الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾: إمّا مَوْصُولٌ بِالمُتَّقِينَ؛ ومَحَلُّهُ الجَرُّ؛ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ مُقَيِّدَةٌ لَهُ إنْ فُسِّرَ التَّقْوى بِتَرْكِ المَعاصِي فَقَطْ؛ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ التَّحْلِيَةِ عَلى التَّخْلِيَةِ؛ ومُوَضِّحَةٌ إنْ فُسِّرَ بِما هو المُتَعارَفُ شَرْعًا؛ والمُتَبادَرُ عُرْفًا مِن فِعْلِ الطّاعاتِ؛ وتَرْكِ السَّيِّئاتِ مَعًا؛ لِأنَّها حِينَئِذٍ تَكُونُ تَفْصِيلًا لِما انْطَوى عَلَيْهِ اسْمُ المَوْصُوفِ إجْمالًا؛ وذَلِكَ لِأنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى ما هو عِمادُ الأعْمالِ؛ وأساسُ الحَسَناتِ؛ مِنَ الإيمانِ والصَّلاةِ والصَّدَقَةِ؛ فَإنَّها أُمَّهاتُ الأعْمالِ النَّفْسانِيَّةِ؛ والعِباداتِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ المُسْتَتْبِعَةِ لِسائِرِ القُرَبِ الدّاعِيَةِ إلى التَّجَنُّبِ عَنِ المَعاصِي غالِبًا؛ ألا يُرى إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾؛ وقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: « "الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ؛ والزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلامِ"؟» أوْ مادِحَةٌ لِلْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوى المُفَسَّرِ بِما مَرَّ مِن فِعْلِ الطّاعاتِ وتَرْكِ السَّيِّئاتِ. وتَخْصِيصُ ما ذُكِرَ مِنَ الخِصالِ الثَّلاثِ بِالذِّكْرِ لِإظْهارِ شَرَفِها وأنافَتِها عَلى سائِرِ ما انْطَوى تَحْتَ اسْمِ التَّقْوى مِنَ الحَسَناتِ؛ أوِ النَّصْبُ عَلى المَدْحِ؛ بِتَقْدِيرِ "أعْنِي"؛ أوِ الرَّفْعُ عَلَيْهِ؛ بِتَقْدِيرِ "هُمْ"؛ وإمّا مَفْصُولٌ عَنْهُ؛ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ؛ خَبَرُهُ الجُمْلَةُ المُصَدَّرَةُ بِاسْمِ الإشارَةِ؛ كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ؛ فالوَقْفُ عَلى "المُتَّقِينَ"؛ حِينَئِذٍ وقْفٌ تامٌّ؛ لِأنَّهُ وقْفٌ عَلى مُسْتَقْبَلٍ؛ ما بَعْدَهُ أيْضًا مُسْتَقْبَلٌ؛ وأمّا عَلى الوُجُوهِ الأُوَلِ فَحَسَنٌ؛ لِاسْتِقْلالِ المَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ غَيْرَ تامٍّ؛ لِتَعَلُّقِ ما بَعْدَهُ بِهِ؛ وتَبَعِيَّتُهُ لَهُ؛ أمّا عَلى تَقْدِيرِ الجَرِّ عَلى الوَصْفِيَّةِ فَظاهِرٌ؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ النَّصْبِ أوِ الرَّفْعِ عَلى المَدْحِ فَلِما تَقَرَّرَ مِن أنَّ المَنصُوبَ والمَرْفُوعَ مُدِحا؛ وإنْ خَرَجا عَنِ التَّبَعِيَّةِ لِما قَبْلَهُما صُورَةً؛ حَيْثُ لَمْ يَتْبَعاهُ في الإعْرابِ؛ وبِذَلِكَ سُمِّيا قَطْعًا؛ لَكِنَّهُما تابِعانِ لَهُ حَقِيقَةً؛ ألا يُرى كَيْفَ التَزَمُوا حَذْفَ الفِعْلِ والمُبْتَدَإ في النَّصْبِ والرَّفْعِ رَوْمًا؛ لِتَصْوِيرِ كُلٍّ مِنهُما بِصُورَةِ مُتَعَلِّقٍ مِن مُتَعَلِّقاتِ ما قَبْلَهُ؛ وتَنْبِيهًا عَلى شِدَّةِ الِاتِّصالِ بَيْنَهُما؟ قالَ أبُو عَلِيٍّ: إذا ذُكِرَتْ صِفاتٌ لِلْمَدْحِ وخُولِفَ في بَعْضِها الإعْرابُ فَقَدْ خُولِفَ لِلِافْتِنانِ؛ أيْ لِلتَّفَنُّنِ المُوجِبِ لِإيقاظِ السّامِعِ وتَحْرِيكِهِ إلى الجِدِّ في الإصْغاءِ؛ فَإنَّ تَغْيِيرَ الكَلامِ المَسُوقِ لِمَعْنًى (p-30)مِنَ المَعانِي؛ وصَرْفَهُ عَنْ سَنَنِهِ المَسْلُوكِ يُنْبِئُ عَنِ اهْتِمامٍ جَدِيدٍ بِشَأْنِهِ مِنَ المُتَكَلِّمِ؛ ويَسْتَجْلِبُ مَزِيدَ رَغْبَةٍ فِيهِ مِنَ المُخاطَبِ؛ إنْ قِيلَ: لا رَيْبَ في أنَّ حالَ المَوْصُولِ عِنْدَ كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ - كَحالِهِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾؛ في أنَّهُ يَنْسَبِكُ بِهِ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُفِيدَةٌ لِاتِّصافِ المُتَّقِينَ بِالصِّفاتِ الفاضِلَةِ - ضَرُورَةُ أنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ؛ والمَوْصُولِ عِبارَةٌ عَنْ "المُتَّقِينَ"؛ وأنَّ كُلًّا مِنَ اتِّصافِهِمْ بِالإيمانِ وفُرُوعِهِ؛ وإحْرازِهِمْ لِلْهُدى والفَلاحِ مِنَ النُّعُوتِ الجَلِيلَةِ؛ فَما السِّرُّ في أنَّهُ جُعِلَ ذَلِكَ في الصُّورَةِ الأُولى مِن تَوابِعِ المُتَّقِينَ؛ وعُدَّ الوَقْفُ غَيْرَ تامٍّ؛ وفي الثّانِيَةِ مُقْتَطَعًا عَنْهُ؛ وعُدَّ الوَقْفُ تامًّا؟ قُلْنا: السِّرُّ في ذَلِكَ أنَّ المُبْتَدَأ في الصُّورَتَيْنِ - وإنْ كانَ عِبارَةً عَنْ "المُتَّقِينَ" -؛ لَكِنَّ الخَبَرَ في الأُولى - لَمّا كانَ تَفْصِيلًا لِما تَضَمَّنَهُ المُبْتَدَأُ إجْمالًا؛ حَسْبَما تَحَقَّقْتَهُ؛ مَعْلُومَ الثُّبُوتِ لَهُ بِلا اشْتِباهٍ - غَيْرُ مُفِيدٍ لِلسّامِعِ؛ سِوى فائِدَةِ التَّفْصِيلِ والتَّوْضِيحِ؛ نُظِمَ ذَلِكَ في سِلْكِ الصِّفاتِ؛ مُراعاةً لِجانِبِ المَعْنى؛ وإنْ سُمِّيَ قَطْعًا؛ مُراعاةً لِجانِبِ اللَّفْظِ؛ كَيْفَ لا.. وقَدِ اشْتُهِرَ في الفَنِّ أنَّ الخَبَرَ إذا كانَ مَعْلُومَ الِانْتِسابِ إلى المُخْبَرِ عَنْهُ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ وصْفًا لَهُ؛ كَما أنَّ الوَصْفَ إذا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الِانْتِسابِ إلى المَوْصُوفِ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لَهُ؛ حَتّى قالُوا: إنَّ الصِّفاتِ قَبْلَ العِلْمِ بِها أخْبارٌ؛ والأخْبارَ بَعْدَ العِلْمِ بِها صِفاتٌ؟ وأمّا الخَبَرُ في الثّانِيَةِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ - بَلْ كانَ مُشْتَمِلًا عَلى ما لا يُنْبِئُ عَنْهُ المُبْتَدَأُ مِنَ المَعانِي اللّائِقَةِ؛ كَما سَتُحِيطُ بِهِ؛ خَبَرًا مُفِيدًا لِلْمُخاطَبِ فَوائِدَ رائِقَةً -؛ جُعِلَ ذَلِكَ مُقْتَطَعًا عَمّا قَبْلَهُ؛ مُحافَظَةً عَلى الصُّورَةِ والمَعْنى جَمِيعًا. والإيمانُ "إفْعالٌ"؛ مِن "الأمْنُ" المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ؛ يُقالُ: آمَنتُهُ؛ وبِالنَّقْلِ تَعَدّى إلى اثْنَيْنِ؛ يُقالُ: آمَنَنِيهِ غَيْرِي؛ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في التَّصْدِيقِ؛ لِأنَّ المُصَدِّقَ يُؤَمِّنُ المُصَدَّقَ؛ أيْ يَجْعَلُهُ أمِينًا مِنَ التَّكْذِيبِ والمُخالَفَةِ؛ واسْتِعْمالُهُ بِالباءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ؛ وقَدْ يُطْلَقُ عَلى الوُثُوقِ؛ فَإنَّ الواثِقَ يَصِيرُ ذا أمْنٍ وطُمَأْنِينَةٍ؛ ومِنهُ ما حُكِيَ عَنِ العَرَبِ: ما آمَنتُ أنْ أجِدَ صَحابَةً؛ أيْ: ما صِرْتُ ذا أمْنٍ وسُكُونٍ؛ وكِلا الوَجْهَيْنِ حَسَنٌ هَهُنا؛ وهو في الشَّرْعِ لا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّصْدِيقِ بِما عُلِمَ ضَرُورَةً أنَّهُ مِن دِينِ نَبِيِّنا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ كالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والبَعْثِ والجَزاءِ؛ ونَظائِرِها؛ وهَلْ هو كافٍ في ذَلِكَ؛ أوْ لا بُدَّ مِنَ انْضِمامِ الإقْرارِ إلَيْهِ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنهُ؟ والأوَّلُ رَأْيُ الشَّيْخِ الأشْعَرِيِّ؛ ومَن شايَعَهُ؛ فَإنَّ الإقْرارَ عِنْدَهُ مُنْشَأٌ لِإجْراءِ الأحْكامِ؛ والثّانِي مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ؛ ومَن تابَعَهُ؛ وهو الحَقُّ؛ فَإنَّهُ جَعَلَهُما جُزْأيْنِ لَهُ؛ خَلا أنَّ الإقْرارَ رُكْنٌ مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ بِعُذْرٍ؛ كَما عِنْدَ الإكْراهِ؛ وهو مَجْمُوعُ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: اعْتِقادِ الحَقِّ؛ والإقْرارِ بِهِ؛ والعَمَلِ بِمُوجِبِهِ؛ عِنْدَ جُمْهُورِ المُحْدَثِينَ؛ والمُعْتَزِلَةِ؛ والخَوارِجِ؛ فَمَن أخَلَّ بِالِاعْتِقادِ وحْدَهُ فَهو مُنافِقٌ؛ ومَن أخَلَّ بِالإقْرارِ فَهو كافِرٌ؛ ومَن أخَلَّ بِالعَمَلِ فَهو فاسِقٌ اتِّفاقًا؛ وكافِرٌ عِنْدَ الخَوارِجِ؛ وخارِجٌ عَنِ الإيمانِ؛ غَيْرُ داخِلٍ في الكُفْرِ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ. وقُرِئَ: "يُومِنُونَ"؛ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ. والغَيْبُ إمّا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الغائِبُ؛ مُبالَغَةً؛ كالشَّهادَةِ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾؛ أوْ "فَيْعِلٌ" خُفِّفَ؛ كَـ "قَيْلٌ"؛ في "قَيِّلٌ"؛ و"هَيْنٌ"؛ في "هَيِّنٌ"؛ و"مَيْتٌ"؛ في "مَيِّتٌ"؛ لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ الأصْلُ كَما اسْتُعْمِلَ في نَظائِرِهِ؛ وأيًّا ما كانَ فَهو ما غابَ عَنِ الحِسِّ والعَقْلِ غَيْبَةً كامِلَةً؛ بِحَيْثُ لا يُدْرَكُ بِواحِدٍ مِنهُما ابْتِداءً؛ بِطَرِيقِ البَداهَةِ؛ وهو قِسْمانِ: قِسْمٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ وهو الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾؛ وقِسْمٌ نُصِّبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ كالصّانِعِ وصِفاتِهِ؛ والنُّبُوّاتِ وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ الأحْكامِ والشَّرائِعِ؛ واليَوْمِ الآخِرِ وأحْوالِهِ مِنَ البَعْثِ والنُّشُورِ والحِسابِ والجَزاءِ؛ وهو المُرادُ هَهُنا؛ فالباءُ صِلَةٌ لِلْإيمانِ - إمّا بِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ؛ أوْ (p-31)بِجَعْلِهِ مَجازًا مِنَ الوُثُوقِ؛ وهو واقِعٌ مَوْقِعَ المَفْعُولِ بِهِ؛ وإمّا مَصْدَرٌ عَلى حالِهِ؛ كالغَيْبَةِ -؛ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الفاعِلِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾؛ أيْ: يُؤْمِنُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِالغَيْبَةِ؛ إمّا عَنِ المُؤْمَنِ بِهِ؛ أيْ غائِبِينَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ غَيْرَ مُشاهِدِينَ لِما فِيهِ مِن شَواهِدِ النُّبُوَّةِ؛ لِما رُوِيَ أنَّ أصْحابَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرُوا أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإيمانَهُمْ؛ فَقالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كانَ بَيِّنًا لِمَن رَآهُ؛ والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ ما آمَنَ مُؤْمِنٌ أفْضَلَ مِنَ الإيمانِ بِغَيْبٍ؛ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ؛ وإمّا عَنِ النّاسِ؛ أيْ غائِبِينَ عَنِ المُؤْمِنِينَ؛ لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ إذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا؛ وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إنّا مَعَكُمْ؛ وقِيلَ: المُرادُ بِالغَيْبِ القَلْبُ؛ لِأنَّهُ مَسْتُورٌ؛ والمَعْنى: يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ؛ لا كالَّذِينَ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ؛ فالباءُ حِينَئِذٍ لِلْآلَةِ؛ وتَرْكُ ذِكْرِ المُؤْمَنِ بِهِ عَلى التَّقادِيرِ الثَّلاثَةِ إمّا لِلْقَصْدِ إلى إحْداثِ نَفْسِ الفِعْلِ؛ كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ؛ أيْ يَفْعَلُونَ الإيمانَ؛ وإمّا لِلِاكْتِفاءِ بِما سَيَجِيءُ؛ فَإنَّ الكُتُبَ الإلَهِيَّةَ ناطِقَةٌ بِتَفاصِيلِ ما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾: إقامَتُها عِبارَةٌ عَنْ تَعْدِيلِ أرْكانِها؛ وحِفْظِها مِن أنْ يَقَعَ في شَيْءٍ مِن فَرائِضِها وسُنَنِها وآدابِها زَيْغٌ؛ مِن "أقامَ العُودَ"؛ إذا قَوَّمَهُ وعَدَّلَهُ؛ وقِيلَ: عَنِ المُواظَبَةِ عَلَيْها؛ مَأْخُوذٌ مِن "قامَتِ السُّوقُ"؛ إذا نَفَقَتْ؛ و"أقَمْتُها"؛ إذا جَعَلْتَها نافِقَةً؛ فَإنَّها إذا حُوفِظَ عَلَيْها كانَتْ كالنّافِقِ الَّذِي يُرْغَبُ فِيهِ؛ وقِيلَ: عَنِ التَّشَمُّرِ؛ لِأدائِها عَنْ غَيْرِ فُتُورٍ وتَوانٍ؛ مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ؛ وأقامَهُ؛ إذا جَدَّ فِيهِ واجْتَهَدَ؛ وقِيلَ: عَنْ أدائِها؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالإقامَةِ؛ لِاشْتِمالِهِ عَلى القِيامِ؛ كَما عَبَّرَ عَنْهُ بِالقُنُوتِ - الَّذِي هو القِيامُ - وبِالرُّكُوعِ والسُّجُودِ والتَّسْبِيحِ والأوَّلُ هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّهُ أشْهَرُ؛ وإلى الحَقِيقَةِ أقْرَبُ؛ و"الصَّلْوَةُ"؛ "فَعْلَةٌ" مِن "صَلّى"؛ إذا دَعا؛ كَـ "الزَّكْوَةُ"؛ مِن "زَكّى"؛ وإنَّما كُتِبَتا بِالواوِ مُراعاةً لِلَّفْظِ المُفَخَّمِ؛ وإنَّما سُمِّيَ الفِعْلُ المَخْصُوصُ بِها لِاشْتِمالِهِ عَلى الدُّعاءِ؛ وقِيلَ: أصْلُ "صَلّى" حَرَّكَ الصَّلَوَيْنِ؛ وهُما العَظْمانِ النّاتِئانِ في أعْلى الفَخِذَيْنِ؛ لِأنَّ المُصَلِّيَ يَفْعَلُهُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ؛ واشْتِهارُ اللَّفْظِ في المَعْنى الثّانِي دُونَ الأوَّلِ لا يَقْدَحُ في نَقْلِهِ عَنْهُ؛ وإنَّما سُمِّيَ الدّاعِي مُصَلِّيًا تَشْبِيهًا لَهُ في تَخَشُّعِهِ بِالرّاكِعِ والسّاجِدِ. ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾: الرِّزْقُ في اللُّغَةِ: العَطاءُ؛ ويُطْلَقُ عَلى الحَظِّ المُعْطى؛ نَحْوَ: "ذِبْحٌ"؛ و"رِعْيٌ"؛ لِلْمَذْبُوحِ؛ والمَرْعِيِّ؛ وقِيلَ: هو بِالفَتْحِ مَصْدَرٌ؛ وبِالكَسْرِ اسْمٌ؛ وفي العُرْفِ: ما يَنْتَفِعُ بِهِ الحَيَوانُ. والمُعْتَزِلَةُ؛ لَمّا أحالُوا تَمْكِينَ اللَّهِ (تَعالى) مِنَ الحَرامِ؛ لِأنَّهُ مَنَعَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ؛ وأمَرَ بِالزَّجْرِ عَنْهُ؛ قالُوا: الرِّزْقُ لا يَتَناوَلُ الحَرامَ؛ ألا يُرى أنَّهُ (تَعالى) أسْنَدَ الرِّزْقَ إلى ذاتِهِ؛ إيذانًا بِأنَّهم يُنْفِقُونَ مِنَ الحَلالِ الصِّرْفِ - فَإنَّ إنْفاقَ الحَرامِ بِمَعْزِلٍ مِن إيجابِ المَدْحِ -؛ وذَمَّ المُشْرِكِينَ عَلى تَحْرِيمِ بَعْضِ ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ (تَعالى) بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالا﴾ ؟ وأصْحابُنا جَعَلُوا الإسْنادَ المَذْكُورَ لِلتَّعْظِيمِ؛ والتَّحْرِيضِ عَلى الإنْفاقِ؛ والذَّمَّ لِتَحْرِيمِ ما لَمْ يُحَرِّمْ؛ واخْتِصاصَ "ما رَزَقْناهُمْ"؛ بِالحَلالِ لِلْقَرِينَةِ؛ وتَمَسَّكُوا لِشُمُولِ الرِّزْقِ لَهُما بِما رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - «فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ قُرَّةَ؛ حِينَ أتاهُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ؛ فَلا أُرى أُرْزَقُ إلّا مِن دُفِّي بِكَفِّي؛ فَأْذَنْ لِي في الغِناءِ مِن غَيْرِ فاحِشَةٍ؛ مِن أنَّهُ قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: "لا آذَنُ لَكَ؛ ولا كَرامَةَ؛ ولا نُعْمَةَ [عَيْنٍ]؛ كَذَبْتَ؛ أيْ عَدُوَّ اللَّهِ؛ واللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا؛ فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ؛ مَكانَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن حَلالِهِ"؛» وبِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الحَرامُ رِزْقًا لَمْ يَكُنِ المُتَغَذِّي بِهِ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقًا؛ وقَدْ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾؛ والإنْفاقُ والإنْفادُ أخَوانِ؛ خَلا أنَّ (p-32) فِي الثّانِي مَعْنى الإذْهابِ بِالكُلِّيَّةِ؛ دُونَ الأوَّلِ؛ والمُرادُ بِهَذا الإنْفاقِ الصَّرْفُ إلى سَبِيلِ الخَيْرِ؛ فَرْضًا كانَ أوْ نَفْلًا؛ ومَن فَسَّرَ بِالزَّكاةِ ذَكَرَ أفْضَلَ أنْواعِهِ؛ والأصْلَ فِيهِ؛ أوْ خَصَّصَهُ بِها لِاقْتِرانِهِ بِما هو شَقِيقُها؛ والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها مِنَ الصِّلَةِ؛ وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِلِاهْتِمامِ والمُحافَظَةِ عَلى رُءُوسِ الآيِ؛ وإدْخالُ "مِن" التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ لِلْكَفِّ عَنِ التَّبْذِيرِ؛ هَذا.. وقَدْ جُوِّزَ أنْ يُرادَ بِهِ الإنْفاقُ مِن جَمِيعِ المَعاوِنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ (تَعالى)؛ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ؛ ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «إنَّ عِلْمًا لا يُنالُ بِهِ كَكَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنهُ»؛ وإلَيْهِ ذَهَبَ مَن قالَ: ومِمّا خَصَصْناهم مِن أنْوارِ المَعْرِفَةِ يُفِيضُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب