الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿آباؤُكم وأبْناؤُكم لا تَدْرُونَ أيُّهم أقْرَبُ لَكم نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إنَّ اللهِ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١١] ﴿وَلَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكم إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ولَدٌ فَإنْ كانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أو دَيْنٍ﴾ "آباؤُكم وأبْناؤُكُمْ" رَفْعُ الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مُضْمَرٌ. تَقْدِيرُهُ: هُمُ المَقْسُومُ عَلَيْهِمْ وهُمُ المُعْطَوْنَ، وهَذا عَرْضٌ لِلْحِكْمَةِ في ذَلِكَ، وتَأْنِيسٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كانُوا يُوَرِّثُونَ عَلى غَيْرِ هَذِهِ الصِفَةِ، و"لا تَدْرُونَ" عامِلٌ في الجُمْلَةِ بِالمَعْنى ومُعَلَّقٌ عَنِ العَمَلِ في اللَفْظِ بِحَسَبِ المَعْمُولِ فِيهِ، إذِ الاسْتِفْهامُ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ، و"نَفْعًا" قالَ مُجاهِدٌ (p-٤٨٥)والسُدِّيُّ وابْنُ سِيرِينَ: مَعْناهُ: في الدُنْيا، أيْ: إذا اضْطُرَّ إلى إنْفاقِهِمْ لِلْحاجَةِ، نَحا إلَيْهِ الزَجّاجُ، وقَدْ يُنْفِقُونَ دُونَ اضْطِرارٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: في الآخِرَةِ، أيْ بِشَفاعَةِ الفاضِلِ لِلْمَفْضُولِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِيهِما: واللَفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، و"فَرِيضَةً" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ، إذْ مَعْنى "يُوصِيكُمُ":يَفْرِضُ عَلَيْكم. وقالَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ: هي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، ذَلِكَ ضَعِيفٌ. والعامِلُ "يُوصِيكُمُ"، و"كانَ" هي الناقِصَةُ، قالَ سِيبَوَيْهِ: لَمّا رَأوا عِلْمًا وحِكْمَةً قِيلَ لَهُمْ: إنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ هَكَذا، وصِيغَةُ "كانَ" لا تُعْطِي إلّا المُضِيَّ، ومِنَ المَعْنى بُعْدٌ يُعْلَمُ أنَّ اللهَ تَعالى كانَ كَذَلِكَ، وهو يَكُونُ، لا مِن لَفْظِ الآيَةِ، وقالَ قَوْمٌ: "كانَ" بِمَعْنى وجَدَ ووَقَعَ، و"عَلِيمًا" حالٌ، وفي هَذا ضَعْفٌ، ومَن قالَ: "كانَ" زائِدَةٌ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكُمْ﴾...الآيَةُ،. الخِطابُ لِلرِّجالِ، والوَلَدُ هاهُنا بَنُو الصُلْبِ وبَنُو ذُكُورِهِمْ وإنْ سَفُلُوا، ذُكْرانًا وإناثًا، واحِدًا فَما زادَ، هَذا بِإجْماعٍ مِنَ العُلَماءِ. *** قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَهُنَّ الرُبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكم ولَدٌ فَإنْ كانَ لَكم ولَدٌ فَلَهُنَّ الثُمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أو دَيْنٍ وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أو امْرَأةٌ ولَهُ أخٌ أو أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُدُسُ فَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهم شُرَكاءُ في الثُلُثِ﴾. والوَلَدُ في هَذِهِ الآيَةِ كَما تَقَدَّمَ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، و"الثُمُنُ" لِلزَّوْجَةِ أو لِلزَّوْجاتِ هُنَّ فِيهِ مُشْتَرِكاتٌ بِإجْماعٍ، ويَلْحَقُ العَوْلُ فَرْضَ الزَوْجِ والزَوْجَةِ، كَما يَلْحَقُ سائِرَ الفَرائِضِ المُسَمّاةِ، إلّا عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، فَإنَّهُ قالَ: يُعْطَيانِ فَرْضَهُما بِغَيْرِ عَوْلٍ. والكَلالَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِن تَكَلَّلَ النَسَبُ: أيْ: أحاطَ، لِأنَّ الرَجُلَ إذا لَمْ يَتْرُكْ والِدًا ولا ولَدًا فَقَدِ انْقَطَعَ طَرَفاهُ، وبَقِيَ أنْ يَرِثَهُ مَن يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ، أيْ: يُحِيطُ بِهِ مِن نَواحِيهِ كالإكْلِيلِ، وكالنَباتِ إذا أحاطَ بِالشَيْءِ، ومِنهُ: رَوْضٌ مُكَلَّلٌ بِالزَهْرِ، والإكْلِيلُ: مَنزِلُ القَمَرِ يُحِيطُ بِهِ فِيهِ كَواكِبُ، ومِنَ الكَلالَةِ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٤٨٦) ؎ فَإنَّ أبا المَرْءِ أحْمى لَهُ ومَوْلى الكَلالَةِ لا يَغْضَبُ فالأبُ والِابْنُ هُما عَمُودا النَسَبِ، وسائِرُ القَرابَةِ يُكَلِّلُونَ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الصِدِّيقُ وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وابْنُ عَبّاسٍ وسَلِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ وقَتادَةُ والحَكَمُ وابْنُ زَيْدٍ والزُهْرِيُّ وأبُو إسْحاقَ السُبَيْعِيُّ: الكَلالَةُ: خُلُوُّ المَيِّتِ عَنِ الوَلَدِ والوالِدِ، وهَذا هو الصَحِيحُ. وقالَتْ طائِفَةٌ: هي خُلُوُّ المَيِّتِ مِنَ الوَلَدِ فَقَطْ، ورُوِيَ ذَلِكَ عن أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ وعن عُمَرَ، ثُمَّ رَجَعا عنهُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وذَلِكَ مُسْتَقْرَأٌ مِن قَوْلِهِ في الإخْوَةِ مَعَ الوالِدَيْنِ: إنَّهم يَحُطُّونَ الأُمَّ ويَأْخُذُونَ ما يَحُطُّونَها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَكَذا حَكى الطَبَرِيُّ، ويَلْزَمُ عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ إذْ ورَّثَهم بِأنَّ الفَرِيضَةَ كَلالَةً: أنْ يُعْطِيَهُمُ الثُلُثَ بِالنَصِّ. وقالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمُ الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: الكَلالَةُ: الخُلُوُّ مِنَ الوالِدِ، وهَذانِ القَوْلانِ ضَعِيفانِ، لِأنَّ مَن بَقِيَ والِدُهُ أو ولَدُهُ فَهو مَوْرُوثٌ بِجَزْمِ نَسَبٍ لا بِتَكَلُّلٍ. وأجْمَعَتِ الآنَ الأُمَّةُ عَلى أنَّ الإخْوَةَ لا يَرِثُونَ مَعَ ابْنٍ ولا مَعَ أبٍ، وعَلى هَذا مَضَتِ الأمْصارُ والأعْصارُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: يُورَثُ بِفَتْحِ الراءِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وأبُو رَجاءٍ: "يُوَرِّثُ" بِكَسْرِ الراءِ وتَشْدِيدِها. قالَ أبُو الفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ: قَرَأ الحَسَنُ: "يُورِثُ" مِن أورَثَ، وعِيسى: "يُوَرِّثُ" بِشَدِّ الراءِ مِن ورَّثَ، والمَفْعُولانِ عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ مَحْذُوفانِ، التَقْدِيرُ: يُورَثُ وارِثُهُ مالَهُ "كَلالَةً"، ونُصِبَ "كَلالَةً" عَلى الحالِ. واخْتَلَفُوا في الكَلالَةِ فِيما وقَعَتْ عَلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ عُمَرُ وابْنُ عَبّاسٍ: الكَلالَةُ: المَيِّتُ المَوْرُوثُ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ أبٌ، ونَصْبُها عَلى خَبَرِ كانَ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الكَلالَةُ الوارِثَةُ بِجُمْلَتِها، المَيِّتُ والأحْياءُ كُلُّهم كَلالَةٌ، ونَصْبُها عَلى الحالِ أو عَلى النَعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وِراثَةً كَلالَةً، ويَصِحُّ عَلى هَذا أنْ تَكُونَ "كانَ" تامَّةً بِمَعْنى وقَعَ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ ناقِصَةً وخَبَرُها "يُورَثُ"، وقالَ عَطاءٌ: الكَلالَةُ: المالُ، ونُصِبَ عَلى المَفْعُولِ الثانِي. (p-٤٨٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والِاشْتِقاقُ في مَعْنى الكَلالَةِ يُفْسِدُ تَسْمِيَةَ المالِ بِها. وقالَتْ طائِفَةٌ: الكَلالَةُ: الوَرَثَةُ، وهَذا يَسْتَقِيمُ عَلى قِراءَةِ "يُورِثُ" بِكَسْرِ الراءِ، فَيُنْصَبُ كَلالَةً عَلى المَفْعُولِ. واحْتَجَّ هَؤُلاءِ بِحَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، إذْ عادَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّما يَرِثُنِي كَلالَةٌ أفَأُوصِي بِمالِي كُلِّهِ؟ وحَكى بَعْضُهم أنْ تَكُونَ الكَلالَةُ الوَرَثَةَ، ونَصْبُها عَلى خَبَرِ كانَ، وذَلِكَ بِحَذْفِ مُضافٍ، تَقْدِيرُهُ: ذا كَلالَةٍ، ويَسْتَقِيمُ سائِرُ التَأْوِيلاتِ عَلى كَسْرِ الراءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَهُ أخٌ أو أُخْتٌ﴾... الآيَةُ، الضَمِيرُ في "لَهُ" عائِدٌ عَلى الرَجُلِ، واكْتَفى بِإعادَتِهِ عَلَيْهِ دُونَ المَرْأةِ، إذِ المَعْنى فِيهِما واحِدٌ، والحُكْمُ قَدْ ضَبَطَهُ العَطْفُ الأوَّلُ، وأصْلُ أُخْتٍ: أُخْوَةٌ، كَما أصْلُ بِنْتٍ: بِنْيَةٌ، فَضُمَّ أوَّلُ أُخْتٍ إذِ المَحْذُوفُ مِنها واوٌ، وكُسِرَ أوَّلُ بِنْتٍ إذِ المَحْذُوفُ ياءٌ، وهَذا الحَذْفُ والتَعْلِيلُ عَلى غَيْرِ قِياسٍ. وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الإخْوَةَ في هَذِهِ الآيَةِ الإخْوَةُ لِأُمٍّ، لِأنَّ حُكْمَهم مَنصُوصٌ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى صِفَةٍ، وحُكْمُ سائِرِ الإخْوَةِ مُخالِفٌ لَهُ، وهو الَّذِي في كَلالَةِ آخِرِ السُورَةِ. وقَرَأ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ: "وَلَهُ أخٌ أو أُخْتٌ لِأُمِّهِ". والأُنْثى والذَكَرُ في هَذِهِ النازِلَةِ سَواءٌ، وشِرْكَتُهم في الثُلُثِ مُتَساوِيَةٌ وإنْ كَثُرُوا، هَذا إجْماعٌ، فَإنْ ماتَتِ امْرَأةٌ وتَرَكَتْ زَوْجًا وأُمًّا وإخْوَةً أشِقّاءَ، فَلِلزَّوْجِ: النِصْفُ، ولِلْأُمِّ: السُدُسُ، وما بَقِيَ فَلِلْإخْوَةِ، فَإنْ كانُوا لِأُمٍّ فَقَطْ، فَلَهُمُ الثُلُثُ، فَإنْ تَرَكَتِ المَيِّتَةُ زَوْجًا وأُمًّا وأخَوَيْنِ لِأُمٍّ وإخْوَةً لِأبٍ وأُمٍّ، فَهَذِهِ الحِمارِيَّةُ، قالَ قَوْمٌ: فِيها لِلْإخْوَةِ لِلْأُمِّ: الثُلُثُ، ولا شَيْءَ لِلْإخْوَةِ الأشِقّاءِ، كَما لَوْ ماتَ رَجُلٌ وخَلَّفَ أخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وخَلَّفَ مِائَةَ أخٍ لِأبٍ وأُمٍّ، فَإنَّهُ يُعْطى الأخَوانِ الثُلُثَ، والمِائَةُ الثُلُثَيْنِ، فَيُفَضَّلُونَ بِالثُلُثِ عَلَيْهِمْ، وقالَ قَوْمٌ: الأُمُّ واحِدَةٌ وهَبْ أباهم كانَ حِمارًا، وأشْرَكُوا بَيْنَهم في الثُلُثِ، وسَمَّوْها أيْضًا: المُشْتَرَكَةَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ المَسْألَةُ أنْ لَوْ كانَ المَيِّتُ رَجُلًا، لِأنَّهُ يَبْقى لِلْأشِقّاءِ، ومَتى بَقِيَ لَهم شَيْءٌ فَلَيْسَ لَهم إلّا ما بَقِيَ، والثُلُثُ لِلْإخْوَةِ لِلْأُمِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب