الباحث القرآني

أحْكامُ سُورَةِ اَلْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ يَتَضَمَّنُ الأمْرَ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَهُما مِن صِفاتِ المُتَّقِينَ ومِن شَرائِطِ التَّقْوى؛ كَما جَعَلَ الإيمانَ بِالغَيْبِ، وهو الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالبَعْثِ والنُّشُورِ وسائِرِ ما لَزِمَنا اعْتِقادُهُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ، مِن شَرائِطِ التَّقْوى فاقْتَضى ذَلِكَ إيجابَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ المَذْكُورَتَيْنِ في الآيَةِ. وقَدْ قِيلَ في إقامَةِ الصَّلاةِ وُجُوهٌ: مِنها إتْمامُها مِن تَقْوِيمِ الشَّيْءِ وتَحْقِيقِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ﴾ [الرحمن: ٩] وقِيلَ يُؤَدُّونَها عَلى ما فِيها مِن قِيامٍ وغَيْرِهِ، فَعَبَّرَ عَنْها بِالقِيامِ؛ لِأنَّ القِيامَ مِن فُرُوضِها، وإنْ كانَتْ تَشْتَمِلُ عَلى فُرُوضٍ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] والمُرادُ الصَّلاةُ الَّتِي فِيها القِراءَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ [الإسراء: ٧٨] المُرادُ القِراءَةُ في صَلاةِ الفَجْرِ، وكَقَوْلِهِ: ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات: ٤٨] وقَوْلُهُ: ﴿ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ [الحج: ٧٧] وقَوْلُهُ: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] فَذَكَرَ رُكْنًا مِن أرْكانِها الَّذِي هو مِن فُرُوضِها، ودَلَّ بِهِ عَلى أنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِيها وعَلى إيجابِ ما هو مِن فُرُوضِها، فَصارَ قَوْلُهُ: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [المائدة: ٥٥] مُوجِبًا لِلْقِيامِ فِيها ومُخْبِرًا بِهِ عَنْ فَرْضِ الصَّلاةِ ويُحْتَمَلُ ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ يُدِيمُونَ فُرُوضَها في أوْقاتِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] أيْ فَرْضًا في أوْقاتٍ مَعْلُومَةٍ لَها، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] يَعْنِي يُقِيمُ القِسْطَ ولا يَفْعَلُ غَيْرَهُ والعَرَبُ تَقُولُ في الشَّيْءِ الرّاتِبِ الدّائِمِ: قائِمٌ، وفي فاعِلِهِ: مُقِيمٌ يُقالُ: فُلانٌ يُقِيمُ أرْزاقَ الجُنْدِ. وقِيلَ: هو مِن قَوْلِ القائِلِ: قامَتِ السُّوقُ، إذا حَضَرَ أهْلُها؛ فَيَكُونُ مَعْناهُ الِاشْتِغالَ بِها عَنْ غَيْرِها ومِنهُ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، وهَذِهِ الوُجُوهُ عَلى اخْتِلافِها تَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُرادَةً بِالآيَةِ وقَوْلُهُ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ في فَحْوى الخِطابِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ المَفْرُوضُ مِنَ النَّفَقَةِ، وهي الحُقُوقُ الواجِبَةُ لِلَّهِ تَعالى مِنَ الزَّكاةِ وغَيْرِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [المنافقون: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٥] وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ المَفْرُوضُ مِنها أنَّهُ قَرَنَها (p-٢٩)إلى الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ وإلى الإيمانِ بِاللَّهِ وكِتابِهِ، وجَعَلَ هَذا الإنْفاقَ مِن شَرائِطِ التَّقْوى ومِن أوْصافِها. ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ المَفْرُوضُ مِنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ أنَّ لَفْظَ الصَّلاةِ إذا أُطْلِقَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ أوْ شَرْطٍ يَقْتَضِي الصَّلَواتِ المَعْهُودَةَ المَفْرُوضَةَ كَقَوْلِهِ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] و﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] ونَحْوِ ذَلِكَ فَلَمّا أرادَ بِإطْلاقِ اللَّفْظِ الصَّلاةَ المَفْرُوضَةَ كانَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالإنْفاقِ ما فُرِضَ عَلَيْهِ مِنهُ ولَمّا مَدَحَ هَؤُلاءِ بِالإنْفاقِ مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ إطْلاقَ اسْمِ الرِّزْقِ إنَّما يَتَناوَلُ المُباحَ مِنهُ دُونَ المَحْظُورِ، وأنَّ ما اغْتَصَبَهُ وظَلَمَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ رِزْقًا لَهُ لَجازَ إنْفاقُهُ وإخْراجُهُ إلى غَيْرِهِ عَلى وجْهِ الصَّدَقَةِ والتَّقَرُّبِ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ الغاصِبَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِما اغْتَصَبَهُ، وكَذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِن غُلُولٍ» . والرِّزْقُ الحَظُّ في اللُّغَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢] أيْ حَظَّكم مِن هَذا الأمْرِ التَّكْذِيبَ بِهِ، وحَظُّ الرَّجُلِ هو نَصِيبُهُ، وما هو خالِصٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ولَكِنَّهُ في هَذا المَوْضِعِ هو ما مَنَحَهُ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ، وهو المُباحُ الطَّيِّبُ ولِلرِّزْقِ وجْهٌ آخَرُ، وهو ما خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى مِن أقْواتِ الحَيَوانِ؛ فَجائِزٌ إضافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَهُ قُوتًا وغِذاءً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب