الباحث القرآني

(p-١٧)﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما وهْوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ . لَمّا ذَكَرَ هَوْلَ يَوْمِ القِيامَةِ وذَكَرَ حالَ الكافِرِينَ اسْتَأْنَفَ بِذِكْرِ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعالى وذِكْرِ صِفاتِهِ إبْطالًا لِكُفْرِ الكافِرِينَ وقَطْعًا لِرَجائِهِمْ، لِأنَّ فِيها ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ وجُعِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ابْتِداءً لِآياتِ تَقْرِيرِ الوَحْدانِيَّةِ والبَعْثِ، وأُودِعَتْ هَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ هُنا لِأنَّها كالبَرْزَخِ بَيْنَ الأغْراضِ السّابِقَةِ واللّاحِقَةِ. وجِيءَ بِاسْمِ الذّاتِ هُنا لِأنَّهُ أظْهَرُ طَرِيقٍ في الدَّلالَةِ عَلى المُسَمّى المُنْفَرِدِ بِهَذا الِاسْمِ، فَإنَّ العَلَمَ أعْرَفُ المَعارِفِ لِعَدَمِ احْتِياجِهِ في الدَّلالَةِ عَلى مُسَمّاهُ إلى قَرِينَةٍ أوْ مَعُونَةٍ لَوْلا احْتِمالُ تَعَدُّدِ التَّسْمِيَةِ، فَلَمّا انْتَفى هَذا الِاحْتِمالُ في اسْمِ الجَلالَةِ كانَ أعْرَفَ المَعارِفِ لا مَحالَةَ لِاسْتِغْنائِهِ عَنِ القَرائِنِ والمَعُوناتِ، فالقَرائِنُ كالتَّكَلُّمِ والخِطابِ، والمَعُوناتُ كالمَعادِ والإشارَةِ بِاليَدِ والصِّلَةِ وسَبْقِ العَهْدِ والإضافَةِ. وجُمْلَةُ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ خَبَرٌ أوَّلُ عَنِ اسْمِ الجَلالَةِ، والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ إثْباتُ الوَحْدانِيَّةِ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى دَلالَةِ (﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾) عَلى التَّوْحِيدِ ونَفْيِ الآلِهَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [البقرة: ١٦٣] . وقَوْلُهُ: ”الحَيُّ“ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، و”القَيُّومُ“ خَبَرٌ ثانٍ لِذَلِكَ المُبْتَدَأِ المَحْذُوفِ، والمَقْصُودُ إثْباتُ الحَياةِ وإبْطالُ اسْتِحْقاقِ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ وصْفَ الإلَهِيَّةِ لِانْتِفاءِ الحَياةِ عَنْهم كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] وفُصِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِقْلالِها لِأنَّها لَوْ عُطِفَتْ لَكانَتْ كالتَّبَعِ، وظاهِرُ كَلامِ الكَشّافِ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِما تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ مِن أنَّهُ القائِمُ (p-١٨)بِتَدْبِيرِ الخَلْقِ، أيْ: لِأنَّ اخْتِصاصَهُ بِالإلَهِيَّةِ يَقْتَضِي أنْ لا مُدَبِّرَ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، خِلافًا لِما قَرَّرَ بِهِ التَّفْتازانِيُّ كَلامَهُ فَإنَّهُ غَيْرُ مُلائِمٍ لِعِبارَتِهِ. والحَيُّ في كَلامِ العَرَبِ مَن قامَتْ بِهِ الحَياةُ، وهي صِفَةٌ بِها الإدْراكُ والتَّصَرُّفُ، أعْنِي كَمالَ الوُجُودِ المُتَعارَفِ، فَهي في المَخْلُوقاتِ بِانْبِثاثِ الرُّوحِ واسْتِقامَةِ جَرَيانِ الدَّمِ في الشَّرايِينِ، وبِالنِّسْبَةِ إلى الخالِقِ ما يُقارِبُ أثَرَ صِفَةِ الحَياةِ فِينا، أعْنِي انْتِفاءَ الجَمادِيَّةِ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ عَوارِضِ المَخْلُوقاتِ، وفَسَرَّها المُتَكَلِّمُونَ بِأنَّها: صِفَةٌ تُصَحِّحُ لِمَن قامَتْ بِهِ الإدْراكَ والفِعْلَ. وفَسَّرَ صاحِبُ الكَشّافِ (الحَيَّ) بِالباقِي، أيِ الدّائِمِ الحَياةِ بِحَيْثُ لا يَعْتَرِيهِ العَدَمُ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا كِنايَةً في لازِمِ مَعْناهُ لِأنَّ إثْباتَ الحَياةِ لِلَّهِ تَعالى بِغَيْرِ هَذا المَعْنى لا يَكُونُ إلّا مَجازًا أوْ كِنايَةً، وقالَ الفَخْرُ: (الَّذِي عِنْدِي أنَّ ( الحَيَّ) في أصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ صِحَّةِ العِلْمِ والقُدْرَةِ، بَلْ عِبارَةً عَنْ كَمالِ الشَّيْءِ في جِنْسِهِ، قالَ تَعالى: ﴿فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [البقرة: ١٦٤] وحَياةُ الأشْجارِ إيراقُها، فالصِّفَةُ المُسَمّاةُ في عُرْفِ المُتَكَلِّمِينَ بِالحَياةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّ كَمالَ حالِ الجِسْمِ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِها، فالمَفْهُومُ الأصْلِيُّ مِن لَفْظِ (الحَيِّ) كَوْنُهُ واقِعًا عَلى أكْمَلِ أحْوالِهِ وصِفاتِهِ ) . والمَقْصُودُ بِوَصْفِ اللَّهِ هُنا بِالحَيِّ إبْطالُ عَقِيدَةِ المُشْرِكِينَ إلاهِيَّةَ أصْنامِهِمُ الَّتِي هي جَماداتٌ، وكَيْفَ يَكُونُ مُدَبِّرُ أُمُورِ الخَلْقِ جَمادًا. والحَيُّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِن حَيِيَ، أصْلُهُ حَيِيٌ كَحَذِرٍ أُدْغِمَتِ الياءانِ وهو يائِيٌّ بِاتِّفاقِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ، وأمّا كِتابَةُ السَّلَفِ في المُصْحَفِ كَلِمَةَ (حَيَوةٍ) بِواوٍ بَعْدَ الياءِ فَمُخالِفَةٌ لِلْقِياسِ، وقِيلَ: كَتَبُوها عَلى لُغَةِ أهْلِ اليَمَنِ لِأنَّهم يَقُولُونَ حَيَوةً أيْ حَياةً، وقِيلَ: كَتَبُوها عَلى لُغَةِ تَفْخِيمِ الفَتْحَةِ. و(القَيُّومُ) فَيْعُولٌ مِن قامَ يَقُومُ وهو وزْنُ مُبالَغَةٍ، وأصْلُهُ قَيْوُومٌ فاجْتَمَعَتِ الواوُ والياءُ وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتا، والمُرادُ بِهِ المُبالَغَةُ في القِيامِ المُسْتَعْمَلِ مَجازًا مَشْهُورًا في تَدْبِيرِ شُئُونِ النّاسِ، قالَ تَعالى: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣] والمَقْصُودُ إثْباتُ عُمُومِ العِلْمِ لَهُ وكَمالُ الحَياةِ وإبْطالُ إلَهِيَّةِ (p-١٩)أصْنامِ المُشْرِكِينَ لِأنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ مُدَبِّرَ الكَوْنِ هو اللَّهُ تَعالى، وإنَّما جَعَلُوا آلِهَتَهم شُفَعاءَ وشُرَكاءَ ومُقْتَسِمِينَ أُمُورَ القَبائِلِ، والمُشْرِكُونَ مِنَ اليُونانِ كانُوا قَدْ جَعَلُوا لِكُلِّ إلَهٍ مِن آلِهَتِهِمْ أنْواعًا مِنَ المَخْلُوقاتِ يَتَصَرَّفُ فِيها وأُمَمًا مِنَ البَشَرِ تَنْتَمِي إلَيْهِ ويَحْنَأُ عَلَيْها. وجُمْلَةُ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ ولِرَفْعِ احْتِمالِ المُبالَغَةِ فِيها، فالجُمْلَةُ مُنَزَّلَةٌ مَنزِلَةَ البَيانِ لِمَعْنى (الحَيِّ القَيُّومِ) ولِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَها. و(السِّنَةُ) فِعْلَةٌ مِنَ الوَسَنِ، وهو أوَّلُ النَّوْمِ والظّاهِرُ أنَّ أصْلَها اسْمُ هَيْئَةٍ كَسائِرِ ما جاءَ عَلى وزْنِ فِعْلَةٍ مِنَ الواوِيِّ الفاءِ، وقَدْ قالُوا: (وسَنَةٌ) بِفَتْحِ الواوِ عَلى صِيغَةِ المَرَّةِ، والسِّنَةُ أوَّلُ النَّوْمِ، قالَ عَدِيُّ بْنُ الرِّقاعِ: ؎وسْنانُ أقْصَدَهُ النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ في عَيْنِهِ سِنَةٌ ولَيْسَ بِنائِمِ. والنَّوْمُ مَعْرُوفٌ وهو فُتُورٌ يَعْتَرِي أعْصابَ الدِّماغِ مِن تَعَبِ إعْمالِ الأعْصابِ ومِن تَصاعُدِ الأبْخِرَةِ البَدَنِيَّةِ النّاشِئَةِ عَنِ الهَضْمِ والعَمَلِ العَصَبِيِّ، فَيَشْتَدُّ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ ومَجِيءِ الظُّلْمَةِ فَيَطْلُبُ الدِّماغُ والجِهازُ العَصَبِيُّ الَّذِي يُدَبِّرُهُ الدِّماغُ اسْتِراحَةً طَبِيعِيَّةً فَيَغِيبُ الحِسُّ شَيْئًا فَشَيْئًا وتَثْقُلُ حَرَكَةُ الأعْضاءِ، ثُمَّ يَغِيبُ الحِسُّ إلى أنْ تَسْتَرْجِعَ الأعْصابُ نَشاطَها فَتَكُونَ اليَقَظَةُ. ونَفْيُ اسْتِيلاءِ السِّنَةِ والنَّوْمِ عَلى اللَّهِ تَعالى تَحْقِيقٌ لِكَمالِ الحَياةِ ودَوامِ التَّدْبِيرِ، وإثْباتٌ لِكَمالِ العِلْمِ، فَإنَّ السِّنَةَ والنَّوْمَ يُشْبِهانِ المَوْتَ، فَحَياةُ النّائِمِ في حالِهِما حَياةٌ ضَعِيفَةٌ، وهُما يَعُوقانِ عَنِ التَّدْبِيرِ وعَنِ العِلْمِ بِما يَحْصُلُ في وقْتِ اسْتِيلائِهِما عَلى الإحْساسِ. ونَفْيُ السِّنَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى لا يُغْنِي عَنْ نَفْيِ النَّوْمِ عَنْهُ لِأنَّ مِنَ الأحْياءِ مَن لا تَعْتَرِيهِ السِّنَةُ فَإذا نامَ نامَ عَمِيقًا، ومِنَ النّاسِ مَن تَأْخُذُهُ السِّنَةُ في غَيْرِ وقْتِ النَّوْمِ غَلَبَةً، وقَدْ تَمادَحَتِ العَرَبُ بِالقُدْرَةِ عَلى السَهَرِ، قالَ أبُو كَبِيرٍ: ؎فَأتَتْ بِهِ حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّنًا ∗∗∗ سُهُدًا إذا ما نامَ لَيْلُ الهَوْجَلِ (p-٢٠)والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ لا يَحْجُبُ عِلْمَهُ شَيْءٌ حَجْبًا ضَعِيفًا ولا طَوِيلًا ولا غَلَبَةً ولا اكْتِسابًا، فَلا حاجَةَ إلى ما تَطَلَّبَهُالفَخْرُ والبَيْضاوِيُّ مِن أنَّ تَقْدِيمَ السِّنَةِ عَلى النَّوْمِ مُراعًى فِيهِ تَرْتِيبُ الوُجُودِ، وأنَّ ذِكْرَ النَّوْمِ مِن قَبِيلِ الِاحْتِراسِ، وقَدْ أخَذَ هَذا المَعْنى بَشّارٌ وصاغَهُ بِما يُناسِبُ صِناعَةَ الشِّعْرِ فَقالَ: ؎ولَيْلٍ دَجُوجِيٍّ تَنامُ بَناتُهُ ∗∗∗ وأبْناؤُهُ مِن طُولِهِ ورَبائِبُهْ فَإنَّهُ أرادَ مِن بَناتِ اللَّيْلِ وأبْنائِهِ السّاهِراتِ والسّاهِرِينَ بِمُواظَبَةٍ، وأرادَ بِرَبائِبِ اللَّيْلِ مَن هم أضْعَفُ مِنهم سَهَرًا لِلَيْلٍ؛ لِأنَّ الرَّبِيبَ أضْعَفُ نِسْبَةً مِنَ الوَلَدِ والبِنْتِ. وجُمْلَةُ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ تَقْرِيرٌ لِانْفِرادِهِ بِالإلَهِيَّةِ إذْ جَمِيعُ المَوْجُوداتِ مَخْلُوقاتُهُ، وتَعْلِيلٌ لِاتِّصافِهِ بِالقَيُّومِيَّةِ لِأنَّ مَن كانَتْ جَمِيعُ المَوْجُوداتِ مِلْكًا لَهُ فَهو حَقِيقٌ بِأنْ يَكُونَ قَيُّومَها وألّا يُهْمِلَها ولِذَلِكَ فُصِلَتِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها. واللّامُ لِلْمِلْكِ، والمُرادُ بِالسَّماواتِ والأرْضِ اسْتِغْراقُ أمْكِنَةِ المَوْجُوداتِ، فَقَدْ دَلَّتِ الجُمْلَةُ عَلى عُمُومِ المَوْجُوداتِ بِالمَوْصُولِ وصِلَتِهِ، وإذا ثَبَتَ مِلْكُهُ لِلْعُمُومِ ثَبَتَ أنَّهُ لا يَشِذُّ عَنْ مِلْكِهِ مَوْجُودٌ فَحَصَلَ مَعْنى الحَصْرِ، ولَكِنَّهُ زادَهُ تَأْكِيدًا بِتَقْدِيمِ المُسْنَدِ - أيْ لا لِغَيْرِهِ - لِإفادَةِ الرَّدِّ عَلى أصْنافِ المُشْرِكِينَ، مِنَ الصّابِئَةِ عَبْدَةِ الكَواكِبِ كالسُّرْيانِ واليُونانِ، ومِن مُشْرِكِي العَرَبِ، لِأنَّ مُجَرَّدَ حُصُولِ مَعْنى الحَصْرِ بِالعُمُومِ لا يَكْفِي في الدَّلالَةِ عَلى إبْطالِ العَقائِدِ الضّالَّةِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ أفادَتْ تَعْلِيمَ التَّوْحِيدِ بِعُمُومِها، وأفادَتْ إبْطالَ عَقائِدِ أهْلِ الشِّرْكِ بِخُصُوصِيَّةِ القَصْرِ. وجُمْلَةُ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ لِما أفادَهُ لامُ المِلْكِ مِن شُمُولِ مِلْكِهِ تَعالى لِجَمِيعِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ، وما تَضَمَّنَهُ تَقْدِيمُ المَجْرُورِ مِن قَصْرِ ذَلِكَ المِلْكِ عَلَيْهِ تَعالى قَصْرَ قَلْبٍ، فَبَطَلَ وصْفُ الإلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ، بِالمُطابَقَةِ، وبَطَلَ حَقُّ الإدْلالِ عَلَيْهِ والشَّفاعَةِ عِنْدَهُ - الَّتِي لا تُرَدُّ - بِالِالتِزامِ؛ لِأنَّ الإدْلالَ مِن شَأْنِ المُساوِي والمُقارِبِ، والشَّفاعَةُ إدْلالٌ، وهَذا إبْطالٌ لِمُعْتَقَدِ مُعْظَمِ مُشْرِكِي العَرَبِ لِأنَّهم لَمْ يُثْبِتُوا لِآلِهَتِهِمْ وطَواغِيتِهِمْ (p-٢١)أُلُوهِيَّةً تامَّةً، بَلْ قالُوا: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] وقالُوا: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣] فَأكَّدَ هَذا المَدْلُولَ بِالصَّرِيحِ، ولِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَمّا قَبْلَها. و(ذا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إذْ لَيْسَ ثَمَّ مُشارٌ إلَيْهِ مُعَيَّنٌ، والعَرَبُ تَزِيدُ (ذا) لِما تَدُلُّ عَلَيْهِ الإشارَةُ مِن وُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِفْهامِ، حَتّى إذا ظَهَرَ عَدَمُ وُجُودِهِ كانَ ذَلِكَ أدَلَّ عَلى أنْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُتَطَلِّعٍ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِادِّعاءِ هَذا الحُكْمِ، وتَقَدَّمَ القَوْلُ في مَن ذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] . والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في الإنْكارِ والنَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْناءِ مِنهُ بِقَوْلِهِ: إلّا بِإذْنِهِ. والشَّفاعَةُ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] . والمَعْنى أنَّهُ لا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحَدٌ بِحَقٍّ وإدْلالٍ لِأنَّ المَخْلُوقاتِ كُلَّها مِلْكُهُ، ولَكِنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مَن أرادَ هو أنْ يُظْهِرَ كَرامَتَهُ عِنْدَهُ فَيَأْذَنَهُ بِأنْ يَشْفَعَ فِيمَن أرادَ هو العَفْوَ عَنْهُ، كَما يُسْنَدُ إلى الكُبَراءِ مُناوَلَةُ المَكْرُماتِ إلى نُبَغاءِ التَّلامِذَةِ في مَواكِبِ الِامْتِحانِ، ولِذَلِكَ جاءَ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْتِيهِ النّاسُ لِيُكَلِّمَ رَبَّهُ فَيُخَفِّفَ عَنْهم هَوْلَ مَوْقِفِ الحِسابِ، فَيَأْتِي حَتّى يَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ ويَتَكَلَّمَ بِكَلِماتٍ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعالى إيّاها، فَيُقالُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ» فَسُجُودُهُ اسْتِيذانٌ في الكَلامِ، ولا يَشْفَعُ حَتّى يُقالَ: اشْفَعْ، وتَعْلِيمُهُ الكَلِماتِ مُقَدَّمَةٌ لِلْإذْنِ. وجُمْلَةُ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ تَقْرِيرٌ وتَكْمِيلٌ لِما تَضَمَّنَهُ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ ولِما تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ فَإنَّ جُمْلَتَيْ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ دَلَّتا عَلى عُمُومِ عِلْمِهِ بِما حَدَثَ ووُجِدَ مِنَ الأكْوانِ ولَمْ تَدُلّا عَلى عِلْمِهِ بِما سَيَكُونُ فَأكَّدَ وكَمَّلَ بِقَوْلِهِ: (يَعْلَمُ) الآيَةَ، وهي أيْضًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ إذْ قَدْ يَتَّجِهُ سُؤالٌ: لِماذا حُرِمُوا الشَّفاعَةَ إلّا بَعْدَ الإذْنِ ؟ فَقِيلَ: لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ مَن يَسْتَحِقُّ (p-٢٢)الشَّفاعَةَ ورُبَّما غَرَّتْهُمُ الظَّواهِرُ، واللَّهُ يَعْلَمُ مَن يَسْتَحِقُّها، فَهو يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم، ولِأجْلِ هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ فُصِلَتِ الجُمْلَةُ عَمّا قَبْلَها. والمُرادُ بِما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ما هو مُلاحَظٌ لَهم مِنَ المَعْلُوماتِ وما خَفِيَ عَنْهم أوْ ذُهِلُوا عَنْهُ مِنها، أوْ ما هو واقِعٌ بَعْدَهم وما وقَعَ قَبْلَهم، وأمّا عِلْمُهُ بِما في زَمانِهِمْ فَأحْرى، وقِيلَ: المُسْتَقْبَلُ هو ما بَيْنَ الأيْدِي والماضِي هو الخَلْفُ، وقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ، وهُما اسْتِعْمالانِ مَبْنِيّانِ عَلى اخْتِلافِ الِاعْتِبارِ في تَمْثِيلِ ما بَيْنَ الأيْدِي والخَلْفِ، لِأنَّ ما بَيْنَ أيْدِي المَرْءِ هو أمامُهُ، فَهو يَسْتَقْبِلُهُ ويُشاهِدُهُ ويَسْعى لِلْوُصُولِ إلَيْهِ وما خَلْفَهُ هو ما وراءَ ظَهْرِهِ، فَهو قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وانْقَطَعَ ولا يُشاهِدُهُ، وقَدْ تَجاوَزَهُ ولا يَتَّصِلُ بِهِ بَعْدُ، وقِيلَ أُمُورُ الدُّنْيا وأُمُورُ الآخِرَةِ، وهو فَرْعٌ مِنَ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ، وقِيلَ المَحْسُوساتُ والمَعْقُولاتُ، وأيًّا ما كانَ، فاللَّفْظُ مَجازٌ، والمَقْصُودُ عُمُومُ العِلْمِ بِسائِرِ الكائِناتِ. وضَمِيرُ (أيْدِيهِمْ وخَلْفَهم) عائِدٌ إلى ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ بِتَغْلِيبِ العُقَلاءِ مِنَ المَخْلُوقاتِ لِأنَّ المُرادَ بِما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ما يَشْمَلُ أحْوالَ غَيْرِ العُقَلاءِ، أوْ هو عائِدٌ عَلى خُصُوصِ العُقَلاءِ مِن عُمُومِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ، فَيَكُونُ المُرادُ ما يَخْتَصُّ بِأحْوالِ البَشَرِ، وهو البَعْضُ، لِضَمِيرِ ”ولا يُحِيطُونَ“ لِأنَّ العِلْمَ مِن أحْوالِ العُقَلاءِ. وعُطِفَتْ جُمْلَةُ ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ عَلى جُمْلَةِ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ لِأنَّها تَكْمِلَةٌ لِمَعْناها كَقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] . ومَعْنى (يُحِيطُونَ) يَعْلَمُونَ عِلْمًا تامًّا، وهو مُجازٌ حَقِيقَتُهُ أنَّ الإحاطَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي الِاحْتِواءَ عَلى جَمِيعِ أطْرافِهِ، بِحَيْثُ لا يَشِذُّ مِنهُ شَيْءٌ في أوَّلِهِ ولا آخِرِهِ، فالمَعْنى: لا يَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ شَيْئًا مِن مَعْلُوماتِهِ، وأمّا ما يَدَّعُونَهُ فَهو رَجْمٌ بِالغَيْبِ، فالعِلْمُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن عِلْمِهِ﴾ بِمَعْنى العُمُومِ، كالخَلْقِ بِمَعْنى المَخْلُوقِ، وإضافَتُهُ إلى ضَمِيرِ اسْمِ الجَلالَةِ تَخْصِيصٌ لَهُ بِالعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِها ولَمْ يُنَصِّبِ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها دَلائِلَ عَقْلِيَّةً أوْ عادِيَّةً، ولِذَلِكَ فَقَوْلُهُ ﴿إلّا بِما شاءَ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ أصْفِيائِهِ عَلى ما هو مِن خَواصِّ عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا﴾ [الجن: ٢٦] ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٧] . (p-٢٣)وقَوْلُهُ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ تَقْرِيرٌ لِما تَضَمَّنَتْهُ الجُمَلُ كُلُّها مِن عَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى وكِبْرِيائِهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وبَيانِ عَظَمَةِ مَخْلُوقاتِهِ المُسْتَلْزِمَةِ عَظَمَةَ شَأْنِهِ، أوْ لِبَيانِ سِعَةِ مُلْكِهِ كَذَلِكَ، كَما سَنُبَيِّنُهُ، وقَدْ وقَعَتْ هَذِهِ الجُمَلُ مُتَرَتِّبَةً مُتَفَرِّعَةً. والكُرْسِيُّ شَيْءٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ مُتَرَكِّبٌ مِن أعْوادٍ أوْ غَيْرِها مَوْضُوعَةٍ كالأعْمِدَةِ مُتَساوِيَةٍ، عَلَيْها سَطْحٌ مِن خَشَبٍ أوْ غَيْرِهِ بِمِقْدارِ ما يَسَعُ شَخْصًا واحِدًا في جُلُوسِهِ، فَإنْ زادَ عَلى مَجْلِسٍ واحِدٍ وكانَ مُرْتَفِعًا فَهو العَرْشُ، ولَيْسَ المُرادُ في الآيَةِ حَقِيقَةَ الكُرْسِيِّ، إذْ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى لِاقْتِضائِهِ التَّحَيُّزَ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ. والجُمْهُورُ قالُوا: إنَّ الكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ، ويُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى لِعَظَمَتِهِ فَقِيلَ: هو العَرْشُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وهَذا هو الظّاهِرُ؛ لِأنَّ الكُرْسِيَّ لَمْ يُذْكَرْ في القُرْآنِ إلّا في هَذِهِ الآيَةِ وتَكَرَّرَ ذِكْرُ العَرْشِ، ولَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُما مُقْتَرِنَيْنِ، فَلَوْ كانَ الكُرْسِيُّ غَيْرَ العَرْشِ لَذُكِرَ مَعَهُ كَما ذُكِرَتِ السَّماواتُ مَعَ العَرْشِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ [المؤمنون: ٨٦] وقِيلَ: الكُرْسِيُّ غَيْرُ العَرْشِ، فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ هو دُونَ العَرْشِ، ورُوِيَ في ذَلِكَ عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: «ما الكُرْسِيُّ في العَرْشِ إلّا كَحَلْقَةٍ مِن حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الأرْضِ» وهو حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ، وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ والسُّدِّيُّ والضَّحّاكُ: الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ مِنَ العَرْشِ، أيْ لِأنَّ الجالِسَ عَلى عَرْشٍ يَكُونُ مُرْتَفِعًا عَنِ الأرْضِ فَيُوضَعُ لَهُ كُرْسِيٌّ لِئَلّا تَكُونَ رِجْلاهُ في الفَضاءِ إذا لَمْ يَتَرَبَّعْ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: الكُرْسِيُّ مَثَلٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لِأنَّ العالِمَ يَجْلِسُ عَلى كُرْسِيٍّ لِيُعَلِّمَ النّاسَ، وقِيلَ: مَثَلٌ لِمُلْكِ اللَّهِ تَعالى كَما يَقُولُونَ فُلانٌ صاحِبُ كُرْسِيِّ العِراقِ أيْ مُلْكِ العِراقِ، قالَ البَيْضاوِيُّ: ولَعَلَّهُ الفَلَكُ المُسَمّى عِنْدَهم بِفَلَكِ البُرُوجِ. قُلْتُ: أثْبَتَ القُرْآنُ سَبْعَ سَماواتٍ، ولَمْ يُبَيِّنْ مُسَمّاها في قَوْلِهِ (سُورَةِ نُوحٍ): ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ [نوح: ١٥] ﴿وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا﴾ [نوح: ١٦] فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ السَّماواتُ طَبَقاتٍ مِنَ الأجْواءِ، مُخْتَلِفَةَ الخَصائِصِ مُتَمايِزَةً بِما يَمْلَأُها مِنَ العَناصِرِ، وهي مَسْحُ الكَواكِبِ، ولَقَدْ قالَ تَعالى (سُورَةُ المُلْكِ): ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ [الملك: ٥] ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ السَّماواتُ هي الكَواكِبَ العَظِيمَةَ المُرْتَبِطَةَ بِالنِّظامِ (p-٢٤)الشَّمْسِيِّ وهي فُلْكانَ وعُطارِدُ والزُّهْرَةُ، وهَذِهِ تَحْتَ الشَّمْسِ إلى الأرْضِ، والمِرِّيخُ والمُشْتَرِي، وزُحَلُ، وأُورانُوسُ، ونِبْتُونُ، وهَذِهِ فَوْقَ الشَّمْسِ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ في البُعْدِ، إلّا أنَّها في عِظَمِ الحَجْمِ يَكُونُ أعْظَمَها المُشْتَرِي، ثُمَّ زُحَلُ، ثُمَّ نِبْتُونُ، ثُمَّ أُورانُوسُ، ثُمَّ المِرِّيخُ، فَإذا كانَ العَرْشُ أكْبَرَها فَهو المُشْتَرِي والكُرْسِيُّ دُونَهُ فَهو زُحَلُ، والسَّبْعُ الباقِيَةُ هي المَذْكُورَةُ ويُضَمُّ إلَيْها القَمَرُ. وإنْ كانَ الكُرْسِيُّ هو العَرْشَ فَلا حاجَةَ إلى عَدِّ القَمَرِ، وهَذا هو الظّاهِرُ، والشَّمْسُ مِن جُمْلَةِ الكَواكِبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا﴾ [نوح: ١٦] تَخْصِيصٌ لَها بِالذِّكْرِ لِلِامْتِنانِ عَلى النّاسِ بِأنَّها نُورٌ لِلْأرْضِ إلّا أنَّ الشَّمْسَ أكْبَرُ مِن جَمِيعِها عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وإذا كانَتِ السَّماواتُ أفْلاكًا سَبْعَةً لِشُمُوسٍ غَيْرِ هَذِهِ الشَّمْسِ ولِكُلِّ فَلَكٍ نِظامُهُ كَما لِهَذِهِ الشَّمْسِ نِظامُها فَذَلِكَ جائِزٌ - وسُبْحانَ مَن لا تُحِيطُ بِعَظَمَةِ قُدْرَتِهِ الأفْهامُ - فَيَكُونُ المَعْنى عَلى هَذا أنَّ اللَّهَ تَعالى نَبَّهَنا إلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وسِعَةِ مَلَكُوتِهِ بِما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مَعَ مُوافَقَتِهِ لِما في نَفْسِ الأمْرِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ لَنا ذَلِكَ لِأنَّ تَفْصِيلَهُ لَيْسَ مِن غَرَضِ الِاسْتِدْلالِ عَلى عَظَمَتِهِ، ولِأنَّ العُقُولَ لا تَصِلُ إلى فَهْمِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلى عُلُومٍ واسْتِكْمالاتٍ فِيها لَمْ تَتِمَّ إلى الآنَ، ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ. وجُمْلَةُ: ﴿ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما﴾ عُطِفَتْ عَلى جُمْلَةِ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ لِأنَّها مِن تَكْمِلَتِها وفِيها ضَمِيرٌ، مَعادُهُ في الَّتِي قَبْلَها، أيْ أنَّ الَّذِي أوْجَدَ هاتِهِ العَوالِمَ لا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِها. و(آدَهُ) جَعَلَهُ ذا أوَدٍ، والأوَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - العِوَجُ، ومَعْنى آدَهُ أثْقَلَهُ لِأنَّ المُثْقَلَ يَنْحَنِي فَيَصِيرُ ذا أوَدٍ. وعُطِفَ عَلَيْهِ ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ لِأنَّهُ مِن تَمامِهِ، والعُلُوُّ والعَظَمَةُ مُسْتَعارانِ لِشَرَفِ القَدْرِ وجَلالِ القُدْرَةِ. ولِهَذِهِ الآيَةِ فَضْلٌ كَبِيرٌ لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن أُصُولِ مَعْرِفَةِ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى كَما اشْتَمَلَتْ سُورَةُ الإخْلاصِ عَلى ذَلِكَ، وكَما اشْتَمَلَتْ كَلِمَةُ الشَّهادَةِ. في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ آتِيًا أتاهُ في اللَّيْلِ فَأخَذَ مِن طَعامِ زَكاةِ الفِطْرِ فَلَمّا أمْسَكَهُ قالَ لَهُ: إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ لَنْ يَزالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ ولا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ (p-٢٥)حَتّى تُصْبِحَ» فَقالَ لَهُ النَّبِيءُ ﷺ: «صَدَقَكَ، وذَلِكَ شَيْطانٌ» وأخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لَهُ: «يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيَّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ مَعَكَ أعْظَمُ ؟ قُلْتُ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ فَضَرَبَ في صَدْرِي وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ» ورَوى النَّسائِيُّ: «مَن قَرَأ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ إلّا المَوْتُ» وفِيها فَضائِلُ كَثِيرَةٌ مُجَرَّبَةٌ لِلتَّأْمِينِ عَلى النَّفْسِ والبَيْتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب