَ إبْطالُ مُوجِبِ الخاصِّ؛ أعْنِي لَفْظَ (ثَلاثَةٍ)، فَإنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ العِدَّةُ طُهْرَيْنِ، وبَعْضَ الثّالِثِ في الطَّلاقِ المَشْهُورِ، ولا يَخْفى أنَّهُ كَأمْثالِهِ في هَذا المَقامِ ناشِئٌ مِن قِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِيما قالَهُ الإمامُ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، فَلِهَذا اعْتَرَضُوا بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إنَّما جَعَلَ القُرْءَ الِانْتِقالَ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ، أوِ الطُّهْرَ المُنْتَقَلَ مِنهُ لا الطُّهْرَ الفاصِلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ، والِانْتِقالُ المَذْكُورُ أوِ الطُّهْرُ المُنْتَقَلُ مِنهُ تامٌّ عَلى أنْ كَوْنَ الثَّلاثَةِ اسْمًا لِعَدَدٍ كامِلٍ غَيْرِ مُسَلَّمٍ، والتَّحْقِيقُ فِيهِ أنَّهُ إذا شَرَعَ في الثّالِثِ ساغَ الإطْلاقُ، ألا تَراهم يَقُولُونَ: هو ابْنُ ثَلاثِ سِنِينَ وإنْ لَمْ تَكْمُلِ الثّالِثَةُ، وذَلِكَ لِأنَّ الزّائِدَ جُعِلَ فَرْدًا مَجازًا، ثُمَّ أطْلَقَ عَلى المَجْمُوعِ اسْمَ العَدَدِ الكامِلِ، ومِنَ الشّافِعِيَّةِ مَن جَعَلَ القُرْءَ اسْمًا لِلْحَيْضِ الَّذِي يَحْتَوِشُهُ دَمانِ، وجُعِلَ إطْلاقُهُ عَلى بَعْضِ الطُّهْرِ وكُلِّهِ كَإطْلاقِ الماءِ والعَسَلِ، قالُوا: والِاشْتِقاقُ مُرْشِدٌ إلى مَعْنى الضَّمِّ والِاجْتِماعِ، وهَذا الطُّهْرُ يَحْصُلُ فِيهِ اجْتِماعُ الدَّمِ في الرَّحِمِ، وبَعْضُهُ وكُلُّهُ في الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ عَلى السَّواءِ - وأطالُوا الكَلامَ في ذَلِكَ - والإمامِيَّةُ وافَقُوهم فِيهِ، واسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِرِواياتِهِمْ عَنِ الأئِمَّةِ، والرِّوايَةُ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - في هَذا البابِ مُخْتَلِفَةٌ، وبِالجُمْلَةِ كَلامُ الشّافِعِيَّةِ في هَذا المَقامِ قَوِيٌّ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن أحاطَ بِأطْرافِ كَلامِهِمْ، واسْتَقْرَأ ما قالُوهُ وتَأمَّلَ ما دَفَعُوا بِهِ أدِلَّةَ مُخالِفِيهِمْ، وفي الكَشْفِ بَعْضُ الكَشْفِ وما في الكَشّافِ غَيْرُ شافٍ لِبُغْيَتِنا، وهَذا المِقْدارُ يَكْفِي أُنْمُوذَجًا. هَذا وكانَ القِياسُ ذِكْرَ القُرْءِ بِصِيغَةِ القِلَّةِ الَّتِي هي الأقْراءُ، ولَكِنَّهم يَتَوَسَّعُونَ في ذَلِكَ، فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ واحِدٍ مِنَ البِناءَيْنِ مَكانَ الآخَرِ، ولَعَلَّ النُّكْتَةَ المُرَجِّحَةَ لِاخْتِيارِهِ هَهُنا، أنَّ المُرادَ بِالمُطَلَّقاتِ هَهُنا جَمِيعُ المُطَلَّقاتِ ذَواتِ الأقْراءِ الحَرائِرِ، وجَمِيعُها مُتَجاوِزٌ فَوْقَ العَشَرَةِ، فَهي مُسْتَعْمَلَةٌ مَقامَ جَمْعِ الكَثْرَةِ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنها ثَلاثَةُ أقْراءٍ، فَيَحْصُلُ في الأقْراءِ الكَثْرَةُ فَحَسُنَ أنْ يَسْتَعْمِلَ جَمْعَ الكَثْرَةِ في تَمْيِيزِ الثَّلاثَةِ تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ، وهَذا كَما اسْتَعْمَلَ (أنْفُسَهُنَّ) مَكانَ (نُفُوسِهِنَّ) لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الطَّلاقَ يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ عَلى القِلَّةِ. ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ قالَ ابْنُ عُمَرَ: الحَمْلُ والحَيْضُ؛ أيْ: لا يَحِلُّ لَها إنْ كانَتْ حامِلًا أنْ تَكْتُمَ حَمْلَها، ولا إنْ كانَتْ حائِضًا أنْ تَكْتُمَ حَيْضَها، فَتَقُولُ وهي حائِضٌ: قَدْ طَهُرْتُ، وكُنَّ يَفْعَلْنَ الأوَّلَ؛ لِئَلّا يُنْتَظَرَ لِأجْلِ طَلاقِها أنْ تَضَعَ، ولِئَلّا يُشْفِقُ الرَّجُلُ عَلى الوَلَدِ، فَيَتْرُكَ تَسْرِيحَها، والثّانِي اسْتِعْجالًا لِمُضِيِّ العِدَّةِ وإبْطالًا لِحَقِّ الرَّجْعَةِ، وهَذا القَوْلُ هو المَرْوِيُّ عَنِ الصّادِقِ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وغَيْرِهِمْ، والقَوْلُ بِأنَّ الحَيْضَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ في الرَّحِمِ، بَلْ هو خارِجٌ عَنْهُ، فَلا يَصِحُّ حَمْلُ (ما) عَلى عُمُومِها، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُها عَلى الوَلَدِ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ، مَدْفُوعٌ بِأنَّ ذاتَ الدَّمِ وإنْ كانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ في الرَّحِمِ، لَكِنَّ الِاتِّصافَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا، إنَّما يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ، وما قِيلَ: إنَّ الكَلامَ في المُطَلَّقاتِ ذَواتِ الأقْراءِ، فَلا يَحْتَمِلُ خَلْقَ الوَلَدِ في أرْحامِهِنَّ، فَيَجِبُ حَمْلُ ما عَلى الحَيْضِ، كَما حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، فَمَدْفُوعٌ أيْضًا بِأنَّ تَخْصِيصَ العامِ (p-134)وتَقْيِيدُهُ بِدَلِيلٍ خارِجِيٍّ لا يَقْتَضِي اعْتِبارَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ أوِ التَّقْيِيدِ في الرّاجِعِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ قَوْلَهُما يُقْبَلُ فِيما خَلَقَ اللَّهُ - تَعالى - في أرْحامِهِنَّ؛ إذْ لَوْلا قَبُولُ ذَلِكَ لَما كانَ فائِدَةً في تَحْرِيمِ كِتْمانِهِنَّ، قالَ ابْنُ الفَرَسِ: وعِنْدِي أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في جَمِيعِ ما يَتَعَلَّقُ بِالفَرْجِ مِن بَكارَةٍ وثُيُوبَةٍ وعَيْبٍ؛ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمّا خَلَقَ اللَّهُ - تَعالى - في أرْحامِهِنَّ، فَيَجِبُ أنْ يَصْدُقْنَ فِيهِ، وفِيهِ تَأمُّلٌ. ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ( لا يَحِلُّ ) لَكِنْ لَيْسَ الغَرَضُ مِنهُ التَّقْيِيدَ حَتّى لَوْ لَمْ يُؤْمِنَّ كالكِتابِيّاتِ - حَلَّ لَهُنَّ الكِتْمانُ - بَلْ بَيانَ مُنافاةِ الكِتْمانِ لِلْإيمانِ وتَهْوِيلَ شَأْنِهِ في قُلُوبِهِنَّ، وهَذِهِ طَرِيقَةٌ مُتَعارَفَةٌ يُقالُ: إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلا تُؤْذِ أباكَ، وقِيلَ: إنَّهُ شَرْطُ جَزائِهِ مَحْذُوفٌ – أيْ: فَلا يَكْتُمْنَ - وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( لا يَحِلُّ ) عِلَّةٌ لَهُ أُقِيمَ مَقامَهُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: (إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ لا يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ؛ لِأنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُنَّ)، وفِيهِ: (أنْ لا يَكْتُمْنَ المُقَدَّرَ) إنْ كانَ نَهْيًا يَلْزَمُ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وإنْ كانَ نَفْيًا يَكُونُ مَفادُ الكَلامِ تَعْلِيقَ عَدَمِ وُقُوعِ الكِتْمانِ في المُسْتَقْبَلِ بِأيْمانِهِمْ في الزَّمانِ الماضِي، وهو كَما تَرى. ﴿وبُعُولَتُهُنَّ﴾ أيْ: أزْواجِ المُطَلَّقاتِ جَمْعُ (بَعْلٍ) كَعَمٍّ وعُمُومَةٍ، وفَحْلٍ وفُحُولَةٍ، والهاءُ زائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِتَأْنِيثِ الجَماعَةِ، والأمْثِلَةُ سَماعِيَّةٌ لا قِياسِيَّةٌ، ولا يُقالُ: كَعْبٌ وكُعُوبَةٌ، قالَهُ الزَّجّاحُ، وفي القامُوسِ: البَعْلُ الزَّوْجُ، والأُنْثى بَعْلٌ وبَعْلَةٌ، والرَّبُّ والسَّيِّدُ والمالِكُ والنَّخْلَةُ الَّتِي لا تُسْقى أوْ تُسْقى بِماءِ المَطَرِ، وقالَ الرّاغِبُ: البَعْلُ النَّخْلُ الشّارِبُ بِعُرُوقِهِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الزَّوْجِ لِإقامَتِهِ عَلى الزَّوْجَةِ لِلْمَعْنى المَخْصُوصِ، وقِيلَ: باعَلَها جامَعَها، وبُعِلُ الرَّجُلُ إذا دُهِشَ فَأقامَ كَأنَّهُ النَّخْلُ الَّذِي لا يَبْرَحُ، فَفي اخْتِيارِ لَفْظِ (البُعُولَةِ) إشارَةٌ إلى أنَّ أصْلَ الرَّجْعَةِ بِالمُجامَعَةِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ (البُعُولَةُ) مَصْدَرًا نُعِتَ بِهِ مِن قَوْلِكَ: بَعْلٌ حَسَنُ البُعُولَةِ؛ أيِ: العَشَرَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ، أوْ أُقِيمَ مَقامَ المُضافِ المَحْذُوفِ؛ أيْ: وأهْلِ (بُعُولَتِهِنَّ ﴿أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ إلى النِّكاحِ والرَّجْعَةِ إلَيْهِنَّ، وهَذا إذا كانَ الطَّلاقُ رَجْعِيًّا لِلْآيَةِ بَعْدَها، فالضَّمِيرُ بَعْدَ اعْتِبارِ القَيْدِ أخَصُّ مِنَ المَرْجُوعِ إلَيْهِ، ولا امْتِناعَ فِيهِ كَما إذا كُرِّرَ الظّاهِرُ، وقِيلَ: بُعُولَةُ المُطَلَّقاتِ ﴿أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ وخُصِّصَ بِالرَّجْعِيِّ، وأحَقُّ هَهُنا بِمَعْنى حَقِيقٍ، عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبالَغَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لِلْبُعُولَةِ حَقُّ الرَّجْعَةِ؛ أيْ: حَقٍّ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللهِ – تَعالى - بِخِلافِ الطَّلاقِ فَإنَّهُ مَبْغُوضٌ، ولِذا ورَدَ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ: ”أبْغَضُ الحَلالِ إلى اللَّهِ - تَعالى - الطَّلاقُ“، وإنَّما لَمْ يَبْقَ عَلى مَعْناهُ مِنَ المُشارَكَةِ والزِّيادَةِ؛ إذْ لا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ في الرَّجْعَةِ كَما لا يَخْفى، وقَرَأ أُبَيُّ: (بِرِدَّتِهِنَّ ﴿فِي ذَلِكَ﴾ أيْ: زَمانِ التَّرَبُّصِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ أحَقُّ أوْ بِرَدِّهِنَّ. ﴿إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾ أيْ: إنْ أرادَ البُعُولَةُ بِالرَّجْعَةِ إصْلاحًا لِما بَيْنَهم وبَيْنَهُنَّ، ولَمْ يُرِيدُوا الإضْرارَ بِتَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْهِنَّ مَثَلًا، ولَيْسَ المُرادُ مِنَ التَّعْلِيقِ اشْتِراطَ جَوازِ الرَّجْعَةِ بِإرادَةِ الإصْلاحِ حَتّى لَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ ذَلِكَ لا تَجُوزُ لِلْإجْماعِ عَلى جَوازِها مُطْلَقًا، بَلِ المُرادُ تَحْرِيضُهم عَلى قَصْدِ الإصْلاحِ؛ حَيْثُ جُعِلَ كَأنَّهُ مَنُوطٌ بِهِ يَنْتَفِي بِانْتِفائِهِ. ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ فِيهِ صَنْعَةُ الِاحْتِباكِ، ولا يَخْفى لُطْفُهُ فِيما بَيْنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ؛ حَيْثُ حُذِفَ في الأوَّلِ بِقَرِينَةِ الثّانِي، وفي الثّانِي بِقَرِينَةِ الأوَّلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولَهُنَّ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الَّذِي لَهم عَلَيْهِنَّ، والمُرادُ (بِالمُماثَلَةِ) المُماثَلَةُ في الوُجُوبِ، لا في جِنْسِ الفِعْلِ، فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ إذا غَسَلَتْ ثِيابَهُ أوْ خَبَزَتْ لَهُ أنْ يَفْعَلَ لَها مِثْلَ ذَلِكَ، ولَكِنْ يُقابِلُهُ بِما يَلِيقُ بِالرِّجالِ، أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ (p-135)عَنْ عَمْرِو بْنِ الأحْوَصِ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «”ألا إنَّ لَكم عَلى نِسائِكم حَقًّا، ولِنِسائِكم عَلَيْكم حَقًّا، فَأمّا حَقُّكم عَلى نِسائِكم فَلا يُوَطِئْنَ فُرُشَكم مَن تَكْرَهُونَ، ولا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكم مَن تَكْرَهُونَ، ألا وحَقُّهُنَّ عَلَيْكم أنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهِنَّ وطَعامِهِنَّ“،» وأخْرَجَ وكِيعٌ وجَماعَةٌ عَنْ أنَسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -، قالَ: ”إنِّي لَأُحِبُّ أنْ أتَزَيَّنَ لِلْمَرْأةِ كَما أُحِبُّ أنْ تَتَزَيَّنَ المَرْأةُ لِي؛ لِأنَّ اللَّهَ - تَعالى - يَقُولُ: ﴿ولَهُنَّ﴾ الآيَةَ“، وجَعَلُوا مِمّا يَجِبُ لَهُنَّ عَدَمَ العَجَلَةِ إذا جامَعَ حَتّى تَقْضِيَ حاجَتَها، والمَجْرُورُ الأخِيرُ مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، وقِيلَ: صِفَةٌ لِـ مِثْلُ وهي لا تَتَعَرَّفُ بِالإضافَةِ. ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ زِيادَةٌ في الحَقِّ؛ لِأنَّ حُقُوقَهم في أنْفُسِهِنَّ، فَقَدْ ورَدَ أنَّ النِّكاحَ كالرِّقِّ أوْ شَرَفِ فَضِيلَةٍ؛ لِأنَّهم قُوّامٌ عَلَيْهِنَّ وحُرّاسٌ لَهُنَّ، يُشارِكُوهُنَّ في غَرَضِ الزَّواجِ مِنَ التَّلَذُّذِ وانْتِظامِ مَصالِحِ المَعاشِ، ويُخَصُّونَ بِشَرَفٍ يَحْصُلُ لَهم لِأجْلِ الرِّعايَةِ والإنْفاقِ عَلَيْهِنَّ. والدَّرَجَةُ - في الأصْلِ – المَرْقاةُ، ويُقالُ فِيها: (دُرَجَةٌ) كَهُمَزَةٍ، وقالَ الرّاغِبُ: الدَّرَجَةُ نَحْوَ المَنزِلَةِ لَكِنْ تُقالُ إذا اعْتُبِرَتْ بِالصُّعُودِ دُونَ الِامْتِدادِ عَلى البَسِيطِ، كَدَرَجَةِ السَّطْحِ والسُّلَّمِ، ويُعَبَّرُ بِها عَنِ المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، ومِنهُ الآيَةُ فَهي عَلى التَّوْجِيهَيْنِ مَجازٌ، وفي الكَشْفِ: إنَّ أصْلَ التَّرْكِيبِ لِمَعْنى الأناةِ والتَّقارُبِ عَلى مَهْلٍ مِن دَرَجَ الصَّبِيُّ إذا حَبا، وكَذَلِكَ الشَّيْخُ والمُقَيَّدُ لِتُقارِبِ خَطْوُهُما، والدَّرْجَةُ الَّتِي يُرْتَقى عَلَيْها؛ لِأنَّ الصُّعُودَ لَيْسَ في السُّهُولَةِ كالِانْحِدارِ والمَشْيِ عَلى مُسْتَوٍ، فَلا بُدَّ مِن تَدَرُّجٍ، والدَّرَجُ المَواضِعُ الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْها السَّيْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ومِنهُ التَّدَرُّجُ في الأُمُورِ، والِاسْتِدْراجُ مِنَ اللَّهِ، والدَّرَكَةُ هي الدَّرَجَةُ بِعَيْنِها لَكِنْ في الِانْحِدارِ، والرِّجالُ جَمْعُ رَجُلٍ، وأصْلُ البابِ القُوَّةُ والغَلَبَةُ، وأتى بِالمُظْهَرِ بَدَلَ المُضْمَرِ لِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي بِها ظَهَرَتِ المِزْيَّةُ لِلرِّجالِ عَلى النِّساءِ، ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ﴾ غالِبٌ لا يُعْجِزُهُ الِانْتِقامُ مِمَّنْ خالَفَ الأحْكامَ ﴿حَكِيمٌ 228﴾ عالِمٌ بِعَواقِبِ الأُمُورِ والمَصالِحِ الَّتِي شَرَعَ ما شَرَعَ لَها، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْهِيبِ والتَّرْغِيبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب