الباحث القرآني
ثُمَّ وصَفَهم بِمَجامِعِ الأعْمالِ تَعْرِيفًا لَهم فَقالَ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾، أيِ الأمْرِ الغائِبِ الَّذِي لا نافِعَ في الإيمانِ غَيْرُهُ، وعَبَّرَ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ.
﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ أيِ الَّتِي هي حَضْرَةُ المُراقَبَةِ وأفْضَلُ أعْمالِ البَدَنِ، بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها، وبِحِفْظِها في ذاتِها وجَمِيعِ أحْوالِها. ولَمّا ذَكَرَ وصْلَةَ الخَلْقِ بِالخالِقِ وكانَتِ النَّفَقَةُ مَعَ أنَّها مِن أعْظَمِ دَعائِمِ الدِّينِ صِلَةً بَيْنَ الخَلائِقِ أتْبَعَها بِها فَقالَ مُقَدِّمًا لِلْجارِّ ناهِيًا عَنِ الإسْرافِ ومُنَبِّهًا (p-٨٣)بِالتَّبْعِيضِ عَلى طِيبِ النَّفَقَةِ لِأنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طَيِّبًا وآمِرًا بِالوَرَعِ وزاجِرًا عَمّا فِيهِ شُبْهَةٌ [ لِأنَّ الرِّزْقَ يَشْمَلُ الحَلالَ والحَرامَ والمُشْتَبِهَ ] ﴿ومِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ أيْ مَكَّنّاهم مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ عَلى عَظَمَةِ خَزائِنِنا وهو لَنا دُونَهم،
﴿يُنْفِقُونَ﴾ أيْ في مَرْضاتِنا مِمّا يَلْزَمُهم مِنَ الزَّكاةِ والحَجِّ والغَزْوِ وغَيْرِها ومِمّا يَتَطَوَّعُونَ بِهِ مِنَ الصَّدَقاتِ وغَيْرِها، والمُرادُ بِهَذِهِ الأفْعالِ هُنا إيجادُ حَقائِقِها عَلى الدَّوامِ.
قالَ أبُو حَيّانَ، وغَيْرُهُ، في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الحَجِّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ﴾ [الحج: ٢٥] المُضارِعُ قَدْ لا يُلْحَظُ فِيهِ زَمانٌ مُعَيَّنٌ مَن حالٍ أوِ اسْتِقْبالٍ فَيَدُلُّ إذْ ذاكَ عَلى الِاسْتِمْرارِ. انْتَهى. وهَذا مِمّا لا مَحِيدَ عَنْهُ، وإلّا لَمْ يَشْمَلْ هَذا في هَذِهِ السُّورَةِ المَدَنِيَّةِ مَن تَخَلَّقَ بِهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] قاطِعٌ في ذَلِكَ.
(p-٨٤)وقالَ الحَرالِّيُّ: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ مِنَ الإيمانِ وهو مَصْدَرُ آمَنَهُ يُؤْمِنُهُ إيمانًا إذا آمَنَ مَن يُنَبِّهُهُ عَلى أمْرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ أنْ يُكَذِّبَهُ أوْ يَرْتابَ فِيهِ، و”الغَيْبُ“ ما غابَ عَنِ الحِسِّ ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِلْمٌ يَهْتَدِي بِهِ العَقْلُ فَيَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ؛ وصِيغَةُ يُؤْمِنُونَ ويُقِيمُونَ تَقْتَضِي الدَّوامَ إلى الخَتْمِ، وإدامَةُ العَمَلِ إلى الخَتْمِ تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَنْ فِطْرَةٍ أوْ جِبِلَّةٍ وأنَّهُ لَيْسَ عَنْ تَعَمُّلٍ ومُراءاةٍ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَمًا عَلى الجَزاءِ؛ والصَّلاة الإقْبالُ بِالكُلِّيَّةِ عَلى أمْرٍ، فَتَكُونُ مِنَ الأعْلى عَطْفًا شامِلًا، ومِنَ الأدْنى وفاءً بِأنْحاءِ التَّذَلُّلِ والإقْبالِ بِالكُلِّيَّةِ عَلى التَّلَقِّي، وإيمانُهم بِالغَيْبِ قَبُولُهم مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ما تَلَقّاهُ بِالوَحْيِ مِن أمْرٍ غائِبِ الدُّنْيا الَّذِي هو الآخِرَةُ وما فِيها وأمْرٍ غائِبِ المَلَكُوتِ وما فِيهِ إلى غَيْبِ الجَبَرُوتِ وما بِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمَلُهم عَلى الغائِبِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ قُلُوبُهم عَلى سَبِيلِ آذانِهِمْ كَعَمَلِهِمْ عَلى ما تَلَقَّتْهُ أنْفُسُهم عَلى سَبِيلِ (p-٨٥)أعْيُنِهِمْ وسائِرِ حَواسِّهِمْ ودامُوا عَلى عَمَلِهِمْ ذَلِكَ عَلى حُكْمِ إيمانِهِمْ إلى الخاتِمَةِ.
ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ التِزامَ عَهِدِ العِبادَةِ مَبْنِيًّا عَلى تَقَدُّمِ الشَّهادَةِ مُتَمَّمَةً بِجِماعِ الذِّكْرِ وأنْواعِ التَّحِيّاتِ لِلَّهِ؛ مِنَ القِيامِ لَهُ تَعالى، والرُّكُوعِ لَهُ، والسُّجُودِ الَّذِي هو أعْلاها، والسَّلامِ بِالقَوْلِ الَّذِي هو أدْنى التَّحِيّاتِ؛ كانَتْ لِذَلِكَ تَعَهُّدًا لِلْإيمانِ وتَكْرارًا، ولِذَلِكَ مَن لَمْ يُدِمِ الصَّلاةَ ضَعُفَ إيمانُهُ ورانَ عَلَيْهِ كُفْرٌ فَلا إيمانَ لِمَن لا صَلاةَ لَهُ، والتَّقْوى وحْدَهُ أصْلٌ والإيمانُ فالصَّلاةُ ثَمَرَتُهُ، والإنْفاقُ خِلافَةٌ ولِذَلِكَ البُخْلُ عَزْلٌ عَنْ خِلافَةِ اللَّهِ ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] وهَذا الأمْرُ بِتَمامِهِ هو الَّذِي جُعِلَتِ الخِلافَةُ لِآدَمَ بِهِ إلى ما وراءَ ذَلِكَ مِن كَمالِ أمْرِ اللَّهِ الَّذِي أكْمَلَهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فالتَّقْوى قَلْبٌ باطِنٌ، والإنْفاقُ وجْهٌ ظاهِرٌ، والإيمانُ فالصَّلاةُ وُصْلَةٌ بَيْنَهُما. ووَجْهُ تَرَتُّبِ الإيمانِ بِالغَيْبِ عَلى التَّقْوى أنَّ المُتَّقِيَ لَمّا كانَ مُتَوَقِّفًا غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِأمْرٍ كانَ إذا أُرْشِدَ (p-٨٦)إلى غَيْبٍ لا يَعْلَمُهُ؛ لَمْ يَدْفَعْهُ بِمُقْتَضى ما تَقَدَّمَ لَهُ عِلْمُهُ؛ ووَجْهُ تَرَتُّبِ الإنْفاقِ عَلى الإيمانِ بِالغَيْبِ أنَّ المَدَدَ غَيْبٌ، لِأنَّ الإنْسانَ لَمّا كانَ لا يَطَّلِعُ عَلى جَمِيعِ رِزْقِهِ كانَ رِزْقُهُ غَيْبًا، فَإذا أيْقَنَ بِالخَلَفِ جادَ بِالعَطِيَّةِ، فَمَتى أُمِدَّ بِالأرْزاقِ تَمَّتْ خِلافَتُهُ وعَظُمَ فِيها سُلْطانُهُ وانْفَتَحَ لَهُ بابُ إمْدادٍ بِرِزْقٍ أعْلى وأكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ. فَإذا أحْسَنَ الخِلافَةَ فِيهِ بِالإنْفاقِ مِنهُ أيْضًا انْفَتَحَ لَهُ بابٌ إلى أعْلى إلى أنْ يَنْتَهِيَ إلى حَيْثُ لَيْسَ وراءَهُ مَرْأًى وذَلِكَ هو الكَمالُ المُحَمَّدِيُّ، وإنْ بَخِلَ فَلَمْ يُنْفِقْ واسْتَغْنى بِما عِنْدَهُ فَلَمْ يَتَّقِ فَكَذَبَ تَضاءَلَ أمْرُ خِلافَتِهِ وانْقَطَعَ عَنْهُ المَدَدُ مِنَ الأعْلى؛ فَبِحَقٍّ سُمِّيَ الإنْفاقُ زَكاةً؛ وفي أوَّلِ الشُّورى كَلامٌ في الإيمانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفِيسٌ. انْتَهى.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق