الباحث القرآني
(p-١٧٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكم إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ولَدٌ فَإنْ كانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أوْ دَيْنٍ ولَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكم ولَدٌ فَإنْ كانَ لَكم ولَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أوْ دَيْنٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أوْرَدَ أقْسامَ الوَرَثَةِ في هَذِهِ الآياتِ عَلى أحْسَنِ التَّرْتِيباتِ، وذَلِكَ لِأنَّ الوارِثَ إمّا أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالمَيِّتِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ أوْ بِواسِطَةٍ، فَإنِ اتَّصَلَ بِهِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ فَسَبَبُ الِاتِّصالِ إمّا أنْ يَكُونَ هو النَّسَبَ أوِ الزَّوْجِيَّةَ، فَحَصَلَ هاهُنا أقْسامٌ ثَلاثَةٌ، أشْرَفُها وأعْلاها الِاتِّصالُ الحاصِلُ ابْتِداءً مِن جِهَةِ النَّسَبِ، وذَلِكَ هو قُرابَةُ الوِلادَةِ، ويَدْخُلُ فِيها الأوْلادُ والوالِدانِ، فاللَّهُ تَعالى قَدَّمَ حُكْمَ هَذا القِسْمِ.
وثانِيها: الِاتِّصالُ الحاصِلُ ابْتِداءً مِن جِهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وهَذا القِسْمُ مُتَأخِّرٌ في الشَّرَفِ عَنِ القِسْمِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ الأوَّلَ ذاتِيٌّ وهَذا الثّانِي عَرَضِيٌّ، والذّاتِيُّ أشْرَفُ مِنَ العَرَضِيِّ، وهَذا القِسْمُ هو المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الآنَ في تَفْسِيرِها.
وثالِثُها: الِاتِّصالُ الحاصِلُ بِواسِطَةِ الغَيْرِ وهو المُسَمّى بِالكَلالَةِ، وهَذا القِسْمُ مُتَأخِّرٌ عَنِ القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الأوْلادَ والوالِدَيْنِ والأزْواجَ والزَّوْجاتِ لا يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالكُلِّيَّةِ، وأمّا الكَلالَةُ فَقَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالكُلِّيَّةِ.
وثانِيها: أنَّ القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ يُنْسَبُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى المَيِّتِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، والكَلالَةُ تُنْسَبُ إلى المَيِّتِ بِواسِطَةٍ، والثّابِتُ ابْتِداءً أشْرَفُ مِنَ الثّابِتِ بِواسِطَةٍ.
وثالِثُها: أنَّ مُخالَطَةَ الإنْسانِ بِالوالِدَيْنِ والأوْلادِ والزَّوْجِ والزَّوْجَةِ أكْثَرُ وأتَمُّ مِن مُخالَطَتِهِ بِالكَلالَةِ. وكَثْرَةُ المُخالَطَةِ مَظِنَّةُ الأُلْفَةِ والشَّفَقَةِ، وذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الِاهْتِمامِ بِأحْوالِهِمْ، فَلِهَذِهِ الأسْبابِ الثَّلاثَةِ وأشْباهِها أخَّرَ اللَّهُ تَعالى ذِكْرَ مَوارِيثِ الكَلالَةِ عَنْ ذِكْرِ القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ فَما أحْسَنَ هَذا التَّرْتِيبَ وما أشَدَّ انْطِباقَهُ عَلى قَوانِينِ المَعْقُولاتِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا جَعَلَ في المُوجِبِ النِّسْبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ كَذَلِكَ جَعَلَ في المُوجِبِ السَّبَبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، واعْلَمْ أنَّ الواحِدَ والجَماعَةَ سَواءٌ في الرُّبُعِ والثُّمُنِ، والوَلَدُ مِن ذَلِكَ الزَّوْجِ ومِن غَيْرِهِ سَواءٌ في الرَّدِّ مِنَ النِّصْفِ إلى الرُّبُعِ أوْ مِنَ الرُّبُعِ إلى الثُّمُنِ، واعْلَمْ أنَّهُ لا فَرْقَ في الوَلَدِ بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثى ولا فَرْقَ بَيْنَ الِابْنِ وبَيْنَ ابْنِ الِابْنِ ولا بَيْنَ البِنْتِ وبَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غَسْلُ زَوْجَتِهِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّها بَعْدَ المَوْتِ زَوْجَتُهُ فَيَحِلُّ لَهُ غَسْلُها، بَيانُ أنَّها زَوْجَتُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكُمْ﴾ سَمّاها زَوْجَةً حالَ ما أثْبَتَ لِلزَّوْجِ نِصْفَ مالِها عِنْدَ مَوْتِها، إذا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ مالِها عِنْدَ مَوْتِها، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ بَعْدَ مَوْتِها، إذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَحِلَّ لَهُ غَسْلُها؛ لِأنَّهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ ما كانَ يَحِلُّ لَهُ غَسْلُها، وعِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ حَلَّ لَهُ غَسْلُها، والدَّوَرانُ دَلِيلُ العِلِّيَّةِ ظاهِرًا. وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّها لَيْسَتْ زَوْجَتُهُ ولا يَحِلُّ لَهُ غَسْلُها: بَيانُ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ أنَّها لَوْ كانَتْ زَوْجَتَهُ لَحَلَّ لَهُ بَعْدَ المَوْتِ وطْؤُها لِقَوْلِهِ: ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ﴾ [المؤمنون: ٦] وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ لا يَثْبُتَ حِلُّ الغَسْلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ إمّا مَعَ حِلِّ النَّظَرِ وهو باطِلٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«غُضَّ بَصَرَكَ إلّا عَنْ زَوْجَتِكَ» “ أوْ بِدُونِ حِلِّ النَّظَرِ وهو باطِلٌ بِالإجْماعِ.
والجَوابُ: لَمّا تَعارَضَتِ الآيَتانِ في ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وعَدَمِها وجَبَ التَّرْجِيحُ فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَكانَ قَوْلُهُ: ﴿نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكُمْ﴾ مَجازًا، ولَوْ كانَتْ زَوْجَةً مَعَ أنَّهُ لا يَحِلُّ وطْؤُها لَزِمَ التَّخْصِيصُ، وقَدْ ذَكَرْنا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ التَّخْصِيصَ أوْلى، فَكانَ التَّرْجِيحُ مِن جانِبِنا، وكَيْفَ وقَدْ عَلِمْنا أنَّ في صُوَرٍ كَثِيرَةٍ حَصَلَتِ (p-١٧٩)الزَّوْجِيَّةُ ولَمْ يَحْصُلْ حِلُّ الوَطْءِ مِثْلُ زَمانِ الحَيْضِ والنِّفاسِ ومِثْلُ نَهارِ رَمَضانَ، وعِنْدَ اشْتِغالِها بِأداءِ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ والحَجِّ المَفْرُوضِ، وعِنْدَ كَوْنِها في العِدَّةِ عَنِ الوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وأيْضًا فَقَدْ بَيَّنّا في الخِلافِيّاتِ أنَّ حِلَّ الوَطْءِ ثَبَتَ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ لِما فِيهِ مِنَ المَصالِحِ الكَثِيرَةِ، فَبَعْدَ المَوْتِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِن تِلْكَ المَصالِحِ، فَعادَ إلى أصْلِ الحُرْمَةِ، أمّا حِلُّ الغَسْلِ فَإنَّ ثُبُوتَهُ بَعْدَ المَوْتِ مَنشَأٌ لِلْمَصالِحِ الكَثِيرَةِ فَوَجَبَ القَوْلُ بِبَقائِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى فَضْلِ الرِّجالِ عَلى النِّساءِ لِأنَّهُ تَعالى حَيْثُ ذَكَرَ الرِّجالَ في هَذِهِ الآيَةِ ذَكَرَهم عَلى سَبِيلِ المُخاطَبَةِ، وحَيْثُ ذَكَرَ النِّساءَ ذَكَرَهُنَّ عَلى سَبِيلِ المُغايَبَةِ، وأيْضًا خاطَبَ اللَّهُ الرِّجالَ في هَذِهِ الآيَةِ سَبْعَ مَرّاتٍ، وذَكَرَ النِّساءَ فِيها عَلى سَبِيلِ الغَيْبَةِ أقَلَّ مِن ذَلِكَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى تَفْضِيلِ الرِّجالِ عَلى النِّساءِ، وما أحْسَنَ ما راعى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ؛ لِأنَّهُ تَعالى فَضَّلَ الرِّجالَ عَلى النِّساءِ في النَّصِيبِ، ونَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ عَلى مَزِيدِ فَضْلِهِمْ عَلَيْهِنَّ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأةٌ ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ فَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهم شُرَكاءُ في الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ وصِيَّةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في شَرْحِ تَوْرِيثِ القِسْمِ الثّالِثِ مِن أقْسامِ الوَرَثَةِ وهُمُ الكَلالَةُ، وهُمُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلى المَيِّتِ بِواسِطَةٍ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: كَثُرَ أقْوالُ الصَّحابَةِ في تَفْسِيرِ الكَلالَةِ، واخْتِيارُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّها عِبارَةٌ عَمَّنْ سِوى الوالِدَيْنِ والوَلَدِ، وهَذا هو المُخْتارُ والقَوْلُ الصَّحِيحُ، وأمّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإنَّهُ كانَ يَقُولُ: الكَلالَةُ مِن سِوى الوَلَدِ، ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا طُعِنَ قالَ: كُنْتُ أرى أنَّ الكَلالَةَ مَن لا ولَدَ لَهُ، وأنا أسْتَحِي أنْ أُخالِفَ أبا بَكْرٍ، الكَلالَةُ مَن عَدا الوالِدَ والوَلَدَ، وعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوايَةٌ أُخْرى: وهي التَّوَقُّفُ، وكانَ يَقُولُ: ثَلاثَةٌ لَأنْ يَكُونَ بَيَّنَها الرَّسُولُ ﷺ لَنا أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها: الكَلالَةُ، والخِلافَةُ، والرِّبا. والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِاشْتِقاقِ لَفْظِ الكَلالَةِ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: يُقالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلانٍ وفُلانٍ إذا تَباعَدَتِ القَرابَةُ، وحَمَلَ فُلانٌ عَلى فُلانٍ ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إذا تَباعَدَ. فَسُمِّيَتِ القَرابَةُ البَعِيدَةُ كَلالَةً مِن هَذا الوَجْهِ.
الثّانِي: يُقالُ: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلًّا وكَلالَةً إذا أعْيا وذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، ثُمَّ جَعَلُوا هَذا اللَّفْظَ اسْتِعارَةً مِنَ القَرابَةِ الحاصِلَةِ لا مِن جِهَةِ الوِلادَةِ، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ هَذِهِ القَرابَةَ حاصِلَةٌ بِواسِطَةِ الغَيْرِ فَيَكُونُ فِيها ضَعْفٌ، وبِهَذا يَظْهَرُ أنَّهُ يَبْعُدُ إدْخالُ الوالِدَيْنِ في الكَلالَةِ؛ لِأنَّ انْتِسابَهُما إلى المَيِّتِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ.
الثّالِثُ: الكَلالَةُ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الإحاطَةِ، ومِنهُ الإكْلِيلُ لِإحاطَتِهِ بِالرَّأْسِ، ومِنهُ الكُلُّ لِإحاطَتِهِ بِما يَدْخَلُ فِيهِ، ويُقالُ تَكَلَّلَ السَّحابُ إذا صارَ مُحِيطًا بِالجَوانِبِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: مَن عَدا الوالِدِ والوَلَدِ إنَّما (p-١٨٠)سُمُّوا بِالكَلالَةِ؛ لِأنَّهم كالدّائِرَةِ المُحِيطَةِ بِالإنْسانِ وكالإكْلِيلِ المُحِيطِ بِرَأْسِهِ: أمّا قَرابَةُ الوِلادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإنَّ فِيها يَتَفَرَّعُ البَعْضُ عَنِ البَعْضِ: ويَتَوَلَّدُ البَعْضُ مِنَ البَعْضِ، كالشَّيْءِ الواحِدِ الَّذِي يَتَزايَدُ عَلى نَسَقٍ واحِدٍ، ولِهَذا قالَ الشّاعِرُ:
؎نَسَبٌ تَتابَعَ كابِرًا عَنْ كابِرٍ كالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلى أُنْبُوبِ
فَأمّا القَرابَةُ المُغايِرَةُ لِقَرابَةِ الوِلادَةِ، وهي كالإخْوَةِ والأخَواتِ والأعْمامِ والعَمّاتِ، فَإنَّما يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصالٌ وإحاطَةٌ بِالمَنسُوبِ إلَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ الِاشْتِقاقِيَّةِ أنَّ الكَلالَةَ عِبارَةٌ عَمَّنْ عَدا الوالِدَيْنِ والوَلَدِ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ما ذَكَرَ لَفْظَ الكَلالَةِ في كِتابِهِ إلّا مَرَّتَيْنِ، في هَذِهِ السُّورَةِ: أحَدُهُما في هَذِهِ الآيَةِ، والثّانِي: في آخِرِ السُّورَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ﴾ [النساء: ١٧٦] واحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكَلالَةَ مَن لا ولَدَ لَهُ فَقَطْ، قالَ: لِأنَّ المَذْكُورَ هَهُنا في تَفْسِيرِ الكَلالَةِ: هو أنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ، إلّا أنّا نَقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الكَلالَةَ مَن لا ولَدَ لَهُ ولا والِدَ. وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَكَمَ بِتَوْرِيثِ الإخْوَةِ والأخَواتِ حالَ كَوْنِ المَيِّتِ كَلالَةً، ولا شَكَّ أنَّ الإخْوَةَ والأخَواتِ لا يَرِثُونَ حالَ وُجُودِ الأبَوَيْنِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ المَيِّتُ كَلالَةً حالَ وُجُودِ الأبَوَيْنِ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ حُكْمَ الوَلَدِ والوالِدَيْنِ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ أتْبَعَها بِذِكْرِ الكَلالَةِ، وهَذا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ الكَلالَةُ مَن عَدا الوالِدَيْنِ والوَلَدِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
؎ورِثْتُمْ قَناةَ المُلْكِ لا عَنْ كَلالَةٍ ∗∗∗ عَنِ ابْنَيْ مَنافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وهاشِمِ
دَلَّ هَذا البَيْتُ عَلى أنَّهم ما ورِثُوا المُلْكَ عَنِ الكَلالَةِ، ودَلَّ عَلى أنَّهم ورِثُوها عَنْ آبائِهِمْ، وهَذا يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ الأبُ داخِلًا في الكَلالَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الكَلالَةُ قَدْ تُجْعَلُ وصْفًا لِلْوارِثِ ولِلْمُوَرَّثِ، فَإذا جَعَلْناها وصْفًا لِلْوارِثِ فالمُرادُ مَن سِوى الأوْلادِ والوالِدَيْنِ، وإذا جَعَلْناها وصْفًا لِلْمُوَرَّثِ، فالمُرادُ الَّذِي يَرِثُهُ مَن سِوى الوالِدَيْنِ والأوْلادِ، أمّا بَيانُ أنَّ هَذا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ في الوارِثِ فالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رَوى جابِرٌ قالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أُشْفِيتُ مِنهُ عَلى المَوْتِ فَأتانِي النَّبِيُّ ﷺ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلّا كَلالَةٌ، وأرادَ بِهِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ والِدٌ ولا ولَدٌ، وأمّا أنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في المُوَرَّثِ فالبَيْتُ الَّذِي رَوَيْناهُ عَنِ الفَرَزْدَقِ، فَإنَّ مَعْناهُ أنَّكم ما ورِثْتُمُ المُلْكَ عَنِ الأعْمامِ، بَلْ عَنِ الآباءِ فَسَمّى العَمَّ كَلالَةً وهو هَهُنا مُوَرِّثٌ لا وارِثٌ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المُرادُ مِنَ الكَلالَةِ في هَذِهِ الآيَةِ المَيِّتُ، الَّذِي لا يَخْلُفُ الوالِدَيْنِ والوَلَدَ؛ لِأنَّ هَذا الوَصْفَ إنَّما كانَ مُعْتَبَرًا في المَيِّتِ الَّذِي هو المُوَرِّثُ لا في الوارِثِ الَّذِي لا يَخْتَلِفُ حالُهُ بِسَبَبِ أنَّ لَهُ ولَدًا أوْ والِدًا أمْ لا.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُقالُ رَجُلٌ كَلالَةٌ، وامْرَأةٌ كَلالَةٌ، وقَوْمٌ كَلالَةٌ، لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ كالدَّلالَةِ والوَكالَةِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا جَعَلْناها صِفَةً لِلْوارِثِ أوِ المُوَرَّثِ كانَ بِمَعْنى ذِي كَلالَةٍ، كَما يَقُولُ: فُلانٌ مِن قَرابَتِي يُرِيدُ مِن ذَوِي قَرابَتِي، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً كالهَجاجَةِ والفَقاقَةِ لِلْأحْمَقِ.
(p-١٨١)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿يُورَثُ﴾ فِيهِ احْتِمالانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِن ورِثَهُ الرَّجُلُ يَرِثُهُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرَّجُلُ هو المَوْرُوثُ مِنهُ، وفي انْتِصابِ ”كَلالَةً“ وُجُوهٌ:
أحَدُها: النَّصْبُ عَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ: يُورَثُ حالَ كَوْنِهِ كَلالَةً، والكَلالَةُ مَصْدَرٌ وقَعَ مَوْقِعَ الحالِ تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ مُتَكَلِّلَ النَّسَبِ، وثانِيها: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿يُورَثُ﴾ صِفَةً لِرَجُلٍ، و﴿كَلالَةً﴾ خَبَرَ كانَ، والتَّقْدِيرُ وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ مِنهُ كَلالَةً.
وثالِثُها: أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أيْ يُورَثُ لِأجْلِ كَوْنِهِ كَلالَةً.
الِاحْتِمالُ الثّانِي: في قَوْلِهِ: ﴿يُورَثُ﴾ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِن أوْرَثَ يُورِثُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرَّجُلُ هو الوارِثَ، وانْتِصابُ ”كَلالَةً“ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا يَكُونُ عَلى الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ: يُورِثُ ويُوَرِّثُ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ عَلى الفاعِلِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَهُنا سُؤالٌ: وهو أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأةٌ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ولَهُ أخٌ﴾ فَكَنّى عَنِ الرَّجُلِ وما كَنّى عَنِ المَرْأةِ فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟
والجَوابُ قالَ الفَرّاءُ: هَذا جائِزٌ فَإنَّهُ إذا جاءَ حَرْفانِ في مَعْنًى واحِدٍ ”بِأوْ“ جازَ إسْنادُ التَّفْسِيرِ إلى أيِّهِما أُرِيدَ، ويَجُوزُ إسْنادُهُ إلَيْهِما أيْضًا، تَقُولُ: مَن كانَ لَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ، يَذْهَبُ إلى الأخِ، أوْ فَلْيَصِلْها يَذْهَبُ إلى الأُخْتِ، وإنْ قُلْتَ فَلْيَصِلْهُما جازَ أيْضًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ هَهُنا عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الأخِ والأُخْتِ: الأخُ والأُخْتُ مِنَ الأُمِّ، وكانَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ يَقْرَأُ: ”ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ مِن أُمٍّ“، وإنَّما حَكَمُوا بِذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ السُّورَةِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] فَأثْبَتَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، ولِلْإخْوَةِ كُلَّ المالِ، وهَهُنا أثْبَتَ لِلْإخْوَةِ والأخَواتِ الثُّلُثَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الإخْوَةِ والأخَواتِ هَهُنا غَيْرَ الإخْوَةِ والأخَواتِ في تِلْكَ الآيَةِ، فالمُرادُ هَهُنا الإخْوَةُ والأخَواتُ مِنَ الأُمِّ فَقَطْ، وهُناكَ الإخْوَةُ والأخَواتُ مِنَ الأبِ والأُمِّ، أوْ مِنَ الأبِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهم شُرَكاءُ في الثُّلُثِ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ نَصِيبَهم كَيْفَما كانُوا لا يَزْدادُ عَلى الثُّلُثِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي جَوازَ الوَصِيَّةِ بِكُلِّ المالِ وبِأيِّ بَعْضٍ أُرِيدَ، ومِمّا يُوافِقُ هَذِهِ الآيَةَ مِنَ الأحادِيثِ ما رَوى نافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي بِهِ ثُمَّ تَمْضِي عَلَيْهِ لَيْلَتانِ إلّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» “ فَهَذا الحَدِيثُ أيْضًا يَدُلُّ عَلى الإطْلاقِ في الوَصِيَّةِ كَيْفَ أُرِيدَ، إلّا أنّا نَقُولُ: هَذِهِ العُمُوماتُ مَخْصُوصَةٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: في قَدْرِ الوَصِيَّةِ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ الوَصِيَّةُ بِكُلِّ المالِ بِدَلالَةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، أمّا القُرْآنُ فالآياتُ الدّالَّةُ عَلى المِيراثِ مُجْمَلًا ومُفَصَّلًا، أمّا المُجْمَلُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ الوَصِيَّةَ بِكُلِّ المالِ تَقْتَضِي نَسْخَ هَذا النَّصِّ، وأمّا المُفَصَّلُ فَهي آياتُ المَوارِيثِ كَقَوْلِهِ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ﴾ وأمّا السُّنَّةُ فَهي الحَدِيثُ المَشْهُورُ في هَذا البابِ، وهو (p-١٨٢)قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ إنْ تَتْرُكْ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» “ .
واعْلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ يَدُلُّ عَلى أحْكامٍ: أحَدُها: أنَّ الوَصِيَّةَ غَيْرُ جائِزَةٍ في أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وثانِيها: أنَّ الأوْلى النُّقْصانُ عَنِ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ: ”«والثُّلُثُ كَثِيرٌ» “
وثالِثُها: أنَّهُ إذا تَرَكَ القَلِيلَ مِنَ المالِ ووَرَثَتُهُ فُقَراءُ فالأفْضَلُ لَهُ أنْ لا يُوصِيَ بِشَيْءٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنْ تَتْرُكْ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» “ .
ورابِعُها: فِيهِ دَلالَةٌ عَلى جَوازِ الوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ المالِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ وارِثٌ؛ لِأنَّ المَنعَ مِنهُ لِأجْلِ الوَرَثَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِمْ وجَبَ الجَوازُ.
الوَجْهُ الثّانِي: تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ في المُوصى لَهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ الوَصِيَّةُ لِوارِثٍ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ألا لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» “ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إذا أخَّرَ الزَّكاةَ والحَجَّ حَتّى ماتَ يَجِبُ إخْراجُهُما مِنَ التَّرِكَةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يَجِبُ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ: أنَّ الزَّكاةَ الواجِبَةَ والحَجَّ الواجِبَ دَيْنٌ فَيَجِبُ إخْراجُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ دَيْنٌ؛ لِأنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، والشَّرْعُ أيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أمّا اللُّغَةُ فَهو أنَّ الدَّيْنَ عِبارَةٌ عَنِ الأمْرِ المُوجِبِ لِلِانْقِيادِ، قِيلَ في الدَّعَواتِ المَشْهُورَةِ؛ يا مَن دانَتْ لَهُ الرِّقابُ، أيِ انْقادَتْ، وأمّا الشَّرْعُ فَلِأنَّهُ رُوِيَ أنَّ الخَثْعَمِيَّةَ لَمّا سَألَتِ الرَّسُولَ ﷺ عَنِ الحَجِّ الَّذِي كانَ عَلى أبِيها، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أرَأيْتِ لَوْ كانَ عَلى أبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أكانَ يُجْزِئُ ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَدَيْنُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضى» “ إذا ثَبَتَ أنَّهُ دَيْنٌ وجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلى المِيراثِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: المَذْكُورُ في الآيَةِ الدَّيْنُ المُطْلَقُ، والنَّبِيُّ ﷺ سَمّى الحَجَّ دَيْنًا لِلَّهِ، والِاسْمُ المُطْلَقُ لا يَتَناوَلُ المُقَيَّدَ.
قُلْنا: هَذا في غايَةِ الرَّكاكَةِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ هَذا دَيْنٌ، وثَبَتَ بِحُكْمِ الآيَةِ أنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلى المِيراثِ لَزِمَ المَقْصُودُ لا مَحالَةَ، وحَدِيثُ الإطْلاقِ والتَّقْيِيدِ كَلامٌ مُهْمَلٌ لا يَقْدَحُ في هَذا المَطْلُوبِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ مُضارٍّ﴾ نَصْبٌ عَلى الحالِ، أيْ يُوصِي بِها وهو غَيْرَ مُضارٍّ لِوَرَثَتِهِ.
واعْلَمْ أنَّ الضِّرارَ في الوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنْ يُوصِيَ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وثانِيها: أنْ يُقِرَّ بِكُلِّ مالِهِ أوْ بِبَعْضِهِ لِأجْنَبِيٍّ.
وثالِثُها: أنْ يُقِرَّ عَلى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيراثِ عَنِ الوَرَثَةِ.
ورابِعُها: أنْ يُقِرَّ بِأنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كانَ لَهُ عَلى غَيْرِهِ قَدِ اسْتَوْفاهُ ووَصَلَ إلَيْهِ.
وخامِسُها: أنْ يَبِيعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ بَخْسٍ أوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِثَمَنٍ غالٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أنْ لا يَصِلَ المالُ إلى الوَرَثَةِ.
وسادِسُها: أنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لا لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ حُقُوقِ الوَرَثَةِ، فَهَذا هو وجْهُ الإضْرارِ في الوَصِيَّةِ.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ قالُوا: الأوْلى أنْ يُوصِيَ بِأقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، قالَ عَلِيٌّ: لَأنْ أُوصِيَ بِالخُمُسِ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الرُّبُعِ. ولَأنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ. وقالَ النَّخَعِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُوصِ، وقُبِضَ أبُو بَكْرٍ فَوَصّى، فَإنْ أوْصى الإنْسانُ فَحَسَنٌ، وإنْ لَمْ يُوصِ فَحَسَنٌ أيْضًا.
(p-١٨٣)واعْلَمْ أنَّ الأوْلى بِالإنْسانِ أنْ يَنْظُرَ في قَدْرِ ما يَخْلُفُ ومَن يَخْلُفُ، ثُمَّ يَجْعَلُ وصِيَّتَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَإنْ كانَ مالُهُ قَلِيلًا وفي الوَرَثَةِ كَثْرَةٌ لَمْ يُوصِ، وإنْ كانَ في المالِ كَثْرَةٌ أوْصى بِحَسَبِ المالِ وبِحَسَبِ حاجَتِهِمْ بَعْدَهُ في القِلَّةِ والكَثْرَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: الإضْرارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبائِرِ. واعْلَمْ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ القُرْآنُ والسُّنَّةُ والمَعْقُولُ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في الوَصِيَّةِ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ قالَ في الوَصِيَّةِ، وأمّا السُّنَّةُ فَرَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«الإضْرارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبائِرِ» “ وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وجارَ في وصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ في وصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ» “ وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن قَطَعَ مِيراثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيراثَهُ مِنَ الجَنَّةِ» “ ومَعْلُومٌ أنَّ الزِّيادَةَ في الوَصِيَّةِ قَطْعٌ مِنَ المِيراثِ.
وأمّا المَعْقُولُ فَهو أنَّ مُخالَفَةَ أمْرِ اللَّهِ عِنْدَ القُرْبِ مِنَ المَوْتِ يَدُلُّ عَلى جَراءَةٍ شَدِيدَةٍ عَلى اللَّهِ تَعالى، وتَمَرُّدٍ عَظِيمٍ عَنِ الِانْقِيادِ لِتَكالِيفِهِ، وذَلِكَ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: كَيْفَ انْتِصابُ قَوْلِهِ: ﴿وصِيَّةٍ﴾ .
والجَوابُ فِيهِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وصِيَّةً، كَقَوْلِهِ: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ .
الثّانِي: أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً بِقَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ مُضارٍّ﴾ أيْ لا تُضارُّ وصِيَّةُ اللَّهِ في أنَّ الوَصِيَّةَ يَجِبُ أنْ لا تُزادَ عَلى الثُّلُثِ.
الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وصِيَّةً مِنَ اللَّهِ بِالأوْلادِ وأنْ لا يَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ النّاسِ بِسَبَبِ الإسْرافِ في الوَصِيَّةِ، ويَنْصُرُ هَذا الوَجْهَ قِراءَةُ الحَسَنِ: ”غَيْرَ مُضارِّ وصِيَّةٍ“ بِالإضافَةِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ جَعَلَ خاتِمَةَ الآيَةِ الأُولى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ وخاتِمَةَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ .
الجَوابُ: أنَّ لَفْظَ الفَرْضِ أقْوى وآكَدُ مِن لَفْظِ الوَصِيَّةِ، فَخَتَمَ شَرْحَ مِيراثِ الأوْلادِ بِذِكْرِ الفَرِيضَةِ، وخَتَمَ شَرْحَ مِيراثِ الكَلالَةِ بِالوَصِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ الكُلَّ وإنْ كانَ واجِبَ الرِّعايَةِ إلّا أنَّ القِسْمَ الأوَّلَ وهو رِعايَةُ حالِ الأوْلادِ أوْلى، ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أيْ عَلِيمٌ بِمَن جارَ أوْ عَدَلَ في وصِيَّتِهِ ﴿حَلِيمٌ﴾ عَلى الجائِرِ لا يُعاجِلُهُ بِالعُقُوبَةِ وهَذا وعِيدٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَ ٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ یَكُن لَّهُنَّ وَلَدࣱۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدࣱ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصِینَ بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنࣲۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ یَكُن لَّكُمۡ وَلَدࣱۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدࣱ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ تُوصُونَ بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنࣲۗ وَإِن كَانَ رَجُلࣱ یُورَثُ كَلَـٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةࣱ وَلَهُۥۤ أَخٌ أَوۡ أُخۡتࣱ فَلِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوۤا۟ أَكۡثَرَ مِن ذَ ٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَاۤءُ فِی ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصَىٰ بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنٍ غَیۡرَ مُضَاۤرࣲّۚ وَصِیَّةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق