الباحث القرآني

﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾: قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: أباحَ لَهم في الِابْتِداءِ أنْ يُصَلُّوا حَيْثُ شاءُوا، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وقالَ مُجاهِدٌ والضَّحّاكُ: مَعْناها إشارَةٌ إلى الكَعْبَةِ، أيْ حَيْثُما كُنْتُمْ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، فَأنْتُمْ قادِرُونَ عَلى التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ. فَعَلى هَذا هي ناسِخَةٌ لِبَيْتِ المَقْدِسِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ وابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ جَوابًا لِمَن عَيَّرَ مِنَ اليَهُودِ بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ إلى الكَعْبَةِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ في صَلاةِ المُسافِرِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ دابَّتُهُ. وقِيلَ: جَوابٌ لِمَن قالَ: أقَرِيبٌ رَبُّنا فَنُناجِيهِ، أمْ بَعِيدٌ فَنُنادِيهِ ؟ قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وقِيلَ: في الصَّلاةِ عَلى النَّجاشِيِّ، حَيْثُ قالُوا: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي إلى قِبْلَتِنا. وقِيلَ: فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ القِبْلَةُ في لَيْلَةٍ مُتَغَيِّمَةٍ، فَصَلُّوا بِالتَّحَرِّي إلى جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ في حَدِيثٍ عَنْ جابِرٍ، أنَّ ذَلِكَ وقَعَ لِسَرِّيَّةٍ، وعَنْ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أنَّ ذَلِكَ جَرى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في السَّفَرِ، ولَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَمْ يُعْدَلْ إلى سِواهُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ المُخْتَلِفَةِ المُضْطَرِبَةِ. وقالَ النَّخَعِيُّ: الآيَةُ عامَّةٌ، أيْنَما تُوَلُّوا في مُتَصَرَّفاتِكم ومَساعِيكم. وقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ صَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ البَيْتِ. وهَذِهِ أقْوالٌ كَثِيرَةٌ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وظاهِرُهُا التَّعارُضُ، ولا يَنْبَغِي أنْ يُقْبَلَ مِنها إلّا ما صَحَّ، وقَدْ شَحَنَ المُفَسِّرُونَ كُتُبَهم بِنَقْلِها. وقَدْ صَنَّفَ الواحِدِيُّ في ذَلِكَ كِتابًا قَلَّما يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وكانَ يَنْبَغِي أنْ لا يُشْتَغَلَ بِنَقْلِ ذَلِكَ إلّا ما صَحَّ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ انْتِظامَ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها هو: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ مَنعَ المَساجِدِ مِن ذِكْرِ اللَّهِ والسَّعْيِ في تَخْرِيبِها، نَبَّهَ عَلى أنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِن أداءِ الصَّلَواتِ، ولا مِن ذِكْرِ اللَّهِ، إذِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ لِلَّهِ تَعالى، فَأيُّ جِهَةٍ أدَّيْتُمْ فِيها العِبادَةَ فَهي لِلَّهِ يُثِيبُ عَلى ذَلِكَ، ولا يَخْتَصُّ مَكانُ التَّأْدِيَةِ بِالمَسْجِدِ. والمَعْنى: ولِلَّهِ بِلادُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما. فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أوْ يَكُونُ المَعْنى: ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ وما بَيْنَهُما، فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مَعْطُوفٍ، أوِ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِهِما تَشْرِيفًا لَهُما، حَيْثُ أُضِيفا لِلَّهِ، وإنْ كانَتِ الأشْياءُ كُلُّها لِلَّهِ، كَما شَرَّفَ البَيْتَ الحَرامَ وغَيْرَهُ مِنَ الأماكِنِ بِالإضافَةِ إلَيْهِ تَعالى. وهَذا كُلُّهُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ أسْمى مَكانٍ. وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّهُما اسْما مَصْدَرٍ، والمَعْنى أنْ لِلَّهِ تَوَلِّيَ إشْراقِ الشَّمْسِ مِن مَشْرِقِها وإغْرابِها مِن مَغْرِبِها، فَيَكُونانِ - إذْ ذاكَ - بِمَعْنى الشُّرُوقِ والغُرُوبِ. ويُبَعِّدُ هَذا القَوْلَ قَوْلُهُ بَعْدُ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ . وأفْرَدَ المَشْرِقَ والمَغْرِبَ بِاعْتِبارِ النّاحِيَةِ، أوْ بِاعْتِبارِ المَصْدَرِ الواقِعِ في النّاحِيَةِ. وأمّا الجَمْعُ فَبِاعْتِبارِ اخْتِلافِ المَغارِبِ والمَطالِعِ كُلَّ يَوْمٍ. وأمّا التَّثْنِيَةُ فَبِاعْتِبارِ مَشْرِقَيِ الشِّتاءِ والصَّيْفِ ومُغْرِبَيْهِما. ومَعْنى التَّوْلِيَةِ: الِاسْتِقْبالُ بِالوُجُوهِ. وقِيلَ: مَعْناها الِاسْتِدْبارُ مِن قَوْلِكَ: ولَّيْتُ عَنْ فُلانٍ إذا اسْتَدْبَرْتَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأيُّ جِهَةٍ ولَّيْتُمْ عَنْها واسْتَقْبَلْتُمْ غَيْرَها فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ. وقِيلَ: لَيْسَتْ في الصَّلاةِ، بَلْ هو خِطابٌ لِلَّذِينِ يُخَرِّبُونَ المَساجِدَ، أيْ أيْنَما تَوَلَّوْا هارِبِينَ عَنِّي فَإنِّي ألْحَظُهم. ويُقَوِّيهِ قِراءَةُ الحَسَنِ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا﴾، جَعَلَهُ لِلْغائِبِ، فَجَرى عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ [البقرة: ١١٤]، وعَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾، فَجَرَتِ الضَّمائِرُ عَلى نَسَقٍ واحِدٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَفي أيِّ مَكانٍ فَعَلْتُمُ التَّوْلِيَةَ، يَعْنِي تَوْلِيَةَ وُجُوهِكم شَطْرَ القِبْلَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤]، (p-٣٦١)انْتَهى. فَقَيَّدَ التَّوْلِيَةَ الَّتِي هي مُطْلَقَةٌ بِالتَّوْلِيَةِ الَّتِي هي شَطْرَ القِبْلَةِ، وهو قَوْلٌ حَسَنٌ. وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ مَسائِلَ مَوْضُوعُها عِلْمُ الفِقْهِ، مِنها: مَن صَلّى في ظُلْمَةٍ مُجْتَهِدًا إلى جِهَةٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّهُ صَلّى لِغَيْرِ القِبْلَةِ، ومَسْألَةُ مَن صَلّى عَلى ظَهْرِ الدّابَّةِ فَرْضًا لِمَرَضٍ أوْ نَفْلًا، ومَسْألَةُ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ الغائِبِ، إذا قُلْنا نَزَلَتْ في النَّجاشِيِّ، وشَحَنَ كِتابَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ المَسائِلِ، وذِكْرِ الخِلافِ فِيها، وبَعْضِ دَلائِلِها ومَوْضُوعِها، كَما ذَكَرْناهُ هو عِلْمُ الفِقْهِ. ﴿فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾، هَذا جَوابُ الشَّرْطِ، وهي جُمْلَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ، فَقِيلَ: مَعْناهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الوَجْهُ بِمَعْنى الجِهَةِ، وأُضِيفَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ حَيْثُ أمَرَ بِاسْتِقْبالِها، فَهي الجِهَةُ الَّتِي فِيها رِضا اللَّهِ تَعالى، قالَهُ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ ومُقاتِلٌ. وقِيلَ: الوَجْهُ هُنا صِلَةٌ، والمَعْنى فَثَمَّ اللَّهُ أيْ عِلْمُهُ وحُكْمُهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلٍ: أوْ عَبَّرَ عَنِ الذّاتِ بِالوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧]، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقِيلَ: المَعْنى العَمَلُ لِلَّهِ، قالَهُ الفَرّاءُ، قالَ: ؎أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبُّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالوَجْهِ هُنا: الجاهُ، كَما يُقالُ: فُلانٌ وجْهُ القَوْمِ، أيْ مَوْضِعُ شَرَفِهِمْ، ولِفُلانٍ وجْهٌ عِنْدَ النّاسِ: أيْ جاهٌ وشَرَفٌ. والتَّقْدِيرُ: فَثَمَّ جَلالُ اللَّهِ وعَظَمَتُهُ، قالَهُ أبُو مَنصُورٍ في المُقْنِعِ. وحَيْثُ جاءَ الوَجْهُ مُضافًا إلى اللَّهِ تَعالى، فَلَهُ مَحْمَلٌ في لِسانِ العَرَبِ، إذْ هو لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلى مَعانٍ، ويَسْتَحِيلُ أنْ يُحْمَلَ عَلى العُضْوِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ أشْهَرَ فِيهِ. وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى أنَّ تِلْكَ صِفَةٌ ثابِتَةٌ لِلَّهِ بِالسَّمْعِ، زائِدَةٌ عَلى ما تُوجِبُهُ العُقُولُ مِن صِفاتِ القَدِيمِ تَعالى. وضَعَّفَ أبُو العالِيَةِ وغَيْرُهُ هَذا القَوْلَ؛ لِأنَّ فِيهِ الجَزْمَ بِإثْباتِ صِفَةٍ لِلَّهِ تَعالى بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، وهي صِفَةٌ لا يُدْرى ما هي، ولا يُعْقَلُ مَعْناها في اللِّسانِ العَرَبِيِّ، فَوَجَبَ اطِّراحُ هَذا القَوْلِ والِاعْتِمادُ عَلى ما لَهُ مَحْمَلٌ في لِسانِ العَرَبِ. إذا كانَ لِلَّفْظِ دَلالَةٌ عَلى التَّجْسِيمِ فَنَحْمِلُهُ إمّا عَلى ما يُسَوَّغُ فِيهِ مِنَ الحَقِيقَةِ الَّتِي يَصِحُّ نِسْبَتُها إلى اللَّهِ تَعالى إنْ كانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، أوْ مِنَ المَجازِ إنْ كانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ. والمَجازُ في كَلامِ العَرَبِ أكْثَرُ مِن رَمْلِ يَبْرِينَ ونَهْرِ فِلَسْطِينَ. فالوُقُوفُ مَعَ ظاهِرِ اللَّفْظِ الدّالِّ عَلى التَّجْسِيمِ غَباوَةٌ وجَهْلٌ بِلِسانِ العَرَبِ وأنْحائِها ومُتَصَرِّفاتِهِا في كَلامِها، وحُجَجِ العُقُولِ الَّتِي مَرْجِعُ حَمْلِ الألْفاظِ المُشْكِلَةِ إلَيْها. ونَعُوذُ بِاللَّهِ أنْ نَكُونَ كالكَرّامِيَّةِ ومَن سَلَكَ مَسْلَكَهم في إثْباتِ التَّجْسِيمِ ونِسْبَةِ الأعْضاءِ لِلَّهِ - تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ المُفْتَرُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - وفي قَوْلِهِ: ﴿تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ رَدٌّ عَلى مَن يَقُولُ: إنَّهُ في حَيِّزٍ وجِهَةٍ؛ لِأنَّهُ لَمّا خُيِّرَ في اسْتِقْبالِ جَمِيعِ الجِهاتِ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ في جِهَةٍ ولا حَيِّزٍ، ولَوْ كانَ في حَيِّزٍ لَكانَ اسْتِقْبالُهُ والتَّوَجُّهُ إلَيْهِ أحَقَّ مِن جَمِيعِ الأماكِنِ. فَحَيْثُ لَمْ يُخَصِّصْ مَكانًا، عَلِمْنا أنَّهُ لا في جِهَةٍ ولا حَيِّزٍ، بَلْ جَمِيعُ الجِهاتِ في مُلْكِهِ وتَحْتَ مُلْكِهِ، فَأيُّ جِهَةٍ تَوَجَّهْنا إلَيْهِ فِيها عَلى وجْهِ الخُضُوعِ كُنّا مُعَظِّمِينَ لَهُ مُمْتَثِلِينَ لِأمْرِهِ. * * * ﴿إنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾: وصَفَ تَعالى نَفْسَهُ بِصِفَةِ الواسِعِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ. وجاءَ: ﴿إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ﴾ [النجم: ٣٢]، وهو مَعْنى قَوْلِ الكَلْبِيِّ: لا يَتَعاظَمُهُ ذَنْبٌ. وقِيلَ: واسِعُ العَطاءِ، وهو مَعْنى قَوْلِ أبِي عُبَيْدَةَ: غَنِيٌّ، ومَعْنى قَوْلِ الفَرّاءِ: جَوادٌ. وقِيلَ: مَعْناهُ عالِمٌ، مِن قَوْلِهِ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، عَلى أحَدِ التَّفاسِيرِ، وجُمِعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَلِيمٍ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وقِيلَ: واسِعُ القُدْرَةِ. وقِيلَ: مَعْناهُ يُوَسِّعُ عَلى عِبادِهِ في الحُكْمِ، دِينُهُ يُسْرٌ. عَلِيمٌ: أيْ بِمَصالِحِهِمْ أوْ بِنِيّاتِ القُلُوبِ الَّتِي هي مِلاكُ العَمَلِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ ظَواهِرُها في قِبْلَةٍ وغَيْرِها. وهَذِهِ التَّفاسِيرُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في أمْرِ القِبْلَةِ. وقالَ القَفّالُ: لَيْسَ فِيها ذِكْرُ القِبْلَةِ والصَّلاةِ، وإنَّما أخْبَرَهم تَعالى عَنْ عِلْمِهِ بِهِمْ، وطَوَّقَ سُلْطانَهُ إيّاهم حَيْثُ كانُوا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ [الرحمن: ٣٣]، الآيَةَ، (p-٣٦٢)وقَوْلِهِ: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى﴾ [المجادلة: ٧] الآيَةَ، ويَكُونُ في هَذا تَهْدِيدٌ لِمَن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ، وسَعى في خَرابِها، أنَّهُ لا مَهْرَبَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ولا مَفَرَّ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أيْنَ المَفَرُّ﴾ [القيامة: ١٠] ﴿كَلّا لا وزَرَ﴾ [القيامة: ١١] ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة: ١٢]، وكَما قالَ: ؎فَإنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ واسِعُ وقالَ: ؎ولَمْ يَكُنِ المُغْتَرُّ بِاللَّهِ إذْ سَرى ∗∗∗ لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طالِبُهْ وقالَ: ؎أيْنَ المَفَرُّ ولا مَفَرَّ لِهارِبٍ ∗∗∗ ولَهُ البَسِيطانِ الثَّرى والماءُ وعَلى هَذا المَعْنى يَكُونُ الخِطابُ عامًّا يَنْدَرِجُ فِيهِ مَن مَنَعَ المَساجِدَ مِنَ الذِّكْرِ وغَيْرِهِ. وجاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةً بِإنَّ مُصَرَّحًا بِاسْمِ اللَّهِ فِيها دالَّةً عَلى الِاسْتِقْلالِ. وقَدْ قَدَّمْنا ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٠]، وكَقَوْلِهِ: ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٩]، وذَلِكَ أفْخَمُ وأجْزَلُ مِنَ الضَّمِيرِ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ يُشْعِرُ بِقُوَّةِ التَّعَلُّقِ، والظّاهِرَ يُشْعِرُ بِالِاسْتِقْلالِ. ألا تَرى أنَّهُ يَصِحُّ الِابْتِداءُ بِهِ، وإنْ لَمْ يُلْحَظْ ما قَبْلَهُ ؟ بِخِلافِ الضَّمِيرِ، فَإنَّهُ رابِطٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هو فِيها بِالجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها. ألا تَرى إلى أنَّ أكْثَرَ ما ورَدَ في القُرْآنِ مِن ذَلِكَ إنَّما جاءَ بِالظّاهِرِ ؟ كَما مَثَّلْناهُ، وكَقَوْلِهِ: ﴿فَأقِيمُوا الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ﴾ [النساء: ١٠٣]، ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ إنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٠]، وقالَ: ؎لَيْتَ شِعْرِي وأيْنَ مِنِّي لَيْتٌ ∗∗∗ إنَّ لَيْتًا وإنَّ لَوًّا عَناءُ ﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ﴾: نَزَلَتْ في اليَهُودِ، إذْ قالُوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠]، أوْ في النَّصارى، إذْ قالُوا: ﴿المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠]، أوْ في المُشْرِكِينَ، إذْ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، أوْ في النَّصارى والمُشْرِكِينَ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ، والأخِيرُ قالَهُ الزَّجّاجُ. ولِاخْتِلافِهِمْ في سَبَبِ النُّزُولِ، اخْتَلَفُوا في الضَّمِيرِ في و”قالُوا“، عَلى مَن يَعُودُ ؟ فَقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى الجَمِيعِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ. فَإنَّ كُلًّا مِنهم قَدْ جَعَلَ لِلَّهِ ولَدًا، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، والجُمْهُورُ عَلى قِراءَةِ: وقالُوا بِالواوِ، وهو آكَدُ في الرَّبْطِ، فَيَكُونُ عَطَفَ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً عَلى جُمْلَةٍ مِثْلِها. وقِيلَ: هو عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وسَعى في خَرابِها﴾ [البقرة: ١١٤]، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى مَعْطُوفٍ عَلى الصِّلَةِ، وفُصِلَ بَيْنَهُما بِالجُمَلِ الكَثِيرَةِ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عامِرٍ وغَيْرُهُما: قالُوا بِغَيْرِ واوٍ، ويَكُونُ عَلى اسْتِئْنافِ الكَلامِ، أوْ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنى العَطْفِ، واكْتَفى بِالضَّمِيرِ والرَّبْطِ بِهِ عَنِ الرَّبْطِ بِالواوِ. وقالَ الفارِسِيُّ: وبِغَيْرِ واوٍ هي في مَصاحِفِ أهْلِ الشّامِ. تَقَدَّمَ أنَّ اتَّخَذَ: افْتَعَلَ مِنَ الأخْذِ، وأنَّها تارَةً تَتَعَدّى إلى واحِدٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١]، قالُوا: مَعْناهُ صَنَعَتْ وعَمِلَتْ، وإلى اثْنَيْنِ فَتَكُونُ بِمَعْنى: صَيَّرَ. وكِلا الوَجْهَيْنِ يُحْتَمَلُ هُنا. وكُلٌّ مِنَ الوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَهُ بِاسْتِحالَةِ الوَلَدِ؛ لِأنَّ الوَلَدَ يَكُونُ مِن جِنْسِ الوالِدِ. فَإنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنى عَمِلَ وصَنَعَ، اسْتَحالَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ البارِيَ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الحُدُوثِ، قَدِيمٌ، لا أوَّلِيَّةَ لِقِدَمِهِ، وما عَمِلَهُ مُحْدَثٌ، فاسْتَحالَ أنْ يَكُونَ ولَدٌ لَهُ. وإنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنى صَيَّرَ، اسْتَحالَ أيْضًا؛ لِأنَّ التَّصْيِيرَ هو نَقْلٌ مِن حالٍ إلى حالٍ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا فِيما يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وفَرْضِيَّةُ الوَلَدِ بِهِ تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الوالِدِ لا تَقْتَضِي التَّغْيِيرَ، فَقَدِ اسْتَحالَ ذَلِكَ. وإذا جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنى صَيَّرَ، كانَ أحَدُ المَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وقالُوا اتَّخَذَ بَعْضَ المَوْجُوداتِ ولَدًا. والَّذِي جاءَ في القُرْآنِ إنَّما ظاهِرُهُ التَّعَدِّي إلى واحِدٍ، قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ [مريم: ٨٨]، ﴿ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]، ﴿وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ [مريم: ٩٢] . وقالَ القُشَيْرِيُّ: أتى بِالوَلَدِ، وهو أحَدِيُّ الذّاتِ، لا جُزْءَ لِذاتِهِ، ولا تَجُوزُ الشَّهْوَةُ في صِفاتِهِ. انْتَهى. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ المَقالَةُ مِن أفْسَدِ الأشْياءِ وأوْضَحِها في الِاسْتِحالَةِ، أتى بِاللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ والبَراءَةَ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي لا تَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَعالى، قَبْلَ أنْ يَضْرِبَ عَنْ مَقالَتِهِمْ ويَسْتَدِلَّ عَلى بُطْلانِ دَعْواهم. وكانَ ذِكْرُ التَّنْزِيهِ أسْبَقَ؛ لِأنَّ فِيهِ رَدْعًا لِمُدَّعِي ذَلِكَ، وأنَّهُمُ ادَّعَوْا أمْرًا تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ وتَقَدَّسَ، ثُمَّ أخَذَ في إبْطالِ تِلْكَ المَقالَةِ فَقالَ: (p-٣٦٣)﴿بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾: أيْ جَمِيعُ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ لَهُ، ومِن جُمْلَتِهِمْ مَنِ ادَّعَوْا أنَّهُ ولَدَ اللَّهُ. والوِلادَةُ تُنافِي المِلْكِيَّةَ؛ لِأنَّ الوالِدَ لا يَمْلِكُ ولَدَهُ. وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ هُنا مَسْألَةَ مَنِ اشْتَرى والِدًا أوْ ولَدَهُ أوْ أحَدًا مِن ذَوِي رَحِمِهِ، ومَوْضُوعُها عِلْمُ الفِقْهِ. ولَمّا ذَكَرَ أنَّ الكُلَّ مَمْلُوكٌ لِلَّهِ تَعالى، ذَكَرَ أنَّهم كُلَّهم قانِتُونَ لَهُ، أيْ مُطِيعُونَ خاضِعُونَ لَهُ. وهَذِهِ عادَةُ المَمْلُوكِ، أنْ يَكُونَ طائِعًا لِمالِكِهِ، مُمْتَثِلًا لِما يُرِيدُهُ مِنهُ. واسْتُدِلَّ بِنَتِيجَةِ الطَّواعِيَةِ عَلى ثُبُوتِ المِلْكِيَّةِ. ومَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُجانِسِ الوالِدَ، إذِ الوَلَدُ يَكُونُ مِن جِنْسِ الوالِدِ. وأتى بِلَفْظِ ما في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وإنْ كانَتْ لِما لا يَعْقِلُ؛ لِأنَّ ما لا يَعْقِلُ إذا اخْتَلَطَ بِمَن يَعْقِلُ جازَ أنْ يُعَبَّرَ عَنِ الجَمِيعِ بِما. ولِذَلِكَ قالَ سِيبَوَيْهِ: وأمّا ما، فَإنَّها مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ويُدَلُّ عَلى انْدِراجِ مَن يَعْقِلُ تَحْتَ مَدْلُولِ ”ما“ جَمْعُ الخَبَرِ بِالواوِ والنُّونِ، الَّتِي هي حَقِيقَةٌ فِيما يَعْقِلُ، وانْدَرَجَ فِيهِ ما لا يَعْقِلُ عَلى حُكْمِ تَغْلِيبِ مَن يَعْقِلُ. فَحِينَ ذَكَرَ المُلْكَ، أتى بِلَفْظَةِ ما، وحِينَ ذَكَرَ القُنُوتَ، أتى بِجَمْعِ ما يَعْقِلُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ شامِلٌ لِمَن يَعْقِلُ وما لا يَعْقِلُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جاءَ بِما الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي العِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ: قانِتُونَ ؟ قُلْتُ: هو كَقَوْلِهِ: سُبْحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لَنا، وكَأنَّهُ جاءَ بِـ ”ما“ دُونَ ”مَن“، تَحْقِيرًا لَهم وتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] . انْتَهى كَلامُهُ، وهو جُنُوحٌ مِنهُ إلى أنَّ ما وقَعَتْ عَلى مَن يَعْلَمُ، ولِذَلِكَ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: ما سَخَّرَكُنَّ لَنا. يُرِيدُ أنَّ المَعْنى: سُبْحانَ مَن سَخَّرَكُنَّ لَنا، لِأنَّها يُرادُ بِها اللَّهُ تَعالى. وما عِنْدَنا لا يَقَعُ إلّا لِما لا يَعْقِلُ، إلّا إذا اخْتَلَطَ بِمَن يَعْقِلُ، فَيَقَعُ عَلَيْهِما، كَما ذَكَرْناهُ، أوْ كانَ واقِعًا عَلى صِفاتِ مَن يَعْقِلُ، فَيُعَبَّرُ عَنْها بِما. وأمّا أنْ يَقَعَ لِمَن يَعْقِلُ خاصَّةً حالَةَ إفْرادِهِ أوْ غَيْرِ إفْرادِهِ، فَلا. وقَدْ أجازَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وهو مَذْهَبٌ لا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إذْ جَمِيعُ ما احْتُجَّ بِهِ لِهَذا المَذْهَبِ مُحْتَمَلٌ، وقَدْ يُئَوَّلُ، فَيُئَوَّلُ قَوْلُهُ: سُبْحانَ ما سَخَّرَكُنَّ، عَلى أنَّ سُبْحانَ غَيْرُ مُضافٍ، وأنَّهُ عَلَمٌ لِمَعْنى التَّسْبِيحِ، فَهو كَقَوْلِهِ: ؎سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ وما: ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ أيْ مُدَّةَ تَسْخِيرِكُنَّ لَنا. والفاعِلُ بِسَخَّرَ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ المَعْنى وسِياقُ الكَلامِ، إذْ مَعْلُومٌ أنْ مُسَخِّرَهُنَّ هو اللَّهُ تَعالى. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وكَأنَّهُ جاءَ بِما دُونَ مَن، تَحْقِيرًا لَهم وتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، لَيْسَتْ ما هُنا مُخْتَصَّةً بِمَن يَعْقِلُ، فَتَقُولَ عَبَّرَ عَنْهم بِما الَّتِي لِما لا يَعْقِلُ تَحْقِيرًا لَهم، وإنَّما هي عامَّةٌ لِمَن يَعْقِلُ ولِما لا يَعْقِلُ. ومَعْنى قانِتُونَ: قائِمُونَ بِالشَّهادَةِ، قالَهُ الحَسَنُ، أوْ في القِيامَةِ لِلْعَرْضِ، قالَهُ الرَّبِيعُ، أوْ مُطِيعُونَ، قالَهُ قَتادَةُ؛ أوْ مُقِرُّونَ بِالعُبُودِيَّةِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. وقِيلَ: قائِمُونَ بِاللَّهِ. وأُورِدَ عَلى مَن يَقُولُ: القُنُوتُ: القِيامُ لِلَّهِ بِالشَّهادَةِ والعُبُودِيَّةِ، أنَّهُ: كَيْفَ عَمَّ بِهَذا القَوْلِ وكَثِيرٌ لَيْسَ بِمُطِيعٍ ؟ وأُجِيبَ: أنَّ ظاهِرَهُ العُمُومُ، والمَعْنى الخُصُوصُ، أيْ أهْلُ كُلِّ طاعَةٍ لَهُ قانِتُونَ، وبِأنَّ الكُفّارَ يَسْجُدُ ضُلّالُهم، وبِظُهُورِ أثَرِ الصَّنْعَةِ فِيهِ، وجَرْيِ أحْكامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى تَذَلُّلِـهِ لِلَّهِ تَعالى، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. (وكُلٌّ لَهُ): مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، والمُضافُ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وهو عِبارَةٌ عَنْ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، أيْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، وهو المَحْكُومُ عَلَيْهِمْ بِالمِلْكِيَّةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُلُّ مَن جَعَلُوهُ لِلَّهِ ولَدًا، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأنَّ المَجْعُولَ لِلَّهِ ولَدًا لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ، ولِأنَّ الخَبَرَ يَشْتَرِكُ فِيهِ المَجْعُولُ ولَدًا وغَيْرُهُ. و﴿قانِتُونَ﴾: خَبَرٌ عَنْ ”كُلٌّ“، وجُمِعَ حَمْلًا عَلى المَعْنى. وكُلُّ إذا حُذِفَ ما تُضافُ إلَيْهِ، جازَ فِيها مُراعاةُ المَعْنى فَتُجْمَعُ، ومُراعاةُ اللَّفْظِ فَتُفْرَدُ. وإنَّما حَسُنَتْ مُراعاةُ الجَمْعِ هُنا، لِأنَّها فاصِلَةُ رَأْسِ آيَةٍ، ولِأنَّ الأكْثَرَ في لِسانِهِمْ أنَّهُ إذا قُطِعَتْ عَنِ الإضافَةِ كانَ مُراعاةُ المَعْنى أكْثَرَ وأحْسَنَ. قالَ تَعالى: ﴿وكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ﴾ [الأنفال: ٥٤]، ﴿وكُلٌّ أتَوْهُ داخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧]، و﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] . وقَدْ جاءَ إفْرادُ الخَبَرِ كَقَوْلِهِ: (p-٣٦٤)﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: ٨٤]، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى هُناكَ ذِكْرُ مُحَسِّنِ إفْرادِ الخَبَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب