الباحث القرآني

ولَمّا خَتَمَ آيَتَيِ الإيلاءِ بِالطَّلاقِ بَيَّنَ عِدَّتِهِ فَقالَ: - وقالَ الحَرالِيُّ: لَمّا ذَكَرَ تَرَبُّصَ الزَّوْجِ - سُبْحانَهُ وتَعالى في أمْرِ الطَّلاقِ الَّذِي هو أمانَتُهُ ذَكَرَ تَرَبُّصَ المَرْأةِ في أمْرِ العِدَّةِ الَّتِي هي أمانَتُها؛ انْتَهى - فَقالَ: ﴿والمُطَلَّقاتُ﴾ أيِ المَدْخُولُ بِهِنَّ بِما أفْهَمُهُ الإيلاءُ مِن أنَّ الكَلامَ فِيهِنَّ غَيْرُ الحَوامِلِ لِأنَّ عِدَّتَهُنَّ بِالوِلادَةِ وغَيْرَ ذَواتِ الأشْهُرِ لِصِغَرٍ (p-٢٩٥)أوْ كِبَرٍ. ولَمّا أُرِيدَ التَّأْكِيدُ لِأمْرِهِنَّ بِالعِدَّةِ سَبَقَ بَعْدَ تَأْكِيدِهِ بِبِنائِهِ عَلى المُبْتَدَأِ في صِيغَةِ الخَبَرِ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ وانْقَضى إيماءً إلى المُسارَعَةِ إلى امْتِثالِهِ فَقِيلَ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ أيْ يَنْتَظِرْنَ اعْتِدادًا. ولَمّا كانَتِ النَّفْسُ داعِيَةً إلى الشَّهَواتِ لا سِيَّما أنْفُسَ النِّساءِ إلى الرِّجالِ وكانَ التَّرَبُّصُ عامًّا في النَّفْسِ بِالعَقْدِ لِزَوْجٍ آخَرَ وفي التَّعَرُّضِ لَهُ بِاكْتِحالٍ وتَزَيُّنٍ وتَعْرِيضٍ بِكَلامٍ مَعَ البَيْنُونَةِ وبِغَيْرِ ذَلِكَ خَصَّ الأوَّلَ مُعَبِّرًا لَها بِالنَّفْسِ هَزًّا إلى الِاحْتِياطِ في كَمالِ التَّرَبُّصِ والِاسْتِحْياءِ مِمّا يُوهِمُ الِاسْتِعْجالَ فَقالَ: ﴿بِأنْفُسِهِنَّ﴾ فَلا يُطْمِعُنَّها في مُواصَلَةِ رَجُلٍ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ. ولَمّا كانَ القُرْءُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الطُّهْرِ والحَيْضِ وكانَ الأقْراءُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمْعِ كُلٍّ مِنهُما وكانَ الطُّهْرُ مُخْتَصًّا عِنْدَ جَمْعٍ مِن أهْلِ اللُّغَةِ بِأنْ يُجْمَعَ عَلى قُرُوءٍ كانَ مُذَكَّرًا يُؤَنَّثُ عَدَدُهُ وكانَتِ الحَيْضَةُ مُؤَنَّثَةً يُذَكَّرُ (p-٢٩٦)عَدَدُها دُلَّ عَلى أنَّ المُرادَ الإظْهارُ بِما يَخُصُّهُ مِنَ الجَمْعِ وبِتَأْنِيثِ عَدَدِهِ فَقالَ ذاكِرًا ظَرْفَ التَّرَبُّصِ: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أيْ جُمُوعٍ مِنَ الدَّمِ وسَيَأْتِي في أوَّلِ سُورَةِ الحِجْرِ أنَّ هَذِهِ المادَّةَ بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ تَدُورُ عَلى الجَمْعِ وأنَّ المُرادَ بِالقُرُوءِ الأطْهارُ لِأنَّها زَمَنُ جَمْعِ الدَّمِ حَقِيقَةً، وأمّا زَمَنُ الحَيْضِ فَإنَّما يُسَمّى بِذَلِكَ لِأنَّهُ سَبَبُ تَحَقُّقِ الجَمْعِ، والمَشْهُورُ مِن كَلامِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ جَمْعَ القُرْءِ بِمَعْنى الطُّهْرِ أقْراءٌ وقُرُوءٌ، وأنَّ جَمْعَهُ إذا أُطْلِقَ عَلى الحَيْضِ أقْراءٌ فَقَطْ؛ وذَلِكَ لِأنَّ المادَّةَ لَمّا كانَتْ لِلْجَمْعِ كانَتْ أيّامُ الطُّهْرِ هي المُتَحَقِّقَةَ بِذَلِكَ وكانَ جَمْعُ الكَثْرَةِ أعْرَفَ (p-٢٩٧)فِي الجَمْعِ كانَ بِالطُّهْرِ أوْلى. وقالَ الحَرالِيُّ: قُرُوءٌ جَمْعُ قُرْءٍ وهو الحَدُّ الفاصِلُ بَيْنَ الطُّهْرِ والحَيْضِ الَّذِي يَقْبَلُ الإضافَةَ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، ولِذَلِكَ ما تَعارَضَتْ في تَفْسِيرِ لُغَتِهِ تَفاسِيرُ اللُّغَوِيِّينَ واخْتَلَفَ في مَعْناهُ أقْوالُ العُلَماءِ لِخَفاءِ مَعْناهُ بِما هو حَدٌّ بَيْنِ الحالَيْنِ كالحَدِّ الفاصِلِ بَيْنَ الظِّلِّ والشَّمْسِ فالقُرُوءُ الحُدُودُ، وذَلِكَ حِينَ تُطَلَّقُ المَرْأةُ لِقَبْلِ عِدَّتِها في طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ لِيُطَلِّقَها عَلى ظُهُورِ بَراءَةٍ مِن عَلَقَتِهِما لِئَلّا يُطَلِّقَ ما لَمْ تَنْطَلِقْ عَنْهُ، فَإذا انْتَهى الطُّهْرُ وابْتَدَأ الحَيْضُ كانَ ما بَيْنَهُما قُرْءًا لِأنَّ القُرْءَ اسْتِكْمالُ جَمْعِ الحَيْضِ حِينَ يَتَعَفَّنُ فَما لَمْ يَنْتَهِ إلى الخُرُوجِ لَمْ يَتِمَّ قُرْءًا، فَإذا طَهُرَتِ الطُّهْرَ الثّانِيَ وانْتَهى إلى الحَيْضِ كانا قُرْءَيْنِ، فَإذا طَهُرَتِ الطُّهْرَ الثّالِثَ وانْتَهى إلى الحَيْضِ شاهِدُ كَمالِ القُرْءِ كانَ ثَلاثَةَ أقْراءٍ، فَلِذَلِكَ يُعْرِبُ مَعْناهُ عَنْ حِلِّ المَرْأةِ عِنْدَ رُؤْيَتِها الدَّمَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ لِتَمامِ عِدَّةِ الأقْراءِ الثَّلاثَةِ، فَيُوافِقُ مَعْنى مَن يُفَسِّرُ القُرْءَ بِالطُّهْرِ ويَكُونُ أقْرَبَ مِن تَفْسِيرِهِ بِالحَيْضِ فَأمَدُ الطُّهْرِ ظاهِرًا هو أمَدُ الِاسْتِقْراءِ لِلدَّمِ باطِنًا فَيَبْعُدُ تَفْسِيرُهُ بِالحَيْضِ عَمّا هو تَحْقِيقُهُ مِن مَعْنى الحَدِّ بُعْدًا ما - انْتَهى. (p-٢٩٨)ولَمّا كانَ النِّكاحُ أشْهى ما إلى الحَيَوانِ وكانَ حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي ويُصِمُّ وكانَ النِّساءُ أرْغَبَ في ذَلِكَ مَعَ ما بِهِنَّ مِنَ النَّقْصِ في العَقْلِ والدِّينِ فَكانَ ذَلِكَ رُبَّما حَمَلَهُنَّ عَلى كَتْمِ ولَدٍ لِإرادَةِ زَوْجٍ آخَرَ تَقْصِيرًا لِلْعِدَّةِ وإلْحاقًا لِلْوَلَدِ بِهِ، أوْ حَيْضٍ لِرَغْبَةٍ في رَجْعَةِ المُطَلِّقِ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ أيِ المُطَلَّقاتِ ﴿أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ مِن ولَدٍ أوْ دَمٍ ﴿فِي أرْحامِهِنَّ﴾ جَمْعُ رَحِمٍ. قالَ الحَرالِيُّ: وهو ما يَشْتَمِلُ عَلى الوَلَدِ مِن أعْضاءِ التَّناسُلِ يَكُونُ فِيهِ تَخَلُّقُهُ مِن كَوْنِهِ نُطْفَةً إلى كَوْنِهِ خَلْقًا آخَرَ - انْتَهى. ولَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الحَمْلَ يُعْلَمُ، إنَّما تُعْلَمُ أماراتُهُ. ولَمّا كانَ مَعْنى هَذا الإخْبارِ النَّهْيَ لِيَكُونَ نافِيًا لِلْحِلِّ بِلَفْظِهِ مُثْبِتًا لِلْحُرْمَةِ بِمَعْناهُ تَأْكِيدًا لَهُ فَكانَ التَّقْدِيرُ: ولا يَكْتُمْنَ، قالَ مُرَغِّبًا (p-٢٩٩)فِي الِامْتِثالِ مُرَهِّبًا مِن ضِدِّهِ: ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ العَظَمَةِ ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ عَظَمَتُهُ أتَمَّ ظُهُورٍ ويَدِينُ فِيهِ العِبادُ بِما فَعَلُوا، أيْ فَإنْ كَتَمْنَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ دَلَّ عَلى عَدَمِ الإيمانِ. وقالَ الحَرالِيُّ: فَفي إشْعارِهِ إثْباتُ نَوْعِ نِفاقٍ عَلى الكاتِمَةِ ما في رَحِمِها؛ انْتَهى - وفِيهِ تَصَرُّفٌ. ولَمّا كانَ الرَّجْعِيُّ أخَفَّ الطَّلاقِ بَيَّنَ الرَّجْعَةَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ إنْ كانَ ولا بُدَّ مِنَ الطَّلاقِ فَلْيَكُنْ رَجْعِيًّا فَقالَ تَعالى: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ﴾ أيْ أزْواجُهُنَّ، جَمْعُ بَعْلٍ. قالَ الحَرالِيُّ: وهو الرَّجُلُ المُتَهَيِّئُ لِنِكاحِ الأُنْثى المُتَأتِّي لَهُ ذَلِكَ، يُقالُ عَلى الزَّوْجِ والسَّيِّدِ - انْتَهى. ولَمّا كانَ (p-٣٠٠)لِلْمُطَلَّقَةِ حَقٌّ في نَفْسِها قالَ: ﴿أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أيْ إلى ما كانَ لَهم عَلَيْهِنَّ مِنَ العِصْمَةِ لِإبْطالِ التَّرَبُّصِ فَلَهُ حُرْمَةُ الِاسْتِمْتاعِ مِنَ المُطَلَّقاتِ بِإرادَةِ السَّراحِ ﴿فِي ذَلِكَ﴾ أيْ في أيّامِ الأقْراءِ فَإذا انْقَضَتْ صارَتْ أحَقَّ بِنَفْسِها مِنهُ بِها لِانْقِضاءِ حَقِّهِ والكَلامُ في الرَّجْعِيَّةِ بِدَلِيلِ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَها. ولِما أُثْبِتُ الحَقُّ لَهُمْ، وكانَ مِنهم مَن يَقْصِدُ الضَّرَرَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ أرادُوا﴾ أيْ بِالرَّجْعَةِ ﴿إصْلاحًا﴾ وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ إنْ لَمْ يَرُدِ الإصْلاحَ وأرادَتْ هي السَّراحَ كانَ في باطِنِ الأمْرِ زانِيًا. قالَ الحَرالِيُّ: الإصْلاحُ لِخَلَلٍ ما بَيْنَهُما أحَقُّ في عِلْمِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ مِنِ افْتِتاحِ وصْلَةٍ ثانِيَةٍ لِأنَّ تَذَكُّرَ الماضِي يُخِلُّ بِالحاضِرِ، مِمّا حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ نِكاحُ اللَّفُوتِ وهي الَّتِي لَها ولَدٌ مِن زَوْجِ سابِقٍ، فَلِذَلِكَ كانَ الأحَقُّ إصْلاحَ الأوَّلِ دُونَ اسْتِفْتاحِ وصْلَةٍ لِثانٍ - انْتَهى. (p-٣٠١)ولَمّا أخْرَجَ أمْرَ الرَّجْعَةِ عَنْهُنَّ جَبَرَهُنَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَهُنَّ﴾ أيْ مِنَ الحُقُوقِ ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ أيْ في كَوْنِهِ حَسَنَةً في نَفْسِهِ عَلى ما يَلِيقُ بِمِلْكٍ مِنهُما لا في النَّوْعِ، فَكَما لِلرِّجالِ الرَّجْعَةُ قَهْرًا فَلَهُنَّ العِشْرَةُ بِالجَمِيلِ، وكَما لَهم حَبْسُهُنَّ فَلَهُنَّ ما يُزِيلُ الوَحْشَةَ بِمَن يُؤْنِسُ ونَحْوَ ذَلِكَ. ولَمّا كانَ كُلٌّ مِنهُما قَدْ يَجُورُ عَلى صاحِبِهِ قالَ: ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ مِن حالِ كُلٍّ مِنهُما. قالَ الحَرالِيُّ: والمَعْرُوفُ ما أقَرَّهُ الشَّرْعُ وقَبِلَهُ العَقْلُ ووافَقَهُ كَرَمُ الطَّبْعِ - انْتَهى. ولِما ذَكَرَ الرَّجْعَةَ لَهُ بِصِيغَةِ الأحَقِّ وبَيَّنَ الحَقَّ مِنَ الجانِبَيْنِ بَيَّنَ فَضْلَ الرِّجالِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلرِّجالِ﴾ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونُوا بُعُولَةً (p-٣٠٢)﴿عَلَيْهِنَّ﴾ أيْ أزْواجَهم ﴿دَرَجَةٌ﴾ أيْ فَضْلٌ مِن جِهاتٍ لا يَخْفى كالإنْفاقِ والمَهْرِ لِأنَّ الدَّرَجَةَ المُرَقّى إلى العُلُوِّ. وقالَ الحَرالِيُّ: لِما أُوثِرُوا بِهِ مِن رَصانَةِ العَقْلِ وتَمامِ الدِّينِ - انْتَهى. فالرَّجُلُ يَزِيدُ عَلى المَرْأةِ بِدَرَجَةٍ مِن ثَلاثٍ لِأنَّ كُلَّ امْرَأتَيْنِ بِمَنزِلَةِ رَجُلٍ. ولَمّا أعَزَّ سُبْحانَهُ وتَعالى الرَّجُلَ وصَفَ نَفْسَهُ بِالعِزَّةِ مُبْتِدَئًا بِالِاسْمِ الأعْظَمِ الدّالِّ عَلى كُلِّ كَمالٍ فَقالَ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: لِأنَّ اللَّهَ أعَزَّهم عَلَيْهِنَّ بِحِكْمَتِهِ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ كَمالُ العَظَمَةِ ﴿عَزِيزٌ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ أعَزُّ بَلْ لا عَزِيزَ إلّا هو لِيَخْشى كُلُّ مَن أعارَهُ ثَوْبَ عِزَّةٍ سَطْوَتَهُ، وقالَ: ﴿حَكِيمٌ﴾ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ ما فَعَلَ ذَلِكَ إلّا لِحِكْمَةٍ (p-٣٠٣)بالِغَةٍ تَسْلِيَةً لِلنِّساءِ وإنَّ ما أوْجَدَهُ بِعِزَّتِهِ وأتْقَنَهُ بِحِكْمَتِهِ لا يُمْكِنُ نَقْضُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب