الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ . اعْلَمْ أنَّ مِن عادَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في هَذا الكِتابِ الكَرِيمِ أنَّهُ يَخْلِطُ هَذِهِ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ بَعْضَها بِالبَعْضِ، أعْنِي عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وعِلْمَ الأحْكامِ، وعِلْمَ القَصَصِ، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ القَصَصِ إمّا تَقْرِيرُ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ، وإمّا المُبالَغَةُ في إلْزامِ الأحْكامِ والتَّكالِيفِ، وهَذا الطَّرِيقُ هو الطَّرِيقُ الأحْسَنُ لا إبْقاءُ الإنْسانِ في النَّوْعِ الواحِدِ لِأنَّهُ يُوجِبُ المَلالَ، فَأمّا إذا انْتَقَلَ مِن نَوْعٍ مِنَ العُلُومِ إلى نَوْعٍ آخَرَ فَكَأنَّهُ يَشْرَحُ بِهِ الصَّدْرَ ويُفْرِحُ بِهِ القَلْبَ، فَكَأنَّهُ سافَرَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ آخَرَ وانْتَقَلَ مِن بُسْتانٍ إلى بُسْتانٍ آخَرَ، وانْتَقَلَ مِن تَناوُلِ طَعامٍ لَذِيذٍ إلى تَناوُلِ نَوْعٍ آخَرَ، ولا شَكَّ أنَّهُ يَكُونُ ألَذَّ وأشْهى، ولَمّا ذَكَرَ فِيما تَقَدَّمَ مِن عِلْمِ الأحْكامِ ومِن عِلْمِ القَصَصِ ما رَآهُ مَصْلَحَةً ذَكَرَ الآنَ ما يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ، فَقالَ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في فَضائِلِ هَذِهِ الآيَةِ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ما قُرِئَتْ هَذِهِ الآيَةُ في دارٍ إلّا اهْتَجَرَتْها الشَّياطِينُ ثَلاثِينَ يَوْمًا ولا يَدْخُلُها ساحِرٌ ولا ساحِرَةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً» “ وعَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكم عَلى أعْوادِ المِنبَرِ وهو يَقُولُ: ”«مَن قَرَأ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ إلّا المَوْتُ، ولا يُواظِبُ عَلَيْها إلّا صِدِّيقٌ أوْ عابِدٌ، ومَن قَرَأها إذا أخَذَ مَضْجَعَهُ أمَّنَهُ اللَّهُ عَلى نَفْسِهِ وجارِهِ وجارِ جارِهِ والأبْياتِ الَّتِي حَوْلَهُ» “ «وتَذاكَرَ الصَّحابَةُ أفْضَلَ ما في القُرْآنِ فَقالَ لَهم عَلِيٌّ: أيْنَ أنْتُمْ مِن آيَةِ الكُرْسِيِّ ؟ ثُمَّ قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”يا عَلِيُّ، سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ ولا فَخْرَ، وسَيِّدُ الكَلامِ القُرْآنُ، وسَيِّدُ (p-٤)القُرْآنِ البَقَرَةُ، وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيَةُ الكُرْسِيِّ“» . «وعَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ قاتَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْظُرُ ماذا يَصْنَعُ، قالَ: فَجِئْتُ وهو ساجِدٌ يَقُولُ: يا حَيُّ يا قَيُّومُ، لا يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى القِتالِ ثُمَّ جِئْتُ وهو يَقُولُ ذَلِكَ، فَلا أزالُ أذْهَبُ وأرْجِعُ وأنْظُرُ إلَيْهِ، وكانَ لا يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ إلى أنْ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ» . واعْلَمْ أنَّ الذِّكْرَ والعِلْمَ يَتْبَعانِ المَذْكُورَ والمَعْلُومَ، فَكُلَّما كانَ المَذْكُورُ والمَعْلُومُ أشْرَفَ كانَ الذِّكْرُ والعِلْمُ أشْرَفَ، وأشْرَفُ المَذْكُوراتِ والمَعْلُوماتِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، بَلْ هو مُتَعالٍ عَنْ أنْ يُقالَ: إنَّهُ أشْرَفُ مِن غَيْرِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَوْعَ مُجانَسَةٍ ومُشاكَلَةٍ، وهو مُقَدَّسٌ عَنْ مُجانَسَةِ ما سِواهُ، فَلِهَذا السَّبَبِ كُلُّ كَلامٍ اشْتَمَلَ عَلى نُعُوتِ جَلالِهِ وصِفاتِ كِبْرِيائِهِ، كانَ ذَلِكَ الكَلامُ في نِهايَةِ الجَلالِ والشَّرَفِ، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَذَلِكَ لا جَرَمَ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ بالِغَةً في الشَّرَفِ إلى أقْصى الغاياتِ وأبْلَغِ النِّهاياتِ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَةِ ”اللَّهِ“ قَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الكِتابِ، وتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦٣] بَقِيَ هَهُنا أنْ نَتَكَلَّمَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: أعْظَمُ أسْماءِ اللَّهِ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ وما رَوَيْنا أنَّهُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ ما كانَ يَزِيدُ عَلى ذِكْرِهِ في السُّجُودِ يَوْمَ بَدْرٍ يَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ هَذا الِاسْمِ، والبَراهِينُ العَقْلِيَّةُ دالَّةٌ عَلى صِحَّتِهِ. وتَقْرِيرُهُ -ومِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ-: أنَّهُ لا شَكَّ في وُجُودِ المَوْجُوداتِ فَهي إمّا أنْ تَكُونَ بِأسْرِها مُمْكِنَةً، وإمّا أنْ تَكُونَ بِأسْرِها واجِبَةً، وإمّا أنْ تَكُونَ بَعْضُها مُمْكِنَةً وبَعْضُها واجِبَةً لا جائِزٌ أنْ تَكُونَ بِأسْرِها مُمْكِنَةً؛ لِأنَّ كُلَّ مَجْمُوعٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ هَذا المَجْمُوعِ مُمْكِنٌ، والمُفْتَقِرُ إلى المُمْكِنِ أوْلى بِالإمْكانِ، فَهَذا المَجْمُوعُ مُمْكِنٌ بِذاتِهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ مُمْكِنٌ فَإنَّهُ لا يَتَرَجَّحُ وجُودُهُ عَلى عَدَمِهِ إلّا لِمُرَجَّحٍ مُغايِرٍ لَهُ، فَهَذا المَجْمُوعُ مُفْتَقِرٌ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مَجْمُوعًا وبِحَسَبِ كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ إلى مُرَجَّحٍ مُغايِرٍ لَهُ، وكُلُّ ما كانَ مُغايِرًا لِكُلِّ المُمْكِناتِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فَقَدْ وُجِدَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ، فَبَطَلَ القَوْلُ بِأنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ. وأمّا القِسْمُ الثّانِي وهو أنْ يُقالَ: المَوْجُوداتُ بِأسْرِها واجِبَةٌ فَهَذا أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَصَلَ وُجُودانِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما واجِبٌ لِذاتِهِ لَكانا مُشْتَرِكَيْنِ في الوُجُوبِ بِالذّاتِ ومُتَغايِرَيْنِ بِالنَّفْيِ، وما بِهِ المُشارَكَةُ مُغايِرٌ لِما بِهِ المُمايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُرَكَّبًا في الوُجُوبِ الَّذِي بِهِ المُشارَكَةُ، ومِنَ الغَيْرِ الَّذِي بِهِ المُمايَزَةُ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن جُزْئِهِ وجُزْءِ غَيْرِهِ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ مُفْتَقِرٍ إلى غَيْرِهِ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فَلَوْ كانَ واجِبُ الوُجُودِ أكْثَرَ مِن واحِدٍ لَما كانَ شَيْءٌ مِنها واجِبَ الوُجُودِ، وذَلِكَ مُحالٌ، ولَمّا بَطَلَ هَذانِ القِسْمانِ ثَبَتَ أنَّهُ حَصَلَ في مَجْمُوعِ المَوْجُوداتِ مَوْجُودٌ واحِدٌ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، وأنَّ كُلَّ ما عَداهُ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ مَوْجُودٌ بِإيجادِ ذَلِكَ المَوْجُودِ الَّذِي هو واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، ولَمّا بَطَلَ هَذانِ فالواجِبُ لِذاتِهِ مَوْجُودٌ لِذاتِهِ وبِذاتِهِ، ومُسْتَغْنٍ في وُجُودِهِ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، وأمّا كُلُّ ما سِواهُ فَمُفْتَقِرٌ في وُجُودِهِ وماهِيَّتِهِ إلى إيجادِ الواجِبِ لِذاتِهِ، فالواجِبُ لِذاتِهِ قائِمٌ بِذاتِهِ، وسَبَبٌ لِتَقَوُّمِ كُلِّ ما سِواهُ في ماهِيَّتِهِ وفي وجُودِهِ، فَهو القَيُّومُ الحَيُّ بِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ المَوْجُوداتِ، فالقَيُّومُ هو المُتَقَوِّمُ بِذاتِهِ، المُقَوِّمُ لِكُلِّ ما عَداهُ في ماهِيَّتِهِ ووُجُودِهِ، ولَمّا كانَ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ كانَ هو القَيُّومَ الحَقَّ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُلِّ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا كانَ المُؤَثِّرُ في الغَيْرِ إمّا أنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلى سَبِيلِ العِلْيَةِ والإيجابِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلى سَبِيلِ الفِعْلِ والِاخْتِيارِ، لا جَرَمَ أزالَ وهْمَ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا بِالعِلْيَةِ والإيجابِ بِقَوْلِهِ: ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ فَإنَّ الحَيَّ هو الدَّرّاكُ (p-٥)الفَعّالُ، فَبِقَوْلِهِ: (الحَيُّ) دَلَّ عَلى كَوْنِهِ عالِمًا قادِرًا، وبِقَوْلِهِ: (القَيُّومُ) دَلَّ عَلى كَوْنِهِ قائِمًا بِذاتِهِ ومُقَوِّمًا لِكُلِّ ما عَداهُ، ومِن هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ تَتَشَعَّبُ جَمِيعُ المَسائِلِ المُعْتَبَرَةِ في عِلْمِ التَّوْحِيدِ. فَأوَّلُها: أنَّ واجِبَ الوُجُودِ واحِدٌ بِمَعْنى أنَّ ماهِيَّتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الأجْزاءِ. وبُرْهانُهُ أنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَإنَّهُ مُفْتَقِرٌ في تَحَقُّقِهِ إلى تَحَقُّقِ كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُتَقَوِّمٌ بِغَيْرِهِ، والمُتَقَوِّمُ بِغَيْرِهِ لا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِذاتِهِ، فَلا يَكُونُ قَيُّومًا، وقَدْ بَيَّنّا بِالبُرْهانِ أنَّهُ قَيُّومٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى في ذاتِهِ واحِدٌ، فَهَذا الأصْلُ لَهُ لازِمانِ: أحَدُهُما: أنَّ واجِبَ الوُجُودِ واحِدٌ، بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ في الوُجُودِ شَيْئانِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما واجِبٌ لِذاتِهِ، إذْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لاشْتَرَكا في الوُجُوبِ وتَبايَنا في التَّعَيُّنِ، وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُبايَنَةُ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في ذاتِهِ مُرَكَّبًا مِن جُزْأيْنِ، وقَدْ بَيَّنّا بَيانَ أنَّهُ مُحالٌ. اللّازِمُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا امْتَنَعَ في حَقِيقَتِهِ أنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِن جُزْأيْنِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا؛ لِأنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهو مُنْقَسِمٌ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ التَّرْكِيبَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ امْتَنَعَ كَوْنُهُ في الجِهَةِ؛ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلْمُتَحَيِّزِ إلّا ما يُمْكِنُ أنْ يُشارَ إلَيْهِ إشارَةً حِسِّيَّةً، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولَيْسَ في الجِهَةِ، امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ لَهُ أعْضاءٌ وحَرَكَةٌ وسُكُونٌ. وثانِيها: أنَّهُ لَمّا كانَ قَيُّومًا كانَ قائِمًا بِذاتِهِ، وكَوْنُهُ قائِمًا بِذاتِهِ يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا: اللّازِمُ الأوَّلُ: أنْ لا يَكُونَ عَرَضًا في مَوْضُوعٍ، ولا صُورَةً في مادَّةٍ، ولا حالًا في مَحَلٍّ أصْلًا؛ لِأنَّ الحالَ مُفْتَقِرٌ إلى المَحَلِّ، والمُفْتَقِرُ إلى الغَيْرِ لا يَكُونُ قَيُّومًا بِذاتِهِ. واللّازِمُ الثّانِي: قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا مَعْنى لِلْعِلْمِ إلّا حُضُورُ حَقِيقَةِ المَعْلُومِ لِلْعالِمِ، فَإذا كانَ قَيُّومًا بِمَعْنى كَوْنِهِ قائِمًا بِنَفْسِهِ لا بِغَيْرِهِ كانَتْ حَقِيقَتُهُ حاضِرَةً عِنْدَ ذاتِهِ، وإذا كانَ لا مَعْنى لِلْعِلْمِ إلّا هَذا الحُضُورُ، وجَبَ أنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ مَعْلُومَةً لِذاتِهِ فَإذَنْ ذاتُهُ مَعْلُومَةٌ لِذاتِهِ، وكُلُّ ما عَداهُ فَإنَّهُ إنَّما يَحْصُلُ بِتَأْثِيرِهِ، ولِأنّا بَيَّنّا أنَّهُ قَيُّومٌ بِمَعْنى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وذَلِكَ التَّأْثِيرُ إنْ كانَ بِالِاخْتِيارِ فالفاعِلُ المُخْتارُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لَهُ شُعُورٌ بِفِعْلِهِ، وإنْ كانَ بِالإيجابِ لَزِمَ أيْضًا كَوْنُهُ عالِمًا بِكُلِّ ما سِواهُ؛ لِأنَّ ذاتَهُ مُوجِبَةٌ لِكُلِّ ما سِواهُ، وقَدْ دَلَلْنا عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ قائِمًا بِالنَّفْسِ لِذاتِهِ كَوْنُهُ عالِمًا بِذاتِهِ، والعِلْمُ بِالعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالمَعْلُولِ، فَعَلى التَّقْدِيراتِ كُلِّها يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ قَيُّومًا كَوْنُهُ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ. وثالِثُها: لَمّا كانَ قَيُّومًا لِكُلِّ ما سِواهُ كانَ كُلُّ ما سِواهُ مُحْدَثًا؛ لِأنَّ تَأْثِيرَهُ في تَقْوِيمِ ذَلِكَ الغَيْرِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ حالَ بَقاءِ ذَلِكَ الغَيْرِ؛ لِأنَّ تَحْصِيلَ الحاصِلِ مُحالٌ، فَهو إمّا حالُ عَدَمِهِ وإمّا حالُ حُدُوثِهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ وجَبَ أنْ يَكُونَ الكُلُّ مُحْدَثًا. ورابِعُها: أنَّهُ لَمّا كانَ قَيُّومًا لِكُلِّ المُمْكِناتِ اسْتَنَدَتْ كُلُّ المُمْكِناتِ إلَيْهِ إمّا بِواسِطَةٍ أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ كانَ القَوْلُ بِالقَضاءِ والقَدْرِ حَقًّا، وهَذا مِمّا قَدْ فَصَّلْناهُ وأوْضَحْناهُ في هَذا الكِتابِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ، فَأنْتَ إنْ ساعَدَكَ التَّوْفِيقُ وتَأمَّلْتَ في هَذِهِ المَعاقِدِ الَّتِي ذَكَرْناها عَلِمْتَ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى الإحاطَةِ بِشَيْءٍ مِنَ المَسائِلِ المُتَعَلِّقَةِ بِالعِلْمِ الإلَهِيِّ إلّا بِواسِطَةِ كَوْنِهِ تَعالى حَيًّا قَيُّومًا، فَلا جَرَمَ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ الِاسْمُ الأعْظَمُ هو هَذا، وأمّا سائِرُ الآياتِ الإلَهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦٣] وقَوْلِهِ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ﴾ (p-٦)﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] فَفِيهِ بَيانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنى نَفْيِ الضِّدِّ والنِّدِّ، وأمّا قَوْلُهُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَفِيهِ بَيانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنى نَفْيِ الضِّدِّ والنِّدِّ، وبِمَعْنى أنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الأجْزاءِ، وأمّا قَوْلُهُ ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [الأعْرافِ: ٥٤] فَفِيهِ بَيانُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ وحْدَةِ الحَقِيقَةِ، أمّا قَوْلُهُ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى الكُلِّ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ قَيُّومًا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ قائِمًا بِذاتِهِ، وأنْ يَكُونَ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وكَوْنُهُ قائِمًا بِذاتِهِ يَقْتَضِي الوَحْدَةَ بِمَعْنى نَفْيِ الكَثْرَةِ في حَقِيقَتِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي الوَحْدَةَ بِمَعْنى نَفْيِ الضِّدِّ والنِّدِّ، ويَقْتَضِي نَفْيَ التَّحَيُّزِ، وبِواسِطَتِهِ يَقْتَضِي نَفْيَ الجِهَةِ. وأيْضًا كَوْنُهُ قَيُّومًا بِمَعْنى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ ما سِواهُ جِسْمًا كانَ أوْ رُوحًا عَقْلًا كانَ أوْ نَفْسًا، ويَقْتَضِي اسْتِنادَ الكُلِّ إلَيْهِ وانْتِهاءَ جُمْلَةِ الأسْبابِ والمُسَبِّباتِ إلَيْهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ القَوْلَ بِالقَضاءِ والقَدْرِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كالمُحِيطَيْنِ بِجَمِيعِ مَباحِثِ العِلْمِ الإلَهِيِّ، فَلا جَرَمَ بَلَغَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الشَّرَفِ إلى المَقْصِدِ الأقْصى، واسْتَوْجَبَ أنْ يَكُونَ هو الِاسْمَ الأعْظَمَ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ لا يَغْفُلُ عَنْ تَدْبِيرِ الخَلْقِ، لِأنَّ القَيِّمَ بِأمْرِ الطِّفْلِ لَوْ غَفَلَ عَنْهُ ساعَةً لاخْتَلَّ أمْرُ الطِّفْلِ، فَهو سُبْحانُهُ قَيِّمُ جَمِيعِ المُحْدَثاتِ، وقَيُّومُ المُمْكِناتِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَغْفُلَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ، فَقَوْلُهُ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ كالتَّأْكِيدِ لِبَيانِ كَوْنِهِ تَعالى قائِمًا، وهو كَما يُقالُ لِمَن ضَيَّعَ وأهْمَلَ: إنَّكَ لَوَسْنانٌ نائِمٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنى كَوْنِهِ قائِمًا بِذاتِهِ، مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا وهو قَوْلُهُ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ لِأنَّهُ لَمّا كانَ كُلُّ ما سِواهُ إنَّما تَقَوَّمَتْ ماهِيَّتُهُ، وإنَّما يَحْصُلُ وُجُودُهُ بِتَقْوِيمِهِ وتَكْوِينِهِ وتَخْلِيقِهِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما سِواهُ مُلْكًا لَهُ ومِلْكًا لَهُ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ ثُمَّ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ هو المَلِكُ والمالِكُ لِكُلِّ ما سِواهُ، ثَبَتَ أنَّ حُكْمَهُ في الكُلِّ جارٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ حُكْمٌ إلّا بِإذْنِهِ وأمْرِهِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ مالِكًا لِلْكُلِّ، أنْ لا يَكُونَ لِغَيْرِهِ في مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، بَيَّنَ أيْضًا أنَّهُ يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ عالِمًا بِالكُلِّ وكَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عالِمٍ بِالكُلِّ، أنْ لا يَكُونَ لِغَيْرِهِ في مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ إلّا بِإذْنِهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ وهو إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ عالِمًا بِالكُلِّ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ وهو إشارَةٌ إلى كَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عالِمٍ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا بَيَّنَ كَمالَ مُلْكِهِ وحُكْمِهِ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ، بَيَّنَ أنَّ مُلْكَهُ فِيما وراءَ السَّماواتِ والأرْضِ أعْظَمُ وأجَلُّ، وأنَّ ذَلِكَ مِمّا لا تَصِلُ إلَيْهِ أوْهامُ المُتَوَهِّمِينَ ويَنْقَطِعُ دُونَ الِارْتِقاءِ إلى أدْنى دَرَجَةٍ مِن دَرَجاتِها تَخَيُّلاتُ المُتَخَيِّلِينَ، فَقالَ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ نَفاذَ حُكْمِهِ ومُلْكِهِ في الكُلِّ عَلى نَعْتٍ واحِدٍ، وصُورَةٍ واحِدَةٍ، فَقالَ: ﴿ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما﴾ ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِلْمُحْدَثاتِ والمُمْكِناتِ والمَخْلُوقاتِ، بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنى قائِمًا بِنَفْسِهِ وذاتِهِ، مُنَزَّهًا عَنِ الِاحْتِياجِ إلى غَيْرِهِ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، فَتَعالى عَنْ أنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا حَتّى يَحْتاجَ إلى مَكانٍ، أوْ مُتَغَيِّرًا حَتّى يَحْتاجَ إلى زَمانٍ، فَقالَ: ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ فالمُرادُ مِنهُ العُلُوُّ والعَظَمَةُ، بِمَعْنى أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى غَيْرِهِ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، ولا يُنْسَبُ إلى غَيْرِهِ في صِفَةٍ مِنَ الصِّفاتِ ولا في نَعْتٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقالَ: ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ إشارَةً إلى ما بَدَأ بِهِ في الآيَةِ مِن كَوْنِهِ قَيُّومًا بِمَعْنى كَوْنِهِ قائِمًا بِذاتِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ. ومَن أحاطَ عَقْلُهُ بِما ذَكَرْنا عَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ العُقُولِ البَشَرِيَّةِ مِنَ الأُمُورِ الإلَهِيَّةِ كَلامٌ أكْمَلَ ولا بُرْهانٌ أوْضَحَ مِمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآياتُ. * * * (p-٧)وإذا عَرَفْتَ هَذِهِ الأسْرارَ، فَلْنَرْجِعْ إلى ظاهِرِ التَّفْسِيرِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: (اللَّهُ) رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُهم: الإلَهُ هو المَعْبُودُ. وهو خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى كانَ إلَهًا في الأزَلِ، وما كانَ مَعْبُودًا. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ مَعْبُودًا سِواهُ في القُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩٨] بَلِ الإلَهُ هو القادِرُ عَلى ما إذا فَعَلَهُ كانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبادَةِ. أمّا قَوْلُهُ: (الحَيُّ) فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الحَيُّ أصْلُهُ حَيِيٌ كَقَوْلِهِ: حَذِرٌ وطَمِعٌ فَأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ عِنْدَ اجْتِماعِهِما، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أصْلُهُ الحَيْوُ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ ثُمَّ كانَ السّابِقُ ساكِنًا فَجُعِلَتا ياءً مُشَدَّدَةً. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ المُتَكَلِّمُونَ: الحَيُّ كُلُّ ذاتٍ يَصِحُّ أنْ يَعْلَمَ ويَقْدِرَ، واخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا المَفْهُومَ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ أمْ لا، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لا يَمْتَنِعُ أنَّهُ يَعْلَمُ ويَقْدِرُ، وعَدَمُ الِامْتِناعِ لا يَكُونُ صِفَةً مَوْجُودَةً، وقالَ المُحَقِّقُونَ: ولَمّا كانَتِ الحَياةُ عِبارَةً عَنْ عَدَمِ الِامْتِناعِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ الِامْتِناعَ أمْرٌ عَدَمِيٌّ، إذْ لَوْ كانَ وصْفًا مَوْجُودًا لَكانَ المَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مُمْتَنِعُ الوُجُودِ مَوْجُودًا وهو مُحالٌ، وثَبَتَ أنَّ الِامْتِناعَ عَدَمٌ، وثَبَتَ أنَّ الحَياةَ عَدَمُ هَذا الِامْتِناعِ، وثَبَتَ أنَّ عَدَمَ العَدَمِ وُجُودٌ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ المَفْهُومُ مِنَ الحَياةِ صِفَةً مَوْجُودَةً وهو المَطْلُوبُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَمّا كانَ مَعْنى الحَيِّ هو أنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أنْ يَعْلَمَ ويَقْدِرَ، وهَذا القَدْرُ حاصِلٌ لِجَمِيعِ الحَيَواناتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أنْ يَمْدَحَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ يُشارِكُهُ فِيها أخَسُّ الحَيَواناتِ؟ والَّذِي عِنْدِي في هَذا البابِ أنَّ الحَيَّ في أصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ الصِّحَّةِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ كانَ كامِلًا في جِنْسِهِ، فَإنَّهُ يُسَمّى حَيًّا، ألا تَرى أنَّ عِمارَةَ الأرْضِ الخَرِبَةِ تُسَمّى: إحْياءَ المَواتِ، وقالَ تَعالى: ﴿فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [الرُّومِ: ٥٠] وقالَ: ﴿إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ﴾ [فاطِرٍ: ٩] والصِّفَةُ المُسَمّاةُ في عُرْفِ المُتَكَلِّمِينَ، إنَّما سُمِّيَتْ بِالحَياةِ؛ لِأنَّ كَمالَ حالِ الجِسْمِ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلا جَرَمَ سُمِّيَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ حَياةً؛ وكَمالُ حالِ الأشْجارِ أنْ تَكُونَ مُورِقَةً خَضِرَةً، فَلا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الحالَةُ حَياةً، وكَمالُ الأرْضِ أنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً فَلا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الحالَةُ حَياةً، فَثَبَتَ أنَّ المَفْهُومَ الأصْلِيَّ مِن لَفْظِ الحَيِّ كَوْنُهُ واقِعًا عَلى أكْمَلِ أحْوالِهِ وصِفاتِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ زالَ الإشْكالُ؛ لِأنَّ المَفْهُومَ مِنَ الحَيِّ هو الكامِلُ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِأنَّهُ كامِلٌ في هَذا دُونَ ذاكَ دَلَّ عَلى أنَّهُ كامِلٌ عَلى الإطْلاقِ، فَقَوْلُهُ: الحَيُّ يُفِيدُ كَوْنَهُ كامِلًا عَلى الإطْلاقِ، والكامِلُ هو أنْ لا يَكُونَ قابِلًا لِلْعَدَمِ لا في ذاتِهِ ولا في صِفاتِهِ الحَقِيقِيَّةِ ولا في صِفاتِهِ النِّسْبِيَّةِ والإضافِيَّةِ، ثُمَّ عِنْدَ هَذا إنْ خَصَّصْنا القَيُّومَ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ فَقَدْ زالَ الإشْكالُ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا بِذاتِهِ، وكَوْنِهِ قَيُّومًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وإنْ جَعَلْنا القَيُّومَ اسْمًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ يَتَناوَلُ المُتَقَوِّمَ بِذاتِهِ والمُقَوِّمَ لِغَيْرِهِ كانَ لَفْظُ القَيُّومِ مُفِيدًا فائِدَةَ لَفْظِ الحَيِّ مَعَ زِيادَةٍ، فَهَذا ما عِنْدِي في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. (p-٨)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (القَيُّومُ) فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: القَيُّومُ في اللُّغَةِ مُبالَغَةٌ في القائِمِ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ ثُمَّ كانَ السّابِقُ ساكِنًا جُعِلَتا ياءً مُشَدَّدَةً، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى فَعُّولٍ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذا لَكانَ قَوُّومًا، وفِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ: قَيُّومٌ وقَيّامٌ وقَيِّمٌ، ويُرْوى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ: الحَيُّ القَيّامُ. ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبْرِيَّةٌ لا عَرَبِيَّةٌ، لِأنَّهم يَقُولُونَ: حَيًّا قَيُّومًا. ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ لَهُ وجْهًا صَحِيحًا في اللُّغَةِ، ومِثْلُهُ: ما في الدّارِ دَيّارٌ ودَيُّورٌ ودَيِّرٌ، وهو مِنَ الدَّوَرانِ، أيْ: ما بِها خَلْقٌ يَدُورُ، يَعْنِي: يَجِيءُ ويَذْهَبُ، وقالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ: ؎قَدَّرَها المُهَيْمِنُ القَيُّومُ المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِباراتُ المُفَسِّرِينَ في هَذا البابِ، فَقالَ مُجاهِدٌ: القَيُّومُ القائِمُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وتَأْوِيلُهُ أنَّهُ قائِمٌ بِتَدْبِيرِ أمْرِ الخَلْقِ في إيجادِهِمْ، وفي أرْزاقِهِمْ، ونَظِيرُهُ مِنَ الآياتِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٣] وقالَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] إلى قَوْلِهِ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] وقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا ولَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِن أحَدٍ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطِرٍ: ٤١] وهَذا القَوْلُ يَرْجِعُ حاصِلُهُ إلى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وقالَ الضَّحّاكُ: القَيُّومُ الدّائِمُ الوُجُودِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ، وأقُولُ: هَذا القَوْلُ يَرْجِعُ مَعْناهُ إلى كَوْنِهِ قائِمًا بِنَفْسِهِ في ذاتِهِ وفي وُجُودِهِ، وقالَ بَعْضُهم: القَيُّومُ الَّذِي لا يَنامُ بِالسُّرْيانِيَّةِ، وهَذا القَوْلُ بِعِيدٌ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ قَوْلَهُ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ”السِّنَةُ“ ما يَتَقَدَّمُ مِنَ الفُتُورِ الَّذِي يُسَمّى النُّعاسَ. فَإنْ قِيلَ: إذا كانَتِ السِّنَةُ عِبارَةً عَنْ مُقَدِّمَةِ النُّوَّمِ، فَإذا قالَ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لا يَأْخُذُهُ نَوْمٌ بِطْرِيقِ الأوْلى، وكانَ ذِكْرُ النَّوْمِ تَكْرِيرًا. قُلْنا: تَقْدِيرُ الآيَةِ: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَضْلًا عَنْ أنْ يَأْخُذَهُ النَّوْمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ دَلَّ عَلى أنَّ النَّوْمَ والسَّهْوَ والغَفْلَةَ مُحالاتٌ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ، إمّا أنْ تَكُونَ عِباراتٍ عَنْ عَدَمِ العِلْمِ، أوْ عَنْ أضْدادِ العِلْمِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَجَوازُ طَرَيانِها يَقْتَضِي جَوازَ زَوالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، فَلَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَتْ ذاتُهُ تَعالى بِحَيْثُ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ عالِمًا، ويَصِحُّ أنْ لا يَكُونَ عالِمًا، فَحِينَئِذٍ يَفْتَقِرُ حُصُولُ صِفَةِ العِلْمِ لَهُ إلى الفاعِلِ، والكَلامُ فِيهِ كَما في الأوَّلِ، والتَّسَلْسُلُ مُحالٌ فَلا بُدَّ وأنْ يَنْتَهِيَ إلى مَن يَكُونُ عِلْمُهُ صِفَةً واجِبَةَ الثُّبُوتِ مُمْتَنِعَةَ الزَّوالِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ النَّوْمُ والغَفْلَةُ والسَّهْوُ عَلَيْهِ مُحالًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُرْوى «عَنِ الرَّسُولِ ﷺ أنَّهُ حَكى عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ وقَعَ في نَفْسِهِ: هَلْ يَنامُ اللَّهُ تَعالى أمْ لا ؟ فَأرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا فَأرَّقَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ أعْطاهُ قارُورَتَيْنِ في كُلِّ يَدٍ واحِدَةٍ، وأمَرَهُ بِالِاحْتِفاظِ بِهِما، وكانَ يَتَحَرَّزُ بِجُهْدِهِ إلى أنْ نامَ في آخِرِ الأمْرِ، فاصْطَفَقَتْ يَداهُ فانْكَسَرَتِ القارُورَتانِ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ مَثَلًا لَهُ في بَيانِ أنَّهُ لَوْ كانَ يَنامُ لَمْ يَقْدِرْ عَلى حِفْظِ السَّماواتِ والأرْضِ» . (p-٩)واعْلَمْ أنَّ مِثْلَ هَذا لا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّ مَن جَوَّزَ النَّوْمَ عَلى اللَّهِ أوْ كانَ شاكًّا في جَوازِهِ كانَ كافِرًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ هَذا إلى مُوسى، بَلْ إنْ صَحَّتِ الرِّوايَةُ، فالواجِبُ نِسْبَةُ هَذا السُّؤالِ إلى جُهّالِ قَوْمِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ فالمُرادُ مِن هَذِهِ الإضافَةِ إضافَةُ الخَلْقِ والمُلْكِ، وتَقْدِيرُهُ ما ذَكَرْنا مِن أنَّهُ لَمّا كانَ واجِبُ الوُجُودِ واحِدًا كانَ ما عَداهُ مُمْكِنَ الوُجُودِ لِذاتِهِ، وكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وكُلُّ ما لَهُ مُؤَثِّرٌ فَهو مُحْدَثٌ، فَإذَنْ كُلُّ ما سِواهُ فَهو مُحْدَثٌ بِإحْداثِهِ مُبْدَعٌ بِإبْداعِهِ، فَكانَتْ هَذِهِ الإضافَةُ إضافَةَ المُلْكِ والإيجادِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ﴾ ولَمْ يَقُلْ: لَهُ مَن في السَّماواتِ ؟ . قُلْنا: لَمّا كانَ المُرادُ إضافَةَ ما سِواهُ إلَيْهِ بِالمَخْلُوقِيَّةِ، وكانَ الغالِبُ عَلَيْهِ ما لا يَعْقِلُ، أجْرى الغالِبَ مَجْرى الكُلِّ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ ”ما“، وأيْضًا فَهَذِهِ الأشْياءُ إنَّما أُسْنِدَتْ إلَيْهِ مِن حَيْثُ إنَّها مَخْلُوقَةٌ، وهي مِن حَيْثُ إنَّها مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ عاقِلَةٍ، فَعَبَّرَ عَنْها بِلَفْظِ ”ما“ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الإضافَةِ إلَيْهِ الإضافَةُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ. واعْلَمْ أنَّ الأصْحابَ قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى، قالُوا: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ يَتَناوَلُ كُلَّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، وأفْعالُ العِبادِ مِن جُمْلَةِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ مُنْتَسِبَةً إلى اللَّهِ تَعالى انْتِسابَ المِلْكِ والخَلْقِ، وكَما أنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى فالعَقْلُ يُؤَكِّدُهُ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ ما سِواهُ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والمُمْكِنُ لِذاتِهِ لا يَتَرَجَّحُ إلّا بِتَأْثِيرٍ واجِبِ الوُجُودِ لِذاتِهِ، وإلّا لَزِمَ تَرَجُّحُ المُمْكِنِ مِن غَيْرِ مُرَجَّحٍ وهو مُحالٌ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿مَن ذا الَّذِي﴾ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الإنْكارُ والنَّفْيُ، أيْ لا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحَدٌ إلّا بِأمْرِهِ، وذَلِكَ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ الأصْنامَ تَشْفَعُ لَهم، وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِأنَّهم يَقُولُونَ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزُّمَرِ: ٣] وقَوْلُهم: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يُونُسَ: ١٨] ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم لا يَجِدُونَ هَذا المَطْلُوبَ، فَقالَ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ [يُونُسَ: ١٨] فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ لا شَفاعَةَ عِنْدَهُ لِأحَدٍ إلّا مَنِ اسْتَثْناهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا بِإذْنِهِ﴾ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقالَ صَوابًا﴾ [النَّبَأِ: ٣٨] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ القَفّالُ: إنَّهُ تَعالى لا يَأْذَنُ في الشَّفاعَةِ لِغَيْرِ المُطِيعِينَ، إذْ كانَ لا يَجُوزُ في حِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أهْلِ الطّاعَةِ وأهْلِ المَعْصِيَةِ، وطَوَّلَ في تَقْرِيرِهِ. وأقُولُ: إنَّ هَذا القَفّالَ عَظِيمُ الرَّغْبَةِ في الِاعْتِزالِ حَسَنُ الِاعْتِقادِ في كَلِماتِهِمْ، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كانَ قَلِيلَ الإحاطَةِ بِأُصُولِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّ مِن مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ مِنهم أنَّ العَفْوَ عَنْ صاحِبِ الكَبِيرَةِ حَسَنٌ في العُقُولِ، إلّا أنَّ السَّمْعَ دَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ لا يَقَعُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الِاسْتِدْلالُ العَقْلِيُّ عَلى المَنعِ مِنَ الشَّفاعَةِ في حَقِّ العُصاةِ خَطَأً عَلى قَوْلِهِمْ، بَلْ عَلى مَذْهَبِ الكَعْبِيِّ أنَّ العَفْوَ عَنِ المَعاصِي قَبِيحٌ عَقْلًا، فَإنْ كانَ القَفّالُ عَلى (p-١٠)مَذْهَبِ الكَعْبِيِّ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ هَذا الِاسْتِدْلالُ، إلّا أنَّ الجَوابَ عَنْهُ يَرُدُّ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ العِقابَ حَقُّ اللَّهِ تَعالى، ولِلْمُسْتَحِقِّ أنْ يُسْقِطَ حَقَّ نَفْسِهِ، بِخِلافِ الثَّوابِ فَإنَّهُ حَقُّ العَبْدِ فَلا يَكُونُ لِلَّهِ تَعالى أنْ يُسْقِطَهُ، وهَذا الفَرْقُ ذَكَرَهُ البَصْرِيُّونَ في الجَوابِ عَنْ شُبْهَةِ الكَعْبِيِّ. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: لا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ المُطِيعِ والعاصِي إنْ أرادَ بِهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُما في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ فَهو جَهْلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قَدْ سَوّى بَيْنَهُما في الخَلْقِ والحَياةِ والرِّزْقِ وإطْعامِ الطَّيِّباتِ والتَّمْكِينِ مِنَ المُراداتِ، وإنْ كانَ المُرادُ أنَّهُ لا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُما في كُلِّ الأُمُورِ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَكَيْفَ لا يَقُولُ ذَلِكَ والمُطِيعُ لا يَكُونُ لَهُ جَزَعٌ، ولا يَكُونُ خائِفًا مِنَ العِقابِ، والمُذْنِبُ يَكُونُ في غايَةِ الخَوْفِ، ورُبَّما يَدْخُلُ النّارَ ويَتَألَّمُ مُدَّةً، ثُمَّ يُخَلِّصُهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ العَذابِ بِشَفاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ . واعْلَمْ أنَّ القَفّالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كانَ حَسَنَ الكَلامِ في التَّفْسِيرِ دَقِيقَ النَّظَرِ في تَأْوِيلاتِ الألْفاظِ إلّا أنَّهُ كانَ عَظِيمَ المُبالَغَةِ في تَقْرِيرِ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ مَعَ أنَّهُ كانَ قَلِيلَ الحَظِّ مِن عِلْمِ الكَلامِ قَلِيلَ النَّصِيبِ مِن مَعْرِفَةِ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الضَّمِيرُ لِما في السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّ فِيهِمُ العُقَلاءَ، أوْ لِما دَلَّ عَلَيْهِ ”مَن ذا“ مِنَ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الآيَةِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ مُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، والسُّدِّيُّ: ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ ما كانَ قَبْلَهم مِن أُمُورِ الدُّنْيا ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾ ما يَكُونُ بَعْدَهم مَن أمْرِ الآخِرَةِ. والثّانِي: قالَ الضَّحّاكُ والكَلْبِيُّ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ يَعْنِي الآخِرَةَ لِأنَّهم يُقْدِمُونَ عَلَيْها ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾ الدُّنْيا لِأنَّهم يَخْلُفُونَها وراءَ ظُهُورِهِمْ. والثّالِثُ: قالَ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾ يُرِيدُ ما في السَّماواتِ. والرّابِعُ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ بَعْدَ انْقِضاءِ آجالِهِمْ ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾ أيْ: ما كانَ مِن قَبْلِ أنْ يَخْلُقَهم. والخامِسُ: ما فَعَلُوا مِن خَيْرٍ وشَرٍّ وما يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ: أنَّهُ سُبْحانَهُ عالِمٌ بِأحْوالِ الشّافِعِ والمَشْفُوعِ لَهُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِاسْتِحْقاقِ العِقابِ والثَّوابِ، لِأنَّهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ لا يَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ، والشُّفَعاءُ لا يَعْلَمُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنَّ لَهم مِنَ الطّاعَةِ ما يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ المَنزِلَةَ العَظِيمَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، ولا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ تَعالى هَلْ أذِنَ لَهم في تِلْكَ الشَّفاعَةِ، وأنَّهم يَسْتَحِقُّونَ المَقْتَ والزَّجْرَ عَلى ذَلِكَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مِنَ الخَلائِقِ أنْ يُقْدِمَ عَلى الشَّفاعَةِ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَؤُلاءِ المَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هُمُ المَلائِكَةَ، وسائِرَ مَن يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: المُرادُ بِالعِلْمِ هَهُنا المَعْلُومُ كَما يُقالُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا عِلْمَكَ فِينا، أيْ: مَعْلُومَكَ؛ وإذا ظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ قِيلَ: هَذِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، أيْ: مَقْدُورُهُ، والمَعْنى: أنَّ أحَدًا لا يُحِيطُ بِمَعْلُوماتِ اللَّهِ تَعالى. (p-١١)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ الأصْحابِ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ صِفَةِ العِلْمِ لِلَّهِ تَعالى وهو ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ لِلتَّبْعِيضِ، وهي داخِلَةٌ هَهُنا عَلى العِلْمِ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِنَ العِلْمِ نَفْسَ الصِّفَةِ لَزِمَ دُخُولُ التَّبْعِيضِ في صِفَةِ اللَّهِ تَعالى وهو مُحالٌ. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ ﴿بِما شاءَ﴾ لا يَأْتِي في العِلْمِ إنَّما يَأْتِي في المَعْلُومِ. والثّالِثُ: أنَّ الكَلامَ إنَّما وقَعَ هَهُنا في المَعْلُوماتِ، والمُرادُ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، والخَلْقُ لا يَعْلَمُونَ كُلَّ المَعْلُوماتِ، بَلْ لا يَعْلَمُونَ مِنها إلّا القَلِيلَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ اللَّيْثُ: يُقالُ لِكُلِّ مَن أحْرَزَ شَيْئًا أوْ بَلَغَ عِلْمُهُ أقْصاهُ: قَدْ أحاطَ بِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا عَلِمَ بِأوَّلِ الشَّيْءِ وآخِرِهِ بِتَمامِهِ صارَ العِلْمُ كالمُحِيطِ بِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا بِما شاءَ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِن مَعْلُوماتِهِ إلّا ما شاءَ هو أنْ يُعَلِّمَهم كَما حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾ [البَقَرَةِ: ٣٢] . والثّانِي: أنَّهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ إلّا عِنْدَ إطْلاعِ اللَّهِ بَعْضَ أنْبِيائِهِ عَلى بَعْضِ الغَيْبِ، كَما قالَ: ﴿فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ [الجِنِّ: ٢٧] . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ يُقالُ: وسِعَ فَلانًا الشَّيْءُ يَسَعُهُ سَعَةً إذا احْتَمَلَهُ وأطاقَهُ وأمْكَنَهُ القِيامُ بِهِ، ولا يَسَعُكَ هَذا، أيْ لا تُطِيقُهُ ولا تَحْتَمِلُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لَوْ كانَ مُوسى حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي» “ أيْ: لا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وأمّا الكُرْسِيُّ فَأصْلُهُ في اللُّغَةِ مِن تَرَكُّبِ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلى بَعْضٍ، والكِرْسُ أبْوالُ الدَّوابِّ وأبْعارُها يَتَلَبَّدُ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وأكْرَسَتِ الدّارُ إذا كَثُرَتْ فِيها الأبْعارُ والأبْوالُ وتَلَبَّدَ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وتَكارَسَ الشَّيْءُ إذا تَرَكَّبَ، ومِنهُ الكُرّاسَةُ لِتَرَكُّبِ بَعْضِ أوْراقِها عَلى بَعْضٍ ”والكُرْسِيُّ“ هو هَذا الشَّيْءُ المَعْرُوفُ لِتَرَكُّبِ خَشَباتِهِ بَعْضِها فَوْقَ بَعْضٍ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ عَلى أرْبَعَةِ أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ يَسَعُ السَّماواتِ والأرْضَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقالَ الحَسَنُ: ”الكُرْسِيُّ“ هو نَفْسُ العَرْشِ، لِأنَّ السَّرِيرَ قَدْ يُوصَفُ بِأنَّهُ عَرْشٌ، وبِأنَّهُ كُرْسِيٌّ، لِكَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِحَيْثُ يَصِحُّ التَّمَكُّنُ عَلَيْهِ، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ الكُرْسِيُّ غَيْرُ العَرْشِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن قالَ: إنَّهُ دُونَ العَرْشِ وفَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ تَحْتَ الأرْضِ وهو مَنقُولٌ عَنِ السُّدِّيِّ. واعْلَمْ أنَّ لَفْظَ الكُرْسِيِّ ورَدَ في الآيَةِ وجاءَ في الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ أنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ العَرْشِ وفَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ، ولا امْتِناعَ في القَوْلِ بِهِ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِاتِّباعِهِ، وأمّا ما رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، ومِنَ البَعِيدِ أنْ يَقُولَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مَوْضِعُ قَدَمَيِ اللَّهِ تَعالى وتَقَدَّسَ عَنِ الجَوارِحِ والأعْضاءِ، وقَدْ ذَكَرْنا الدَّلائِلَ الكَثِيرَةَ عَلى نَفْيِ الجِسْمِيَّةِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن هَذا الكِتابِ، فَوَجَبَ رَدُّ هَذِهِ الرِّوايَةِ أوْ حَمْلُها عَلى أنَّ المُرادَ أنَّ الكُرْسِيَّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الأعْظَمِ أوْ مَلَكٍ آخَرَ عَظِيمِ القَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنَ ”الكُرْسِيِّ“ السُّلْطانُ والقُدْرَةُ والمُلْكُ، ثُمَّ تارَةً يُقالُ: الإلَهِيَّةُ لا تَحْصُلُ إلّا بِالقُدْرَةِ والخَلْقِ والإيجادِ، والعَرَبُ يُسَمُّونَ أصْلَ كُلِّ شَيْءٍ ”الكُرْسِيَّ“ وتارَةً يُسَمّى المُلْكُ بِالكُرْسِيِّ، لِأنَّ المَلِكَ يَجْلِسُ عَلى الكُرْسِيِّ، فَيُسَمّى المَلِكُ باسِمِ مَكانِ المُلْكِ. (p-١٢)القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ ”الكُرْسِيَّ“ هو العِلْمُ، لِأنَّ العِلْمَ مَوْضِعُ العالِمِ وهو الكُرْسِيُّ، فَسَمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ؛ لِأنَّ العِلْمَ هو الأمْرُ المُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، والكُرْسِيُّ هو الشَّيْءُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، ومِنهُ يُقالُ لِلْعُلَماءِ: كَراسِي، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ كَما يُقالُ لَهم: أوْتادُ الأرْضِ. والقَوْلُ الرّابِعُ: ما اخْتارَهُ القَفّالُ، وهو أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ وكِبْرِيائِهِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى خاطَبَ الخَلْقَ في تَعْرِيفِ ذاتِهِ وصِفاتِهِ بِما اعْتادُوهُ في مُلُوكِهِمْ وعُظَمائِهِمْ، مِن ذَلِكَ أنَّهُ جَعَلَ الكَعْبَةَ بَيْتًا لَهُ يَطُوفُ النّاسُ بِهِ كَما يَطُوفُونَ بِبِيُوتِ مُلُوكِهِمْ، وأمَرَ النّاسَ بِزِيارَتِهِ كَما يَزُورُ النّاسُ بُيُوتَ مُلُوكِهِمْ، وذَكَرَ في الحَجَرِ الأسْوَدِ أنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ في أرْضِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ مَوْضِعًا لِلتَّقْبِيلِ كَما يُقَبِّلُ النّاسُ أيْدِي مُلُوكِهِمْ، وكَذَلِكَ ما ذَكَرَ في مُحاسَبَةِ العِبادِ يَوْمَ القِيامَةِ مِن حُضُورِ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ والشُّهَداءِ ووَضْعِ المَوازِينِ، فَعَلى هَذا القِياسِ أثْبَتَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا، فَقالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ثُمَّ وصَفَ عَرْشَهُ فَقالَ: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هُودٍ: ٧] ثُمَّ قالَ: ﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزُّمَرِ: ٧٥] وقالَ: ﴿ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقَّةِ: ١٧] وقالَ: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ﴾ [غافِرٍ: ٧] ثُمَّ أثْبَتَ لِنَفْسِهِ كُرْسِيًّا فَقالَ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: كُلُّ ما جاءَ مِنَ الألْفاظِ المُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ في العَرْشِ والكُرْسِيِّ، فَقَدْ ورَدَ مِثْلُها بَلْ أقْوى مِنها في الكَعْبَةِ والطَّوافِ وتَقْبِيلِ الحَجَرِ، ولَمّا تَوافَقْنا هَهُنا عَلى أنَّ المَقْصُودَ تَعْرِيفُ عَظَمَةِ اللَّهِ وكِبْرِيائِهِ مَعَ القَطْعِ بِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الكَعْبَةِ، فَكَذا الكَلامُ في العَرْشِ والكُرْسِيِّ، وهَذا جَوابٌ مُبِينٌ إلّا أنَّ المُعْتَمَدَ هو الأوَّلُ، لِأنَّ تَرْكَ الظّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لا يَجُوزُ، واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ يُقالُ: آدَهُ يَؤُودُهُ: إذا أثْقَلَهُ وأجْهَدَهُ، وأُدْتُ العُودَ أوْدًا، وذَلِكَ إذا اعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ بِالثِّقْلِ حَتّى أمَلْتَهُ، والمَعْنى: لا يَثْقُلُهُ ولا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُما أيْ: حِفْظُ السَّماواتِ والأرْضِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ العُلُوَّ بِالجِهَةِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ونَزِيدُ هَهُنا وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَوْ كانَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ المَكانِ، لَكانَ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا في جِهَةِ فَوْقٍ، أوْ غَيْرَ مُتَناهٍ في تِلْكَ الجِهَةِ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّهُ إذا كانَ مُتَناهِيًا في جِهَةِ فَوْقٍ، كانَ الجُزْءُ المَفْرُوضُ فَوْقَهُ أعْلى مِنهُ، فَلا يَكُونُ هو أعْلى مِن كُلِّ ما عَداهُ، بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ أعْلى مِنهُ، وإنْ كانَ غَيْرَ مُتَناهٍ فَهَذا مُحالٌ، لِأنَّ القَوْلَ بِإثْباتِ بُعْدٍ لا نِهايَةَ لَهُ باطِلٌ بِالبَراهِينِ اليَقِينِيَّةِ، وأيْضًا فَإنّا إذا قَدَّرْنا بُعْدًا لا نِهايَةَ لَهُ، لافْتُرِضَ في ذَلِكَ البُعْدِ نُقَطٌ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَحْصُلَ في تِلْكَ النُّقَطِ نُقْطَةٌ واحِدَةٌ لا يُفْتَرَضُ فَوْقَها نُقْطَةٌ أُخْرى، وإمّا أنْ لا يَحْصُلَ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ كانَتِ النُّقْطَةُ طَرَفًا لِذَلِكَ البُعْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ البُعْدُ مُتَناهِيًا، وقَدْ فَرَضْناهُ غَيْرَ مُتَناهٍ، هَذا خُلْفٌ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ فِيها نُقْطَةٌ إلّا وفَوْقَها نُقْطَةٌ أُخْرى كانَ كُلُّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ النُّقَطِ المُفْتَرَضَةِ في ذَلِكَ البُعْدِ سُفْلًا، ولا يَكُونُ فِيها ما يَكُونُ فَوْقًا عَلى الإطْلاقِ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنَ النُّقَطاتِ المُفْتَرَضَةِ في ذَلِكَ البُعْدِ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ البَتَّةَ، وذَلِكَ يَنْفِي صِفَةَ العُلْوِيَّةِ. (p-١٣)الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ العالَمَ كُرَةٌ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ جانِبٍ يَفْرِضُ عُلُوًّا بِالنِّسْبَةِ إلى أحَدِ وجْهَيِ الأرْضِ يَكُونُ سُفْلًا بِالنِّسْبَةِ إلى الوَجْهِ الثّانِي، فَيَنْقَلِبُ غايَةُ العُلُوِّ غايَةَ السُّفْلِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ كُلَّ وصْفٍ يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِأحَدِ الأمْرَيْنِ بِذاتِهِ، ولِلْآخَرِ بِتَبَعِيَّةِ الأوَّلِ كانَ ذَلِكَ الحُكْمُ في الذّاتِيِّ أتَمَّ وأكْمَلَ، وفي العَرَضِيِّ أقَلَّ وأضْعَفَ، فَلَوْ كانَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعالى بِسَبَبِ المَكانِ لَكانَ عُلُوُّ المَكانِ الَّذِي بِسَبَبِهِ حَصَلَ هَذا العُلُوُّ لِلَّهِ تَعالى صِفَةً ذاتِيَّةً، ولَكانَ حُصُولُ هَذا العُلُوِّ لِلَّهِ تَعالى حُصُولًا بِتَبَعِيَّةِ حُصُولِهِ في المَكانِ، فَكانَ عُلُوُّ المَكانِ أتَمَّ وأكْمَلَ مِن عُلُوِّ ذاتِ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ عُلُوُّ اللَّهِ ناقِصًا وعُلُوُّ غَيْرِهِ كامِلًا، وذَلِكَ مُحالٌ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ قاطِعَةٌ في أنَّ عُلُوَّ اللَّهِ تَعالى يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بِالجِهَةِ، وما أحْسَنَ ما قالَ أبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الأصْفَهانِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنْعامِ: ١٢] قالَ: وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَكانَ والمَكانِيّاتِ بِأسْرِها مِلْكُ اللَّهِ تَعالى ومَلَكُوتُهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [الأنْعامِ: ١٣] وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الزَّمانَ والزَّمانِيّاتِ بِأسْرِها مِلْكُ اللَّهِ تَعالى ومَلَكُوتُهُ، فَتَعالى وتَقَدَّسَ عَنْ أنْ يَكُونَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ المَكانِ، وأمّا عَظَمَتُهُ فَهي أيْضًا بِالمَهابَةِ والقَهْرِ والكِبْرِياءِ، ويَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ بِسَبَبِ المِقْدارِ والحَجْمِ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ غَيْرَ مُتَناهٍ في كُلِّ الجِهاتِ أوْ في بَعْضِ الجِهاتِ فَهو مُحالٌ لِما ثَبَتَ بِالبَراهِينِ القاطِعَةِ عَدَمُ إثْباتِ أبْعادٍ غَيْرِ مُتَناهِيَةٍ، وإنْ كانَ مُتَناهِيًا مِن كُلِّ الجِهاتِ كانَتِ الأحْيازُ المُحِيطَةُ بِذَلِكَ المُتَناهِي أعْظَمَ مِنهُ، فَلا يَكُونُ مِثْلُ هَذا الشَّيْءِ عَظِيمًا عَلى الإطْلاقِ، فالحَقُّ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلى وأعْظَمُ مِن أنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الجَواهِرِ والأجْسامِ تَعالى عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب