الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ كَلامًا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ لِلْمُتَّقِينَ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِإرْدافِ صِفَتِهِمُ الإجْمالِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ بِهِ المُرادُ، ويَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَبْدَأُ اسْتِطْرادٍ لِتَصْنِيفِ أصْنافِ النّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِهِمْ في تَلَقِّي الكِتابِ المُنَوَّهِ بِهِ إلى أرْبَعَةِ أصْنافٍ بَعْدَ أنْ كانُوا قَبْلَ الهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ، فَقَدْ كانُوا قَبْلَ الهِجْرَةِ صِنْفًا مُؤْمِنِينَ وصِنْفًا كافِرِينَ مُصارِحِينَ، فَزادَ بَعْدَ الهِجْرَةِ صِنْفانِ: هُما المُنافِقُونَ وأهْلُ الكِتابِ، فالمُشْرِكُونَ الصُّرَحاءُ هم أعْداءُ الإسْلامِ الأوَّلُونَ، والمُنافِقُونَ ظَهَرُوا بِالمَدِينَةِ فاعْتَزَّ بِهِمُ الأوَّلُونَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ المُسْلِمُونَ بِدارِ الكُفْرِ، وأهْلُ الكِتابِ كانُوا في شُغْلٍ عَنِ التَّصَدِّي لِمُناوَأةِ الإسْلامِ، فَلَمّا أصْبَحَ الإسْلامُ في المَدِينَةِ بِجِوارِهِمْ أوْجَسُوا خِيفَةً فالتَفُّوا مَعَ المُنافِقِينَ وظاهَرُوا المُشْرِكِينَ. وقَدْ أُشِيرَ إلى أنَّ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ فَرِيقانِ: فَرِيقٌ هُمُ المُتَّقُونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا مِمَّنْ كانُوا مُشْرِكِينَ وكانَ القُرْآنُ هُدًى لَهم بِقَرِينَةِ مُقابَلَةِ هَذا المَوْصُولِ بِالمَوْصُولِ الآخَرِ المَعْطُوفِ بِقَوْلِهِ: ”﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] . . .“ إلَخْ فالمُثْنى عَلَيْهِمْ هُنا هُمُ الَّذِينَ كانُوا مُشْرِكِينَ فَسَمِعُوا الدَّعْوَةَ المُحَمَّدِيَّةَ فَتَدَبَّرُوا في النَّجاةِ واتَّقَوْا عاقِبَةَ الشِّرْكِ فَآمَنُوا، فالباعِثُ الَّذِي بَعَثَهم عَلى الإسْلامِ هو التَّقْوى دُونَ الطَّمَعِ أوِ التَّجْرِبَةِ، فَوائِلُ بْنُ حُجْرٍ مَثَلًا لَمّا جاءَ مِنَ اليَمَنِ راغِبًا في الإسْلامِ هو مِنَ المُتَّقِينَ، ومُسَيْلِمَةُ حِينَ وفَدَ مَعَ (p-٢٢٩)بَنِي حَنِيفَةَ مُضْمِرَ العَداءِ طامِعًا في المُلْكِ هو مِن غَيْرِ المُتَّقِينَ. وفَرِيقٌ آخَرُ يَجِيءُ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] الآياتِ. وقَدْ أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ لِلثَّناءِ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الإشْراكِ بِأنْ كانَ رائِدُهم إلى الإيمانِ هو التَّقْوى والنَّظَرُ في العاقِبَةِ، ولِذَلِكَ وصَفَهم بِقَوْلِهِ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ أيْ بَعْدَ أنْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِالبَعْثِ والمَعادِ كَما حَكى عَنْهُمُ القُرْآنُ في آياتٍ كَثِيرَةٍ، ولِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ في الإخْبارِ عَنْهم بِهَذِهِ الصِّلاتِ الثَّلاثِ صِيغَةُ المُضارِعِ الدّالَّةُ عَلى التَّجَدُّدِ إيذانًا بِتَجَدُّدِ إيمانِهِمْ بِالغَيْبِ وتَجَدُّدِ إقامَتِهِمُ الصَّلاةَ والإنْفاقَ إذْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ إلّا بَعْدَ أنْ جاءَهم هُدى القُرْآنِ. وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ كَوْنَهُ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً وكَوْنَ ”أُولَئِكَ عَلى هُدًى“ خَبَرَهُ. وعِنْدِي أنَّهُ تَجْوِيزٌ لِما لا يَلِيقُ، إذِ الِاسْتِئْنافُ يَقْتَضِي الِانْتِقالَ مِن غَرَضٍ إلى آخَرَ، وهو المُسَمّى بِالِاقْتِضابِ وإنَّما يَحْسُنُ في البَلاغَةِ إذا أُشِيعَ الغَرَضُ الأوَّلُ وأُفِيضَ فِيهِ حَتّى أُوعِبَ أوْ حَتّى خِيفَتْ سَآمَةُ السّامِعِ، وذَلِكَ مَوْقِعُ أمّا بَعْدُ أوْ كَلِمَةُ هَذا ونَحْوُهُما، وإلّا كانَ تَقْصِيرًا مِنَ الخَطِيبِ والمُتَكَلِّمِ لا سِيَّما وأُسْلُوبُ الكِتابِ أوْسَعُ مِن أُسْلُوبِ الخَطابَةِ لِأنَّ الإطالَةَ في أغْراضِهِ أمْكَنُ. والغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الغَيْبَةِ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ [يوسف: ٥٢]، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخافُهُ بِالغَيْبِ ورُبَّما قالُوا بِظَهْرِ الغَيْبِ قالَ الحُطَيْئَةُ: ؎كَيْفَ الهِجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ مِن آلِ لامَ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي وفِي الحَدِيثِ «دَعْوَةُ المُؤْمِنِ لِأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجابَةٌ» والمُرادُ بِالغَيْبِ ما لا يُدْرَكُ بِالحَواسِّ مِمّا أخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ صَرِيحًا بِأنَّهُ واقِعٌ أوْ سَيَقَعُ مِثْلَ وُجُودِ اللَّهِ، وصِفاتِهِ، ووُجُودِ المَلائِكَةِ، والشَّياطِينِ، وأشْراطِ السّاعَةِ، وما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. فَإنْ فَسَّرَ الغَيْبَ بِالمَصْدَرِ أيِ الغِيبَةِ كانَتِ الباءُ لِلْمُلابَسَةِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فالوَصْفُ تَعْرِيضٌ بِالمُنافِقِينَ، وإنْ فَسَّرَ الغَيْبَ بِالِاسْمِ وهو ما غابَ عَنِ الحِسِّ مِنَ العَوالِمِ العُلْوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، كانَتِ الباءُ مُتَعَلِّقَةً بِيُؤْمِنُونَ، فالمَعْنى حِينَئِذٍ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أخْبَرَ الرَّسُولُ مِن غَيْرِ عالَمِ الشَّهادَةِ كالإيمانِ بِالمَلائِكَةِ والبَعْثِ والرُّوحِ ونَحْوِ ذَلِكَ. وفي حَدِيثِ الإيمانِ («أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» ) . وهَذِهِ كُلُّها مِن عَوالِمِ الغَيْبِ، كانَ الوَصْفُ تَعْرِيضًا بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أنْكَرُوا البَعْثَ وقالُوا ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٧] فَجَمَعَ هَذا الوَصْفَ بِالصَّراحَةِ ثَناءً عَلى المُؤْمِنِينَ (p-٢٣٠)وبِالتَّعْرِيضِ ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ بِعَدَمِ الِاهْتِداءِ بِالكِتابِ، وذَمًّا لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالظّاهِرِ وهم مُبْطِنُونَ الكُفْرَ، وسَيُعَقِّبُ هَذا التَّعْرِيضَ بِصَرِيحِ وصْفِهِمْ في قَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] الآياتِ، وقَوْلِهِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٨] ويُؤْمِنُونَ مَعْناهُ يُصَدِّقُونَ، وآمَنَ مَزِيدُ أمِنَ وهَمْزَتُهُ المَزِيدَةُ دَلَّتْ عَلى التَّعْدِيَةِ، فَأصْلُ آمَنَ تَعْدِيَةُ أمِنَ ضِدَّ خافَ فَآمَنَ مَعْناهُ جَعَلَ غَيْرَهُ آمِنًا ثُمَّ أطْلَقُوا آمَنَ عَلى مَعْنى صَدَّقَ ووَثِقَ حَكى أبُو زَيْدٍ عَنِ العَرَبِ ”ما آمَنتُ أنْ أجِدَ صَحابَةً“ يَقُولُهُ المُسافِرُ إذا تَأخَّرَ عَنِ السَّفَرِ، فَصارَ آمَنَ بِمَعْنى صَدَّقَ عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ آمَنَ مُخْبِرَهُ مِن أنْ يَكْذِبَهُ، أوْ عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ آمَنَ نَفْسَهُ مِن أنْ تَخافَ مِن كَذِبِ الخَبَرِ مُبالَغَةً في أمِنَ كَأقْدَمَ عَلى الشَّيْءِ بِمَعْنى تَقَدَّمَ إلَيْهِ وعَمِدَ إلَيْهِ، ثُمَّ صارَ فِعْلًا قاصِرًا إمّا عَلى مُراعاةِ حَذْفِ المَفْعُولِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ بِحَيْثُ نَزَلَ الفِعْلُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، وإمّا عَلى مُراعاةِ المُبالَغَةِ المَذْكُورَةِ أيْ حَصَلَ لَهُ الأمْنُ أيْ مِنَ الشَّكِّ واضْطِرابِ النَّفْسِ واطْمَأنَّ لِذَلِكَ لِأنَّ مَعْنى الأمْنِ والِاطْمِئْنانِ مُتَقارِبٌ، ثُمَّ إنَّهم يُضَمِّنُونَ آمَنَ مَعْنى أقَرَّ فَيَقُولُونَ آمَنَ بِكَذا أيْ أقَرَّ بِهِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، ويُضَمِّنُونَهُ مَعْنى اطْمَأنَّ فَيَقُولُونَ آمَنَ لَهُ ﴿أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] ومَجِيءُ صِلَةِ المَوْصُولِ فِعْلًا مُضارِعًا لِإفادَةِ أنَّ إيمانَهم مُسْتَمِرٌّ مُتَجَدِّدٌ كَما عَلِمْتَ آنِفًا، أيْ لا يَطْرَأُ عَلى إيمانِهِمْ شَكٌّ ولا رِيبَةٌ. وخَصَّ بِالذِّكْرِ الإيمانَ بِالغَيْبِ دُونَ غَيْرِهِ مِن مُتَعَلِّقاتِ الإيمانِ لِأنَّ الإيمانَ بِالغَيْبِ أيْ ما غابَ عَنِ الحِسِّ هو الأصْلُ في اعْتِقادِ إمْكانِ ما تُخْبِرُ بِهِ الرُّسُلَ عَنْ وُجُودِ اللَّهِ والعالَمِ العُلْوِيِّ، فَإذا آمَنَ بِهِ المَرْءُ تَصَدّى لِسَماعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ولِلنَّظَرِ فِيما يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَسَهُلَ عَلَيْهِ إدْراكُ الأدِلَّةِ، وأمّا مَن يَعْتَقِدُ أنْ لَيْسَ وراءَ عالَمِ المادِّيّاتِ عالَمٌ آخَرُ وهو ما وراءَ الطَّبِيعَةِ فَقَدْ راضَ نَفْسَهُ عَلى الإعْراضِ عَنِ الدَّعْوَةِ إلى الإيمانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وعالَمِ الآخِرَةِ كَما كانَ حالُ المادِّيِّينَ وهُمُ المُسَمَّوْنَ بِالدَّهْرِيِّينَ الَّذِينَ قالُوا ﴿وما يُهْلِكُنا إلّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] وقَرِيبٌ مِنَ اعْتِقادِهِمُ اعْتِقادُ المُشْرِكِينَ ولِذَلِكَ عَبَدُوا الأصْنامَ المُجَسَّمَةَ ومُعْظَمُ العَرَبِ كانُوا يُثْبِتُونَ مِنَ الغَيْبِ وُجُودَ الخالِقِ وبَعْضُهم يُثْبِتُ المَلائِكَةَ ولا يُؤْمِنُونَ بِسِوى ذَلِكَ. والكَلامُ عَلى حَقِيقَةِ الإيمانِ لَيْسَ هَذا مَوْضِعُهُ ويَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى وما هم بِمُؤْمِنِينَ * * * (p-٢٣١)﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ الإقامَةُ مَصْدَرُ أقامَ الَّذِي هو مُعَدّى قامَ، عُدِّيَ إلَيْهِ بِالهَمْزَةِ الدّالَّةِ عَلى الجُمَلِ، والإقامَةُ جَعْلُها قائِمَةً، مَأْخُوذٌ مِن قامَتِ السُّوقُ إذا نَفَقَتْ وتَداوَلَ النّاسُ فِيها البَيْعَ والشِّراءَ وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَصْرِيحُ بَعْضِ أهْلِ اللِّسانِ بِهَذا المُقَدَّرِ. قالَ أيْمَنُ بْنُ خُرَيْمٍ الأسَدِيُّ: ؎أقامَتْ غَزالَةُ سُوقَ الضِّرابْ لِأهْلِ العِراقَيْنِ حَوْلًا قَمِيطًا وأصْلُ القِيامِ في اللُّغَةِ هو الِانْتِصابُ المُضادُّ لِلْجُلُوسِ والِاضْطِجاعِ، وإنَّما يَقُومُ القائِمُ لِقَصْدِ عَمَلٍ صَعْبٍ لا يَتَأتّى مِن قُعُودٍ، فَيَقُومُ الخَطِيبُ ويَقُومُ العامِلُ ويَقُومُ الصّانِعُ ويَقُومُ الماشِي فَكانَ لِلْقِيامِ لَوازِمٌ عُرْفِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِن عَوارِضِهِ اللّازِمَةِ ولِذَلِكَ أُطْلِقَ مَجازًا عَلى النَّشاطِ في قَوْلِهِمْ قامَ بِالأمْرِ، ومِن أشْهَرِ اسْتِعْمالِ هَذا المَجازِ قَوْلِهِمْ قامَتِ السُّوقُ وقامَتِ الحَرْبُ، وقالُوا في ضِدِّهِ رَكَدَتْ ونامَتْ، ويُفِيدُ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعْنًى مُناسِبًا لِنَشاطِهِ المَجازِيِّ وهو مِن قَبِيلِ المَجازِ المُرْسَلِ وشاعَ فِيها حَتّى ساوى الحَقِيقَةَ فَصارَتْ كالحَقائِقِ ولِذَلِكَ صَحَّ بِناءُ المَجازِ الثّانِي والِاسْتِعارَةِ عَلَيْها، فَإقامَةُ الصَّلاةِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ شَبَّهَتِ المُواظَبَةَ عَلى الصَّلَواتِ والعِنايَةَ بِها بِجَعْلِ الشَّيْءِ قائِمًا، وأحْسَبُ أنَّ تَعْلِيقَ هَذا الفِعْلِ بِالصَّلاةِ مِن مُصْطَلَحاتِ القُرْآنِ وقَدْ جاءَ بِهِ القُرْآنُ في أوائِلِ نُزُولِهِ فَقَدْ ورَدَ في سُورَةِ المُزَّمِّلِ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وهي ثالِثَةُ السُّوَرِ نُزُولًا. وذَكَرَ صاحِبُ الكَشّافِ وُجُوهًا أُخَرَ بَعِيدَةً عَنْ مَساقِ الآيَةِ. وقَدْ عَبَّرَ هُنا بِالمُضارِعِ كَما وقَعَ في قَوْلِهِ يُؤْمِنُونَ لِيَصْلُحَ ذَلِكَ لِلَّذِينَ أقامُوا الصَّلاةَ فِيما مَضى وهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِن قَبْلِ نُزُولِ الآيَةِ، والَّذِينَ هم بِصَدَدِ إقامَةِ الصَّلاةِ وهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ، والَّذِينَ سَيَهْتَدُونَ إلى ذَلِكَ وهُمُ الَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ إذِ المُضارِعُ صالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ لِأنَّ مَن فَعَلَ الصَّلاةَ في الماضِي فَهو يَفْعَلُها الآنَ وغَدًا، ومَن لَمْ يَفْعَلْها فَهو إمّا يَفْعَلُها الآنَ أوْ غَدًا وجَمِيعُ أقْسامِ هَذا النَّوْعِ جُعِلَ القُرْآنُ هُدًى لَهم. وقَدْ حَصَلَ مِن إفادَةِ المُضارِعِ التَّجَدُّدَ (p-٢٣٢)تَأْكِيدُ ما دَلَّ عَلَيْهِ مادَّةُ الإقامَةِ مِنَ المُواظَبَةِ والتَّكَرُّرِ لِيَكُونَ الثَّناءُ عَلَيْهِمْ بِالمُواظَبَةِ عَلى الصَّلاةِ أصْرَحَ. والصَّلاةُ اسْمٌ جامِدٌ بِوَزْنِ فَعَلَةَ مُحَرَّكُ العَيْنِ (صَلَوَةَ) ورَدَ هَذا اللَّفْظُ في كَلامِ العَرَبِ بِمَعْنى الدُّعاءِ كَقَوْلِ الأعْشى: ؎تَقُولُ بِنْتِي وقَدْ يَمَّمْتُ مُرْتَحِلًا ∗∗∗ يا رَبِّ جَنِّبْ أبِي الأوْصابَ والوَجَعا ؎عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فاغْتَمِضِي ∗∗∗ جَفْنًا فَإنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعا ووَرَدَ بِمَعْنى العِبادَةِ في قَوْلِ الأعْشى: ؎يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَلِي ∗∗∗ كِ طَوْرًا سُجُودًا وطَوْرًا جُؤارا فَأمّا الصَّلاةُ المَقْصُودَةُ في الآيَةِ فَهي العِبادَةُ المَخْصُوصَةُ المُشْتَمِلَةُ عَلى قِيامٍ وقِراءَةٍ ورُكُوعٍ وسُجُودٍ وتَسْلِيمٍ. قالَ ابْنُ فارِسٍ كانَتِ العَرَبُ في جاهِلِيَّتِها عَلى إرْثٍ مِن إرْثِ آبائِهِمْ في لُغاتِهِمْ فَلَمّا جاءَ اللَّهُ تَعالى بِالإسْلامِ حالَتْ أحْوالٌ ونُقِلَتْ ألْفاظٌ مِن مَواضِعَ إلى مَواضِعَ أُخَرَ بِزِياداتٍ، ومِمّا جاءَ في الشَّرْعِ الصَّلاةَ وقَدْ كانُوا عَرَفُوا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى هاتِهِ الهَيْئَةِ قالَ النّابِغَةُ: ؎أوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوّاصُها ∗∗∗ بَهِجٌ مَتى يَرَها يُهِلُّ ويَسْجُدُ وهَذا وإنْ كانَ كَذا فَإنَّ العَرَبَ لَمْ تُعَرِّفْهُ بِمِثْلِ ما أتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الأعْدادِ والمَواقِيتِ اهـ. قُلْتُ لا شَكَّ أنَّ العَرَبَ عَرَفُوا الصَّلاةَ والسُّجُودَ والرُّكُوعَ وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ رَبَّنا ﴿لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣٧] وقَدْ كانَ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمُ اليَهُودُ يُصَلُّونَ أيْ يَأْتُونَ عِبادَتَهم بِهَيْأةٍ مَخْصُوصَةٍ، وسَمَّوْا كَنِيسَتَهم صَلاةً، وكانَ بَيْنَهُمُ النَّصارى وهم يُصَلُّونَ وقَدْ قالَ النّابِغَةُ في ذِكْرِ دَفْنِ النُّعْمانِ بْنِ الحارِثِ الغَسّانِيِّ: ؎فَآبَ مُصَلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ∗∗∗ وغُودِرَ بِالجُولانِ حَزْمٌ ونايِلُ (p-٢٣٣)عَلى رِوايَةِ مُصَلُّوهُ بِصادٍ مُهْمَلَةٍ أرادَ المُصَلِّينَ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْنِهِ مِنَ القُسُسِ والرُّهْبانِ، إذْ قَدْ كانَ مُنْتَصِرًا ومِنهُ البَيْتُ السّابِقُ. وعَرَفُوا السُّجُودَ. قالَ النّابِغَةُ: ؎أوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوّاصُها ∗∗∗ بَهِجٌ مَتى يَرَها يُهِلُّ ويَسْجُدُ وقَدْ تَرَدَّدَ أئِمَّةُ اللُّغَةِ في اشْتِقاقِ الصَّلاةِ، فَقالَ قَوْمٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصَّلا وهو عِرْقٌ غَلِيظٌ في وسَطِ الظَّهْرِ ويَفْتَرِقُ عِنْدَ عَجْبِ الذَّنَبِ فَيَكْتَنِفَهُ فَيُقالُ حِينَئِذٍ هُما صَلَوانٌ، ولَمّا كانَ المُصَلِّي إذا انْحَنى لِلرُّكُوعِ ونَحْوِهِ تَحَرَّكَ ذَلِكَ العِرْقُ اشْتُقَّتِ الصَّلاةُ مِنهُ كَما يَقُولُونَ أنِفَ مِن كَذا إذا شَمَخَ بِأنْفِهِ لِأنَّهُ يَرْفَعُهُ إذا اشْمَأزَّ وتَعاظَمَ فَهو مِنَ الِاشْتِقاقِ مِنَ الجامِدِ كَقَوْلِهِمُ اسْتَنْوَقَ الجَمَلُ وقَوْلِهِمْ تَنَمَّرَ فُلانٌ، وقَوْلِها ”زَوْجِي إذا دَخَلَ فَهِدَ وإذا خَرَجَ أسِدَ“ والَّذِي دَلَّ عَلى هَذا الِاشْتِقاقِ هُنا عَدَمُ صُلُوحِيَّةِ غَيْرِهِ فَلا يُعَدُّ القَوْلُ بِهِ ضَعِيفًا لِأجْلِ قِلَّةِ الِاشْتِقاقِ مِنَ الجَوامِدِ كَما تَوَهَّمَهُ السَّيِّدُ. وإنَّما أُطْلِقَتْ عَلى الدُّعاءِ لِأنَّهُ يُلازِمُ الخُشُوعَ والِانْخِفاضَ والتَّذَلُّلَ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنَ الصَّلاةِ الَّتِي هي اسْمٌ جامِدٌ صَلّى إذا فَعَلَ الصَّلاةَ واشْتَقُّوا صَلّى مِنَ الصَّلاةِ كَما اشْتَقُّوا صَلّى الفَرَسُ إذا جاءَ مُعاقِبًا لِلْمُجَلِّي في خَيْلِ الحَلَبَةِ، لِأنَّهُ يَجِيءُ مُزاحِمًا لَهُ في السَّبْقِ، واضِعًا رَأْسَهُ عَلى صَلا سابِقِهِ واشْتَقُّوا مِنهُ المُصَلِّي اسْمًا لِلْفَرَسِ الثّانِي في خَيْلِ الحَلَبَةِ، وهَذا الرَّأْيُ في اشْتِقاقِها مُقْتَضَبٌ مِن كَلامِهِمْ وهو الَّذِي يَجِبُ اعْتِمادُهُ إذْ لَمْ يَصْلُحُ لِأصْلِ اشْتِقاقِها غَيْرُ ذَلِكَ. وما أوْرَدَهُ الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ أنَّ دَعْوى اشْتِقاقِها مِنَ الصَّلْوَيْنِ يُفْضِي إلى طَعْنٍ عَظِيمٍ في كَوْنِ القُرْآنِ حُجَّةً لِأنَّ لَفْظَ الصَّلاةِ مِن أشَدِّ الألْفاظِ شُهْرَةً، واشْتِقاقُهُ مِن تَحْرِيكِ الصَّلْوَيْنِ مِن أبْعَدِ الأشْياءِ اشْتِهارًا فِيما بَيْنَ أهْلِ النَّقْلِ، فَإذا جَوَّزْنا أنَّهُ خَفِيَ وانْدَرَسَ حَتّى لا يَعْرِفَهُ إلّا الآحادُ لَجازَ مِثْلُهُ في سائِرِ الألْفاظِ فَلا نَقْطَعُ بِأنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى مِن هَذِهِ الألْفاظِ ما يَتَبادَرُ مِنها إلى أفْهامِنا في زَمانِنا هَذا لِاحْتِمالِ أنَّها كانَتْ في زَمَنِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لَمَعانٍ أُخَرَ خَفِيَتْ عَلَيْنا اهـ. يَرُدُّهُ أنَّهُ لا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ لَفْظٌ مَشْهُورٌ مَنقُولًا مِن مَعْنًى خَفِيٍّ لِأنَّ العِبْرَةَ في الشُّيُوعِ بِالِاسْتِعْمالِ وأمّا الِاشْتِقاقُ فَبَحْثٌ عِلْمِيٌّ ولِهَذا قالَ البَيْضاوِيُّ واشْتِهارُ هَذا اللَّفْظِ في المَعْنى الثّانِي مَعَ عَدَمِ اشْتِهارِهِ في الأوَّلِ لا يَقْدَحُ في نَقْلِهِ مِنهُ. (p-٢٣٤)ومِمّا يُؤَيِّدُ أنَّها مُشْتَقَّةٌ مِن هَذا كِتابَتُها بِالواوِ في المَصاحِفِ إذْ لَوْلا قَصْدُ الإشارَةِ إلى ما اشْتُقَّتْ مِنهُ ما كانَ وجْهٌ لِكِتابَتِها بِالواوِ وهم كَتَبُوا الزَّكاةَ والرِّبا والحَياةَ بِالواوِ إشارَةً إلى الأصْلِ. وأمّا قَوْلُ الكَشّافِ وكِتابَتُها بِالواوِ عَلى لَفْظِ المُفَخَّمِ أيْ لُغَةِ تَفْخِيمِ اللّامِ يَرُدُّهُ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يُصْنَعْ في غَيْرِها مِنَ اللّاماتِ المُفَخَّمَةِ. ومَصْدَرُ صَلّى قِياسُهُ التَّصْلِيَةُ وهو قَلِيلُ الوُرُودِ في كَلامِهِمْ. وزَعَمَ الجَوْهَرِيُّ أنَّهُ لا يُقالُ صَلّى تَصْلِيَةً وتَبِعَهُ الفَيْرُوزابادِيُّ، والحَقُّ أنَّهُ ورَدَ بِقِلَّةٍ في نَقْلِ ثَعْلَبٍ في أمالِيهِ. وقَدْ نُقِلَتِ الصَّلاةُ في لِسانِ الشَّرْعِ إلى الخُضُوعِ بِهَيْأةٍ مَخْصُوصَةٍ ودُعاءٍ مَخْصُوصٍ وقِراءَةٍ وعَدَدٍ. والقَوْلُ بِأنَّ أصْلَها في اللُّغَةِ الهَيْئَةُ في الدُّعاءِ والخُضُوعِ، هو أقْرَبُ إلى المَعْنى الشَّرْعِيِّ وأوْفَقُ بِقَوْلِ القاضِي أبِي بَكْرٍ ومَن تابَعَهُ بِنَفْيِ الحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وأنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَعْمِلْ لَفْظًا إلّا في حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ بِضَمِيمَةِ شُرُوطٍ لا يُقْبَلُ إلّا بِها. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ الحَقائِقُ الشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ بِوَضْعٍ جَدِيدٍ ولَيْسَتْ حَقائِقَ لُغَوِيَّةً ولا مَجازاتٍ. وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الحَقائِقُ الشَّرْعِيَّةُ مَجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ في مَعانٍ. والحَقُّ أنَّ هاتِهِ الأقْوالَ تَرْجِعُ إلى أقْسامٍ مَوْجُودَةٍ في الحَقائِقِ الشَّرْعِيَّةِ. * * * ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ صِلَةٌ ثالِثَةٌ في وصْفِ المُتَّقِينَ مِمّا يُحَقِّقُ مَعْنى التَّقْوى وصِدْقِ الإيمانِ مِن بَذْلِ عَزِيزٍ عَلى النَّفْسِ في مَرْضاةِ اللَّهِ؛ لِأنَّ الإيمانَ لَمّا كانَ مَقَرُّهُ القَلْبَ ومُتَرْجِمُهُ اللِّسانَ كانَ مُحْتاجًا إلى دَلائِلَ صِدْقِ صاحِبِهِ وهي عَظائِمُ الأعْمالِ، مِن ذَلِكَ التِزامُ آثارِهِ في الغَيْبَةِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ ”﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾“ ومِن ذَلِكَ مُلازَمَةُ فِعْلِ الصَّلَواتِ لِأنَّها دَلِيلٌ عَلى تَذَكُّرِ المُؤْمِنِ مَن آمَنَ بِهِ. ومِن ذَلِكَ السَّخاءُ بِبَذْلِ المالِ لِلْفُقَراءِ امْتِثالًا لِأمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ. والرِّزْقُ ما يَنالُهُ الإنْسانُ مِن مَوْجُوداتِ هَذا العالَمِ الَّتِي يَسُدُّ بِها ضَرُوراتِهِ وحاجاتِهِ ويَنالُ بِها مُلائِمَهُ، فَيُطْلِقُ عَلى كُلِّ ما يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الحاجَةِ في الحَياةِ مِنَ الأطْعِمَةِ والأنْعامِ والحَيَوانِ والشَّجَرِ المُثْمِرِ والثِّيابِ وما يُقْتَنى بِهِ ذَلِكَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، قالَ تَعالى ﴿وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهم مِنهُ﴾ [النساء: ٨] . أيْ مِمّا تَرَكَهُ المَيِّتُ وقالَ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦] ﴿وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الرعد: ٢٦] وقالَ في قِصَّةِ قارُونَ: ﴿وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ﴾ [القصص: ٧٦] إلى قَوْلِهِ (p-٢٣٥)﴿ويْكَأنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ﴾ [القصص: ٨٢] مُرادًا بِالرِّزْقِ كُنُوزُ قارُونَ وقالَ ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٢٧] وأشْهَرُ اسْتِعْمالِهِ بِحَسَبِ ما رَأيْتُ مِن كَلامِ العَرَبِ ومَوارِدِ القُرْآنِ أنَّهُ ما يَحْصُلُ مِن ذَلِكَ لِلْإنْسانِ، وأمّا إطْلاقُهُ عَلى ما يَتَناوَلُهُ الحَيَوانُ مِنَ المَرْعى والماءِ فَهو عَلى المَجازِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] وقَوْلِهِ ﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] وقَوْلِهِ ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] والرِّزْقُ شَرْعًا عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ كالرِّزْقِ لُغَةً إذِ الأصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ إلّا لِدَلِيلٍ، فَيَصْدُقُ اسْمُ الرِّزْقِ عَلى الحَلالِ والحَرامِ لِأنَّ صِفَةَ الحِلِّ والحُرْمَةِ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْها هُنا فَبَيانُ الحَلالِ مِنَ الحَرامِ لَهُ مَواقِعٌ أُخْرى ولا يَقْبَلُ اللَّهُ إلّا طَيِّبًا وذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ التَّشْرِيعِ مِثْلَ الخَمْرِ والتِّجارَةِ فِيها قَبْلَ تَحْرِيمِها، بَلِ المَقْصُودُ أنَّهم يُنْفِقُونَ مِمّا في أيْدِيهِمْ. وخالَفَتِ المُعْتَزِلَةُ في ذَلِكَ في جُمْلَةِ فُرُوعِ مَسْألَةِ خَلْقِ المَفاسِدِ والشُّرُورِ وتَقْدِيرِهِما، ومَسْألَةُ الرِّزْقِ مِنَ المَسائِلِ الَّتِي جَرَتْ فِيها المُناظَرَةُ بَيْنَ الأشاعِرَةِ والمُعْتَزِلَةِ كَمَسْألَةِ الآجالِ، ومَسْألَةِ السِّعْرِ، وتَمَسُّكِ المُعْتَزِلَةِ في مَسْألَةِ الرِّزْقِ بِأدِلَّةٍ لا تُنْتِجُ المَطْلُوبَ. والإنْفاقُ إعْطاءُ الرِّزْقِ فِيما يَعُودُ بِالمَنفَعَةِ عَلى النَّفْسِ والأهْلِ والعِيالِ ومَن يُرْغَبُ في صِلَتِهِ أوِ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ بِالنَّفْعِ لَهُ مِن طَعامٍ أوْ لِباسٍ. وأُرِيدَ بِهِ هُنا بَثُّهُ في نَفْعِ الفُقَراءِ وأهْلِ الحاجَةِ وتَسْدِيدِ نَوائِبِ المُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ المَدْحِ واقْتِرانِهِ بِالإيمانِ والصَّلاةِ فَلا شَكَّ أنَّهُ هُنا خَصْلَةٌ مِن خِصالِ الإيمانِ الكامِلِ، وما هي إلّا الإنْفاقُ في سَبِيلِ الخَيْرِ والمَصالِحِ العامَّةِ إذْ لا يُمْدَحُ أحَدٌ بِإنْفاقِهِ عَلى نَفْسِهِ وعِيالِهِ إذْ ذَلِكَ مِمّا تَدْعُو إلَيْهِ الجِبِلَّةُ فَلا يَعْتَنِي الدِّينُ بِالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ؛ فَمِنَ الإنْفاقِ ما هو واجِبٌ وهو حَقٌّ عَلى صاحِبِ الرِّزْقِ، لِلْقَرابَةِ ولِلْمَحاوِيجِ مِنَ الأُمَّةِ ونَوائِبِ الأُمَّةِ كَتَجْهِيزِ الجُيُوشِ والزَّكاةِ، وبَعْضُهُ مُحَدَّدٌ وبَعْضُهُ تَفْرِضُهُ المَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الضَّرُورِيَّةُ أوِ الحاجَةُ وذَلِكَ مُفَصَّلٌ في تَضاعِيفِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ في كُتُبِ الفِقْهِ، ومِنَ الإنْفاقِ تَطَوَّعٌ وهو ما فِيهِ نَفْعُ مَن دَعا الدِّينُ إلى نَفْعِهِ. وفي إسْنادِهِ فِعْلَ رُزِقْنا إلى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعالى وجَعْلِ مَفْعُولِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ ما يَصِيرُ الرِّزْقُ بِسَبَبِهِ رِزْقًا لِصاحِبِهِ هو حَقٌّ خاصٌّ لَهُ خَوَّلَهُ اللَّهُ إيّاهُ بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ عَلى حَسَبِ الأسْبابِ والوَسائِلِ الَّتِي يَتَقَرَّرُ بِها مِلْكُ النّاسِ لِلْأمْوالِ والأرْزاقِ، وهو الوَسائِلُ المُعْتَبَرَةُ في الشَّرِيعَةِ الَّتِي اقْتَضَتِ اسْتِحْقاقَ أصْحابِها واسْتِئْثارَهم بِها بِسَبَبِ الجُهْدِ مِمّا عَمِلَهُ المَرْءُ بِقُوَّةِ بَدَنِهِ الَّتِي لا مِرْيَةَ في أنَّها حَقُّهُ مِثْلَ انْتِزاعِ (p-٢٣٦)الماءِ واحْتِطابِ الحَطَبِ والصَّيْدِ وجَنْيِ الثِّمارِ والتِقاطِ ما لا مِلْكَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ ولا هو كائِنٌ في مِلْكِ أحَدٍ، ومِثْلُ خِدْمَتِهِ بِقُوَّتِهِ مِن حَمْلِ ثِقْلٍ ومَشْيٍ لِقَضاءِ شُؤُونِ مَن يُؤَجِّرُهُ وانْحِباسٍ لِلْحِراسَةِ، أوْ كانَ مِمّا يَصْنَعُ أشْياءَ مِن مَوادَّ يَمْلِكُها ولَهُ حَقُّ الِانْتِفاعِ بِها كالخَبْزِ والنَّسْجِ والتَّجْرِ وتَطْرِيقِ الحَدِيدِ وتَرْكِيبِ الأطْعِمَةِ وتَصْوِيرِ الآنِيَةِ مِن طِينِ الفَخّارِ، أوْ كانَ مِمّا أنْتَجَهُ مِثْلَ الغَرْسِ والزَّرْعِ والتَّوْلِيدِ، أوْ مِمّا ابْتَكَرَهُ بِعَقْلِهِ مِثْلَ التَّعْلِيمِ والِاخْتِراعِ والتَّأْلِيفِ والطِّبِّ والمُحاماةِ والقَضاءِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الوَظائِفِ والأعْمالِ الَّتِي لِنَفْعِ العامَّةِ أوِ الخاصَّةِ، أوْ مِمّا أعْطاهُ إيّاهُ مالِكُ رِزْقٍ مِن هِباتٍ وهَدايا ووَصايا، أوْ أُذِنٍ بِالتَّصَرُّفِ كَإحْياءِ المَواتِ، أوْ كانَ مِمّا نالَهُ بِالتَّعارُضِ كالبُيُوعِ والإجاراتِ والأكْرِيَةِ والشَّرِكاتِ والمُغارَسَةِ، أوْ مِمّا صارَ إلَيْهِ مَن مالٍ انْعَدَمَ صاحِبُهُ بِكَوْنِهِ أحَقَّ النّاسِ بِهِ كالإرْثِ. وتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ المَشْرُوطِ، وحَقُّ الخُمُسِ في الرِّكازِ. فَهَذِهِ وأمْثالُها مِمّا شَمِلَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى ﴿ومِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ ولَيْسَ لِأحَدٍ ولا لِمَجْمُوعِ النّاسِ حَقٌّ فِيما جَعَلَهُ اللَّهُ رِزْقَ الواحِدِ مِنهم لِأنَّهُ لا حَقَّ لِأحَدٍ في مالٍ لَمْ يَسْعَ لِاكْتِسابِهِ بِوَسائِلِهِ وقَدْ جاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أبِي سُفْيانَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ أُنْفِقُ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيالَنا فَقالَ لَها لا إلّا بِالمَعْرُوفِ أيْ إلّا ما هو مَعْرُوفٌ أنَّهُ تَتَصَرَّفُ فِيهِ الزَّوْجَةُ مِمّا في بَيْتِها مِمّا وضَعَهُ الزَّوْجُ في بَيْتِهِ لِذَلِكَ دُونَ مُسارَقَةٍ ولا خِلْسَةٍ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ المَعْمُولِ عَلى عامِلِهِ وهو يُنْفِقُونَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالرِّزْقِ في عُرْفِ النّاسِ فَيَكُونُ في التَّقْدِيمِ إيذانٌ بِأنَّهم يُنْفِقُونَ مَعَ ما لِلرِّزْقِ مِنَ المَعَزَّةِ عَلى النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعالى ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مَعَ رَعْيِ فَواصِلِ الآياتِ عَلى حَرْفِ النُّونِ، وفي الإتْيانِ بِمِنَ الَّتِي هي لِلتَّبْعِيضِ إيماءٌ إلى كَوْنِ الإنْفاقِ المَطْلُوبِ شَرْعًا هو إنْفاقُ بَعْضِ المالِ لِأنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُكَلِّفِ النّاسَ حَرَجًا، وهَذا البَعْضُ يَقِلُّ ويَتَوَفَّرُ بِحَسَبِ أحْوالِ المُنْفِقِينَ. فالواجِبُ مِنهُ ما قَدَّرَتِ الشَّرِيعَةُ نُصُبَهُ ومَقادِيرَهُ مِنَ الزَّكاةِ وإنْفاقِ الأزْواجِ والأبْناءِ والعَبِيدِ، وما زادَ عَلى الواجِبِ لا يَنْضَبِطُ تَحْدِيدُهُ وما زادَ فَهو خَيْرٌ، ولَمْ يُشَرِّعِ الإسْلامُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ المُسْلِمِ ما ارْتَزَقَهُ واكْتَسَبَهُ إلى يَدِ غَيْرِهِ. وإنَّما اخْتِيرَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفاتِ لَهم دُونَ غَيْرِها لِأنَّها أوَّلُ ما شُرِعَ مِنَ الإسْلامِ فَكانَتْ شِعارَ المُسْلِمِينَ وهي الإيمانُ الكامِلُ وإقامَةُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ فَإنَّهُما أقْدَمُ المَشْرُوعاتِ وهُما أُخْتانِ في كَثِيرٍ مِن آياتِ القُرْآنِ، ولِأنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ (p-٢٣٧)هِيَ دَلائِلُ إخْلاصِ الإيمانِ لِأنَّ الإيمانَ في حالِ الغَيْبَةِ عَنِ المُؤْمِنِينَ وحالِ خُوَيِّصَةِ النَّفْسِ أدَلُّ عَلى اليَقِينِ والإخْلاصِ حِينَ يَنْتَفِي الخَوْفُ والطَّمَعُ إنْ كانَ المُرادُ ما غابَ، أوْ لِأنَّ الإيمانَ بِما لا يَصِلُ إلَيْهِ الحِسُّ أدَلُّ دَلِيلٍ عَلى قُوَّةِ اليَقِينِ حَتّى أنَّهُ يَتَلَقّى مِنَ الشّارِعِ ما لا قِبَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وشَأْنُ النُّفُوسِ أنْ تَنْبُوَ عَنِ الإيمانِ بِهِ لِأنَّها تَمِيلُ إلى المَحْسُوسِ فالإيمانُ بِهِ عَلى عِلّاتِهِ دَلِيلُ قُوَّةِ اليَمِينِ بِالمُخْبِرِ وهو الرَّسُولُ إنْ كانَ المُرادُ مِنَ الغَيْبِ ما قابَلَ الشَّهادَةَ، ولِأنَّ الصَّلاةَ كُلْفَةٌ بَدَنِيَّةٌ في أوْقاتٍ لا يَتَذَكَّرُها مُقِيمُها أيْ مُحْسِنُ أدائِها إلّا الَّذِي امْتَلَأ قَلْبُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما فِيها مِنَ الخُضُوعِ وإظْهارِ العُبُودِيَّةِ، ولِأنَّ الزَّكاةَ أداءُ المالِ وقَدْ عُلِمَ شُحُّ النُّفُوسِ قالَ تَعالى ﴿وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: ٢١] ولِأنَّ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ الشِّرْكِ كانُوا مَحْرُومِينَ مِنها في حالِ الشِّرْكِ بِخِلافِ أهْلِ الكِتابِ فَكانَ لِذِكْرِها تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الإسْلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب