الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾، يُقالُ: ”طَلَقَتِ المَرْأةُ طَلاقًا، فَهي طالِقٌ“، وقَدْ حَكَوْا: ”طَلُقَتْ“، وقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أنَّ تاءَ التَّأْنِيثِ حُذِفَتْ مِن ”طالِقَةٌ“، لِأنَّهُ لِلْمُؤَنَّثِ، لا حَظَّ لِلذَّكَرِ فِيهِ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ في الكَلامِ شَيْئًا كَثِيرًا يَشْتَرِكُ فِيهِ المُذَكَّرُ، والمُؤَنَّثُ، لا تَثْبُتُ فِيهِ الهاءُ في المُؤَنَّثِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: ”بَعِيرٌ ضامِرٌ“، و”ناقَةٌ ضامِرٌ“، و”بَعِيرٌ ساعِلٌ“، و”ناقَةٌ (p-٣٠٢)ساعِلٌ“، وهَذا أكْثَرُ مِن أنْ يُحْصى، وزَعَمَ سِيبَوَيْهِ وأصْحابُهُ أنَّ هَذا وقَعَ عَلى لَفْظِ التَّذْكِيرِ صِفَةً لِلْمُؤَنَّثِ، لِأنَّ المَعْنى: شَيْءٌ طالِقٌ، وحَقِيقَتُهُ عِنْدَهم أنَّهُ عَلى جِهَةِ النَّسَبِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: ”اِمْرَأةٌ مِذْكارٌ“، و”رَجُلٌ مِذْكارٌ“، و”اِمْرَأةٌ مِئْناثٌ“، و”رَجُلٌ مِئْناثٌ“، وإنَّما مَعْناهُ: ذاتُ ذُكْرانٍ، وذاتُ إناثٍ، وكَذَلِكَ ”مُطْفِلٌ“، ذاتُ طِفْلٍ، وكَذَلِكَ ”طالِقٌ“، مَعْناهُ: ذاتُ طَلاقٍ، فَإذا أجْرَيْتَهُ عَلى الفِعْلِ قُلْتَ: ”طالِقَةٌ“، قالَ الأعْشى: ؎أيا جارَتا بَيْنِي فَإنَّكِ طالِقَةْ ∗∗∗ كَذاكِ أُمُورُ النّاسِ غادٍ وطارِقَةْ وَأمّا ”ثَلاثَةَ قُرُوءٍ“، فَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ وأهْلُ اللُّغَةِ في تَفْسِيرِها، وقَدْ ذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ جُمْلَةَ قَوْلِ الفُقَهاءِ، وجُمْلَةَ قَوْلِ أهْلِ اللُّغَةِ، فَأمّا أهْلُ الكُوفَةِ فَيَقُولُونَ: اَلْإقْراءُ: اَلْحَيْضُ، وأمّا أهْلُ الحِجازِ ومالِكٌ فَيَقُولُونَ: اَلْإقْراءُ: اَلطُّهْرُ، وحُجَّةُ أهْلِ الكُوفَةِ في أنَّ الإقْراءَ، والقِراءَ، والقُرُوءَ: اَلْحَيْضُ، ما يُرْوى «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها اسْتَفْتَتْ لِفاطِمَةَ بِنْتِ أبِي حُبَيْشٍ، وكانَتْ (p-٣٠٣)مُسْتَحاضَةً، فَقالَ ﷺ ”تَنْتَظِرُ أيّامَ أقْرائِها، وتَغْتَسِلُ فِيما سِوى ذَلِكَ»“، فَهَذا يَعْنِي أنَّها تُحْبَسُ عَنِ الصَّلاةِ أيّامَ حَيْضِها، ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِيما سِوى أيّامِ الحَيْضِ، وفي خَبَرٍ آخَرَ أنَّ فاطِمَةَ سَألَتْهُ، فَقالَ: ”إذا أتى قُرْؤُكِ فَلا تُصَلِّي، فَإذا مَرَّ فَتَطَهَّرِي، وصَلِّي ما بَيْنَ القُرْءِ إلى القُرْءِ“، فَهَذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، والَّذِي يُقَوِّيهِ مِن مَذْهَبِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ الأصْمَعِيَّ كانَ يَقُولُ: ”اَلْقُرْءُ: اَلْحَيْضُ“، ويُقالُ: ”أقَرَأتِ المَرْأةُ“، إذا حاضَتْ، وقالَ الكِسائِيُّ والقُرّاءُ جَمِيعًا: ”أقَرَأتِ المَرْأةُ“، إذا حاضَتْ، فَهي مُقْرِئٌ، وقالَ القُرّاءُ: ”أقَرَأتِ الحاجَّةُ“، إذا تَأخَّرَتْ، وأنْشَدُوا في ”اَلْقُرْءُ“ - اَلْحَيْضُ -، وهو بِالوَقْتِ أشْبَهُ: لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحائِضِ فَهَذا هو مَذْهَبُ أهْلِ الكُوفَةِ في الإقْراءِ، وما احْتَجَّ بِهِ أهْلُ اللُّغَةِ مِمّا يُقَوِّي مَذْهَبَهُمْ، وقالَ الأخْفَشُ أيْضًا: ”أقَرَأتِ المَرْأةُ“، إذا حاضَتْ، و”ما قَرَأتْ حَيْضَةً“، ما ضَمَّتْ رَحِمَها عَلى حَيْضَةٍ. (p-٣٠٤)وَقالَ أهْلُ الحِجازِ: اَلْأقْراءُ والقُرُوءُ واحِدٌ، واحِدُهُما ”قَرْءٌ“، مِثْلُ قَوْلِكَ: ”فَرْعٌ“، وهُما الأطْهارُ، واحْتَجُّوا في ذَلِكَ بِما يُرْوى عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: ”اَلْأقْراءُ“: اَلْأطْهارُ "، وهَذا مَذْهَبُ ابْنِ عَمْرٍو، ومالِكٍ، وفُقَهاءِ أهْلِ المَدِينَةِ، والَّذِي يُقَوِّي مَذْهَبَ أهْلِ المَدِينَةِ في أنَّ الأقْراءَ الأطْهارُ، قَوْلُ الأعْشى: ؎مُوَرِّثَةً مالًا وفي الأصْلِ رِفْعَةً ∗∗∗ لِما ضاعَ فِيها مِن قُرُوءِ نِسائِكا فالَّذِي ضاعَ هُنا الأطْهارُ، لا الحَيْضُ، وفي هَذا مَذْهَبٌ آخَرُ، وهو أنَّ القُرْءَ: اَلطُّهْرُ، والقُرْءَ: اَلْحَيْضُ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ”إنَّ القُرْءَ يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ، والطُّهْرِ“، قالَ: وأظُنُّهُ مِن ”أقْرَأتِ النُّجُومُ“، إذا غابَتْ، وأخْبَرَنِي مَن أثِقُ بِهِ، يَدْفَعُهُ إلى يُونُسَ، أنَّ الإقْراءَ عِنْدَهُ يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ، والطُّهْرِ، وذَكَرَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ أنَّ القُرْءَ: اَلْوَقْتُ، وهو يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ، ويَصْلُحُ لِلطُّهْرِ، ويُقالُ: ”هَذا قارِئُ الرِّياحِ“، لِوَقْتِ هُبُوبِها، وأنْشَدَ أهْلُ اللُّغَةِ: ؎شَنِئَتِ العُقْرَ عُقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ∗∗∗ إذا هَبَّتْ لِقارِيها الرِّياحُ (p-٣٠٥)أيْ: لِوَقْتِ هُبُوبِها، وشِدَّةِ بَرْدِها، ويُقالُ: ”ما قَرَأتِ النّاقَةُ سَلًا قَطُّ“، أيْ: لَمْ تَضُمَّ رَحِمُها عَلى ولَدٍ، وقالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ؎تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ عَلى خَلاءٍ ∗∗∗ وقَدْ أمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحِينا ؎ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أدْماءَ بِكْرٍ ∗∗∗ هَجِينِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا وَأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ يَذْهَبُ إلى أنَّها لَمْ تَجْمَعْ ولَدًا قَطُّ في رَحِمِها، وذَكَرَ قُطْرُبٌ هَذا القَوْلَ أيْضًا، وزادَ في ”لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا“، أيْ: لَمْ تَلْقَهُ مَجْمُوعًا، فَهَذا جَمِيعُ ما قالَ الفُقَهاءُ، وأهْلُ اللُّغَةِ في القُرْءِ، والَّذِي عِنْدِي أنَّ القُرْءَ، في اللُّغَةِ: اَلْجَمْعُ، وأنَّ قَوْلَهُمْ: ”قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ“، مِن هَذا، وإنْ كانَ قَدْ أُلْزِمَ الماءَ، فَهو جَمَعْتُهُ، وقَوْلُكَ: ”قَرَأْتُ القُرْآنَ“، أيْ: لَفَظْتُ بِهِ مَجْمُوعًا، و”اَلْقِرْدُ يُقْرِئُ“، أيْ: يَجْمَعُ ما يَأْكُلُ في بَيْتِهِ، فَإنَّما ”اَلْقُرْءُ“: اِجْتِماعُ الدَّمِ في البَدَنِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ في الطُّهْرِ، وقَدْ يَكُونُ اجْتِماعُهُ في الرَّحِمِ، وكِلاهُما حَسَنٌ، ولَيْسَ بِخارِجٍ عَنْ مَذاهِبِ الفُقَهاءِ، بَلْ هو تَحْقِيقُ المَذْهَبَيْنِ، و”اَلْمَقْرَأةُ“: اَلْحَوْضُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الماءُ، أيْ: يُجْمَعُ، و”اَلْمَقْرَأُ“: اَلْإناءُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الضَّيْفُ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾، قِيلَ فِيهِ: لا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ أمْرَ الوَلَدِ، لِأنَّهُنَّ إنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَإنَّما يَقْصِدْنَ إلى إلْزامِهِ غَيْرَ أبِيهِ، وقَدْ قالَ قَوْمٌ: هو الحَيْضُ، وهو بِالوَلَدِ أشْبَهُ، لِأنَّ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ أدَلُّ عَلى الوَلَدِ، لِأنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَزَّ - قالَ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٦]، (p-٣٠٦)وَقالَ: ﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا﴾ [المؤمنون: ١٤]، فَوَصَفَ خَلْقَ الوَلَدِ. وَمَعْنى: ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، تَأْوِيلُهُ: إنْ كُنَّ يُصَدِّقْنَ بِاللَّهِ، وبِما أرْهَبَ بِهِ، وخَوَّفَ مِن عَذابِهِ لِأهْلِ الكَبائِرِ، فَلا يَكْتُمْنَ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ يَظْلِمُ: ”إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلا تَظْلِمْ“، لا أنَّهُ يَقُولُ لَهُ هَذا مُطْلِقًا الظُّلْمَ لِغَيْرِ المُؤْمِنِ، ولَكِنَّ المَعْنى: إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَيَنْبَغِي أنْ يَحْجِزَكَ إيمانُكَ عَنْ ظُلْمِي. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾، ”بُعُولَةٌ“: جَمْعُ ”بَعْلٌ“، مِثْلُ: ”ذَكَرٌ“، و”ذُكُورَةٌ“، و”عَمٌّ“، و”عُمُومَةٌ“، أشْبَهُ بِـ”بَعْلٌ“، و”بُعُولَةٌ“، ويُقالُ في جَمْعِ ”ذَكَرٌ“: ”ذِكارَةٌ“، و”حَجَرٌ“: ”حِجارَةٌ“، وإنَّما هَذِهِ الهاءُ زِيادَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مَعْنى تَأْنِيثِ الجَماعَةِ، ولَكِنَّكَ لا تُدْخِلُها إلّا في الأمْكِنَةِ الَّتِي رَواها أهْلُ اللُّغَةِ، لا تَقُولُ في ”كَعْبٌ“: ”كُعُوبَةٌ“، ولا في ”كَلْبٌ“: ”كِلابَةٌ“، لِأنَّ القِياسَ في هَذِهِ الأشْياءِ مَعْلُومٌ، وقَدْ شَرَحْنا كَثِيرًا مِمّا فِيهِ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الكِتابِ، ومَعْنى ”في ذَلِكَ“: أيْ: في الأجَلِ الَّذِي أُمِرْنَ أنْ يَتَرَبَّصْنَ فِيهِ، فَأزْواجُ قَبْلِ انْقِضاءِ القُرُوءِ الثَّلاثَةِ أحَقَّ بِرَدِّهِنَّ إنْ رَدُّوهُنَّ عَلى جِهَةِ الإصْلاحِ، ألا تَرى قَوْلَهُ: ﴿إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾ ؟ ومَعْنى قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ: لِلنِّساءِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن حَقِّ الرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ، وهو مَعْنى ”بِالمَعْرُوفِ“ . (p-٣٠٧)وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، مَعْناهُ: زِيادَةً فِيما لِلنِّساءِ عَلَيْهِنَّ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ وبِما أنْفَقُوا مِن أمْوالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]، والمَعْنى أنَّ المَرْأةَ تَنالُ مِنَ اللَّذَّةِ مِنَ الرَّجُلِ، كَما يَنالُ الرَّجُلُ، ولَهُ الفَضْلُ بِنَفَقَتِهِ وقِيامِهِ بِما يُصْلِحُها. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، مَعْناهُ: مَلِكٌ يَحْكُمُ بِما أرادَ، ويَمْتَحِنُ بِما أحَبَّ، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، فَهو عَزِيزٌ، حَكِيمٌ فِيما شَرَعَ لَكم مِن ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب