الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ولله المشرق والمغرب﴾ ، لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال:"لفلان هذه الدار"، يعني بها: أنها له، ملكا. فذلك قوله: ﴿ولله المشرق والمغرب﴾ ، يعني أنهما له، ملكا وخلقا. * * * و"المشرق" هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال: لموضع طلوعها منه"مطلع" بكسر اللام، وكما بينا في معنى"المساجد" آنفا. [[انظر ما سلف قريبا: ٥١٩.]] * * * فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد، حتى قيل: ﴿ولله المشرق والمغرب﴾ ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم. فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه [[قوله: "فلله كل ما دونه"، أي كل ما سواه من شيء.]] الخلق خلقه! قيل: بلى! فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع، دون سائر الأشياء غيرها؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس، وكان رسول الله ﷺ يفعل ذلك مدة، ثم حولوا إلى الكعبة. فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي ﷺ، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله. * ذكر من قال ذلك: ١٨٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [سورة البقرة: ١٤٤] إلى قوله: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [سورة البقرة: ١٤٤-١٥٠] ، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [سورة البقرة: ١٤٢] ، فأنزل الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ ، وقال: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ . [[الحديث: ١٨٣٣ - علي: هو ابن أبي طلحة الهاشمي: ثقة، تكلموا فيه. والراجح أن كلامهم فيه من أجل تشيعه. ولكن لم يسمع من ابن عباس، فروى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: ٥٢، عن دحيم قال:"إن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير". وروي عن أبيه أبي حاتم مثل ذلك. وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:"روى عن ابن عباس، ولم يره". فهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه. ولكن معناه ثابت عن ابن عباس، من وجه صحيح. فرواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ - فيما نقل ابن كثير ١: ٢٨٨ -"أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس.." فذكر نحوه. وهذا إسناد صحيح، من جهة رواية ابن جريج عن عطاء، وهو ابن أبي رباح. وأما"عثمان ابن عطاء"، فإنه"الخراساني". وهو ضعيف. وحجاج بن محمد: سمعه منهما، من ثقة ومن ضعيف، فلا بأس. ورواه الحاكم ٢: ٢٦٧ - ٢٦٨، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وذكره السيوطي ١: ١٠٨، ونسبه لأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.]] ١٨٣٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي نحوه. * * * وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه ﷺ وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، [[قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٨٩ تعليقا على كلمة أبي جعفر رحمه الله: "في قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان - إن أراد علمه تعالى، فصحيح. فإن علمه تعالى، محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا". قلت: الذي قاله ابن كثير هو عقيدة أبي جعفر رحمه الله، وقد بين ذلك في تفسير سورة المجادلة من تفسيره ٢٨: ١٠، فلا معنى لتشكك ابن كثير في كلام إمام ضابط من أئمة أهل الحق، وعبارته صحيحة اللفظ، ولكن أهل الأهواء جعلوا الناس يفهمون من عربية الفصحاء معنى غير المعنى الذي تدل عليه.]] كما قال جل وعز: ﴿وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [سورة المجادلة: ٧] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام. * ذكر من قال ذلك: ١٨٣٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله: ﴿ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام﴾ [سورة البقرة: ١٤٩-١٥٠] ١٨٣٦- حدثنا الحسن قال [[في المطبوعة: "حدثت عن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في تفسيره أقربه رقم: ١٧٣١.]] أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام. ١٨٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله ﷺ بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله ﷺ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. فنسخها الله في آية أخرى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ إِلَى ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [سورة البقرة: ١٤٤] ، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة. ١٨٣٨- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه ﷺ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ قال: فقال رسول الله ﷺ:"هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي ﷺ ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي ﷺ، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ الآية [سورة البقرة: ١٤٤] . * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي ﷺ، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ . * ذكر من قال ذلك: ١٨٣٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: ﴿أينما تولوا فثم وجه الله﴾ . [[الحديث: ١٨٣٩ - ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، سبق توثيقه: ٤٣٨. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا، وقد سبق توثيقه: ١٤٥٥. والحديث رواه أحمد في المسند: ٥٠٠١، عن عبد الله بن إدريس، بهذا الإسناد. وسيأتي تمام تخريجه في الذي بعده.]] ١٨٤٠- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال:"إنما نزلت هذه الآية: ﴿أينما تولوا فثم وجه الله﴾ أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله ﷺ إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة". [[الحديث: ١٨٤٠ - ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، وهو ثقة، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما. بل روى عنه الثوري، وهو أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ١ / ١٢٠٧ -٢٠٨، وابن أبي حاتم ٤/١/٥٧ -٥٨. والحديث رواه أحمد أيضًا: ٤٧١٤، عن يحيى القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، بنحوه. ورواه مسلم ١: ١٩٥، من طريق يحيى، وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ٤، بأسانيد من طريق عبد الملك. وقد رجحنا في شرح المسند الرواية السابقة، بأن هذه الآية لم تنزل في ذلك، بل هي في معنى أعم، وإنما تصلح شاهدا ودليلا، كما يتبين ذلك من فقه تفسيرها في سياقها.]] * * * وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، [[في المطبوعة: "فإن وليتم وجوهكم". والصواب ما أثبت.]] وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. * ذكر من قال ذلك: ١٨٤١- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال،"كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنزل الله عز وجل: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم﴾ . [[الحديث: ١٨٤١ - أحمد، شيخ الطبري: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، كما سبق نسبه كاملا في: ١٥٩، وهو صدوق، من شيوخ أبي داود، مترجم في التهذيب، وأبو أحمد: هو الزبيري. واسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم، وهو ثقة حافظ، من شيوخ الإمام أحمد. مترجم في التهذيب. والكبير ١/١/١٣٣ - ١٣٤، وابن سعد ٦: ٢٨١، وابن أبي حاتم ٣ /٢ /٢٩٧.أبو الربيع السمان. هو أشعث بن سعيد، سبق في: ٢٤ أنه ضعيف جدا. عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: هو ضعيف، وقد بينا ضعفه في شرح المسند: ٥٢٢٩. عبد الله بن عامر بن ربيعة: ثقة من كبار التابعين. وأبوه صحابي معروف، من المهاجرين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها. والحديث ذكره ابن كثير ١: ٢٨٩ - ٢٩٠، عن هذا الموضع. ووقع فيه خطأ في اسم شيخ الطبري، كتب"محمد بن إسحاق"، بدل"أحمد". وهو خطأ ناسخ أو طابع. ثم أشار ابن كثير إلى روايته الآتية: ١٨٤٣. ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم. ثم نقل كلام الترمذي قال:"هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان: يضعف في الحديث". قال ابن كثير:"قلت: وشيخه عاصم، أيضًا ضعيف قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك. وقد ذهبت في شرحي للترمذي، رقم: ٣٤٥، إلى تحسين إسناده. ولكني أستدرك الآن، وأرى أنه حديث ضعيف. ونقله السيوطي ١: ١٠٩، مع تخريجه وبيان ضعفه.]] ١٨٤٢- حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت، شك الطبري - [[لم يرد في كتب اللغة: "أيقظت" لازما، وأخشى أن يكون الطبري يصححها، وأشباهها في العربية كثير.]] فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك، يقول الله عز وجل: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ . ١٨٤٣- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال، كنا مع النبي ﷺ في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، [[في لسان العرب"فصلى كل منا حياله"، أي تلقاء وجهه، وزيادة"علي" لا تضر المعنى.]] ثم أصبحنا فذكرنا للنبي ﷺ، فأنزل الله عز وجل: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ . [[الحديث: ١٨٤٣ - هو مكرر الحديث: ١٨٤١.]] * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، لأن أصحاب رسول الله ﷺ تنازعوا في أمره، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته. * ذكر من قال ذلك: ١٨٤٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي، عن قتادة أن النبي ﷺ قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ [سورة آل عمران: ١٩٩] ، قال: قتادة، فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ . [[الحديث: ١٨٤٤ - هو حديث ضعيف، لأنه مرسل وقد نقله السيوطي ١: ١٠٩، ونسبه لابن جرير: وابن المنذر. ونقله ابن كثير ١: ٢٩١، عن هذا الموضع. ثم قال: "هذا غريب". وأقول: وسياقته تدل على ضعفه ونكارته.]] * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم = إذ كان له ملكهم = طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه، كما قيل: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل﴾ ، وما أشبه ذلك. [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٥٧ - ٣٦٠، ٤٨٣.]] ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي. * * * فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا. = ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال:- ١٨٤٥ - أبو كريب قال حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ، قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها. ١٨٤٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة. = ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:- ١٨٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [سورة غافر: ٦٠] ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ . * * * فإذ كان قوله عز وجل: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها. لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله ﷺ وأصحابه نحو بيت المقدس، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله ﷺ ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت. = ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا: بأن تكون جاءت بعموم، ومعناها: في حال دون حال - [[في المطبوعة: "أو معناها في حال دون حال"، وهو فاسد. ومراده أن الآية جاءت عامة، وتحتمل أحد معنيين: إما في حال دون حال_ وإما في كل حال، كما فصل بعد.]] إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا. وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام"، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله ﷺ إلا ما نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. [[في المطبوعة: "لظاهره"، وانظر ما سلف في معنى"الظاهر والباطن" ٢: ١٥ والمراجع]] فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه. ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ، بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ. * * * وأما قوله: ﴿فأينما﴾ ، فإن معناه: حيثما. * * * وأما قوله: ﴿تولوا﴾ فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون: تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل:"وليته وجهي ووليته إليه"، [[في المطبوعة: "وليت وجهي"، والصواب ما أثبت.]] بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله. * * * وأما قوله: ﴿فثم﴾ فإنه بمعنى: هنالك. * * * واختلف في تأويل قوله: ﴿فثم وجه الله﴾ [[في المطبوعة: "فثم، فقال بعضهم"، والصواب إثبات"وجه الله".]] فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه. * ذكر من قال ذلك: ١٨٤٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ﴿فثم وجه الله﴾ قال: قبلة الله. ١٨٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها. * * * وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، فثم الله تبارك وتعالى. * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم. * * * وقال آخرون: عنى بـ "الوجه" ذا الوجه. وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له. * * * فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟ قيل: هي لها مواصلة. وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله، تبتغون به وجهه. * * * القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿واسع﴾ يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير. وأما قوله: ﴿عليم﴾ ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وقالوا اتخذ الله ولدا﴾ ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ﴿وقالوا﴾ : معطوف على قوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ . * * * وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم: [[في المطبوعة: "ومنفيا ما نحلوه". وانتفى من الشيء: تبرأ منه. ونحله الشيء: نسبه إليه. والفرية: الكذب المختلق.]] ﴿سبحانه﴾ ، يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل:"سبحان الله"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ١: ٤٧٤، ٤٩٥.]] * * * ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات، وإما في الأرض، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده، في ظهور آيات الصنعة فيه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب