الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلا خائِفِينَ لَهم في الدُنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿وَلِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللهِ إنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن أظْلَمُ﴾ الآيَةُ. "مَن" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ و"أظْلَمُ"، خَبَرُهُ، والمَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ، واخْتَلَفَ في المُشارِ إلَيْهِ مِن هَذا الصِنْفِ الظالِمِ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: المُرادُ النَصارى الَّذِينَ كانُوا يُؤْذُونَ مَن يُصَلِّي بِبَيْتِ المَقْدِسِ ويَطْرَحُونَ فِيهِ الأقْذارَ. وقالَ قَتادَةُ، والسُدِّيُّ: المُرادُ الرُومُ الَّذِينَ أعانُوا بُخْتَ نَصَّرَ عَلى تَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ حِينَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرائِيلَ يَحْيى بْنَ زَكَرِياءَ عَلَيْهِ السَلامُ. وقِيلَ: المَعْنِّيُ بُخْتُ (p-٣٢٦)نَصَّرَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُرادُ كُفّارُ قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ. وهَذِهِ الآيَةُ تَتَناوَلُ كُلَّ مَن مَنَعَ مِن مَسْجِدٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، أو خَرَّبَ مَدِينَةَ إسْلامٍ لِأنَّها مَساجِدُ وإنْ لَمْ تَكُنْ مَوْقُوفَةً إذِ الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، والمَشْهُورُ "مَسْجِدُ" بِكَسْرِ الجِيمِ، ومِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: "مَسْجَدُ" بِفَتْحِها. و"أنْ يُذْكَرَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ إمّا عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ "مَن" وتَسَلُّطِ الفِعْلِ، وإمّا عَلى البَدَلِ مِنَ المَساجِدِ، وهو بَدَلُ الِاشْتِمالٍ الَّذِي شَأْنُ البَدَلِ فِيهِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِالمُبْدَلِ مِنهُ، ويَخْتَصَّ بِهِ أو تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "أنْ" مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ. ومَن قالَ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّ الآيَةَ بِسَبَبِ بَيْتِ المَقْدِسِ جُعِلَ الخَرابُ الحَقِيقِيُّ المَوْجُودُ، ومَن قالَ: هي بِسَبَبِ المَسْجِدِ الحَرامِ جُعِلَ مَنعُ عِمارَتِهِ خَرابًا إذْ هو داعٍ إلَيْهِ. ومَن جَعَلَ الآيَةَ في النَصارى رَوى أنَّهُ مَرَّ زَمانٌ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْخُلُ نَصْرانِيٌّ بَيْتَ المَقْدِسِ إلّا أُوجِعَ ضَرْبًا، قالَهُ قَتادَةُ والسُدِّيُّ، ومَن جَعَلَها في قُرَيْشٍ قالَ: كَذَلِكَ نُودِيَ بِأمْرِ النَبِيِّ ﷺ ألّا يَحُجَّ مُشْرِكٌ. و"خائِفِينَ" نُصِبَ عَلى الحالِ. وهَذِهِ الآيَةُ لَيْسَتْ بِأمْرٍ بَيِّنٍ مَنعُهم مِنَ المَساجِدِ، لَكِنَّها تَطَرُّقٌ إلى ذَلِكَ، وبَراءَةٌ فِيها وعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ووَعِيدٌ لِلْكافِرِينَ. (p-٣٢٧)وَمَن جَعَلَ الآيَةَ في النَصارى قالَ: الخِزْيُ قَتْلُ الحَرْبِيِّ، وجِزْيَةُ الذِمِّيِّ، وقِيلَ: الفُتُوحُ الكائِنَةُ في الإسْلامِ كَعَمُورِيَّةَ وهِرَقْلَةَ وغَيْرِ ذَلِكَ. ومَن جَعَلَها في قُرَيْشٍ جَعَلَ الخِزْيَ غَلَبَتَهم في الفَتْحِ وقَتْلَهم والعَذابُ في الآخِرَةِ لِمَن ماتَ مِنهم كافِرًا، و"خِزْيٌ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ في المَجْرُورِ. و"المَشْرِقُ" مَوْضِعُ الشُرُوقِ، و"المَغْرِبُ" مَوْضِعُ الغُرُوبِ أيْ هُما لَهُ مِلْكٌ وما بَيْنَهُما مِنَ الجِهاتِ والمَخْلُوقاتِ، وخَصَّهُما بِالذِكْرِ وإنْ كانَتْ جُمْلَةُ المَخْلُوقاتِ كَذَلِكَ لِأنَّ سَبَبَ الآيَةِ اقْتَضى ذَلِكَ. و"أيْنَما" شَرْطٌ، و"تُوَلُّوا" جُزِمَ بِهِ، والجَوابُ في قَوْلِهِ: "فَثَمَّ" والمَعْنى: فَأيْنَما تُوَلُّوا نَحْوَهُ وإلَيْهِ، لِأنَّ ولّى -وَإنْ كانَ غالِبُ اسْتِعْمالِها أدْبَرَ- فَإنَّها تَقْتَضِي أنَّهُ يَقْبَلُ إلى ناحِيَةٍ، تَقُولُ: ولَّيْتُ عن كَذا وإلى كَذا. وقَرَأ الحَسَنُ: "تَوَلَّوْا" بِفَتْحِ التاءِ واللامِ، و"ثُمَّ" مَبْنِيَّةٌ عَلى الفَتْحِ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الظَرْفِ، و"وَجْهُ اللهِ" مَعْناهُ الَّذِي وجَّهَنا إلَيْهِ، كَما تَقُولُ: سافَرْتُ في وجْهِ كَذا أيْ في جِهَةِ كَذا. واخْتَلَفَ الناسُ في تَأْوِيلِ الوَجْهِ الَّذِي جاءَ مُضافًا إلى اللهِ تَعالى في مَواضِعَ مِنَ (p-٣٢٨)القُرْآنِ، فَقالَ الحُذّاقُ: ذَلِكَ راجِعٌ إلى الوُجُودِ، والعِبارَةُ عنهُ بِالوَجْهِ مِن مَجازِ كَلامِ العَرَبِ إذْ كانَ الوَجْهُ أظْهَرُ الأعْضاءِ في الشاهِدِ وأجَلَّها قَدْرًا. وقالَ بَعْضُ الأئِمَّةِ: تِلْكَ صِفَةٌ ثابِتَةٌ بِالسَمْعِ، زائِدَةٌ عَلى ما تُوجِبُهُ العُقُولُ مِن صِفاتِ القَدِيمِ تَعالى، وضَعَّفَ أبُو المَعالِي هَذا القَوْلَ. ويَتَّجِهُ في بَعْضِ المَواضِعِ كَهَذِهِ الآيَةِ أنْ يُرادَ بِالوَجْهِ الجِهَةُ الَّتِي فِيها رِضاهُ وعَلَيْها ثَوابُهُ، كَما تَقُولُ: تَصَدَّقْتُ لِوَجْهِ اللهِ تَعالى، ويَتَّجِهُ في هَذِهِ الآيَةِ خاصَّةً أنْ يُرادُ بِالوَجْهِ الجِهَةُ الَّتِي وجَّهَنا إلَيْها في القِبْلَةِ حَسَبَما يَأْتِي في أحَدِ الأقْوالِ. وقالَ أبُو مَنصُورٍ في المُقْنِعِ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالوَجْهِ هُنا الجاهُ، كَما تَقُولُ: فَلانٌ وجْهُ القَوْمِ، أيْ مَوْضِعُ شَرَفِهِمْ، فالتَقْدِيرُ: فَثَمَّ جَلالُ اللهِ وعَظَمَتُهُ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في سَبَبِ هَذِهِ الآيَةِ. فَقالَ قَتادَةُ: أباحَ اللهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ بِهَذِهِ الآيَةِ أنْ يُصَلِّيَ المُسْلِمُونَ حَيْثُ شاؤُوا فاخْتارَ النَبِيُّ ﷺ بَيْتَ المَقْدِسِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَحَوُّلِ إلى الكَعْبَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ، والضَحّاكُ: مَعْناهُ إشارَةٌ إلى الكَعْبَةِ، أيْ حَيْثُ كُنْتُمْ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ فَأنْتُمْ قادِرُونَ عَلى التَوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ الَّتِي هي وجْهُ اللهِ الَّذِي وجَّهَكم إلَيْهِ، وعَلى هَذا فَهي ناسِخَةٌ لِبَيْتِ المَقْدِسِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانَتِ اليَهُودُ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ صَلاةَ النَبِيِّ ﷺ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وقالُوا: ما اهْتَدى إلّا بِنا، فَلَمّا حُوِّلَ إلى الكَعْبَةِ قالَتِ اليَهُودُ: ما ولّاهم عن قِبْلَتِهِمْ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ الآيَةُ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في صَلاةِ النافِلَةِ في السَفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِالإنْسانِ دابَّتُهُ. وقالَ النَخْعِيُّ: الآيَةُ عامَّةٌ، أيْنَما تُوَلُّوا في مُتَصَرَّفاتِكم ومَساعِيكم ﴿فَثَمَّ وجْهُ اللهِ﴾، أيْ مَوْضِعُ رِضاهُ وثَوابُهُ وُجِهَةُ رَحْمَتِهِ الَّتِي يُوصَلُ إلَيْها بِالطاعَةِ. وقالَ (p-٣٢٩)عَبْدُ اللهِ بْنُ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: نَزَلَتْ فِيمَنِ اجْتَهَدَ في القِبْلَةِ فَأخْطَأ، ووَرَدَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ رَواهُ عامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ قالَ: «كُنّا مَعَ النَبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَتَحَرّى قَوْمٌ القِبْلَةَ وأعْلَمُوا عَلاماتٍ، فَلَمّا أصْبَحُوا رَأوا أنَّهم قَدْ أخْطَؤُوها، فَعَرَّفُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ»، وذَكَرَ قَوْمٌ هَذا الحَدِيثَ عَلى أنَّ النَبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ مَعَ القَوْمِ في السَفَرِ وذَلِكَ خَطَأٌ. وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في النَجاشِيِّ، وذَلِكَ أنَّهُ «لَمّا ماتَ دَعا النَبِيُّ ﷺ المُسْلِمِينَ إلى الصَلاةِ عَلَيْهِ، فَقالَ قَوْمٌ: كَيْفَ يُصَلِّي عَلى مَن لَمْ يُصَلِّ إلى القِبْلَةِ قَطُّ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» أيْ أنَّ النَجاشِيَّ كانَ يَقْصِدُ وجْهَ اللهِ وإنْ لَمْ يُبَلِّغْهُ التَوَجُّهَ إلى القِبْلَةِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتِ الآيَةُ في الدُعاءِ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] قالَ المُسْلِمُونَ: إلى أيْنَ نَدْعُو؟ فَنَزَلَتْ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللهِ﴾. وقالَ المَهْدَوِيُّ: وقِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ مُنْتَظِمَةٌ في مَعْنى الَّتِي قَبْلَها، أيْ لا يَمْنَعُكم تَخْرِيبُ مَسْجِدٍ مِن أداءِ العِباداتِ، فَإنَّ المَسْجِدَ المَخْصُوصَ لِلصَّلاةِ إنْ خَرِبَ ﴿فَثَمَّ وجْهُ اللهِ﴾ مَوْجُودٌ حَيْثُ تَوَلَّيْتُمْ، وقالَ أيْضًا: وقِيلَ نَزَلَتِ الآيَةُ حِينَ صُدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ البَيْتِ. و"واسِعٌ" مَعْناهُ مُتَّسِعُ الرَحْمَةِ، "عَلِيمٌ" أيْنَ يَضَعُها. وقِيلَ: واسِعٌ مَعْناهُ هُنا أنَّهُ يُوَسِّعُ عَلى عِبادِهِ في الحُكْمِ، دِينُهُ يُسِرُّ، عَلِيمٌ بِالنِيّاتِ الَّتِي هي مَلاكُ العَمَلِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ ظَواهِرُهُ في قِبْلَةٍ وما أشْبَهَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب