الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وللهِ المشَرِقُ وَالمغَرِبُ﴾ ارتفع المشرق من جهتين: إحداهما: الابتداء، والأخرى: بالفعل الذي ينوب عنه اللام [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 197.]]، أي: ثبت لله المشرق، ومثله قولك: لزيد المال، فيه الوجهان كما ذكرنا، ومعنى (لله) أي: هو خالقهما [["تفسير الطبري" 1/ 501.]]. قال ابن عباس: نزلت الآية في نفر من أصحاب النبي ﷺ خرجوا في سفر فأصابَهم الضَّبابُ، وحضرت الصلاةُ فتحرَّوا القبلةَ، وصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما ذهب الضباب استبان أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، فنزلت هذه الآية [[أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، كما في "ابن كثير" 1/ 169، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 151، والثعلبي 1/ 1128، والسيوطي في "لباب النقول" ص 23، وفي "الدر المنثور" 1/ 205، وعزاه إلى ابن مردويه، وضعف إسناده. وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" روايات كثيرة في هذا ثم قال: وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا.]]. وقال ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلي حيثما توجهت به راحلته تطوعًا [[أخرجه مسلم (700/ 34 - 35 - 36) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به.]]. وروى أن النبى -ﷺ- كان يصلى على راحلته فى السفر حيثما توجهت به [[أخرجه البخاري (400) في الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (700) صلاة المسافرين، باب جواز النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.]]. وقال عكرمة وأبو العالية: نزلت في تحويل القبلة، وذلك أن اليهود عيّرت المؤمنين في انحرافهم من بيت المقدس، فأنزل الله هذه الآية جوابًا لهم [[ذكره عنهما الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1132وعنه البغوي 1/ 140، والخازن 1/ 99، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 502 - 503، "الوسيط" 1/ 194. وقد ذكر الثعلبي 1/ 1132، والواحدي في "أسباب النزول" ص 42، والحافظ في "العجاب" 1/ 364 سببين آخرين غير ما ذكر. وقال في "البحر المحيط" 1/ 360: وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول الآية وظاهرها التعارض، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها، وقد صنف الواحدي في ذلك كتابًا قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح.]]. قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا﴾ أي: وجوهَكم، فحذف المفعول [[ينظر: "الوسيط" 1/ 194.]]. ومعنى ﴿تُوَلُّوُا وُجُوهَكُم﴾: تجعلونها تليه، ونذكر معنى هذا الحرف عند قوله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148]. وقوله تعالى: ﴿فَثَمَّ﴾ قال أبو إسحاق: (ثَمّ) بُني على الفتح لالتقاء الساكنين، وثَمَّ في المكان: إشارة، بمنزلة هناك [[في "معاني القرآن": هنا زيد.]]، فإذا أردت المكان القريب قلت: هنا زيد. وإذا أردت المتراخي قلت: هناك وَثَمّ. وإنما منعت (ثَمّ) الإعراب لإبهامها [[بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 197، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 505، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 208.]]. قال أبو علي الفارسي: المبني على ضربين: مبني على حركة، ومبني على سكون، والمبني على الحركة على ضربين: أحدهما: ما يكون بناؤه على الحركة، لتمكّنه قبل حاله المفضية إلى بنائه [[في "الإغفال": في حالة المفضية به إلى البناء.]]، وذلك نحو: من عَلُ وأولُ ويا حَكَم، وما أشبه ذلك. والآخر: ما يكون بناؤه على الحركةِ لالتقاء الساكنين، نحو: كيف، وأين، وأيان، وثم، وأولاء، وحذارِ، ومنذ. وكل هذه الأسماء المبنيات مع اختلافها فالعلة الموجبة لبنائها مشابهتها الحروف، ومضارعتها لها، ولذلك بني هذا الاسم أيضا لا للإبهام، لأن الإبهام لا يوجب البناء. ألا ترى أن قولنا: (شيء) من أعمّ ما يتكلم به وأبهمه، وهو معرب غير مبني، و (مكان) أَبْهَمُ من قولنا: ثم؛ لأنه للداني والقاصي [[في "الإغفال": ومكان أبهم من قولنا ثم وكذلك؛ لأنهما يقعان على المواضع الدانية والقاصية.]]، وهو مع إبهامه معرب، فبانَ أنّ بناءه ليس لإبهامه، وإنما هو لتضمُّنه معنى الحرف واختزاله عنه، وذلك أنّ هذا الاسم لمّا كان معرفةً، وكان حكم المعرَّف أن يكون بحرف ولم يذكر، بُنيَ ولم يُعرَبْ؛ لتضمّنه معنى الحرف الذي به يكون التعريف والعهد. ألا ترى أن (ثَمَّ) لا تستعمله إلا في مكان معهود معروف. [[في (ش): (معروف معهود).]] لمخاطبك، فإن لم تعرفه لم تعبر عنه بذلك، فتحقيق العلة في هذا وشرحه ما ذكرنا، دون ما ذكره من الإبهام [["الإغفال" 383 - 385 بتصرف واختصار.]]. وقوله تعالى: ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ قال أكثر المفسرين [[بين شيخ الإسلام في "الفتاوى" 2/ 428 أن جمهور السلف على القول بأن المعنى: فثم قبلة الله ووجهة الله.]]: الوجه: صلة، معناه: فثمَّ الله. كقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]، والمعنى: فثم الله يَعْلَمُ وَيرَى [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 198.]]. و (الوجه) قد ورد صلة مع اسم الله كثيرًا، كقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: 27] و ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان: 9] و ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]. وهذا قول الكلبي [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1134 وعنه البغوي 1/ 140.]] وعبد الله بن مسلم [[يعني ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 254، وقد نُسِب هذا القول لابن عباس كما في "زاد المسير" 1/ 134 - 135، "القرطبي" 2/ 75، "البحر المحيط" 1/ 361، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 506، "تفسير الثعلبي" 1/ 1134.]] [[في (ش): (ومسلم).]]، وقال الحسن [[ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 212، "الثعلبي"، 1/ 1134، "البغوي" 1/ 140، "زاد المسير" 1/ 135.]]، ومجاهد [[أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة البقرة 5/ 206، الطبري في "تفسيره" 1/ 506، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 212 (1122)، والبيهقي في سننه 2/ 13.]] وقتادة [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 502، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 212، الثعلبي 1/ 1134، البغوي 1/ 140، وينظر: "ابن كثير" 1/ 168.]] ومقاتل [[أي: ابن حيان، ذكره عنه "الثعلبي" 1/ 1134 وعنه البغوي 1/ 140.]]: فثم قبلة الله [[أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" هذا القول عن ابن عباس 1/ 212، وينظر في هذا القول: "الطبري" 1/ 506، "تفسير الثعلبي" 1/ 1134، السمعاني 2/ 26، "زاد المسير" 1/ 135، القرطبي 2/ 75، الخازن 1/ 99.]]، والوجه والجهة والوجهة: القبلة. ومثله: الوزن والزِّنَة، والوَعْد والعِدَة، والوَصْل والصِّلة. والعرب تجعل القصد الذي يتوجه إليه وجهًا [[ينظر: "اللسان" 4775 (وجه).]]، كقول الشاعر: ربَّ العبادِ إليه [[في (ش): وإليه.]] الوجهُ والعملُ [[وصدر البيت: أستغفر الله ذنبًا لستُ مُحْصِيه == هذا البيت من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. ينظر: "الكتاب" 1/ 37، و"الخزانة" 3/ 111، و"أدب الكاتب" 419، و"الفراء" 1/ 233، القرطبي 2/ 75 و"مجموع الفتاوى" 2/ 428 والرازي في "تفسيره" 4/ 22، "البحر المحيط" 1/ 361، "لسان العرب" 6/ 3274 (ماده: غفر). "المعجم المفصل" 6/ 279. والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع؛ فلذا قال: لستُ محصيه، وأراد: من ذنبٍ. والوجه: القصد والمراد.]] معناه. إليه القصد، وعلى هذا القول معنى قوله: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي: جهة الله [[ساقطة من (أ)، (م).]] التي تعبّدكم بالتوجه إليها [[هذه الآية مما تنازع فيه الناس، هل هي من آيات الصفات أو لا؟ قولان: فمنهم من عدها في آيات الصفات وجعلها من الآيات الدالة على إثبات صفة الوجه لله واستدلوا على ذلك بقول النبي ﷺ: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهه" رواه البخاري (406) كتاب الصلاة، باب: حك البزاق باليد ومسلم (547) كتاب المساجد، باب: النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، وبقوله "لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلًا عليه، فإذا انصرف صرف وجهه عنه". وممن قرر ذلك: "ابن خزيمة" كما في "مجموع الفتاوى" 6/ 16 وبهذا فسرها السعدي في "تفسيره" ص 45 وابن عثيمين في "شرح العقيدة الواسطية" 1/ 289 (ط. ابن الجوزي). وقال آخرون: إن المراد بالوجه هنا الجهة كما نقل عن مجاهد والشافعي ونصره شيخ الإسلام في "الفتاوى" 6/ 16، 3/ 193و 2/ 428 بل قال في 3/ 193: من عدها في آيات الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريده؟ أي: أي جهة .. ولهذا قال: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي: تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم. اهـ. وقال في 6/ 16: ولكن من الناس من يسلِّم أن المراد بذلك وجه الله: أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه == الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث ... ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر، ليس هذا موضعه. وقد بيَّن الشيخ ابن عثيمين في "شرح الواسطية" 1/ 290: أن الأول صحيح موافق لظاهر الآية، وأن الثاني لا يخالف الأول في الواقع، فإذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أوكان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضًا وجه الله حقًا، وحينئذٍ يكون المعنيان لا يتنافيان. اهـ. هذا وقد نبه شيخ الإسلام على أمرٍ مهم فقال في "الفتاوى" 6/ 17: والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه، الذي ينكره منكرو آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة قولهم ﴿فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ﴾ على: فَثَّمَّ قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجهًا باعتبار أن الوجه والجهة واحد، أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها.]]، والإضافة تكون للتخصيص نحو: بيت الله، وناقة الله [["تفسير الثعلبي" 1/ 1134.]]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ الواسع في صفة الله تعالى على ثلاثة أوجه [[ينظر تفصيل ذلك في: "البحر المحيط" 1/ 361.]]: أحدها: أنه واسع بإفضاله على خلقه، واحتماله مسائل عباده، وأنه لا يُكرِثه [[في (أ): (لا يكونه).]] إلحاحُهم [["تفسير الطبري" 1/ 506.]]، من قول العرب: فلان يسع ما يسأل، قال أبو زبيد: أُعطيهم الجَهْدَ مني بَلْهَ ما أسِعُ وهذا معنى قول الفراء [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1136 وعنه البغوي 1/ 140.]] وأبي عبيدة [[في "مجاز القرآن" 1/ 51.]]. الثاني: أنه يُوَسِّع على عباده في دينهم، ولا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه، فهو واسعُ الرَّحمة، واسع الشريعةِ بالترخيص لهم في التوجهٍ إلى أي جهة أدَّى إليها اجتهادهم عند خفاء الأدلة [["الوسيط" 1/ 194.]]. الثالث: أنه يسع علمَ كلِّ شيء، ويسع علمُه كلَّ شيء، كقوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي: علمه [["تفسير الثعلبي" 1/ 1136 سيأتي الرد على هذا القول موسعًا عند آية الكرسي.]]، وقال: ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: 98]. وقال ابن عباس في بعض الروايات: إن هذه الآية نزلت في النجاشي [[هو: أصحمة بن أبحر، والنجاشي لقبه، قال ابن عيينة: أصحمة بالعربية عطية، هو ملك الحبشة الذي أكرم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده من مكة، وأحسن استقبالهم وأسلم ولم يهاجر وليست له رؤية فهو تابعي من وجه، وصاحب من وجه، وقد توفي في حياة النبي ﷺ. ينظر: "الإصابة" 1/ 109، و"تفسير عبد الرزاق" 1/ 144 و"السير" 1/ 428.]]، وذلك أنه توفي، فأتى جبريل النبي ﷺ فقال: "إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه"، ثم صلى رسول الله ﷺ بأصحابه عليه، فقال أصحابه في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي لغير قبلتنا؟، وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى هذا الآية [[ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 41 ونقله عنه في: "العجاب" 1/ 364، من قول ابن عباس في رواية عطاء، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1332 عن عطاء وقتاده، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ط. شاكر 2/ 532 - 533، مختصرًا عن == قتادة، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 170 عن ابن جرير وقال: وهذا غريب، وقال أحمد شاكر: هو حديث ضعيف، لأنه مرسل، وسياقه يدل على ضعفه ونكارته.]]. وعَذَر النجاشيَّ في ذلك؛ لأنه لم يبلغه خبرُ نسخ القبلة وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ﴾ للنجاشي في قبلته، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما قبله [[قوله: عليم بما قبله .. ساقطة من (أ)، (م).]] من الإيمان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب