الباحث القرآني

﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾، ذَكَرَ بَعْضُهم في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ما لا يُعَدُّ سَبَبًا، ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ جِدًّا؛ لِأنَّهُ حُكْمٌ غالِبٌ مِن أحْكامِ النِّساءِ، لِأنَّ الطَّلاقَ يَحْصُلُ بِهِ المَنعُ مِنَ الوَطْءِ والِاسْتِمْتاعِ دائِمًا، وبِالإيلاءِ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الوَطْءِ مُدَّةً مَحْصُورَةً، فَناسَبَ ذِكْرُ غَيْرِ المَحْصُورِ بَعْدَ ذِكْرِ المَحْصُورِ، ومَشْرُوعُ تَرَبُّصِ المُولِي أرْبَعَةُ أشْهُرٍ، ومَشْرُوعُ تَرَبُّصِ هَؤُلاءِ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ، فَناسَبَ ذِكْرُها بِعَقِبِها. وظاهِرُ ﴿والمُطَلَّقاتُ﴾ العُمُومُ، ولَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالمَدْخُولِ بِهِنَّ ذَواتِ الأقْراءِ؛ لِأنَّ حُكْمَ غَيْرِ المَدْخُولِ بِها، والحامِلِ، والآيِسَةِ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ، مُخالِفٌ لِحُكْمِ هَؤُلاءِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ أنَّ الحُكْمَ كانَ عامًّا في المُطَلَّقاتِ، ثُمَّ نُسِخَ الحُكْمُ مِنَ المُطَلَّقاتِ سِوى المَدْخُولِ بِها ذاتِ الأقْراءِ، وهَذا ضَعِيفٌ، وإطْلاقُ العامِّ ويُرادُ بِهِ الخاصُّ لا يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ لِكَثْرَتِهِ، ولا أنْ يُجْعَلَ سُؤالًا وجَوابًا كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: فَإنْ قُلْتَ كَيْفَ جازَتْ إرادَتُهُنَّ خاصَّةً واللَّفْظُ يَقْتَضِي العُمُومَ؛ قُلْتُ: بَلِ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ في تَناوُلِ الجِنْسِ، صالِحٌ لِكُلِّهِ وبَعْضِهِ، فَجاءَ في أحَدِ ما يَصْلُحُ لَهُ كالِاسْمِ المُشْتَرَكِ. انْتَهى. وما ذَكَرَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ دَلالَةَ العامِّ لَيْسَتْ دَلالَةَ (p-١٨٥)المُطْلَقِ، ولا لَفْظَ العامِّ مُطْلَقٌ في تَناوُلِ الجِنْسِ صالِحٌ لِكُلِّهِ وبَعْضِهِ، بَلْ هي دَلالَةٌ عَلى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، مَوْضُوعَةٌ لِهَذا المَعْنى، فَلا يَصْلُحُ لِكُلِّ الجِنْسِ وبَعْضِهِ؛ لِأنَّ ما وُضِعَ عامًّا يَتَناوَلُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ، ويَسْتَغْرِقُ الأفْرادَ لا يُقالُ فِيهِ إنَّهُ صالِحٌ لِكُلِّهِ وبَعْضِهِ، فَلا يَجِيءُ في أحَدِ ما يَصْلُحُ لَهُ، ولا هو كالِاسْمِ المُشْتَرَكِ؛ لِأنَّ الِاسْمَ المُشْتَرَكَ لَهُ وضْعانِ وأوْضاعٌ بِإزاءِ مَدْلُولَيْهِ أوْ مَدْلُولاتِهِ، فَلِكُلِّ مَدْلُولٍ وضْعٌ، والعامُّ لَيْسَ لَهُ إلّا وضْعٌ واحِدٌ عَلى ما أوْضَحْناهُ، فَلَيْسَ كالمُشْتَرَكِ. ﴿والمُطَلَّقاتُ﴾: مُبْتَدَأٌ، و﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، وصُورَتُهُ صُورَةُ الخَبَرِ، وهو أمْرٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، وقِيلَ: هو أمْرٌ لَفْظًا ومَعْنًى عَلى إضْمارِ اللّامِ، أيْ: لِيَتَرَبَّصْنَ، وهَذا عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، وقِيلَ: والمُطَلَّقاتُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وحُكْمُ المُطَلَّقاتِ ويَتَرَبَّصْنَ، عَلى حَذْفِ ”أنْ“، حَتّى يَصِحَّ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ المُضافِ المَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ: وحُكْمُ المُطَلَّقاتِ أنْ يَتَرَبَّصْنَ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - بَعْدَ أنْ قالَ: هو خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ - قالَ: فَإخْراجُ الأمْرِ في صُورَةِ الخَبَرِ تَأْكِيدُ الأمْرِ وإشْعارٌ بِأنَّهُ مِمّا يَجِبُ أنْ يُتَلَقّى بِالمُسارَعَةِ إلى امْتِثالِهِ، فَكَأنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الأمْرَ بِالتَّرَبُّصِ، فَهو يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، ونَحْوُهُ قَوْلُهم في الدُّعاءِ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أُخْرِجَ في صُورَةِ الخَبَرِ عَنِ اللَّهِ ثِقَةً بِالِاسْتِجابَةِ، كَأنَّما وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهو يُخْبِرُ عَنْها، وبِناؤُهُ عَلى المُبْتَدَأِ مِمّا زادَ فَضْلُ تَأْكِيدٍ، ولَوْ قِيلَ: ويَتَرَبَّصْنَ المُطَلَّقاتُ، لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الوِكادَةِ. انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ، وإنَّما كانَتِ الجُمْلَةُ الِابْتِدائِيَّةُ فِيها زِيادَةُ تَوْكِيدٍ عَلى جُمْلَةِ الفِعْلِ والفاعِلِ؛ لِتَكْرارِ الِاسْمِ فِيها مَرَّتَيْنِ: إحْداهُما بِظُهُورِهِ، والأُخْرى بِإضْمارِهِ، وجُمْلَةُ الفِعْلِ والفاعِلِ يُذْكَرُ فِيها الِاسْمُ مَرَّةً واحِدَةً. وقالَ في (رِيِّ الظَّمْآنِ): زِيدَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ في أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: تَخْصِيصُ ذَلِكَ الفِعْلِ بِذِكْرِ الأمْرِ، كَقَوْلِهِمْ: أنا كَتَبْتُ في المُهِمِّ الفُلانِيِّ إلى السُّلْطانِ، والمُرادُ دَعْوى الِانْفِرادِ. الثّانِي: أنْ لا يَكُونَ المَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ المَقْصُودُ أنَّ تَقْدِيمَ المُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثٍ آكَدُ لِإثْباتِ ذَلِكَ الفِعْلِ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: هو يُعْطِي الجَزِيلَ، لا يُرِيدُ الحَصْرَ، بَلِ المُرادُ أنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السّامِعِ أنَّ إعْطاءَ الجَزِيلِ دَأْبُهُ. ومَعْنى يَتَرَبَّصْنَ: يَنْتَظِرْنَ ولا يُقْدِمْنَ عَلى تَزَوُّجٍ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: هو خَبَرٌ عَلى بابِهِ، وهو خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإنْ وجَدْتَ مُطَلَّقَةً لا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، قِيلَ: وحَمْلُهُ عَلى الخَبَرِ هو الأوْلى؛ لِأنَّ المُخْبَرَ بِهِ لا بُدَّ مِن كَوْنِهِ، وأمّا الأمْرُ فَقَدْ يُمْتَثَلُ وقَدْ لا يُمْتَثَلُ؛ ولِأنَّها لا تَحْتاجُ إلى نِيَّةٍ وعَزْمٍ، وتَرَبَّصَ مُتَّعَدٍ؛ إذْ مَعْناهُ: انْتَظَرَ. وجاءَ في القُرْآنِ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ ومُثْبَتًا، فَمِنَ المَحْذُوفِ هَذا، وقَدَّرُوهُ: بِتَرَبُّصِ التَّزْوِيجِ، أوِ الأزْواجِ، ومِنَ المُثْبَتِ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلّا إحْدى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكم أنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ﴾ [التوبة: ٥٢]، ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] . و”بِأنْفُسِهِنَّ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”تَرَبَّصَ“، وظاهِرُ الباءِ مَعَ تَرَبَّصَ أنَّها لِلسَّبَبِ، أيْ: مِن أجْلِ أنْفُسِهِنَّ، ولا بُدَّ أنَّ ذَلِكَ مِن ذِكْرِ الأنْفُسِ؛ لِأنَّهُ لَوْ قِيلَ في الكَلامِ: يُتَرَبَّصُ بِهِنَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأنَّهُ فِيهِ تَعْدِيَةُ الفِعْلِ الرّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ المُتَّصِلِ إلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ، نَحْوَ: هِنْدٌ تُمَرُّ بِها، وهو غَيْرُ جائِزٍ، ويَجُوزُ هُنا أنْ تَكُونَ زائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، والمَعْنى: يَتَرَبَّصْنَ أنْفُسَهُنَّ، كَما تَقُولُ: جاءَ زَيْدٌ بِنَفْسِهِ، وجاءَ زَيْدٌ بِعَيْنِهِ، أيْ: نَفْسُهُ وعَيْنُهُ، لا يُقالُ: إنَّ التَّوْكِيدَ هُنا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ المُتَّصِلِ، وهو النُّونُ الَّتِي هي ضَمِيرُ الإناثِ في ”تَرَبَّصْنَ“، وهو يُشْتَرَطُ فِيهِ أنْ يُؤَكَّدَ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ، وكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: يَتَرَبَّصْنَ هُنَّ بِأنْفُسِهِنَّ؛ لِأنَّ هَذا التَّوْكِيدَ لَمّا جُرَّ بِالباءِ خَرَجَ عَنِ التَّبَعِيَّةِ، وفُقِدَتْ فِيهِ العِلَّةُ الَّتِي لِأجْلِها امْتُنِعَ أنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ المُتَّصِلُ، حَتّى يُؤَكَّدَ بِمُنْفَصِلٍ؛ إذا أُرِيدَ التَّوْكِيدُ لِلنَّفْسِ والعَيْنِ، ونَظِيرُ جَوازِ هَذا: أحْسِنْ بِزَيْدٍ وأجْمِلْ، التَّقْدِيرُ: وأجْمِلْ بِهِ، فَحُذِفَ وإنْ كانَ فاعِلًا، هَذا مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ؛ ولِأنَّهُ لَمّا جُرَّ بِالباءِ خَرَجَ في الصُّورَةِ عَنِ الفاعِلِ، وصارَ كالفَضْلَةِ؛ فَجازَ حَذْفُهُ، هَذا عَلى أنَّ الأخْفَشَ ذَكَرَ في المَسائِلِ جَوازَ: قامُوا أنْفُسُهم، مِن غَيْرِ تَوْكِيدٍ، وفائِدَةُ التَّأْكِيدِ هُنا أنَّهُنَّ يُباشِرْنَ التَّرَبُّصَ، (p-١٨٦)وزَوالُ احْتِمالِ أنَّ غَيْرَهُنَّ تُباشِرُ ذَلِكَ بِهِنَّ، بَلْ أنْفُسُهُنَّ هُنَّ المَأْمُوراتُ بِالتَّرَبُّصِ؛ إذْ ذاكَ أدْعى لِوُقُوعِ الفِعْلِ مِنهُنَّ، فاحْتِيجَ إلى ذَلِكَ التَّأْكِيدِ لِما في طِباعِهِنَّ مِنَ الطُّمُوحِ إلى الرِّجالِ والتَّزْوِيجِ، فَمَتى أُكِّدَ الكَلامُ دَلَّ عَلى شِدَّةِ المَطْلُوبَةِ. وانْتِصابُ ﴿ثَلاثَةَ﴾ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ؛ إذْ قَدَّرْنا ”تَرَبَّصَ“ قَدْ أخَذَ مَفْعُولَهُ، والمَعْنى: مُدَّةَ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ، وقِيلَ: انْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ، أيْ: يَنْتَظِرْنَ مَعْنى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وكِلا الإعْرابَيْنِ مَنقُولٌ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مَدْلُولِ القُرُوءِ في لِسانِ العَرَبِ، واخْتُلِفَ في المُرادِ هُنا. فَقالَ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو مُوسى، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ، والسُّدِّيُّ، والرَّبِيعُ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وغَيْرُهم مِن فُقَهاءِ الكُوفَةِ: هو الحَيْضُ. وقالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وعُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وأبُو الدَّرْداءِ، وعائِشَةُ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، والزُّهْرِيُّ، وأبانُ بْنُ عُثْمانَ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وغَيْرُهم مِن فُقَهاءِ الحِجازِ: هو الطُّهْرُ. وقالَ أحْمَدُ: كُنْتُ أقُولُ: القُرْءُ الطُّهْرُ، وأنا الآنَ أذْهَبُ إلى أنَّهُ الحَيْضُ. ورُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ: أنَّ القُرْءَ: الِانْتِقالُ مِنَ الطُّهْرِ إلى الحَيْضِ، ولا يَرى الِانْتِقالَ مِنَ الحَيْضِ إلى الطُّهْرِ قُرْءًا. وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ أنَّهُ الخُرُوجُ مِن طُهْرٍ إلى حَيْضٍ، أوْ مِن حَيْضٍ إلى طُهْرٍ. ولِذِكْرِ تَرْجِيحِ كُلِّ قائِلٍ ما ذَهَبَ إلَيْهِ مَكانٌ غَيْرُ هَذا. وظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بِثَلاثَةِ القُرُوءِ، ومَن قالَ: إنَّ القُرْءَ الحَيْضُ يَقُولُ: إذا طُلِّقَتْ في طُهْرٍ لَمْ تُوطَأْ فِيهِ اسْتَقْبَلَتْ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ تَغْتَسِلُ، فَبِالغُسْلِ تَنْقَضِي العِدَّةُ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وأبِي مُوسى، وغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ: (أنَّ زَوْجَها أحَقُّ بِرَدِّها ما لَمْ تَغْتَسِلْ)، حَتّى قالَ شُرَيْكٌ: لَوْ فَرَّطَتْ في الغُسْلِ فَلَمْ تَغْتَسِلْ عِشْرِينَ سَنَةً؛ كانَ زَوْجُها أحَقَّ بِالرَّجْعَةِ، والَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الآيَةِ أنَّ الغُسْلَ لا دُخُولَ لَهُ في انْقِضاءِ العِدَّةِ. ورُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وابْنِ عَمْرٍو، وعائِشَةَ: إذا دَخَلَتْ في الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها، ولا تَحِلُّ لِلْأزْواجِ حَتّى تَغْتَسِلَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ، وذَلِكَ أنَّ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ بِأنَّ القُرْءَ هو الطُّهْرُ، فَإذا طُلِّقَتْ في طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِما بَقِيَ مِنهُ، ولَوْ ساعَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، ثُمَّ ثالِثًا بَعْدَ حَيْضَةٍ ثانِيَةٍ، فَإذا رَأتِ الدَّمَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأزْواجِ وخَرَجَتْ مِنَ العِدَّةِ بِأوَّلِ نُقْطَةٍ تَراها، وبِهِ قالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وداوُدُ. وقالَ أشْهَبُ: لا تَنْقَطِعُ العِصْمَةُ والمِيراثُ إلّا بِتَحَقُّقِ أنَّهُ دَمُ حَيْضٍ؛ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ دَفْعَةَ دَمٍ مِن غَيْرِ الحَيْضِ، وكُلُّ مَن قالَ: إنَّ القُرْءَ الأطْهارُ، يَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ، وشَذَّ ابْنُ شِهابٍ فَقالَ: تَعْتَدُّ بِثَلاثَةِ أقْراءٍ سِوى بَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْرِ، ولا تَنْقَضِي العِدَّةُ حَتّى تَدْخُلَ في الحَيْضَةِ الرّابِعَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾، ولَوْ طُلِّقَتْ في الحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُها بِالشُّرُوعِ في الحَيْضَةِ الرّابِعَةِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا تَنْقَضِي عِدَّتُها ما لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الحَيْضَةِ الرّابِعَةِ، وقالَ: إذا طَهُرَتْ لِأكْثَرِ الحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُها قَبْلَ الغُسْلِ أوْ لِأوَّلِهِ، فَلا تَنْقَضِي حَتّى تَغْتَسِلَ، أوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، أوْ يَمْضِيَ عَلَيْها وقْتُ الصَّلاةِ. وظاهِرُ عُمُومِ المُطَلَّقاتِ دُخُولُ الزَّوْجَةِ الأمَةِ في الِاعْتِدادِ بِثَلاثَةِ قُرُوءٍ، وبِهِ قالَ داوُدُ، وجَماعَةُ أهْلِ الظّاهِرِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسانَ الأصَمُّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أنَّهُ قالَ: ما أرى عِدَّةَ الأمَةِ إلّا كَعِدَّةِ الحُرَّةِ، إلّا إنْ مَضَتْ سُنَّةٌ في ذَلِكَ، فالسُّنَّةُ أحَقُّ أنْ تُتَّبَعَ. وقالَ الجُمْهُورُ: عِدَّتُها قُرْءانِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿قُرُوءٍ﴾ عَلى وزْنِ فُعُولٍ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: ”قُرُوٍّ“ بِالتَّشْدِيدِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نافِعٍ. وقَرَأ الحَسَنُ: ”قَرْوٍ“ بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الرّاءِ وواوٍ خَفِيفَةٍ، وتَوْجِيهُ الجَمْعِ لِلْكَثْرَةِ في هَذا المَكانِ - ولَمْ يَأْتِ: ثَلاثَةَ أقْراءٍ - أنَّهُ مِن بابِ التَّوَسُّعِ في وضْعِ أحَدِ الجَمْعَيْنِ مَكانَ الآخَرِ، أعْنِي: جَمْعَ القِلَّةِ مَكانَ جَمْعِ الكَثْرَةِ والعَكْسَ، وكَما جاءَ: ﴿بِأنْفُسِهِنَّ﴾، وأنَّ النِّكاحَ يَجْمَعُ النَّفْسَ عَلى نُفُوسٍ في الكَثْرَةِ، وقَدْ يَكْثُرُ اسْتِعْمالُ أحَدِ الجَمْعَيْنِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإتْيانِ بِهِ في مَوْضِعِ (p-١٨٧)الآخَرِ، ويَبْقى الآخَرُ قَرِيبًا مِنَ المُهْمَلِ، وذَلِكَ نَحْوَ: شُسُوعٍ أُوثِرَ عَلى أشْساعٍ لِقِلَّةِ اسْتِعْمالِ أشْساعٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ شاذًّا؛ لِأنَّ شِسْعًا يَنْقاسُ فِيهِ أفْعالٌ. وقِيلَ: وُضِعَ بِمَعْنى الكَثْرَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. وقِيلَ: أُوثِرَ قُرُوءٌ عَلى أقْراءٍ لِأنَّ واحِدَهُ قَرْءٌ، بِفَتْحِ القافِ، وجَمْعُ فَعْلٍ عَلى أفْعالٍ شاذٌّ، وأجازَ المُبَرِّدُ: ثَلاثَةَ حَمِيرٍ، وثَلاثَةَ كِلابٍ، عَلى إرادَةِ: مِن كِلابٍ، ومِن حَمِيرٍ؛ فَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلى ما أجازَهُ: ثَلاثَةُ قُرُوءٍ، أيْ: مِن قُرُوءٍ. وتَوْجِيهُ تَشْدِيدِ الواوِ، وهو أنَّهُ أبْدَلَ مِنَ الهَمْزَةِ واوًا وأُدْغِمَتْ واوُ فُعُولٍ فِيها، وهو تَسْهِيلٌ جائِزٌ مُنْقاسٌ، وتَوْجِيهُ قِراءَةِ الحَسَنِ أنَّهُ أضافَ العَدَدَ إلى اسْمِ الجِنْسِ؛ إذِ اسْمُ الجِنْسِ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ وعَلى الجَمْعِ، عَلى حَسَبِ ما تُرِيدُ مِنَ المَعْنى، ودَلَّ العَدَدُ عَلى أنَّهُ لا يُرادُ بِهِ الواحِدُ. ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾، المَنهِيُّ عَنْ كِتْمانِهِ الحَيْضُ، تَقُولُ: لَسْتُ حائِضًا وهي حائِضٌ، أوْ حِضْتُ وما حاضَتْ، لِتَطْوِيلِ العِدَّةِ واسْتِعْجالِ الفُرْقَةِ، قالَ عِكْرِمَةُ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ: أوِ الحَبَلُ، قالَهُ عُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ. أوِ الحَيْضُ والحَبَلُ مَعًا، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ، والرَّبِيعُ، ولَهُنَّ في كَتْمِ ذَلِكَ مَقاصِدُ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ كَتْمَ ذَلِكَ حَرامٌ. ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ﴾ أنَّهُنَّ مُؤْمِناتٌ عَلى ذَلِكَ، ولَوْ أُبِيحَ الِاسْتِقْصاءُ لَمْ يُمْكِنِ الكَتْمُ. وقالَ سُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ: لَمْ نُؤْمَرْ أنْ نَفْتَحَ النِّساءَ فَنَنْظُرَ إلى فُرُوجِهِنَّ، ولَكِنْ وُكِلَ ذَلِكَ إلَيْهِنَّ؛ إذْ كُنَّ مُؤْتَمَناتٍ. انْتَهى. وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ تَكْتُمَ المَرْأةُ ما خَلَقَ اللَّهُ في رَحِمِها مِن حَمْلٍ ولا حَيْضٍ، وفِيهِ تَغْلِيظٌ وإنْكارٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: اللّاتِي تَبْغِينَ إسْقاطَ ما في بُطُونِهِنَّ مِنَ الأجِنَّةِ؛ فَلا يَعْتَرِفْنَ بِهِ، ويَجْحَدْنَهُ لِذَلِكَ؛ فَجُعِلَ كِتْمانُ ما في أرْحامِهِنَّ كِنايَةً عَنْ إسْقاطِهِ. انْتَهى كَلامُهُ. والآيَةُ تَحْتَمِلُهُ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: كُلُّ مَن حَفِظْتُ عَنْهُ مِن أهْلِ العِلْمِ قالَ: إذا قالَتِ المَرْأةُ في عَشَرَةِ أيّامٍ حِضْتُ أنَّها لا تُصَدَّقُ، ولا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنها إلّا أنْ تَقُولَ: قَدْ أسْقَطْتُ سَقْطًا قَدِ اسْتَبانَ خَلْقُهُ، واخْتَلَفُوا في المُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيها المَرْأةُ؛ فَقالَ مالِكٌ: إنِ ادَّعَتْ الِانْقِضاءَ في أمَدٍ تَنْقَضِي العِدَّةُ في مِثْلِهِ قَبْلَ قَوْلِها، أوْ في مُدَّةٍ تَقَعُ نادِرًا فَقَوْلانِ، قالَ في (المُدَوَّنَةِ): إذا قالَتْ: حِضْتُ ثَلاثَ حِيَضٍ في شَهْرٍ صُدِّقَتْ إذا صَدَّقَها النِّساءُ، وبِهِ قالَ عَلِيٌّ وشُرَيْحٌ، وقالَ في كِتابِ (مُحَمَّدٍ): لا تُصَدَّقُ إلّا في شَهْرٍ ونِصْفٍ، ونَحْوٌ مِنهُ قَوْلُ أبِي ثَوْرٍ: أقَلُّ ما يَكُونُ ذَلِكَ في سَبْعَةٍ وأرْبَعِينَ يَوْمًا. وقِيلَ: لا تُصَدَّقُ في أقَلَّ مِن سِتِّينَ يَوْمًا. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ اسْتَحْلَفَ امْرَأةً لَمْ تَسْتَكْمِلِ الحَيْضَ، وقَضى بِذَلِكَ عُثْمانُ. و”لَهُنَّ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”يَحِلُّ“، واللّامُ لِلتَّبْلِيغِ، و”ما“ في ﴿ما خَلَقَ﴾، الأظْهَرُ أنَّها مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْضًا، التَّقْدِيرُ: خَلَقَهُ. و﴿فِي أرْحامِهِنَّ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”خَلَقَهُ“، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ ﴿فِي أرْحامِهِنَّ﴾ حالًا مِنَ المَحْذُوفِ، قِيلَ: وهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأنَّهُ وقْتَ خَلَقَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتّى يَتِمَّ خَلْقُهُ. وقَرَأ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: ﴿فِي أرْحامِهِنَّ﴾، (وبِرَدِّهُنَّ) بِضَمِّ الهاءِ فِيهِما، والضَّمُّ هو الأصْلُ، وإنَّما كُسِرَتْ لِكَسْرَةِ ما قَبْلَها. ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، هَذا شَرْطٌ، جَوابُهُ مَحْذُوفٌ عَلى الأصَحِّ مِنَ المَذاهِبِ، حُذِفَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، ويُقَدَّرُ هُنا مِن لَفْظِهِ، أيْ: إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَحِلُّ لَهُنَّ ذَلِكَ، والمَعْنى: أنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ لا يُقْدِمُ عَلى ارْتِكابِ ما لا يَحِلُّ لَهُ، وعَلَّقَ ذَلِكَ عَلى هَذا الشَّرْطِ، وإنْ كانَ الإيمانُ حاصِلًا لَهُنَّ إيعادًا وتَعْظِيمًا لِلْكَتْمِ، وهَذا كَقَوْلِهِمْ: إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلا تَظْلِمْ، وإنْ كُنْتَ حُرًّا فانْتَصِرْ، يَجْعَلُ ما كانَ مَوْجُودًا كالمَعْدُومِ، ويُعَلِّقُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ مَوْجُودًا في نَفْسِ الأمْرِ. والمَعْنى: إنْ كُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا يَحِلُّ لَهُنَّ الكَتْمُ، وأنْتَ مُؤْمِنٌ فَلا تَظْلِمْ، وأنْتَ حُرٌّ فانْتَصِرْ، وقِيلَ: في الكَلامِ مَحْذُوفٌ، أيْ: إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ حَقَّ الإيمانِ. وقِيلَ: ”إنْ“ بِمَعْنى ”إذْ“ وهو ضَعِيفٌ. وتَضَمَّنَ هَذا الكَلامُ الوَعِيدَ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِما اسْتَحَقَّهُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجْعَةِ. وقالَ قَتادَةُ: لِإلْحاقِ الوَلَدِ بِغَيْرِهِ، كَفِعْلِ أهْلِ (p-١٨٨)الجاهِلِيَّةِ. ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾، قَرَأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ﴾ بِسُكُونِ التّاءِ، فِرارًا مِن ثِقَلِ تَوالِي الحَرَكاتِ، وهو مِثْلُ ما حَكى أبُو زَيْدٍ ”ورُسُلْنا“ بِسُكُونِ اللّامِ. وذَكَرَ أبُو عُمَرَ: وإنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ المَرْفُوعِ مِن ”يَعْلَمْهم“ ونَحْوِهِ. وسَمّاهم بُعُولَةً بِاعْتِبارِ ما كانُوا عَلَيْهِ؛ أوْ لِأنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم. والمَعْنى أنَّ الأزْواجَ أحَقُّ لِمُراجَعَتِهِنَّ. وقَرَأ أُبَيٌّ: ”بِرِدَّتِهِنَّ“ بِالتّاءِ بَعْدَ الدّالِ، وتَتَعَلَّقُ ”الباءُ“ و”في“ بِقَوْلِهِ ﴿أحَقُّ﴾، وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ ”في“ بِرَدِّهِنَّ، وأشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي ذَلِكَ﴾ إلى الأجَلِ الَّذِي أُمِرَتْ أنْ تَتَرَبَّصَ فِيهِ، وهو زَمانُ العِدَّةِ، وقِيلَ: في الحَمْلِ المَكْتُومِ. والضَّمِيرُ في ﴿بُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] عائِدٌ عَلى المُطَلَّقاتِ، وهو مَخْصُوصٌ بِالرَّجْعِيّاتِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ خُصُوصَ آخِرِ اللَّفْظِ لا يَمْنَعُ عُمُومَ أوَّلِهِ، ولا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿والمُطَلَّقاتُ﴾ عامٌّ في المَبْتُوتاتِ والرَّجْعِيّاتِ، و: ﴿بُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ خاصٌّ في الرَّجْعِيّاتِ. ونَظِيرُهُ عِنْدَهم: ﴿وصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]؛ فَهَذا عُمُومٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ جاهَداكَ﴾ [العنكبوت: ٨]؛ وهَذا خاصٌّ في المُشْرِكِينَ. والأوْلى عِنْدِي أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الحُكْمُ، تَقْدِيرُهُ: وبُعُولَةُ رَجْعِيّاتِهِنَّ، وأحَقُّ هُنا لَيْسَتْ عَلى بابِها؛ لِأنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لا حَقَّ لَهُ، ولا تَسْلِيطَ عَلى الزَّوْجَةِ في مُدَّةِ العِدَّةِ، إنَّما ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، ولا حَقَّ لَها أيْضًا في ذَلِكَ، بَلْ لَوْ أبَتْ كانَ لَهُ رَدُّها، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وبُعُولَتُهُنَّ حَقِيقُونَ بِرَدِّهِنَّ. ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ عَلى انْفِصالٍ سابِقٍ، فَمَن قالَ: إنَّ المُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةُ الوَطْءِ فالرَّدُّ حَقِيقِيٌّ عَلى بابِهِ، ومَن قالَ: هي مُباحَةُ الوَطْءِ وأحْكامُها أحْكامُ الزَّوْجَةِ، فَلَمّا كانَ هُناكَ سَبَبٌ تَعَلَّقَ بِهِ زَوالُ النِّكاحِ عِنْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ، جازَ إطْلاقُ الرَّدِّ عَلَيْهِ؛ إذْ كانَ رافِعًا لِذَلِكَ السَّبَبِ. واخْتَلَفُوا فِيما بِهِ الرَّدُّ؛ فَقالَ سَعِيدٌ والحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو حَنِيفَةَ: إذا جامَعَها فَقَدْ راجَعَها ويُشْهِدُ. وقالَ اللَّيْثَ، وطائِفَةٌ مِن أصْحابِ مالِكٍ: إنَّ وطْأهُ مُراجَعَةٌ عَلى كُلِّ حالٍ نَواها أوْ لَمْ يَنْوِها. وقالَ مالِكٌ: إنْ وطِئَها في العِدَّةِ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ وجَهِلَ أنْ يُشْهِدَ، فَهي رَجْعَةٌ، ويَنْبَغِي لِلْمَرْأةِ أنْ تَمْنَعَهُ الوَطْءَ حَتّى يُشْهِدَ، وبِهِ قالَ إسْحاقُ: فَإنْ وطِئَ ولَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ، فَقالَ مالِكٌ: يُراجِعُ في العِدَّةِ ولا يَطَأُ حَتّى يَسْتَبْرِئَها مِن مائِهِ الفاسِدِ. وقالَ ابْنُ القاسِمِ: فَإنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها لَمْ يَنْكِحْها هو ولا غَيْرُهُ في مُدَّةِ بَقِيَّةِ الِاسْتِبْراءِ، فَإنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكاحُهُ ولا يَتَأبَّدُ تَحْرِيمُها عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الماءَ ماؤُهُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا جامَعَها فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ، نَوى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ أمْ لا، ولَها مَهْرُ مِثْلِها. وقالَ مالِكٌ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ. قالَ أبُو عُمَرَ: ولا أعْلَمُ أحَدًا أوْجَبَ عَلَيْهِ مَهْرَ المِثْلِ غَيْرَ الشّافِعِيِّ. قالَ الشّافِعِيُّ: ولا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلّا بِالقَوْلِ، وبِهِ قالَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وأبُو قِلابَةَ، وأبُو ثَوْرٍ. قالَ الباجِيُّ في (المُنْتَقى): ولا خِلافَ في صِحَّةِ الِارْتِجاعِ بِالقَوْلِ، ولَوْ قَبَّلَ أوْ باشَرَ أثِمَ عِنْدَ مالِكٍ، ولَيْسَ بِرَجْعَةٍ. والسُّنَّةُ أنْ يُشْهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ: إنْ لَمَسَها بِشَهْوَةٍ، أوْ نَظَرَ إلى فَرْجِها بِشَهْوَةٍ فَهو رَجْعَةٌ، ويَنْبَغِي أنْ يُشْهِدَ في قَوْلِ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وإسْحاقَ، وأبِي عُبَيْدٍ، وأبِي ثَوْرٍ. وهَلْ يَجُوزُ لَهُ أنْ يُسافِرَ بِها قَبْلَ ارْتِجاعِها ؟ مَنَعَهُ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ. وعَنِ الحَسَنِ بْنِ زِيادٍ: إنَّ لَهُ أنْ يُسافِرَ بِها قَبْلَ الرَّجْعَةِ. وهَلْ لَهُ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْها ويَرى شَيْئًا مِن مَحاسِنِها وتَتَزَيَّنَ لَهُ أوْ تَتَشَوَّفَ ؟ أجازَ ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ. وقالَ مالِكٌ: لا يَدْخُلُ عَلَيْها إلّا بِإذْنٍ، ولا يَنْظُرُ إلَيْها إلّا وعَلَيْها ثِيابُها، ولا يَنْظُرُ إلى شَعْرِها، ولا بَأْسَ أنْ يُؤاكِلَها إذا كانَ مَعَها غَيْرُها، ولا يَبِيتُ مَعَها في بَيْتٍ. قالَ ابْنُ القاسِمِ: ثُمَّ رَجَعَ مالِكٌ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: لا يَدْخُلُ عَلَيْها، ولا يَرى شَعْرَها. وقالَ سَعِيدٌ: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْها إذا دَخَلَ ويُسَلِّمُ، أوْ يُشْعِرُها بِالتَّنَحُّمِ والتَّنَحْنُحِ، وتَلْبَسُ ما شاءَتْ مِنَ الثِّيابِ والحُلِيِّ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَها إلّا بَيْتٌ واحِدٌ فَلْيَجْعَلا بَيْنَهُما سِتْرًا. وقالَ (p-١٨٩)الشّافِعِيُّ: هي مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمَ المَبْتُوتَةِ حَتّى تُراجَعَ بِالكَلامِ، كَما تَقَدَّمَ. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُطَلِّقَ إذا قالَ بَعْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ لِامْرَأتِهِ: كُنْتُ راجَعْتُكِ في العِدَّةِ، وأنْكَرَتْ؛ أنَّ القَوْلَ قَوْلُها مَعَ يَمِينِها، وفِيهِ خِلافٌ لِأبِي حَنِيفَةَ، فَلَوْ كانَتِ الزَّوْجَةُ أمَةً، والزَّوْجُ ادَّعى الرَّجْعَةَ في العِدَّةِ بَعْدَ انْقِضائِها، فالقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ الأمَةِ، وإنْ كَذَّبَها مَوْلاها، هَذا قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأبِي ثَوْرٍ. وقالَ أبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: القَوْلُ قَوْلُ المَوْلى وهو أحَقُّ بِها. ﴿إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾، هَذا شَرْطٌ آخَرُ حُذِفَ جَوابُهُ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وظاهِرُهُ أنَّ إباحَةَ الرَّجْعَةِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ إرادَةِ الإصْلاحِ، ولا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ إذا راجَعَها مُضارًّا في الرَّجْعَةِ، مُرِيدًا لِتَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْها أنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]، قالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وإنْ قَصَدَ الضَّرَرَ؛ لِأنَّ المُراجَعَةَ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً إذا وقَعَتْ عَلى وجْهِ الضِّرارِ لِما كانَ ظالِمًا بِفِعْلِها. قالَ الماوَرْدِيُّ: في الإصْلاحِ المُشارِ إلَيْهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: إصْلاحُ ما بَيْنَهُما مِنَ الفَسادِ بِالطَّلاقِ. الثّانِي: القِيامُ لِما لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ مِنَ الحَقِّ. انْتَهى كَلامُهُ. قالُوا: ويَسْتَغْنِي الزَّوْجُ في المُراجَعَةِ عَنِ الوَلِيِّ، وعَنْ رِضاها، وعَنْ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وعَنِ الإشْهادِ عَلى الرَّجْعَةِ عَلى الصَّحِيحِ، ويَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ بَقِيَّةُ العِدَّةِ، ويَحِلُّ جِماعُها في الحالِ، ويَحْتاجُ في إثْباتِ هَذا كُلِّهِ إلى دَلِيلٍ واضِحٍ مِنَ الشَّرْعِ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ المَرْأةَ بِالطَّلاقِ تَنْفَصِلُ مِنَ الرَّجُلِ؛ فَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ تَعُودَ إلَيْهِ إلّا بِنِكاحٍ ثانٍ، ثُمَّ إذا طَلَّقَها وأرادَ أنْ يَنْكِحَها، فَإمّا أنْ يَبْقى شَيْءٌ مِن عِدَّتِها، أوْ لا يَبْقى. إنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِن عِدَّتِها فَلَهُ أنْ يَتَزَوَّجَها دُونَ انْقِضاءِ عِدَّتِها مِنهُ إنْ أرادَ الإصْلاحَ، ومَفْهُومُ الشَّرْطِ أنَّهُ إذا أرادَ غَيْرَ الإصْلاحِ لا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، وإنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها اسْتَوى هو وغَيْرُهُ في جَوازِ تَزْوِيجِها، وإمّا أنْ تَكُونَ قَدْ طُلِّقَتْ وهي باقِيَةٌ في العِدَّةِ فَيَرُدَّها مِن غَيْرِ اعْتِبارِ شُرُوطِ النِّكاحِ؛ فَيَحْتاجُ إثْباتُ هَذا الحُكْمِ إلى دَلِيلٍ واضِحٍ كَما قُلْناهُ، فَإنْ كانَ ثَمَّ دَلِيلٌ واضِحٌ مِن نَصٍّ أوْ إجْماعٍ قُلْنا بِهِ، ولا يُعْتَرَضُ عَلَيْنا بِأنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ عَلى ما وصَفُوا، وإنَّ ذَلِكَ مِن أوَّلِيّاتِ الفِقْهِ الَّتِي لا يَسُوغُ النِّزاعُ فِيها، وأنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ. ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾، هَذا مِن بَدِيعِ الكَلامِ؛ إذْ حَذَفَ شَيْئًا مِنَ الأوَّلِ أثْبَتَ نَظِيرَهُ في الآخَرِ، وأثْبَتَ شَيْئًا في الأوَّلِ حَذَفَ نَظِيرَهُ في الآخَرِ، وأصْلُ التَّرْكِيبِ: ولَهُنَّ عَلى أزْواجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي لِأزْواجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ؛ فَحُذِفَتْ (عَلى أزْواجِهِنَّ) لِإثْباتِ ”عَلَيْهِنَّ“، وحُذِفَ ”لِأزْواجِهِنَّ“ لِإثْباتِ ”لَهُنَّ“ . واخْتُلِفَ في هَذِهِ المِثْلِيَّةِ، فَقِيلَ: المُماثَلَةُ في المُوافَقَةِ والطَّواعِيَةِ، وقالَ مَعْناهُ الضَّحّاكُ. وقِيلَ: المُماثَلَةُ في التَّزَيُّنِ والتَّصَنُّعِ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ: أُحِبُّ أنْ أتَزَيَّنَ لِلْمَرْأةِ كَما أُحِبُّ أنْ تَتَزَيَّنَ لِي لِهَذِهِ الآيَةِ. وقِيلَ: المُماثَلَةُ في تَقْوى اللَّهِ فِيهِنَّ، كَما عَلَيْهِنَّ أنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ؛ ولِهَذا أشارَ ﷺ بِقَوْلِهِ: (اتَّقُوا اللَّهَ في النِّساءِ، فَإنَّهُنَّ عِنْدَكم عَوانٌ)، أيْ: أسِيراتٌ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ: المُماثَلَةُ مَعْناها أنَّ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ والمَهْرِ وحَسَنِ العِشْرَةِ وتَرْكِ الضِّرارِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ؛ فَعَلى هَذا يَكُونُ المُماثَلَةُ في وُجُوبِ ما يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِن ذَلِكَ، ووُجُوبِ امْتِثالِ المَرْأةِ أمْرَهُ ونَهْيَهُ، لا في (p-١٩٠)جِنْسِ المُؤَدِّي والمُمْتَثِلِ؛ إذْ ما يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مَحْسُوسٌ ومَعْقُولٌ، وما تَفْعَلُهُ هي مَعْقُولٌ، ولَكِنِ اشْتَرَكا في الوُجُوبِ؛ فَتَحَقَّقَتِ المِثْلِيَّةُ. وقِيلَ: الآيَةُ عامَّةٌ في جَمِيعِ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلى الزَّوْجَةِ، وحُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلى الزَّوْجِ. ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَقِّ المَرْأةِ عَلى الزَّوْجِ فَقالَ: (أنْ يُطْعِمَها إذا طَعِمَ، ويَكْسُوَها إذا اكْتَسى، ولا يَضْرِبَ الوَجْهَ، ولا يَهْجُرَ إلّا في البَيْتِ)، وفي حَدِيثِ الحَجِّ عَنْ جابِرٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ في خُطْبَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ: (اتَّقَوُا اللَّهَ في النِّساءِ فَإنَّكم أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمانَةِ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، ولَكم عَلَيْهِنَّ أنْ لا يُواطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، ولَهُنَّ عَلَيْكم رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ) . و”مِثْلُ“: مُبْتَدَأٌ، و”لَهُنَّ“: هو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، و”بِالمَعْرُوفِ“ يَتَعَلَّقُ بِهِ ”لَهُنَّ“، أيْ: ومِثْلُ الَّذِي لِأزْواجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ كائِنٌ لَهُنَّ عَلى أزْواجِهِنَّ، وقِيلَ: ”بِالمَعْرُوفِ“ هو في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ ”مِثْلُ“، فَهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وتَتَعَلَّقُ إذْ ذاكَ بِمَحْذُوفٍ. ومَعْنى بِالمَعْرُوفِ: أيْ بِالوَجْهِ الَّذِي لا يُنْكَرُ في الشَّرْعِ وعاداتِ النّاسِ ولا يُكَلِّفُ أحَدُهُما الآخَرَ مِنَ الأشْغالِ ما لَيْسَ مَعْرُوفًا لَهُ، بَلْ يُقابِلُ كُلٌّ مِنهُما صاحِبَهُ بِما يَلِيقُ بِهِ. ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، أيْ: مَزِيَّةٌ وفَضِيلَةٌ في الحَقِّ، أتى بِالمُظْهَرِ عِوَضُ المُضْمَرِ؛ إذْ كانَ لَوْ أتى عَلى المُضْمَرِ لَقالَ: ولَهم عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ؛ لِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي بِها ظَهَرَتِ المَزِيَّةُ لِلرِّجالِ عَلى النِّساءِ، ولِما كانَ يَظْهَرُ في الكَلامِ بِالإضْمارِ مِن تَشابُهِ الألْفاظِ - وأنْتَ تَعْلَمُ ما في ذاكَ - إذْ كانَ يَكُونُ: ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ ولَهم عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، ولِقَلَقِ الإضْمارِ حُذِفَ مُضْمَرانِ ومُضافانِ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى. والدَّرَجَةُ هُنا: فَضْلُهُ عَلَيْها في المِيراثِ، وبِالجِهادِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. أوْ بِوُجُوبِ طاعَتِها إيّاهُ ولَيْسَ عَلَيْهِ طاعَتُها، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وابْنُهُ. أوْ بِالصَّداقِ، وجَوازِ مُلاعَنَةٍ إنْ قَذَفَ، وحَدِّها إنْ قَذَفَتْ، قالَ الشَّعْبِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. أوْ بِالقِيامِ عَلَيْها بِالإنْفاقِ وغَيْرِهِ، وإنِ اشْتَرَكا في الِاسْتِمْتاعِ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. أوْ بِمِلْكِ العِصْمَةِ وأنَّ الطَّلاقَ بِيَدِهِ، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. أوْ بِما يَمْتازُ مِنها كاللِّحْيَةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. أوْ بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ، أوْ بِالإجابَةِ إلى فِراشِهِ إذا دَعاها، وهَذا داخِلٌ في القَوْلِ الثّانِي. أوْ بِالعَقْلِ، أوْ بِالدِّيانَةِ، أوْ بِالشَّهادَةِ، أوْ بِقُوَّةِ العِبادَةِ، أوْ بِالذُّكُورِيَّةِ، أوْ لِكَوْنِ المَرْأةِ خُلِقَتْ مِنَ الرَّجُلِ، أشارَ إلَيْهِ ابْنُ العَرَبِيِّ. أوْ بِالسَّلامَةِ مِن أذى الحَيْضِ والوِلادَةِ والنِّفاسِ. أوْ بِالتَّزَوُّجِ عَلَيْها والتَّسَرِّي، ولَيْسَ لَها ذَلِكَ. أوْ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ في الدِّيَةِ بِخِلافِها. أوْ بِكَوْنِهِ إمامًا بِخِلافِها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تِلْكَ الدَّرَجَةُ إشارَةٌ إلى حَضِّ الرِّجالِ عَلى حُسْنِ العِشْرَةِ والتَّوَسُّعِ لِلنِّساءِ في المالِ والخُلُقِ، أيْ أنَّ الأفْضَلَ يَنْبَغِي أنْ يَتَحامَلَ عَلى نَفْسِهِ. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ الدَّرَجَةَ هي ما تُرِيدُهُ النِّساءُ مِنَ البِرِّ والإكْرامِ والطَّواعِيَةِ والتَّبْجِيلِ في حَقِّ الرِّجالِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا قَدَّمَ أنَّ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ مِثْلَ ما لِلْآخَرِ عَلَيْهِ، اقْتَضى ذَلِكَ المُماثَلَةَ؛ فَبَيَّنَ أنَّهُما - وإنْ تَماثَلا في ما عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما لِلْآخَرِ - فَعَلَيْهِنَّ مَزِيدُ إكْرامٍ وتَعْظِيمٍ لِرِجالِهِنَّ، وأشارَ إلى العِلَّةِ في ذَلِكَ، وهو كَوْنُهُ رَجُلًا يُغالِبُ الشَّدائِدَ والأهْوالَ، ويَسْعى دائِمًا في مَصالِحِ زَوْجَتِهِ، ويَكْفِيها تَعَبَ الِاكْتِسابِ، فَبِإزاءِ ذَلِكَ صارَ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ لِلرَّجُلِ في مُبالَغَةِ الطَّواعِيَةِ، وفِيما يُفْضِي إلى الِاسْتِراحَةِ عِنْدَها. ومُلَخَّصُ ما قالَهُ المُفَسِّرُونَ يَقْتَضِي أنَّ لِلرَّجُلِ دَرَجَةً تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ. و﴿دَرَجَةٌ﴾: مُبْتَدَأٌ، و(لِلرِّجالِ): خَبَرُهُ، وهو خَبَرٌ مُسَوِّغٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، و﴿عَلَيْهِنَّ﴾: مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ مِنَ الكَيْنُونَةِ والِاسْتِقْرارِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ؛ لِجَوازِ أنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ وصْفًا لِلنَّكِرَةِ، فَلَمّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلى الحالِ؛ فَتَعَلَّقَ إذْ ذاكَ بِمَحْذُوفٍ وهو غَيْرُ العامِلِ في الخَبَرِ، ونَظِيرُهُ: في الدّارِ قائِمًا رَجُلٌ، كانَ أصْلُهُ: رَجُلٌ قائِمٌ. ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ الخَبَرُ، و(لِلرِّجالِ) في مَوْضِعِ الحالِ؛ لِأنَّ العامِلَ في الحالِ إذْ ذاكَ مَعْنَوِيٌّ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلى (p-١٩١)جُزْأيِ الجُمْلَةِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ: قائِمًا في الدّارِ زَيْدٌ، وهو مَمْنُوعٌ لا ضَعِيفٌ كَما زَعَمَ بَعْضُهم، فَلَوْ تَوَسَّطَتِ الحالُ وتَأخَّرَ الخَبَرُ نَحْوَ: زَيْدٌ قائِمًا في الدّارِ، فَهَذِهِ مَسْألَةُ الخِلافِ بَيْنَنا وبَيْنَ أبِي الحَسَنِ، أبُو الحَسَنِ يُجِيزُها، وغَيْرُهُ يَمْنَعُها. ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، وخَتَمَ الآيَةَ بِهِما؛ لِأنَّهُ تَضَمَّنَتِ الآيَةُ ما مَعْناهُ الأمْرُ في قَوْلِهِ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، والنَّهْيُ في قَوْلِ: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾، والجَوازُ في قَوْلِهِ: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ﴾ . والوُجُوبُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ - ناسَبَ وصْفَهُ تَعالى بِالعِزَّةِ وهو القَهْرُ والغَلَبَةُ، وهي تُناسِبُ التَّكْلِيفَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب