الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَبْلُ، فَإنْ أُرِيدَ بِالتَّقْوى أُولى مَراتِبِها فَمُخَصَّصَةٌ، أوْ ثانِيَتُها فَكاشِفَةٌ، أوْ ثالِثَتُها فَمادِحَةٌ، وفي شَرْحِ المِفْتاحِ الشَّرِيفِيِّ: إنَّ حَمْلَ المُتَّقِي عَلى مَعْناهُ الشَّرْعِيِّ أعْنِي الَّذِي يَفْعَلُ الواجِباتِ، ويَتْرُكُ السَّيِّئاتِ، فَإنْ كانَ المُخاطَبُ جاهِلًا بِذَلِكَ المَعْنى كانَ الوَصْفُ كاشِفًا، وإنْ كانَ عالِمًا كانَ مادِحًا، وإنْ حُمِلَ عَلى ما يَقْرُبُ مِن مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ كانَ مُخَصَّصًا، واسْتُظْهِرَ كَوْنُ المَوْصُولِ مَفْصُولًا قَصَدَ الإخْبارَ عَنْهُ بِما بَعْدَهُ، إثْباتُهُ لِما قَبْلَهُ، وإنْ فُهِمَ ضِمْنًا، فَهو وإنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ كالجارِي، وهَذا كافٍ في الِارْتِباطِ، والِاسْتِئْنافُ إمّا نَحْوِيٌّ أوْ بَيانِيٌّ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُ المُتَّقِينَ خُصُّوا بِذَلِكَ الهُدى، والوَقْفُ عَلى المُتَّقِينَ تامٌّ عَلى هَذا الوَجْهِ، حَسَنٌ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، والإيمانُ في اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ، أيْ إذْعانُ حُكْمِ المُخْبِرِ وقَبُولُهُ وجَعْلُهُ صادِقًا، وهو إفْعالٌ مِنَ الأمْنِ، كَأنَّ حَقِيقَةَ آمَنَ بِهِ، آمَنَهُ التَّكْذِيبَ والمُخالَفَةَ، ويَتَعَدّى بِاللّامِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ وبِالياءِ كَما في قَوْلِهِ ﷺ: «(الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ)» الحَدِيثَ، قالُوا: والأوَّلُ بِاعْتِبارِ تَضْمِينِهِ مَعْنى الإذْعانِ، والثّانِي بِاعْتِبارِ تَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ إشارَةً إلى أنَّ التَّصْدِيقَ لا يُعْتَبَرُ ما لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاعْتِرافُ، وقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنى الوُثُوقِ مِن حَيْثُ إنَّ الواثِقَ صارَ ذا أمْنٍ، وهو فِيهِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ أيْضًا كَما في الأساسِ، ويُفْهِمُ مَجازِيَّتُهُ ظاهِرُ كَلامِ الكَشّافِ، وأمّا في الشَّرْعِ، فَهو التَّصْدِيقُ بِما عُلِمَ مَجِيءُ النَّبِيِّ ﷺ بِهِ ضَرُورَةً تَفْصِيلًا، فِيما عُلِمَ تَفْصِيلًا، وإجْمالًا فِيما عُلِمَ إجْمالًا، وهَذا مَذْهَبُ جُمْهُورِ المُحَقِّقِينَ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أنَّ مَناطَ الأحْكامِ الأُخْرَوِيَّةِ مُجَرَّدُ هَذا المَعْنى، أمْ مَعَ الإقْرارِ، فَذَهَبَ الأشْعَرِيُّ وأتْباعُهُ إلى أنَّ مُجَرَّدَ هَذا المَعْنى كافٍ، لِأنَّهُ المَقْصُودُ، والإقْرارُ إنَّما هو لِيُعْلَمَ وُجُودُهُ، فَإنَّهُ أمْرٌ باطِنٌ، ويَجْرِي عَلَيْهِ الأحْكامُ، فَمَن صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وتَرَكَ الإقْرارَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنهُ كانَ مُؤْمِنًا شَرْعًا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ مَقَرُّهُ (p-111)الجَنَّةَ، لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ الهُمامِ أنَّ أهْلَ هَذا القَوْلِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّهُ مَتى طُلِبَ مِنهُ الإقْرارُ أتى بِهِ، فَإنْ طُولِبَ، ولَمْ يُقِرَّ فَهو كَفْرُ عِنادٍ، وذَهَبَ إمامُنا أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وغالِبُ مَن تَبِعَهُ إلى أنَّ الإقْرارَ وما في حُكْمِهِ كَإشارَةِ الأخْرَسِ لا بُدَّ مِنهُ، فالمُصَدِّقُ المَذْكُورُ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا إيمانًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأحْكامُ الأُخْرَوِيَّةُ كالمُصَلِّي مَعَ الرِّياءِ، فَإنَّهُ لا تَنْفَعُهُ صَلاتُهُ، ولَعَلَّ هَذا لِأنَّهُ تَعالى ذَمَّ المُعانِدِينَ أكْثَرَ مِمّا ذَمَّ الجاهِلِينَ المُقَصِّرِينَ، ولِلْمانِعِ أنْ يَجْعَلَ الذَّمَّ لِلْإنْكارِ اللِّسانِيِّ، ولا شَكَّ أنَّهُ عَلامَةُ التَّكْذِيبِ أوْ لِلْإنْكارِ القَلْبِيِّ الَّذِي هو التَّكْذِيبُ، وحاصِلُ ذَلِكَ مَنعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ لِلْمُعانِدِ، فَإنَّهُ ضِدَّ الإنْكارِ، وإنَّما الحاصِلُ لَهُ المَعْرِفَةُ الَّتِي هي ضِدَّ النَّكارَةِ والجَهالَةِ، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ تِلْكَ المَعْرِفَةَ خارِجَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ اللُّغَوِيِّ، وهو المُعْتَبَرُ في الإيمانِ، نَعَمِ اخْتَلَفُوا في أنَّها هَلْ هي داخِلَةٌ في التَّصَوُّرِ أمْ في التَّصْدِيقِ المَنطِقِيِّ، فالعَلّامَةُ الثّانِي عَلى الأوَّلِ، وأنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الصُّورَةُ الحاصِلَةُ مِنَ النِّسْبَةِ التّامَّةِ الخَبَرِيَّةِ تَصَوُّرًا، وأنَّ التَّصْدِيقَ المَنطِقِيَّ بِعَيْنِهِ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ، ولِذا فَسَّرَهُ رَئِيسُهم في الكُتُبِ الفارِسِيَّةِ (بِكَرْ وِيدَنْ)، وفي العَرَبِيَّةِ بِما يُخالِفُ التَّكْذِيبَ والإنْكارَ، وهَذا بِعَيْنِهِ المَعْنى اللُّغَوِيُّ، ويُؤَيِّدُهُ ما أوْرَدَهُ السَّيِّدُ السَّنَدُ في حاشِيَةِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ أنَّ المَنطِقِيَّ إنَّما يُبَيِّنُ ما هو في العُرْفِ واللُّغَةِ إلّا أنَّهُ يَرِدُ أنَّ المَعْنى المُعَبَّرَ عَنْهُ (بِكَرْ وِيدِنْ)، أمْرٌ قَطْعِيٌّ، وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ العَلّامَةُ في المَقاصِدِ، ولِذا يَكْفِي في بابِ الإيمانِ التَّصْدِيقُ البالِغُ حَدَّ الجَزْمِ، والإذْعانِ، مَعَ أنَّ التَّصْدِيقَ المَنطِقِيَّ يَعُمُّ الظَّنِّيَّ بِالِاتِّفاقِ، فَإنَّهم يُقَسِّمُونَ العِلْمَ بِالمَعْنى الأعَمِّ تَقْسِيمًا حاصِرًا إلى التَّصَوُّرِ والتَّصْدِيقِ تَوَسُّلًا بِهِ إلى بَيانِ الحاجَةِ إلى المَنطِقِ بِجَمِيعِ أجْزائِهِ الَّتِي مِنها القِياسُ الجَدَلِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المَشْهُوراتِ، والمُسَلَّماتِ، ومِنها القِياسُ الخِطابِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المَقْبُولاتِ، والمَظْنُوناتِ، والشِّعْرِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المُخَيَّلاتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّصْدِيقُ المَنطِقِيُّ عامًّا لَمْ يَثْبُتِ الِاحْتِياجُ إلى هَذِهِ الأجْزاءِ، وهو ظاهِرٌ، وصَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلى الأخِيرِ، فَإنَّ الصُّورَةَ الحاصِلَةَ مِنَ النِّسْبَةِ التّامَّةِ الخَبَرِيَّةِ تَصْدِيقٌ قَطْعًا، فَإنْ كانَ حاصِلًا بِالقَصْدِ، والِاخْتِيارِ بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ الإذْعانَ والقَبُولَ فَهو تَصْدِيقٌ لُغَوِيٌّ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَمَن وقَعَ بَصَرُهُ عَلى شَيْءٍ، فَعَلِمَ أنَّهُ جِدارٌ مَثَلًا فَهو مَعْرِفَةٌ يَقِينِيَّةٌ، ولَيْسَ بِتَصْدِيقٍ لُغَوِيٍّ، فالتَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ عِنْدَهُ أخَصُّ مِنَ المَنطِقِيِّ، وذَهَبَ الكَرامِيَّةُ إلى أنَّ الإيمانَ شَرْعًا إقْرارُ اللِّسانِ بِالشَّهادَتَيْنِ لا غَيْرُ، والخَوارِجُ والعَلّافُ، وعَبْدُ الجَبّارِ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ كُلَّ طاعَةٍ إيمانٌ فَرْضًا كانَتْ أوْ نَفَلًا، والجُبّائِيُّ وابْنُهُ وأكْثَرُ مُعْتَزِلَةِ البَصْرَةِ إلى أنَّهُ الطّاعاتُ المُفْتَرَضَةُ دُونَ النَّوافِلِ مِنها، والقَلانِسِيُّ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، والنَّجّارُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ وهو مَذْهَبُ أكْثَرِ أهْلِ الأثَرِ إلى أنَّهُ المَعْرِفَةُ بِالجَنانِ، والإقْرارُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بِالأرْكانِ، قِيلَ: وسِرُّ هَذا الِاخْتِلافِ الِاخْتِلافُ في أنَّ المُكَلَّفَ هو الرُّوحُ فَقَطْ، أوِ البَدَنُ فَقَطْ، أوْ مَجْمُوعُهُما، والحَقُّ أنَّ مَنشَأ كُلِّ مَذْهَبٍ دَلِيلٌ دَعا صاحِبَهُ إلى السُّلُوكِ فِيهِ، وأوْضَحُ المَذاهِبِ أنَّهُ التَّصْدِيقُ، ولِذا قالَ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: إنَّ الإيمانَ مَعْرِفَةٌ والمَعْرِفَةَ تَسْلِيمٌ، والتَّسْلِيمَ تَصْدِيقٌ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَذْهَبَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ وقَوْلُهُ ﷺ: «(اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ)،» حَيْثُ نَسَبَهُ فِيها وفي نَظائِرِها الغَيْرِ المَحْصُورَةِ إلى القَلْبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ فِعْلُ القَلْبِ، ولَيْسَ سِوى التَّصْدِيقِ، إذْ لَمْ يُبَيَّنْ في الشَّرْعِ بِمَعْنًى آخَرَ، فَلا نَقْلَ، وإلّا لَكانَ الخِطابُ بِالإيمانِ خِطابًا بِما لا يُفْهَمُ، ولِأنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، فَلا يُصارُ إلَيْهِ بِلا دَلِيلٍ، واحْتِمالُ أنْ يُرادَ بِالنُّصُوصِ الإيمانُ اللُّغَوِيُّ فَهو الَّذِي مَحَلُّهُ القَلْبُ، لا الإيمانُ الشَّرْعِيُّ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الإقْرارُ أوْ غَيْرُهُ جُزْءًا مِن مَعْناهُ، يَدْفَعُهُ أنَّ الإيمانَ مِنَ المَنقُولاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ خُصُوصِ المُتَعَلِّقِ، ولِذا بَيَّنَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُتَعَلِّقَهُ دُونَ مَعْناهُ، فَقالَ: «(أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ)» الحَدِيثَ، (p-112)فَهُوَ في المَعْنى اللُّغَوِيِّ مَجازٌ في كَلامِ الشّارِعِ، والأصْلُ في الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ، وأيْضًا ورَدَ عَطْفُ الأعْمالِ عَلى الإيمانِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ”إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحات“ والجُزْءُ لا يُعْطَفُ عَلى كُلِّهِ، وتَنَزُّلُ المَلائِكَةِ والرُّوحِ عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ بِتَأْوِيلِ الخُرُوجِ لِاعْتِبارٍ خِطابِيٍّ، وتَخْصِيصُها بِالنَّوافِلِ بِناءً عَلى خُرُوجِها خِلافُ الظّاهِرِ، وكَفى بِالظّاهِرِ حُجَّةً، وأيْضًا جُعِلَ الإيمانُ شَرْطَ صِحَّةِ الأعْمالِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ﴾ مَعَ القَطْعِ بِأنَّ المَشْرُوطَ لا يَدْخُلُ في الشَّرْطِ لِامْتِناعِ اشْتِراطِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، إذْ جُزْءُ الشَّرْطِ شَرْطٌ، وأيْضًا ورَدَ إثْباتُ الإيمانِ لِمَن تَرَكَ بَعْضَ الأعْمالِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ مَعَ أنَّهُ لا يَتَحَقَّقُ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ، وأيْضًا ما ذَكَرْناهُ أقْرَبُ إلى الأصْلِ، إذْ لا فَرْقَ بَيْنَهُما إلّا بِاعْتِبارِ خُصُوصِ المُتَعَلِّقِ كَما لا يَخْفى، وقَدْ أوْرَدَ الخَصْمُ وُجُوهًا في الإلْزامِ، الأوَّلُ أنَّ الإيمانَ لَوْ كانَ عِبارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ لَما اخْتَلَفَ مَعَ أنَّ إيمانَ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يُشْبِهُهُ إيمانُ العَوامِّ، بَلْ ولا الخَواصِّ، الثّانِي أنَّ الفُسُوقَ يُناقِضُ الإيمانَ، ولا يُجامِعُهُ بِنَصِّ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ﴾ ولَوْ كانَ بِمَعْنى التَّصْدِيقِ لَما امْتَنَعَ مُجامَعَتُهُ، الثّالِثُ أنَّ فِعْلَ الكَبِيرَةِ مِمّا يُنافِيهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى في المُرْتَكِبِ: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ﴾ ولَوْ كانَ بِمَعْنى التَّصْدِيقِ ما نافاهُ، الرّابِعُ أنَّ المُؤْمِنَ غَيْرُ مَخْزِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وقالَ سُبْحانَهُ في قُطّاعِ الطَّرِيقِ ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ فَهم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّهم مُصَدِّقُونَ الخامِسُ مُسْتَطِيعُ الحَجِّ إذا تَرَكَهُ مِن غَيْرِ عُذْرٍ كافِرٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ مَعَ أنَّهُ مُصَدِّقٌ، السّادِسُ مَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ مُصَدِّقٌ مَعَ أنَّهُ كافِرٌ بِنَصِّ ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ السّابِعُ أنَّ الزّانِيَ كَذَلِكَ بِنَصِّ قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لا يَزْنِي الزّانِي وهو مُؤْمِنٌ)،» وكَذا تارِكُ الصَّلاةِ عَمْدًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وأمْثالُ ذَلِكَ، الثّامِنُ أنَّ المُسْتَخِفَّ بِنَبِيٍّ مَثَلًا مُصَدِّقٌ مَعَ أنَّهُ كافِرٌ بِالإجْماعِ، التّاسِعِ أنَّ فِعْلَ الواجِباتِ هو الدِّينُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ والدِّينُ هو الإسْلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ والإسْلامُ هو الإيمانُ لِأنَّهُ لَوْ كانَ غَيْرَهُ لَما قُبِلَ مِن مُبْتَغِيهِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ العاشِرُ أنَّهُ لَوْ كانَ هو التَّصْدِيقَ لَما صَحَّ وصْفُ المُكَلَّفِ بِهِ حَقِيقَةً إلّا وقْتَ صُدُورِهِ مِنهُ، كَما في سائِرِ الأفْعالِ، مَعَ أنَّ النّائِمَ والغافِلَ يُوصَفانِ بِهِ إجْماعًا، مَعَ أنَّ التَّصْدِيقَ غَيْرُ باقٍ فِيهِما، الحادِيَ عَشَرَ أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يُقالَ لِمَن صَدَّقَ بِآلِهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مُؤْمِنٌ، وهو خِلافُ الإجْماعِ، الثّانِيَ عَشَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ بَعْضَ المُؤْمِنِينَ بِهِ عَزَّ وجَلَّ بِكَوْنِهِ مُشْرِكًا، فَقالَ: ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلا وهم مُشْرِكُونَ﴾ ولَوْ كانَ هو التَّصْدِيقَ لامْتَنَعَ مُجامَعَتُهُ لِلشِّرْكِ، سَلَّمْنا أنَّهُ هُوَ، ولَكِنْ ما المانِعُ أنْ يَكُونَ هو التَّصْدِيقَ بِاللِّسانِ كَما قالَهُ الكَرامِيَّةُ، كَيْفَ وأهْلُ اللُّغَةِ لا يَفْهَمُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ غَيْرَ التَّصْدِيقِ بِاللِّسانِ؟ وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّ التَّصْدِيقَ لِلْواحِدِ، وإنْ سَلَّمْنا عَدَمَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ فِيهِ مِنَ النَّبِيِّ والواحِدِ مِنّا، إلّا أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ التَّفاوُتُ بَيْنَ الإيمانَيْنِ بِسَبَبِ تَخَلُّلِ الفَعَلَةِ والقُوَّةِ بَيْنَ أعْدادِ الإيمانِ المُتَجَدِّدَةِ وقِلَّةِ تَخَلُّلِها، أوْ بِسَبَبِ عُرُوضِ الشُّبَهِ والتَّشْكِيكاتِ، وعَدَمِ عُرُوضِها، ولِلنَّبِيِّ الأكْمَلِ الأكْمَلِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ؎ولِلزُّنْبُورِ والبازِي جَمِيعًا لَدى الطَّيَرانِ أجْنِحَةٌ وخَفْقُ ؎ولَكِنْ بَيْنَ ما يَصْطادُ بازٌ ∗∗∗ وما يَصْطادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ وعَنِ الثّانِي بِأنَّ الآيَةَ لَيْسَ فِيها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الفُسُوقَ لا يُجامِعُ الإيمانَ، فَإنَّهُ لَوْ قِيلَ: حَبَّبَ إلَيْكُمُ العِلْمَ وكَرَّهَ إلَيْكُمُ (p-113)الفُسُوقَ لَمْ يَدُلَّ عَلى المُناقَضَةِ بَيْنَ العِلْمِ والفُسُوقِ، وكَوْنُ الكُفْرِ مُقابِلًا لِلْإيمانِ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنَ الآيَةِ، بَلْ مِن خارِجٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنا دِلالَةَ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرْتُمْ إلّا أنَّ ذَلِكَ مُعارَضٌ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى مُقارَنَةِ الظُّلْمِ لِلْإيمانِ في بَعْضٍ، وعَنِ الثّالِثِ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ فِعْلَ الكَبِيرَةِ مُنافٍ لِلْإيمانِ،﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ عَلى مَعْنى لا تَحْمِلَنَّكُمُ الشَّفَقَةُ عَلى إسْقاطِ حُدُودِ اللَّهِ تَعالى بَعْدَ وُجُوبِها، وعَنِ الرّابِعِ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الآيَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِ دِلالَةً، لِأنَّ آيَةَ نَفْيِ الخِزْيِ إنَّما دَلَّتْ عَلى نَفْيِهِ في الآخِرَةِ عَنِ المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، أوْ أصْحابِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وآيَةُ القاطِعِ دالَّةٌ عَلى الخِزْيِ في الدُّنْيا، ولا يَلْزَمُ مِن مُنافاةِ الخِزْيِ يَوْمَ القِيامَةِ لِلْإيمانِ مُنافاتُهُ لِلْإيمانِ في الدُّنْيا، وعَنِ الخامِسِ بِأنّا لا نُسَلِّمُ كَفْرَ مَن تَرَكَ الحَجَّ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، و(مَن كَفَرَ) ابْتِداءُ كَلامٍ، أوِ المُرادُ مَن لَمْ يُصَدِّقْ بِمَناسِكِ الحَجِّ، وجَحَدَها، ولا يُتَصَوَّرُ مَعَ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ، وعَنِ السّادِسِ بِأنَّ مَعْنى ”مَن لَمْ يَحْكم“ الآيَةَ مَن لَمْ يُصَدِّقْ، أوْ مَن لَمْ يَحْكم بِشَيْءٍ مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ، أوِ المُرادُ بِذَلِكَ التَّوْراةُ بِقَرِينَةِ السّابِقِ، وعَنِ السّابِعِ بِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: مَعْنى لا يَزْنِي الزّانِي وهو مُؤْمِنٌ، أيْ آمِنٌ مِن عَذابِ اللَّهِ، أيْ إنْ زَنى، والعِياذُ بِاللَّهِ، فَلْيَخَفْ عَذابَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولا يَأْمَن مَكْرَهُ، أوِ المُرادُ لا يَزْنِي مُسْتَحِلًّا لِزِناهُ، وهو مُؤْمِنٌ، أوْ لا يَزْنِي وهو عَلى صِفاتِ المُؤْمِنِ مِنِ اجْتِنابِ المَحْظُوراتِ، وهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى مِن مُخالَفَةِ الأوْضاعِ اللُّغَوِيَّةِ لِكَثْرَتِهِ دُونَها، وكَذا يُقالُ في نَظائِرِ هَذا، وعَنِ الثّامِنِ بِأنّا لا نُنْكِرُ مُجامَعَةَ الكَبائِرِ لِلْإيمانِ عَقْلًا غَيْرَ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى إكْفارِ المُسْتَخِفِّ، فَعَلِمْنا انْتِفاءَ التَّصْدِيقِ عِنْدَ وُجُودِ الِاسْتِخْفافِ مَثَلًا سَمْعًا، والجَمْعُ بَيْنَ العَمَلِ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وإجْماعِ الأُمَّةِ عَلى الإكْفارِ أوْلى مِن إبْطالِ أحَدِهِما، وعَنِ التّاسِعِ بِأنَّ الآيَةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الدِّينِ، وفِعْلِ الواجِباتِ لِلْعَطْفِ، وهو ظاهِرًا دَلِيلُ المُغايَرَةِ، سَلَّمْنا أنَّ الدِّينَ فِعْلُ الواجِباتِ، وأنَّ الدِّينَ هو الإسْلامُ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ الإسْلامَ هو الإيمانُ، ولَيْسَ المُرادُ بِغَيْرِ الإسْلامِ في الآيَةِ ما هو مُغايِرٌ لَهُ بِحَسَبِ المَفْهُومِ، وإلّا يَلْزَمُ أنْ لا تُقْبَلَ الصَّلاةُ والزَّكاةُ مَثَلًا، بَلِ المُغايِرُ لَهُ بِحَسَبِ الصِّدْقِ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإسْلامُ أعَمَّ، وهَذا كَما إذا قُلْتَ: مَن يَبْتَغِ غَيْرَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ سَها، فَإنَّكَ لا تَحْكُمُ بِسَهْوِ مَنِ ابْتَغى الكَلامَ، وظاهِرٌ أنَّ ذَمَّ غَيْرِ الأعَمِّ لا يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الأخَصِّ، فَإنَّ قَوْلَكَ: غَيْرُ الحَيَوانِ، مَذْمُومٌ لا يَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ مَذْمُومًا، وعَنِ العاشِرِ بِأنَّهُ مُشْتَرَكُ الإلْزامِ، فَما هو جَوابُكُمْ، فَهو جَوابُنا عَلى أنّا نَقُولُ التَّصْدِيقُ في حالَةِ النَّوْمِ، والغَفْلَةِ باقٍ في القَلْبِ والذُّهُولِ، إنَّما هو عَنْ حُصُولِهِ، والنَّوْمُ ضِدٌّ لِإدْراكِ الأشْياءِ ابْتَداءً لا أنَّهُ مُنافٍ لِبَقاءِ الإدْراكِ الحاصِلِ حالَةَ اليَقَظَةِ، سَلَّمْنا إلّا أنَّ الشّارِعَ جَعَلَ المُحَقِّقَ الَّذِي لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ ما يُضادُّهُ في حُكْمِ الباقِي، حَتّى كانَ المُؤْمِنُ اسْمًا لِمَن آمَنَ في الحالِ، أوْ في الماضِي، ولَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ ما هو عَلامَةُ التَّكْذِيبِ، وعَنِ الحادِيَ عَشَرَ بِأنَّ عَدَمَ تَسْمِيَةِ مَن صَدَّقَ بِآلِهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مُؤْمِنًا، إنَّما هو لِخُصُوصِيَّةِ مُتَعَلِّقِ الإيمانِ شَرْعًا، فَتَسْمِيَتُهُ مُؤْمِنًا يَصِحُّ نَظَرًا إلى الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، ولا يَصِحُّ نَظَرًا إلى الِاسْتِعْمالِ الشَّرْعِيِّ، وعَنِ الثّانِيَ عَشَرَ بِأنَّ الإيمانَ ضِدُّ الشِّرْكِ بِالإجْماعِ، وما ذَكَرُوهُ لازِمٌ عَلى كُلِّ مَذْهَبٍ، ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الإيمانَ هُناكَ لُغَوِيٌّ، إذْ في الشَّرْعِيِّ يُعْتَبَرُ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ ما عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ ﷺ، كَما تَقَدَّمَ، فالمُشْرِكُ المُصَدِّقُ بِبَعْضٍ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلّا بِحَسَبِ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، لِإخْلالِهِ بِالتَّوْحِيدِ، والآيَةُ إشارَةٌ إلَيْهِ، وقَوْلُهُمْ: أهْلُ اللُّغَةِ لا يَفْهَمُونَ إلَخْ، مُجَرَّدُ دَعْوى لا يُساعِدُها البُرْهانُ، نَعَمْ لا شَكَّ أنَّ المُقِرَّ بِاللِّسانِ وحْدَهُ يُسَمّى مُؤْمِنًا لُغَةً لِقِيامِ دَلِيلِ الإيمانِ الَّذِي هو التَّصْدِيقُ القَلْبِيُّ فِيهِ، كَما يُطْلَقُ الغَضْبانُ والفَرْحانُ عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ لِقِيامِ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلَيْها مِنَ الآثارِ اللّازِمَةِ لِلْغَضَبِ والفَرَحِ، ويَجْرِي عَلَيْهِ أحْكامُ الإيمانِ ظاهِرًا، ولا نِزاعَ في ذَلِكَ، وإنَّما النِّزاعُ في كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، والنَّبِيِّ ﷺ، ومَن بَعْدَهُ، كَما كانُوا يَحْكُمُونَ بِإيمانِ مَن تَكَلَّمَ بِالشَّهادَتَيْنِ كانُوا يَحْكُمُونَ بِكُفْرِ المُنافِقِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا يَكْفِي في الإيمانِ فِعْلُ اللِّسانِ (p-114)وهَذا مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَطِحَ فِيهِ كَبْشانِ، وكَأنَّهُ لِهَذا اشْتَرَطَ الرَّقاشِيُّ والقَطّانُ مُواطَأةَ القَلْبِ مَعَ المَعْرِفَةِ عِنْدَ الأوَّلِ، والتَّصْدِيقَ المُكْتَسَبَ بِالِاخْتِيارِ عِنْدَ الثّانِي، وقالَ الكَرامِيَّةُ: مَن أضْمَرَ الإنْكارَ وأظْهَرَ الإذْعانَ وإنْ كانَ مُؤْمِنًا لُغَةً وشَرْعًا لِتَحَقُّقِ اللَّفْظِ الدّالِّ الَّذِي وُضِعَ لَفْظُ الإيمانِ بِإزائِهِ إلّا أنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الشَّخْصُ الخُلُودَ في النّارِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَدْلُولِ ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي هو مَقْصُودٌ مِنِ اعْتِبارِ دِلالَتِهِ، هَذا وبَعْدَ سَبْرِ الأقْوالِ في هَذا المَقامِ، لَمْ يَظْهَرْ لِي بَأْسٌ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ السَّلَفُ الصّالِحُ، وهو أنَّ لَفْظَ الإيمانِ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ، وبَيْنَ الأعْمالِ، فَيَكُونُ إطْلاقُهُ عَلى التَّصْدِيقِ فَقَطْ، وعَلى مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ والأعْمالِ حَقِيقَةً كَما أنَّ المُعْتَبَرَ في الشَّجَرَةِ المُعَيَّنَةِ بِحَسَبِ العُرْفِ القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ ساقِها ومَجْمُوعِ ساقِها مَعَ الشُّعَبِ والأوْراقِ، فَلا يُطْلَقُ الِانْعِدامُ عَلَيْها ما بَقِيَ السّاقُ، فالتَّصْدِيقُ بِمَنزِلَةِ أصْلِ الشَّجَرَةِ، والأعْمالُ بِمَنزِلَةِ فُرُوعِها وأغْصانِها، فَما دامَ الأصْلُ باقِيًا يَكُونُ الإيمانُ باقِيًا، وقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ: «(الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً أعْلاها قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأدْناها إماطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ)،» وقَرِيبٌ مِن هَذا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ الأعْمالَ آثارٌ خارِجَةٌ عَنِ الإيمانِ، مُسَبِّبَةٌ لَهُ، ويُطْلَقُ عَلَيْها لَفْظُ الإيمانِ مَجازًا، ولا مُخالَفَةَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ، إلّا بِأنَّ إطْلاقَ اللَّفْظِ عَلَيْها حَقِيقَةٌ عَلى الأوَّلِ مَجازٌ عَلى الثّانِي، وهو بَحْثٌ لَفْظِيٌّ، والمُتَبادِرُ مِنَ الإيمانِ ها هُنا التَّصْدِيقُ كَما لا يَخْفى، (والغَيْبُ) مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ الوَصْفِ، وهو غائِبٌ لِلْمُبالَغَةِ بِجَعْلِهِ كَأنَّهُ هُوَ، وجَعْلُهُ بِمَعْنى المَفْعُولِ يَرُدُّهُ كَما في البَحْرِ أنَّ الغَيْبَ مَصْدَرُ غابَ، وهو لازِمٌ، لا يُبْنى مِنهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وجَعْلُهُ تَفْسِيرًا بِالمَعْنى لِأنَّ الغائِبَ يَغِيبُ بِنَفْسِهِ تَكَلُّفٌ مِن غَيْرِ داعٍ، أوْ فَيْعَلٌ خُفِّفَ كَقِيلٍ ومَيْتٍ، وفي البَحْرِ لا يَنْبَغِي أنْ يُدَّعى ذَلِكَ إلّا فِيما سُمِعَ مُخَفَّفًا ومُثَقَّلًا، وفَسَّرَهُ جَمْعٌ هُنا بِما لا يَقَعُ تَحْتَ الحَواسِّ، ولا تَقْتَضِيهِ بَداهَةُ العَقْلِ، فَمِنهُ ما لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وتَفَرَّدَ بِعِلْمِهِ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَعِلْمِ القَدَرِ مَثَلًا، ومِنهُ ما نُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كالحَقِّ تَعالى وصِفاتِهِ العُلا، فَإنَّهُ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ مَن أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى نُورًا عَلى حَسَبِ ذَلِكَ النُّورِ، فَلِهَذا تَجِدُ النّاسَ مُتَفاوِتِينَ فِيهِ، ولِلْأوْلِياءِ نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِهِمُ الحَظُّ الأوْفَرُ مِنهُ. ومِن هُنا قِيلَ: الغَيْبُ مُشاهَدَةُ الكُلِّ بِعَيْنِ الحَقِّ، فَقَدْ يُمْنَحُ العَبْدُ قُرْبَ النَّوافِلِ، فَيَكُونُ الحَقُّ سُبْحانَهُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وسَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، ويَرْقى مِن ذَلِكَ إلى قُرْبِ الفَرائِضِ فَيَكُونُ نُورًا، فَهُناكَ يَكُونُ الغَيْبُ لَهُ شُهُودًا، والمَفْقُودُ لَدَيْنا عِنْدَهُ مَوْجُودًا، ومَعَ هَذا لا أُسَوِّغُ لِمَن وصَلَ إلى ذَلِكَ المَقامِ أنْ يُقالَ فِيهِ: إنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلا اللَّهُ﴾ ؎وقُلْ لِقَتِيلِ الحُبِّ وفَّيْتَ حَقَّهُ ∗∗∗ ولِلْمُدَّعِي هَيْهاتَ ما الكُحْلُ الكُحْلُ واخْتَلَفَ النّاسُ في المُرادِ بِهِ هُنا عَلى أقْوالٍ شَتّى حَتّى زَعَمَتِ الشِّيعَةُ أنَّهُ القائِمُ، وقَعَدُوا عَنْ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلى ذَلِكَ، والَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ أنَّهُ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو اللَّهُ تَعالى، ومَلائِكَتُهُ، وكُتُبُهُ، ورُسُلُهُ، واليَوْمُ الآخِرُ، والقَدَرُ خَيْرُهُ وشَرُّهُ، لِأنَّ الإيمانَ المَطْلُوبَ شَرْعًا هو ذاكَ، لا سِيَّما وقَدِ انْضَمَّ إلَيْهِ الوَصْفانِ بَعْدَهُ، وكَوْنُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِإطْلاقِ الغَيْبِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ضِمْنًا، والغَيْبُ والغائِبُ ما يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، والغَيْبَةُ مِمّا لا يَضُرُّ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إطْلاقُهُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِخُصُوصِهِ، فَهَذا لَيْسَ مِن قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ، عَلى أنَّهُ لا نُسَلِّمُ أنَّ الغَيْبَ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيما يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، وبَعْضُ أهْلِ العِلْمِ فَرَّقَ بَيْنَ الغَيْبِ والغائِبِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُ تَعالى غَيْبٌ، ولَيْسَ بِغائِبٍ، ويَعْنُونَ بِالغائِبِ ما لا يَراكَ، ولا تَراهُ، وبِالغَيْبِ ما لا تَراهُ أنْتَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ بِالتَّغْلِيبِ لِيَدْخُلَ إيمانُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذْ لَيْسَ بِغَيْبٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، أوْ يُقالُ: الإيمانُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ راجِعٌ إلى الإيمانِ بِرِسالَتِهِ مَثَلًا، إذْ لا مَعْنى لِلْإيمانِ (p-115)بِهِ نَفْسِهِ مُعَرًّى عَنِ الحَيْثِيّاتِ، ورِسالَتُهُ غَيْبٌ نُصِبَ عَلَيْها الدَّلِيلُ كَما نُصِبَ لَنا، وإنِ افَتَرَقْنا بِالخَبَرِ والمُعايَنَةِ، أوْ أنَّهُ مِن إسْنادِ ما لِلْبَعْضِ إلى الكُلِّ مَجازًا، كَبَنُو فُلانٍ قَتَلُوا فُلانًا، أوِ المُرادُ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ كَما يُؤْمِنُونَ بِالشَّهادَةِ، فاسْتَوى عِنْدَهُمُ المُشاهَدُ وغَيْرُهُ، واخْتارَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنَّ المُرادَ أنَّ هَؤُلاءِ المُتَّقِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ أيْ حالَ الغَيْبَةِ عَنْكُمْ، كَما يُؤْمِنُونَ حالَ الحُضُورِ لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فَهو عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: حالَ غَيْبَةِ المُؤْمِنِ بِهِ، فَفي سُنَنِ الدّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ الحارِثَ بْنَ قَيْسٍ قالَ لَهُ: عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ ما سَبَقْتُمُونا إلَيْهِ مِن رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ إيمانَكم بِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولَمْ تَرَوْهُ، إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ بَيِّنًا لِمَن رَآهُ، والَّذِي لا إلَهَ إلّا هو ما مِن أحَدٍ أفْضَلَ مِن إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿المُفْلِحُونَ﴾ ولا يَلْزَمُ مِن تَفْضِيلِ إيمانٍ عَلى آخَرَ مِن حَيْثِيَّةِ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ مِن سائِرِ الحَيْثِيّاتِ، ولا تَفْصِيلِ المُتَّصِفِ بِأحَدِهِما عَلى المُتَّصِفِ بِالآخَرِ، فَإنَّ الأفْضَلِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الإضافاتِ والِاعْتِباراتِ، وقَدْ يُوجَدُ في المَفْضُولِ ما لَيْسَ في الفاضِلِ، ويا لَيْتَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ سَكَّنَ لَوْعَةَ الحارْثِ بِما ورَدَ عَنْهُ ﷺ مَرْفُوعًا، «(نِعْمَ قَوْمٌ يَكُونُونَ بَعْدَكم يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي)،» وما كانَ أغْناهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَمّا أجابَ بِهِ، إذْ يَخْرُجُ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم عَنْ هَذا العُمُومِ الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ، كَما يُشْعِرُ بِهِ قِراءَتُهُ لَها، مُسْتَشْهِدًا بِها، وبِهِ قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وأنا لا أمِيلُ إلى ذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ بِالغَيْبِ القَلْبُ أيْ يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ، لا كَمَن يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ، والباءُ عَلى الأوَّلِ لِلتَّعْدِيَةِ، وعَلى الثّانِي والثّالِثِ لِلْمُصاحَبَةِ، وعَلى الرّابِعِ لِلْآلَةِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ الأعْشى عَنْ أبِي بَكْرٍ بِتَرْكِ الهَمْزَةِ مِن (يُؤْمِنُونَ)، وكَذا كُلُّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ، بَلْ قَدْ يَتْرُكانِ كَثِيرًا مِنَ المُتَحَرِّكَةِ مِثْلَ ”لا يُؤاخِذُكم“ و﴿يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ﴾ وتَفْصِيلُ مَذْهَبِ أبِي جَعْفَرٍ طَوِيلٌ، وأمّا أبُو عَمْرٍو فَيَتْرُكُ كُلَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ إلّا أنْ يَكُونَ سُكُونُها عَلامَةً لِلْجَزْمِ مِثْلَ ”يهيئ لَكم“ (ونَبِّئْهُمْ)، و﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ فَإنَّهُ لا يَتْرُكُ الهَمْزَةَ فِيها، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا الهَمْزَةُ في السّاكِنَةِ، وأمّا نافِعٌ، فَيَتْرُكُ كُلَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ ومُتَحَرِّكَةٍ إذا كانَتْ فاءَ الفِعْلِ نَحْوَ (يُؤْمِنُونَ) و(لا يُؤاخِذُكُمْ)، واخْتَلَفَتْ قِراءَةُ الكِسائِيِّ وحَمْزَةَ، ولِكُلٍّ مَذْهَبٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، (ويُقِيمُونَ) مِنَ الإقامَةِ، يُقالُ: أقَمْتُ الشَّيْءَ إقامَةً إذا وفَّيْتَ حَقَّهُ، قالَ تَعالى: ﴿لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ أيْ تُوَفُّوا حَقَّهُما بِالعِلْمِ والعَمَلِ، ومَعْنى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، يَعْدِلُونَ أرْكانَها بِأنْ يُوقِعُوها مُسْتَجْمِعَةً لِلْفَرائِضِ والواجِباتِ أوْ لَها مَعَ الآدابِ والسُّنَنِ مِن أقامَ العُودَ إذا قَوَّمَهُ، أوْ يُواظِبُونَ عَلَيْها ويُداوِمُونَ، مِن قامَتِ السُّوقُ إذا نَفَقَتْ، وأقَمْتُها إذا جَعَلْتَها نافِقَةً، أوْ يَتَشَمَّرُونَ لِأدائِها بِلا فَتْرَةٍ عَنْها، ولا تَوانٍ، مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ، وأقامَهُ إذا جَدَّ فِيهِ، أوْ يُؤَدُّونَها ويَفْعَلُونَها، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالإقامَةِ لِأنَّ القِيامَ بَعْضُ أرْكانِها، فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ، وفي الكَلامِ عَلى الأوَّلَيْنِ مِنها اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وعَلى الأخِيرَيْنِ مَجازٌ مُرْسَلٌ، وبَيانُ ذَلِكَ في الأوَّلِ أنْ يُشَبِّهَ تَعْدِيلَ الأرْكانِ بِتَقْوِيمِ العُودِ بِإزالَةِ اعْوِجاجِهِ، فَهو قَوِيمٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالقائِمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الإقامَةُ مِن تَسْوِيَةِ الأجْسامِ الَّتِي صارَتْ حَقِيقَةً فِيها لِتَسْوِيَةِ المَعانِي، كَتَعْدِيلِ أرْكانِ الصَّلاةِ عَلى ما هو حَقُّها، وقِيلَ: الإقامَةُ بِمَعْنى التَّسْوِيَةِ حَقِيقَةٌ في الأعْيانِ والمَعانِي، بَلِ التَّقْوِيمُ في المَعانِي كالدِّينِ، والمَذْهَبِ أكْثَرُ (p-116)فَلا حاجَةَ إلى الِاسْتِعارَةِ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّ المَجازِيَّةَ ما لا شُبْهَةَ فِيها دِرايَةً ورِوايَةً، وذاكَ الِاسْتِعْمالُ مَجازٌ مَشْهُورٌ، أوْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وفي الثّانِي بِأنَّ نَفاقَ السُّوقِ كانْتِصابِ الشَّخْصِ في حُسْنِ الحالِ والظُّهُورِ التّامِّ، فاسْتَعْمَلَ القِيامَ فِيهِ، والإقامَةَ في إنْفاقِها ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ مِنهُ لِلْمُداوَمَةِ، فَإنَّ كُلًّا مِنهُما يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَهُ مَرْغُوبًا مُتَنافَسًا فِيهِ مُتَوَجَّهًا إلَيْهِ، وهَذا مَعْنًى لَطِيفٌ لا يَقِفُ عَلَيْهِ إلّا الخَواصُّ، إلّا أنَّ فِيهِ تَجَوُّزًا مِنَ المَجازِ، وكَأنَّهُ لِهَذا مالَ الطِّيبِيُّ إلى أنَّ في هَذا الوَجْهِ كِنايَةً تَلْوِيحِيَّةَ حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الدَّوامِ بِالإقامَةِ، فَإنَّ إقامَةَ الصَّلاةِ بِالمَعْنى الأوَّلِ مُشْعِرَةٌ بِكَوْنِها مَرْغُوبًا فِيها، وإضاعَتُها تَدُلُّ عَلى ابْتِذالِها كالسُّوقِ إذا شُوهِدَتْ قائِمَةً دَلَّتْ عَلى نَفاقِ سِلْعَتِها ونَفاقِها عَلى تَوَجُّهِ الرَّغَباتِ إلَيْها، وهو يَسْتَدْعِي الِاسْتِدامَةَ بِخِلافِها إذا لَمْ تَكُنْ قائِمَةً، وفي الثّالِثِ بِأنَّ القِيامَ بِالأمْرِ يَدُلُّ عَلى الِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ، ويَلْزَمُهُ التَّشَمُّرُ فَأُطْلِقَ القِيامُ عَلى لازِمِهِ، وقَدْ يُقالُ بِأنَّ قامَ بِالأمْرِ مَعْناهُ جَدَّ فِيهِ، وخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِلا تَأْخِيرٍ ولا تَقْصِيرٍ، فَكَأنَّهُ قامَ بِنَفْسِهِ لِذَلِكَ، وأقامَهُ أيْ رَفَعَهُ عَلى كاهِلِهِ بِجُمْلَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ فِيهِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ أوْ مَكْنِيَّةٌ أوْ تَصْرِيحِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أيْضًا مَجازًا مُرْسَلًا، لِأنَّ مَن قامَ لِأمْرٍ عَلى أقْدامِ الإقْدامِ، ورَفَعَهُ عَلى كاهِلِ الجِدِّ، فَقَدْ بَذَلَ فِيهِ جُهْدَهُ، وفي الرّابِعِ بِأنَّ الأداءَ المُرادُ بِهِ فِعْلُ الصَّلاةِ، والقَيْدُ خارِجٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِالإقامَةِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، إذْ يَلْزَمُ مِن تَأْدِيَةِ الصَّلاةِ وإيجادِها كُلِّها فِعْلُ القِيامِ، وهو الإقامَةُ، لِأنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ فِعْلٌ لِأجْزائِهِ، أوِ العَلاقَةِ الجُزْئِيَّةِ، لِأنَّ الإقامَةَ جُزْءٌ أوْ جُزْئِيٌّ لِمُطْلَقِ الفِعْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ لِمُشابَهَةِ الأداءِ لِلْإقامَةِ في أنَّ كُلًّا مِنهُما فِعْلٌ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلاةِ وإلى تَرْجِيحِ أوَّلِ الأوْجُهِ مالَ جَمْعٌ لِأنَّهُ أظْهَرُ وأقْرَبُ إلى الحَقِيقَةِ، وأفْيَدُ، وهو المَرْوِيُّ عَنْ تُرْجُمانِ القُرْآنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنْهُ، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِنهُ عَنْ تَوْقِيفٍ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ حَمْلٌ لِكَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى أحْسَنِ مَحامِلِهِ، حَيْثُ إنَّهُ المُناسِبُ لِتَرْتِيبِ الهُدى الكامِلِ، والفَلاحِ التّامِّ الشّامِلِ، وفِيهِ المَدْحُ العَظِيمُ والثَّناءُ العَمِيمُ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ بِاسْتِلْزامِهِ لِما في الأوْجُهِ الأخِيرَةِ، وتَعَيَّنَ الأخِيرُ كَما قِيلَ في حَدِيثِ: «(أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنَّ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأمْوالَهم إلّا بِحَقِّ الإسْلامِ)،» لا يَضُرُّ في أرْجَحِيَّةِ الأوَّلِ في الكَلامِ القَدِيمِ، إذْ يَرِدُ أنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ قِيلَ: يُصَلُّونَ، والعُدُولُ عَنِ الأخْصَرِ الأظْهَرِ بِلا فائِدَةٍ لا يَتَّجِهُ في كَلامٍ بَلِيغٍ فَضْلًا عَنْ أبْلَغِ الكَلامِ، ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، فافْهَمْ، (والصَّلاةُ) في الأصْلِ عِنْدَ بَعْضٍ بِمَعْنى الدُّعاءِ، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(إذا دُعِيَ أحَدُكم إلى طَعامٍ فَلْيُجِبْ، وإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ)،» وهي عِنْدَ أهْلِ الشَّرْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ في ذاتِ الأرْكانِ، لِأنَّها دُعاءٌ بِالألْسِنَةِ الثَّلاثَةِ، الحالِ والفِعْلِ والمَقالِ، والمَشْهُورُ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ المُعْتَزِلَةَ عَلى أنَّ هَذِهِ وأمْثالَها حَقائِقُ مُخْتَرَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِأنَّها مَنقُولَةٌ عَنْ مَعانٍ لُغَوِيَّةٍ، والقاضِي أبُو بَكْرٍ مِنّا عَلى أنَّها مَجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ لَمْ تَصِرْ حَقائِقَ، وجَماهِيرُ الأصْحابِ عَلى أنَّها حَقائِقُ شَرْعِيَّةٌ عَنْ مَعانٍ لُغَوِيَّةٍ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ ورَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ: الصَّلاةُ مِنَ الصَّلَوَيْنِ لِعِرْقَيْنِ في الظَّهْرِ، لِأنَّ أوَّلَ ما يُشاهَدُ مِن أحْوالِها تَحْرِيكُهُما لِلرُّكُوعِ، واسْتَحْسَنَهُ ابْنُ جِنِّي، وسُمِّيَ الدّاعِي مُصَلِّيًا تَشْبِيهًا لَهُ في تَخَشُّعِهِ بِالرّاكِعِ السّاجِدِ، وقِيلَ: أُخِذَتِ الصَّلاةُ مِن ذاكَ لِأنَّها جاءَتْ ثانِيَةً لِلْإيمانِ، فَشُبِّهَتْ بِالمَصْلِيِّ مِنَ الخَيْلِ لِلْآتِي مَعَ صَلَوَيِ السّابِقِ، وأنْكَرَ الإمامُ الِاشْتِقاقَ مِنَ الصَّلَوَيْنِ مُسْتَنِدًا إلى أنَّ الصَّلاةَ مِن أشْهَرِ الألْفاظِ، فاشْتِقاقُها مِن غَيْرِ المَشْهُورِ في غايَةِ البُعْدِ، وأكادُ أُوافِقُهُ وإنْ قِيلَ: إنَّ عَدَمَ الِاسْتِشْهارِ لا يَقْدَحُ في النَّقْلِ، وقِيلَ: مِن صَلَيْتُ العَصا إذا قَوَّمْتَها بِالصَّلْيِ، فالمُصَلِّي كَأنَّهُ يَسْعى في تَعْدِيلِ ظاهِرِهِ وباطِنِهِ مِثْلَ ما يُحاوِلُ تَعْدِيلَ الخَشَبَةِ بِعَرْضِها عَلى النّارِ، وهي فَعَلَةٌ (p-117)بِفَتْحِ العَيْنِ، عَلى المَشْهُورِ، وجَوَّزَ بَعْضُهم سُكُونَها، فَتَكُونُ حَرَكَةُ العَيْنِ مَنقُولَةً مِنَ اللّامِ، وقَدِ اتَّفَقَتِ المَصاحِفُ عَلى رَسْمِ الواوِ مَكانَ الألِفِ في مِشْكَوَةٍ، ونَجاةٍ، ومَناةٍ، وصَلاةٍ، وزَكاةٍ، وحَياةٍ، حَيْثُ كُنَّ مُوَحَّداتٍ مُفْرَداتٍ مُحَلّاتٍ بِاللّامِ، وعَلى رَسْمِ المُضافِ مِنها كَصَلاتِي بِالألِفِ، وحُذِفَتْ مِن بَعْضِ المَصاحِفِ العُثْمانِيَّةِ، واتَّفَقُوا عَلى رَسْمِ المَجْمُوعِ مِنها بِالواوِ عَلى اللَّفْظِ قالَ الجُعْبَرِيُّ: ووَجْهُ كِتابَةِ الواوِ الدِّلالَةُ عَلى أنَّ أصْلَها المُنْقَلِبَةَ عَنْهُ واوٌ وهو إتْباعٌ لِلتَّفْخِيمِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ: بَعْضُ العَرَبِ يُمِيلُونَ الألِفَ إلى الواوِ، ولَمْ أخْتَرِ التَّعْلِيلَ بِهِ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ في القُرْآنِ العَظِيمِ، وكَلامِ الفُصَحاءِ، والمُرادُ بِالصَّلاةِ هُنا الصَّلاةُ المَفْرُوضَةُ وهي الصَّلَواتُ الخَمْسُ، كَما قالَهُ مُقاتِلٌ أوِ الفَرائِضُ والنَّوافِلُ، كَما قالَهُ الجُمْهُورُ، والأوَّلُ هو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وادَّعى الإمامُ أنَّهُ هو المُرادُ لِأنَّهُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الفَلاحُ لِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمّا بَيَّنَ لِلْأعْرابِيِّ صِفَةَ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ قالَ: «(واللَّهِ لا أزِيدُ عَلَيْها، ولا أنْقُصُ مِنها، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أفْلَحَ الأعْرابِيُّ إنْ صَدَقَ)،» (والرَّزْقُ) بِالفَتْحِ لُغَةً الإعْطاءُ لِما يَنْتَفِعُ الحَيَوانُ بِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ يَعُمُّ غَيْرَهُ كالنَّباتِ، وبِالكَسْرِ اسْمٌ مِنهُ، ومَصْدَرٌ أيْضًا عَلى قَوْلٍ، وقِيلَ: أصْلُ الرِّزْقِ الحَظُّ، ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى المَرْزُوقِ المُنْتَفَعِ بِهِ، وبِمَعْنى المُلْكِ، وبِمَعْنى الشُّكْرِ عِنْدَ أزْدٍ، واخْتَلَفَ المُتَكَلِّمُونَ في مَعْناهُ شَرْعًا، فالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الأشاعِرَةِ ما ساقَهُ اللَّهُ تَعالى إلى الحَيَوانِ فانْتَفَعَ بِهِ، سَواءٌ كانَ حَلالًا أوْ حَرامًا، مِنَ المَطْعُوماتِ، أوِ المَشْرُوباتِ، أوِ المَلْبُوساتِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، والمَشْهُورُ أنَّهُ اسْمٌّ لِما يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعالى إلى الحَيَوانِ لِيَتَغَذّى بِهِ، ويَلْزَمُ عَلى الأوَّلِ أنْ تَكُونَ العَوارِي رِزْقًا، لِأنَّها مِمّا ساقَهُ اللَّهُ تَعالى لِلْحَيَوانِ فانْتَفَعَ بِهِ، وفي جَعْلِها رِزْقًا بَعْدُ بِحَسَبِ العُرْفِ كَما لا يَخْفى، ويَلْزَمُ أيْضًا أنْ يَأْكُلَ شَخْصٌ رِزْقَ غَيْرِهِ، لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الآخَرُ بِالأكْلِ، إلّا أنَّ الآيَةَ تُوافِقُهُ إذْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِانْتِفاعُ مِن جِهَةِ الإنْفاقِ عَلى الغَيْرِ بِخِلافِ التَّعْرِيفِ الثّانِي، إذْ ما يُتَغَذّى بِهِ لا يُمْكِنُ إنْفاقُهُ إلّا أنْ يُقالَ: إطْلاقُ الرِّزْقِ عَلى المُنْفَقِ مُجازٌ لِكَوْنِهِ بِصَدَدِهِ، والمُعْتَزِلَةُ فَسَّرُوهُ في المَشْهُورِ تارَةً بِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى عَبْدَهُ ومَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وتارَةً بِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى لِقِوامِهِ وبَقائِهِ خاصَّةً، وحَيْثُ إنَّ الإضافَةَ إلى اللَّهِ تَعالى مُعْتَبَرَةٌ في مَعْناهُ، وأنَّهُ لا رازِقَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ، وأنَّ العَبْدَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ والعِقابَ عَلى أكْلِ الحَرامِ، وما يَسْتَنِدُ إلى اللَّهِ تَعالى عَزَّ وجَلَّ عِنْدَهم لا يَكُونُ قَبِيحًا ولا مُرْتَكِبُهُ مُسْتَحِقًّا ذَمًّا وعِقابًا، قالُوا: إنَّ الرِّزْقَ هو الحَلالُ، والحَرامُ لَيْسَ بِرِزْقٍ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الجَصّاصُ مِنّا في كِتابِ أحْكامِ القُرْآنِ، وعِنْدَنا الكُلُّ مِنهُ وبِهِ وإلَيْهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ وإلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور والذَّمُّ والعِقابُ لِسُوءِ مُباشَرَةِ الأسْبابِ بِالِاخْتِيارِ، نَعَمِ الأدَبُ مِن خَيْرِ رَأْسِ مالِ المُؤْمِنِ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ إلّا الأفْضَلُ، فالأفْضَلُ كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ فالحَرامُ رِزْقٌ في نَفْسِ الأمْرِ، لَكِنّا نَتَأدَّبُ في نِسْبَتِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، والدَّلِيلُ عَلى شُمُولِ الرِّزْقِ لَهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ، وأبُو نُعَيْمٍ والدَّيْلَمِيُّ مِن حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ قالَ: «(جاءَ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فَلا أُرانِي أُرْزَقُ إلّا مِن دُفِّي بِكَفِّي، فَأْذَنْ لِي في الغِنى مِن غَيْرِ فاحِشَةٍ، فَقالَ ﷺ: لا إذَنَ لَكَ، ولا كَرامَةَ، ولا نِعْمَةَ، كَذَبْتَ، أيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تَعالى رِزْقًا حَلالًا طَيِّبًا فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ، مَكانَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن حَلالِهِ)،» وحَمْلُهُ عَلى المُشاكَلَةِ كالقَوْلِ بِأنَّهُ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (فاخْتَرْتَ) إلَخْ، كَوْنَهُ رِزْقًا لِمَن أُحِلَّ لَهُ، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ لِقِيامِ الِاحْتِمالِ، خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا، ومِثْلُ هَذا الِاحْتِمالِ إنْ قَدَحَ في الِاسْتِدْلالِ لا يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ دَلِيلٌ، والطَّعْنُ في السَّنَدِ لا يُقْبَلُ مِن غَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وهو مَناطُ الثُّرَيّا، كَما لا يَخْفى، والِاسْتِدْلالُ عَلى هَذا المَطْلَبِ كَما فَعَلَ البَيْضاوِيُّ وغَيْرُهُ بِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الحَرامُ رِزْقًا لَمْ يَكُنِ المُتَغَذِّي (p-118)بِهِ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقًا، ولَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ لِلْمُعْتَزِلَةِ أنْ لا يَخُصُّوا الرِّزْقَ بِالغِذاءِ، بَلْ يَكْتَفُوا بِمُطْلَقِ الِانْتِفاعِ دُونَ الِانْتِفاعِ بِالفِعْلِ، بَلِ التَّمَكُّنِ فِيهِ، فَلا يَتِمُّ الدَّلِيلُ إلّا إذا فُرِضَ أنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَمْ يَنْتَفِعْ مِن وقْتِ وفاتِهِ إلى وقْتِ مَوْتِهِ بِشَيْءٍ انْتِفاعًا مُحَلّالًا، لا رَضْعَةَ مِن ثَدْيٍ، ولا شَرْبَةَ مِن ماءٍ مُباحٍ، ولا نَظْرَةَ إلى مَحْبُوبٍ، ولا وصْلَةَ إلى مَطْلُوبٍ، بَلْ ولا تَمَكُّنَ مِن ذَلِكَ أصْلًا، والعادَةُ تَقْضِي بِعَدَمِ وُجُودِهِ، ومادَّةُ النَّقْضِ لا بُدَّ مِن تَحَقُّقِها عَلى أنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُهُ لَقالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُحَرَّمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، و﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ وأيْضًا لَهم أنْ يَعْتَرِضُوا بِمَن عاشَ يَوْمًا مَثَلًا، ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ يَتَناوَلَ حَلالًا ولا حَرامًا، وما يَكُونُ جَوابَنا لَهُمْ، يَكُونُ جَوابَهم لَنا، عَلى أنَّ الآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يُوصِلُ جَمِيعَ ما يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أحَدٍ إلَيْهِ، فَإنَّ الواقِعَ خِلافُهُ بَلْ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَسُوقُ الرِّزْقَ، ويُمَكِّنُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإذا حَصَلَ الإعْراضُ مِنَ الحَلالِ إلى الحَرامِ لَمْ يَقْدَحْ في تَحَقُّقِ رازِقِيَّتِهِ جَلَّ وعَلا، وأيْضًا قَدْ يُقالُ: مَعْنى الآيَةِ ما مِن دابَّةٍ مُتَّصِفَةٍ بِالمَرْزُوقِيَّةِ، فَلا تَدْخُلُ مادَّةُ النَّقْضِ لِيَضُرَّ خُرُوجُها، كَما لا يَدْخُلُ السَّمَكُ في قَوْلِهِمْ: كُلُّ دابَّةٍ تُذْبَحُ بِالسِّكِّينِ، أيْ كُلُّ دابَّةٍ تَتَّصِفُ بِالمَذْبُوحَةِ، فالِاتِّصافُ أنَّ هَذا لا يَصْلُحُ دَلِيلًا، والأحْسَنُ الِاسْتِدْلالُ بِالإجْماعِ قَبْلَ ظُهُورِ المُعْتَزِلَةِ، عَلى أنَّ مَن أكَلَ الحَرامَ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقٌ طُولَ عُمْرِهِ ذَلِكَ الحَرامَ، والظَّواهِرُ تَشْهَدُ بِانْقِسامِ الرِّزْقِ إلى طَيِّبٍ وخَبِيثٍ، وهي تَكْفِي في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ، والأصْلُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ قَدْ تَرَكَهُ أهْلُ السُّنَّةِ قاعًا صَفْصَفًا، (والإنْفاقُ) الإنْفادُ يُقالُ: أنْفَقْتُ الشَّيْءَ، وأنْفَدْتُهُ بِمَعْنًى، والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، وأصْلُ المادَّةِ تَدُلُّ عَلى الخُرُوجِ والذَّهابِ، ومِنهُ نافَقَ، والنّافِقاءُ ونَفَقَ، وإنَّما قَدَّمَ سُبْحانَهُ وتَعالى المَعْمُولَ اعْتِناءً بِما خَوَّلَ اللَّهُ تَعالى العَبْدَ، أوْ لِأنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلى الإنْفاقِ في الخارِجِ، ولِتَناسُبِ الفَواصِلِ، والمُرادُ بِالرِّزْقِ هُنا الحَلالُ لِأنَّهُ في مَعْرِضِ وصْفِ المُتَّقِي، ولا مَدْحَ أيْضًا في إنْفاقِ الحَرامِ، قِيلَ: ولا يُرَدُّ قَوْلُ الفُقَهاءِ إذا اجْتَمَعَ عِنْدَ أحَدٍ مالٌ لا يَعْرِفُ صاحِبَهُ يَنْبَغِي أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإذا وجَدَ صاحِبَهُ دَفَعَ قِيمَتَهُ، أوْ مِثْلَهُ إلَيْهِ، فَهَذا الإنْفاقُ مِمّا يُثابُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ لَمّا فَعَلَهُ بِإذْنِ الشّارِعِ اسْتَحَقَّ المَدْحَ، لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَعْرِفْ صاحِبَهُ كانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وانْتَقَلَ بِالضَّمانِ إلى مِلْكِهِ، وتَبَدَّلَتِ الحُرْمَةُ إلى ثَمَنِهِ، عَلى أنَّهُ قَدْ وقَعَ الخِلافُ فِيما لَوْ عَمِلَ الخَيْرَ بِمالٍ مَغْصُوبٍ عُرِفَ صاحِبُهُ كَما قالَ ابْنُ القَيِّمِ في بَدائِعِ الفَوائِدِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ إلى أنَّهُ لا ثَوابَ لِلْغاصِبِ فِيهِ، لِأنَّهُ آثِمٌ ولا لِرَبِّ المالِ، لِأنَّهُ لا نِيَّةَ لَهُ، ولا ثَوابَ بِدُونِها، وإنَّما يُأْخَذُ مِن حَسَناتِ الغاصِبِ بِقَدْرِ مالِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ نَفْعٌ حَصَلَ بِمالِهِ، وتَوَلَّدَ مِنهُ، ومِثْلُهُ يُثابُ عَلَيْهِ، كالوَلَدِ الصّالِحِ يُؤْجَرُ بِهِ، وإنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، ويُفْهَمُ كَلامُ البَعْضِ وهو مِنَ الغَرابَةِ بِمَكانٍ أنَّ الغاصِبَ أيْضًا يُؤْجَرُ إذا صَرَفَها بِخَيْرٍ، وإنْ تَعَدَّ واقْتُصَّ مِن حَسَناتِهِ بِسَبَبِ أخْذِهِ لِأنَّهُ لَوْ فَسَقَ بِهِ عُوقِبَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عَلى الغَصْبِ، ومَرَّةً عَلى الفِسْقِ، فَإذا عَمِلَ بِهِ خَيْرًا يَنْبَغِي أنْ يُثابَ عَلَيْهِ، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ ولا يَرِدُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِن غُلُولٍ)،» وقَوْلُهُ: «(إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طِيِّبًا)،» لِأنَّ مَآلَ ما ذُكِرَ أنَّ الثَّوابَ عَلى نَفْسِ العُدُولِ مِنَ الصَّرْفِ في المَعْصِيَةِ إلى الصَّرْفِ فِيما هو طاعَةٌ في نَفْسِهِ، لا عَلى نَفْسِ الصَّدَقَةِ مَثَلًا بِالمالِ الحَرامِ مِن حَيْثُ إنَّهُ حَرامٌ، والفَرْقُ دَقِيقٌ لا يُهْتَدى إلَيْهِ إلّا بِتَوْفِيقٍ. وقَدِ اخْتُلِفَ في الإنْفاقِ ها هُنا فَقِيلَ وهو الأوْلى: صَرْفُ المالِ في سُبُلِ الخَيْراتِ، أوِ البَذْلُ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وعِلْمٌ لا يُقالُ بِهِ، كَكَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنهُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الزَّكاةُ، وعَنْهُ وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفَقَةُ العِيالِ، وعَنِ الضَّحّاكِ التَّطَوُّعُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكاةِ أوِ النَّفَقَةُ في الجِهادِ، ولَعَلَّ هَذِهِ الأقْوالَ تَمْثِيلٌ لِلْمُنْفَقِ لا خِلافَ فِيهِ، وبَعْضُهم جَعَلَها خِلافًا، ورَجَّحَ كَوْنَها الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ بِاقْتِرانِها (p-119)بِأُخْتِها الصَّلاةِ في عِدَّةِ مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ، ومِنَ التَّبَعُّضِيَّةُ حِينَئِذٍ مِمّا لا يُسْئَلُ عَنْ سِرِّها، إذِ الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ لا تَكُونُ بِجَمِيعِ المالِ، وأمّا إذا كانَ المُرادُ بِالإنْفاقِ مُطْلَقَهُ الأعَمَّ مَثَلًا، فَفائِدَةُ إدْخالِها الإشارَةُ إلى أنَّ إنْفاقَ بَعْضِ المالِ يَكْفِي في اتِّصافِ المُنْفِقِ بِالهِدايَةِ والفَلاحِ، ولا يَتَوَقَّفُ عَلى إنْفاقِ جَمِيعِ المالِ، وقَوْلُ مَوْلانا البَيْضاوِيِّ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ لِلْكَفِّ عَنِ الإسْرافِ المَنهِيِّ عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِمَن لَمْ يَصْبِرْ عَلى الفاقَةِ، ويَتَجَرَّعْ مَرارَةَ الإضافَةِ، وإلّا فَقَدْ تَصَدَّقَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِجَمِيعِ مالِهِ، ولَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِصَبْرِهِ واطِّلاعِهِ عَلى ما وقَرَ في صَدْرِهِ، ومِن ها هُنا لَمّا قِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ: لا خَيْرَ في الإسْرافِ، قالَ: لا إسْرافَ في الخَيْرِ، وقِيلَ: النُّكْتَةُ في إدْخالِ مِنَ التَّبَعُّضِيَّةِ هي أنَّ الرِّزْقَ أعَمُّ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، فَأُدْخِلَتْ إيذانًا بِأنَّ الإنْفاقَ المُعْتَدَّ بِهِ ما يَكُونُ مِنَ الحَلالِ، وهو بَعْضٌ مِنَ الرِّزْقِ، (وما) في الآيَةِ إمّا مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، والأوَّلُ أوْلى، فالعائِدُ مَحْذُوفٌ، واسْتُشْكِلَ بِأنَّهُ إنْ قُدِّرَ مُتَّصِلًا يَلْزَمُ اتِّصالُ ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ الرُّتْبَةِ، والِانْفِصالُ في مِثْلِهِ واجِبٌ، وإنْ قُدِّرَ مُنْفَصِلًا امْتَنَعَ حَذْفُهُ، إذْ قَدْ أوْجَبُوا ذِكْرَ المُنْفَصِلِ مُعَلِّلِينَ بِأنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ إلّا لِغَرَضٍ، وإذا حُذِفَ فَأتَتِ الدِّلالَةُ عَلَيْهِ، وأُجِيبُ عَلى اخْتِيارِ كُلٍّ، أمّا الأوَّلُ فَبِأنَّهُ لَمّا اخْتَلَفَ الضَّمِيرانِ جَمْعًا وإفْرادًا جازَ اتِّصالُهُما، وإنِ اتَّحَدا رُتْبَةً كَقَوْلِهِ: ؎لِوَجْهِكَ في الإحْسانِ بَسْطٌ وبَهْجَةٌ ∗∗∗ أنا لَهُماهُ قَفْوُ أكْرَمِ والِدِ وأيْضًا يَلْزَمُ مِن مَنعِ ذَلِكَ مَلْفُوظًا بِهِ مَنعُهُ مُقَدَّرًا، لِزَوالِ القُبْحِ اللَّفْظِيِّ، وأمّا الثّانِي فَبِأنَّ الَّذِي يُمْنَعُ حَذْفُهُ ما كانَ مُنْفَصِلًا لِغَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ كالحَصْرِ لا مُطْلَقًا، كَما قالَ ابْنُ هِشامٍ في الجامِعِ الصَّغِيرِ، وأشارَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وكُتِبَتْ (مِن) مُتَّصِلَةً (بِما) مَحْذُوفَةَ النُّونِ، لِأنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ كَشَيْءٍ واحِدٍ، وقَدْ حُذِفَتِ النُّونُ لَفْظًا، فَناسَبَ حَذْفُها في الخَطِّ، قالَهُ في البَحْرِ، وجَعَلَ سُبْحانَهُ صِلاتِ (الَّذِينَ) أفْعالًا مُضارِعَةً، ولَمْ يَجْعَلِ المَوْصُولَ ألْ فَيَصِلُهُ بِاسْمِ الفاعِلِ، لِأنَّ المُضارِعَ فِيما ذَكَرَهُ البَعْضُ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، مَعَ ما فِيهِ هُنا مِنَ الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ، وهَذِهِ الأوْصافُ مُتَجَدِّدَةٌ في المُتَّقِينَ، واسْمُ الفاعِلِ عِنْدَهم لَيْسَ كَذَلِكَ، ورُتِّبَتْ هَذا النَّحْوَ مِنَ التَّرْتِيبِ لِأنَّ الأعْمالَ إمّا قَلْبِيَّةٌ وأعْظَمُها اعْتِقادُ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، والمَعادِ، إذْ لَوْلاهُ كانَتِ الأعْمالُ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، أوْ قالَبِيَّةٌ وأصْلُها الصَّلاةُ لِأنَّها الفارِقَةُ بَيْنَ الكُفْرِ والإسْلامِ، وهي عَمُودُ الدِّينِ ومِعْراجُ المُوَحِّدِينَ، والأُمُّ الَّتِي يَتَشَعَّبُ مِنها سائِرُ الخَيْراتِ والمَبَرّاتِ، ولِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ)،» وقَدْ أطْلَقَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها الإيمانَ كَما قالَهُ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ أوْ مالِيَّةٌ وهي الإنْفاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى، وهي الَّتِي إذا وُجِدَتْ عُلِمَ الثَّباتُ عَلى الإيمانِ، وهَذِهِ الثَّلاثَةُ مُتَفاوِتَةُ الرُّتَبِ، فَرَتَّبَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ مُقَدِّمًا الأهَمَّ فالأهَمَّ، والألْزَمَ فالألْزَمَ، لِأنَّ الإيمانَ لازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ في كُلِّ آنٍ، والصَّلاةَ في أكْثَرِ الأوْقاتِ، والنَّفَقَةَ في بَعْضِ الحالاتِ، فافْهَمْ ذاكَ، واللَّهُ يَتَوَلّى هُداكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب