الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ رَوى أبُو أشْعَثَ السَّمّانُ، عَنْ عاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أبِيهِ قالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أيْنَ القِبْلَةُ، فَصَلّى كُلُّ رِجْلٍ مِنّا عَلى حِيالِهِ، ثُمَّ أصْبَحْنا فَذَكَرْنا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾
ورَوى أيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أبِيهِ: «أنَّ قَوْمًا خَرَجُوا في سَفَرٍ فَصَلَّوْا فَتاهُوا عَنِ القِبْلَةِ، فَلَمّا فَرَغُوا تَبَيَّنَ لَهم أنَّهم كانُوا عَلى غَيْرِ القِبْلَةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: تَمَّتْ صَلاتُكم» .
ورَوى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوادَةَ، عَنْ رَجُلٍ سَألَ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ يُخْطِئُ القِبْلَةَ في السَّفَرِ ويُصَلِّي، قالَ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ وحَدَّثَنا أبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ الحافِظُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي أحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيُّ، قالَ: وجَدْتُ في كِتابِ أبِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الحَسَنِ: قالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ العَرْزَمِيُّ، عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً كُنْتُ فِيها، فَأصابَتْنا ظُلْمَةٌ فَلَمْ نَعْرِفِ القِبْلَةَ، فَقالَتْ طائِفَةٌ مِنّا: قَدْ عَرَفْنا القِبْلَةَ هاهُنا قِبَلَ الشَّمالِ، فَصَلَّوْا وخَطُّوا خُطُوطًا؛ وقالَتْ طائِفَةٌ: القِبْلَةُ هاهُنا قِبَلَ الجَنُوبِ، وخَطُّوا خُطُوطًا؛ فَلَمّا أصْبَحْنا وطَلَعَتِ الشَّمْسُ وأصْبَحَتْ تِلْكَ الخُطُوطُ لِغَيْرِ القِبْلَةِ، فَلَمّا قَفَلْنا مِن سَفَرِنا سَألْنا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: (p-٧٧)﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾» أيْ حَيْثُ كُنْتُمْ
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَفي هَذِهِ الأخْبارِ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ كانَ صَلاةَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ صَلَّوْا لِغَيْرِ القِبْلَةِ اجْتِهادًا ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في خَبَرٍ آخَرَ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي عَلى راحِلَتِهِ وهو مُقْبِلٌ مِن مَكَّةَ نَحْوَ المَدِينَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ» وفِيهِ أُنْزِلَتْ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾
ورَوى مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ قالَ: هي القِبْلَةُ الأُولى ثُمَّ نَسَخَتْها الصَّلاةُ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ وقِيلَ فِيهِ: إنَّ اليَهُودَ أنْكَرُوا تَحْوِيلَ القِبْلَةِ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَما كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ مُخَيَّرًا في أنْ يُصَلِّيَ إلى حَيْثُ شاءَ وإنَّما كانَ تَوَجَّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ عَلى وجْهِ الِاخْتِيارِ لا عَلى وجْهِ الإيجابِ حَتّى أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ، وكانَ قَوْلُهُ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ في وقْتِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ الأمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيمَن صَلّى في سَفَرٍ مُجْتَهِدًا إلى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّهُ صَلّى لِغَيْرِ القِبْلَةِ؛ وقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا والثَّوْرِيُّ: إنْ وجَدَ مَن يَسْألُهُ فَيُعَرِّفُهُ جِهَةَ القِبْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَجُزْ صَلاتُهُ، وإنْ لَمْ يَجِدْ مَن يُعَرِّفُهُ جِهَتَها فَصَلّاها بِاجْتِهادِهِ أجْزَأتْهُ صَلاتُهُ، سَواءٌ صَلّاها مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ أوْ مُشَرِّقًا أوْ مُغَرِّبًا عَنْها.
ورُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنا عَنْ مُجاهِدٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وإبْراهِيمَ وعَطاءٍ والشَّعْبِيِّ. وقالَ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ ورَبِيعَةُ وابْنُ أبِي سَلَمَةَ: يُعِيدُ في الوَقْتِ، فَإذا فاتَ الوَقْتُ لَمْ يُعِدْ؛ وهو قَوْلُ مالِكٍ رَواهُ ابْنُ وهْبٍ عَنْهُ ورَوى أبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ: " إنَّما يُعِيدُ في الوَقْتِ إذا صَلّاها مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ أوْ شَرَّقَ أوْ غَرَّبَ، وإنْ تَيامَنَ قَلِيلًا أوْ تَياسَرَ قَلِيلًا فَلا إعادَةَ عَلَيْهِ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ: " مَنِ اجْتَهَدَ فَصَلّى إلى المَشْرِقِ ثُمَّ رَأى القِبْلَةَ في المَغْرِبِ اسْتَأْنَفَ، فَإنْ كانَتْ شَرْقًا ثُمَّ رَأى أنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَتِلْكَ جِهَةٌ واحِدَةٌ وعَلَيْهِ أنْ يَنْحَرِفَ ويَعْتَدُّ بِما مَضى " قالَ أبُو بَكْرٍ ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى جَوازِها إلى أيِّ جِهَةٍ صَلّاها وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ مَعْناهُ: فَثَمَّ رِضْوانُ اللَّهِ؛ وهو الوَجْهَ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٩] يَعْنِي لِرِضْوانِهِ ولِما أرادَهُ مِنّا، وقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] يَعْنِي ما كانَ لِرِضاهُ وإرادَتِهِ، وقَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وجابِرٍ اللَّذَيْنِ قَدَّمْنا أنَّ الآيَةَ في هَذا أُنْزِلَتْ.
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ في التَّطَوُّعِ عَلى الرّاحِلَةِ، ورُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ في بَيانِ القِبْلَةِ قِيلَ لَهُ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَتَّفِقَ هَذِهِ الأحْوالُ كُلُّها في وقْتٍ واحِدٍ ويُسْألُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْها فَيُنْزِلُ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ ويُرِيدُ بِها بَيانَ حُكْمِ جَمِيعِها، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلى كُلِّ واحِدَةٍ (p-٧٨)مِنها بِأنْ يَقُولَ: إذا كُنْتُمْ عالِمِينَ بِجِهَةِ القِبْلَةِ مُمَكَّنِينَ مِنَ التَّوَجُّهِ إلَيْها فَذَلِكَ وجْهُ اللَّهِ فَصَلُّوا إلَيْها.
وإذا كُنْتُمْ خائِفِينَ أوْ في سَفَرٍ فالوَجْهُ الَّذِي يُمْكِنُكُمُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فَهو وجْهُ اللَّهِ، وإذا اشْتَبَهَتْ عَلَيْكُمُ الجِهاتُ فَصَلَّيْتُمْ إلى أيِّ جِهَةٍ كانَتْ فَهي وجْهُ اللَّهِ ؟ وإذا لَمْ تَتَنافَ إرادَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُرادُ اللَّهِ تَعالى بِها جَمِيعَ هَذِهِ المَعانِي عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا، لا سِيَّما وقَدْ نَصَّ حَدِيثُ جابِرٍ وعامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في المُجْتَهِدِ إذا أخْطَأ، وأخْبَرَ فِيهِ أنَّ المُسْتَدْبِرَ لِلْقِبْلَةِ والمُتَياسِرَ والمُتَيامِنَ عَنْها سَواءٌ؛ لِأنَّ فِيهِ بَعْضَهم صَلّى إلى ناحِيَةِ الشَّمالِ والآخَرَ إلى ناحِيَةِ الجَنُوبِ وهاتانِ جِهَتانِ مُتَضادَّتانِ.
ويَدُلُّ عَلى جَوازِها أيْضًا حَدِيثٌ رَواهُ جَماعَةٌ عَنْ أبِي سَعِيدٍ مَوْلى بَنِي هاشِمٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» .
وهَذا يَقْتَضِي إثْباتَ جَمِيعِ الجِهاتِ قِبْلَةً، إذْ كانَ قَوْلُهُ: «ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ» كَقَوْلِهِ: جَمِيعُ الآفاقِ؛ ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ [الشعراء: ٢٨] أنَّهُ أرادَ بِهِ جَمِيعَ الدُّنْيا ؟ وكَذَلِكَ هو في مَعْقُولِ خِطابِ النّاسِ مَتى أُرِيدَ الإخْبارُ عَنْ جَمِيعِ الدُّنْيا ذَكَرَ المَشْرِقَ والمَغْرِبَ فَيَشْمَلُ اللَّفْظُ جَمِيعَها وأيْضًا ما ذَكَرْنا مِن قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ إجْماعًا لِظُهُورِهِ واسْتِفاضَتِهِ مِن غَيْرِ خِلافٍ مِن أحَدٍ مِن نُظَرائِهِمْ عَلَيْهِمْ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ مَن غابَ عَنْ مَكَّةَ فَإنَّما صَلاتُهُ إلى الكَعْبَةِ لا تَكُونُ إلّا عَنِ اجْتِهادٍ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يُوقِنُ بِالجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْها في مُحاذاةِ الكَعْبَةِ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ عَنْها، وصَلاةُ الجَمِيعِ جائِزَةٌ؛ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَها، فَكَذَلِكَ المُجْتَهِدُ في السَّفَرِ قَدْ أدّى فَرْضَهُ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَها ومَن أوْجَبَ الإعادَةَ فَإنَّما يُلْزِمُهُ فَرْضًا آخَرَ، وغَيْرُ جائِزٍ إلْزامَهُ فَرْضًا بِغَيْرِ دَلالَةٍ؛ فَإنْ ألْزَمُونا عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ يُصَلّى فِيهِ ثُمَّ تُعْلَمُ نَجاسَتُهُ أوِ الماءِ يُتَطَهَّرُ بِهِ ثُمَّ يُعْلَمُ أنَّهُ نَجِسٌ.
قِيلَ لَهم: لا فَرْقَ بَيْنَهم في أنَّ كُلًّا مِنهم قَدْ أدّى فَرْضَهُ، وإنَّما ألْزَمْناهُ بَعْدَ العِلْمِ فَرْضًا آخَرَ بِدَلالَةِ قامَتْ عَلَيْهِ ولَمْ تَقُمْ دَلالَةٌ عَلى إلْزامِ المُجْتَهِدِ في جِهَةِ القِبْلَةِ فَرْضًا آخَرَ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ تَجُوزُ إلى غَيْرِ جِهَةِ القِبْلَةِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ وهي صَلاةُ النَّفْلِ عَلى الرّاحِلَةِ.
ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا ضَرُورَةَ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِعْلُها، فَلَمّا جازَتْ إلى غَيْرِ القِبْلَةِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإذا صَلّى الفَرْضَ إلى غَيْرِ جِهَتِها عَلى ما كُلِّفَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّبَيُّنِ غَيْرُها ولَمّا لَمْ تَجُزِ الصَّلاةُ في الثَّوْبِ النَّجِسِ إلّا لِضَرُورَةٍ ولَمْ تَجُزِ الطَّهارَةُ بِماءٍ نَجِسٍ بِحالٍ، لَزِمَتْهُ الإعادَةُ ومِن جِهَةٍ أُخْرى وهي أنَّ المُجْتَهِدَ بِمَنزِلَةِ صَلاةِ المُتَيَمِّمِ إذا عَدِمَ الماءَ، فَلا يَلْزَمُهُ (p-٧٩)الإعادَةُ؛ لِأنَّ الجِهَةَ الَّتِي تَوَجَّهَ إلَيْها قَدْ قامَتْ لَهُ مَقامَ القِبْلَةِ كالتَّيَمُّمِ قائِمٌ مَقامَ الوُضُوءِ، ولَمْ يُوجَدْ لِلْمُصَلِّي في الثَّوْبِ النَّجِسِ والمُتَطَهِّرِ بِماءٍ نَجِسٍ ما يَقُومُ مَقامَ الطَّهارَةَ فَهو بِمَنزِلَةِ المُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ ولا ماءٍ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ وهو أصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ مَسْألَتُنا صَلاةُ الخائِفِ لِغَيْرِ القِبْلَةِ، ويُبْنى عَلَيْها مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّها جِهَةٌ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَها في الحالِ.
والثّانِي: قِيامُ هَذِهِ الجِهَةِ مَقامَ القِبْلَةِ فَلا إعادَةَ عَلَيْهِ كالمُتَيَمِّمِ ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ الصَّلاةُ لِغَيْرِ القِبْلَةِ، أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ مِقْدارَ مِساحَةِ الكَعْبَةِ لا يَتَّسِعُ لِصَلاةِ النّاسِ الغائِبِينَ عَنْها حَتّى يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم مُصَلِّيًا لِمُحاذاتِها، ألا تَرى أنَّ الجامِعَ مِساحَتُهُ أضْعافُ مِساحَةِ الكَعْبَةِ ولَيْسَ جَمِيعُ مَن يُصَلِّي فِيهِ مُحاذِيًا لِسَمْتِها وقَدْ أُجِيزَتْ صَلاةُ الجَمِيعِ ؟
فَثَبَتَ أنَّهم إنَّما كُلِّفُوا التَّوَجُّهَ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي في ظَنِّهِمْ أنَّها مُحاذِيَةُ الكَعْبَةِ، لا مُحاذاتُها بِعَيْنِها وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ جِهَةٍ قَدْ أُقِيمَتْ مَقامَ جِهَةِ الكَعْبَةِ في حالِ العُذْرِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما جازَتْ صَلاةُ الجَمِيعِ في الأصْلِ الَّذِي ذَكَرْتَ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو المُحاذِيَ لِلْكَعْبَةِ دُونَ مَن بَعُدَ مِنهُ ولَمْ يَظْهَرْ في الثّانِي تَوَجُّهُهُ إلى غَيْرِ جِهَةِ الكَعْبَةِ، فَأجْزَأتْهُ صَلاتُهُ مِن أجْلِ ذَلِكَ.
ولَيْسَتْ هَذِهِ نَظِيرَ مَسْألَتِنا، مِن قِبَلِ أنَّ المُجْتَهِدَ في مَسْألَتِنا قَدْ تَبَيَّنَ أنَّهُ صَلّى إلى غَيْرِها، قِيلَ لَهُ: لَوْ كانَ هَذا الِاعْتِبارُ سائِغًا في الفَرْقِ بَيْنَهُما لَوَجَبَ أنْ لا تُجِيزَ صَلاةَ الجَمِيعِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ مُحاذاةُ الكَعْبَةِ مِقْدارَ عِشْرِينَ ذِراعًا إذا كانَ مُسامِتَها، ثُمَّ قَدْ رَأيْنا أهْلَ الشَّرْقِ والغَرْبِ قَدْ أجْزَأتْهم صَلاتُهم، مَعَ العِلْمِ بِأنَّ الَّذِينَ حاذَوْها هُمُ القَلِيلُ الَّذِينَ يَقْصُرُ عَدَدُهم عَنِ النِّسْبَةِ إلى الجَمِيعِ لِقِلَّتِهِمْ، وجائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَن يُحاذِي الكَعْبَةَ حِينَ لَمْ يُغادِرْها ثُمَّ أجْزَأتْ صَلاةُ الجَمِيعِ، ولَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الأعَمِّ الأكْثَرِ مَعَ تَعَلُّقِ الأحْكامِ في الأُصُولِ بِالأعَمِّ الأكْثَرِ؛ ألا تَرى أنَّ الحُكْمَ في كُلِّ مَن في دارِ الإسْلامِ ودارِ الحَرْبِ يَتَعَلَّقُ بِالأعَمِّ الأكْثَرِ دُونَ الأخَصِّ الأقَلِّ حَتّى صارَ مَن في دارِ الإسْلامِ مَحْظُورًا قَتْلُهُ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّ فِيها مَن يَسْتَحِقُّ القَتْلَ مِن مُرْتَدٍّ ومُلْحِدٍ وحَرْبِيٍّ؛ ومَن في دارِ الحَرْبِ يُسْتَباحُ قَتْلُهُ مَعَ ما فِيها مِن مُسْلِمٍ تاجِرٍ أوْ أسِيرٍ ؟
وكَذَلِكَ سائِرُ الأُصُولِ عَلى هَذا المِنهاجِ يُجْرى حُكْمُها، ولَمْ يَكُنْ لِلْأكْثَرِ الأعَمِّ حُكْمٌ في بُطْلانِ الصَّلاةِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّهم عَلى غَيْرِ مُحاذاةِ الكَعْبَةِ، ثَبَتَ أنَّ الَّذِي كُلِّفَ كُلُّ واحِدٌ مِنهم في وقْتِهِ هو ما عِنْدَهُ أنَّهُ جِهَةُ الكَعْبَةِ وفي اجْتِهادِهِ في الحالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهادُ فِيها، وأنْ لا إعادَةَ عَلى واحِدٍ مِنهم في الثّانِي
فَإنْ قِيلَ: فَأنْتَ (p-٨٠)تُوجِبُ الإعادَةَ عَلى مِن صَلّى بِاجْتِهادِهِ مَعَ إمْكانِ المَسْألَةِ عَنْها إذا تَبَيَّنَ لَهُ خِلافُها قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذا مَوْضِعَ الِاجْتِهادِ مَعَ وُجُودِ مَن يَسْألُهُ عَنْها.
وإنَّما أجَزْنا فِيما وصَفْنا صَلاةَ مَنِ اجْتَهَدَ في الحالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهادُ فِيها، وإذا وجَدَ مَن يَسْألُهُ عَنْ جِهَةِ الكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ فِعْلَ الصَّلاةِ بِاجْتِهادِهِ وإنَّما كُلِّفَ المَسْألَةَ عَنْها ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ مَن غابَ عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَإنَّما يُؤَدِّي فَرْضَهُ بِاجْتِهادِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الفَرْضُ فِيهِ نَسْخٌ وقَدْ ثَبَتَ أنَّ أهْلَ قُباءَ كانُوا يُصَلُّونَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَأتاهم آتٍ فَأخْبَرَهم أنَّ القِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فاسْتَدارُوا في صَلاتِهِمْ إلى الكَعْبَةِ وقَدْ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُسْتَدْبِرِينَ لَها؛ لِأنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ وهو بِالمَدِينَةِ فَهو مُسْتَدْبِرٌ لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالإعادَةِ حِينَ فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ مَعَ وُرُودِ النَّسْخِ؛ إذِ الأغْلَبُ أنَّهُمُ ابْتَدَءُوا الصَّلاةَ بَعْدَ النَّسْخِ؛ لِأنَّ النَّسْخَ نَزَلَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وهو بِالمَدِينَةِ، ثُمَّ سارَ المُخْبِرُ إلى قُباءَ بَعْدَ النَّسْخِ وبَيْنَهُما نَحْوَ فَرْسَخٍ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ابْتِداءَ صَلاتِهِمْ كانَ بَعْدَ النَّسْخِ؛ لِامْتِناعِ أنْ يَطُولَ مُكْثُهم في الصَّلاةِ هَذِهِ المُدَّةَ، ولَوْ كانَ ابْتِداؤُها قَبْلَ النَّسْخِ كانَتْ دَلالَتُهُ قائِمَةً؛ لِأنَّهم فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ بَعْدَ النَّسْخِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما جازَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُمُ ابْتَدَءُوها قَبْلَ النَّسْخِ وكانَ ذَلِكَ فَرْضَهم ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فَرْضٌ غَيْرُهُ.
قِيلَ لَهُ: وكَذَلِكَ المُجْتَهِدُ فَرْضُهُ ما أدّاهُ إلَيْهِ اجْتِهادُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ غَيْرُهُ.
فَإنْ قِيلَ: إذا تَبَيَّنَ أنَّهُ صَلّى إلى غَيْرِ الكَعْبَةِ كانَ بِمَنزِلَةِ مَنِ اجْتَهَدَ في حُكْمِ حادِثَةٍ ثُمَّ وجَدَ النَّصَّ فِيهِ، فَيَبْطُلُ اجْتِهادُهُ مَعَ النَّصِّ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذا كَما ظَنَنْتَ؛ لِأنَّ النَّصَّ في جِهَةِ الكَعْبَةِ إنَّما هو في حالِ مُعايَنَتِها أوِ العِلْمِ بِها، ولَيْسَتْ لِلصَّلاةِ جِهَةٌ واحِدَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْها المُصَلِّي، بَلْ سائِرُ الجِهاتِ لِلْمُصَلِّينَ عَلى حَسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِهِمْ، فَمَن شاهَدَ الكَعْبَةَ أوْ عَلِمَ بِها وهو غائِبٌ عَنْها فَفَرْضُهُ الجِهَةُ الَّتِي يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلَيْها ولَيْسَتِ الكَعْبَةُ جِهَةَ فَرْضِهِ، ومَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الجِهَةُ فَفَرْضُهُ ما أدّاهُ إلَيْهِ اجْتِهادُهُ؛ فَقَوْلُكَ " إنَّهُ صارَ مِنَ الِاجْتِهادِ إلى النَّصِّ " خَطَأٌ؛ لِأنَّ جِهَةَ الكَعْبَةِ لَمْ تَكُنْ فَرْضَهُ في حالِ الِاجْتِهادِ، وإنَّما النَّصُّ في حالِ إمْكانِ التَّوَجُّهِ إلَيْها والعِلْمِ بِها وأيْضًا فَقَدْ كانَ لَهُ الِاجْتِهادُ مَعَ العِلْمِ بِالكَعْبَةِ والجَهْلِ بِجِهَتِها، فَلَوْ كانَ بِمَنزِلَةِ النَّصِّ لَما ساغَ الِاجْتِهادُ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّ لِلَّهِ تَعالى نَصًّا عَلى الحُكْمِ، كَما لا يَسُوغُ الِاجْتِهادُ مَعَ العِلْمِ أنَّ لِلَّهِ تَعالى نَصًّا عَلى الحُكْمِ في حادِثَةٍ.
{"ayah":"وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











