الباحث القرآني

فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حرامًا، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: ﴿تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾ [البقرة: ٢٢٩]. وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها، لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه وولده. والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها. فإن علم الموصى له أن الموصِي إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصِي أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية. وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهم فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٨٢]. وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصي الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحًا لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة. * [فَصْلٌ: سِرٌّ في تَقْدِيمِ العَصَبَةِ البُعَداءِ عَنْ ذَوِي الأرْحامِ وإنْ قَرُبُوا] وَأمّا قَوْلُهُ: " ووِرْثُ ابْنُ ابْنِ العَمِّ وإنْ بَعُدَتْ دَرَجَتُهُ دُونَ الخالَةِ الَّتِي هي شَقِيقَةٌ لِلْأُمِّ " فَنَعَمْ، وهَذا مِن كَمالِ الشَّرِيعَةِ وجَلالَتِها؛ فَإنَّ ابْنَ العَمِّ مِن عَصَبَتِهِ القائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ ومُوالاتِهِ والذَّبِّ عَنْهُ وحَمْلِ العَقْلِ عَنْهُ، فَبَنُو أبِيهِ هم أوْلِياؤُهُ وعَصَبَتُهُ والمُحامُونَ دُونَهُ، وأمّا قَرابَةُ الأُمِّ فَإنَّهم بِمَنزِلَةِ الأجانِبِ، وإنَّما يَنْتَسِبُونَ إلى آبائِهِمْ، فَهم بِمَنزِلَةِ أقارِبِ البَناتِ كَما قالَ القائِلُ: ؎بَنُونا بَنُو أبْنائِنا وبَناتُنا ∗∗∗ بَنُوهُنَّ أبْناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ فَمِن كَمالِ حِكْمَةِ الشّارِعِ أنْ جَعَلَ المِيراثَ لِأقارِبِ الأبِ، وقَدَّمَهم عَلى أقارِبِ الأُمِّ، وإنَّما ورِثَ مَعَهم مِن أقارِبِ الأُمِّ مَن رَكَضَ المَيِّتُ مَعَهم في بَطْنِ الأُمِّ، وهم إخْوانُهُ أوْ مَن قَرُبَتْ قَرابَتُهُ جِدًّا وهُنَّ جَدّاتُهُ لِقُوَّةِ إيلادِهِنَّ وقُرْبِ أوْلادِهِنَّ مِنهُ؛ فَإذا عَدِمَتْ قَرابَةُ الأبِ انْتَقَلَ المِيراثُ إلى قَرابَةِ الأُمِّ، وكانُوا أوْلى مِن الأجانِبِ؛ فَهَذا الَّذِي جاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أكْمَلُ شَيْءٍ وأعْدَلُهُ وأحْسَنُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب