الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ وَأَعْظَمُ آيَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَنَزَلَتْ لَيْلًا وَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ زَيْدًا فَكَتَبَهَا. رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفَيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ خَرَّ كُلُّ صَنَمٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ خَرَّ كُلُّ مَلِكٍ في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وَهَرَبَتِ الشَّيَاطِينُ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [[في هـ: فاجتمعوا إلى إبليس.]] إِلَى أَنْ أَتَوْا إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ قَدْ نَزَلَتْ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ قُلْتُ: "اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ". زَادَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ الله: "فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَهَذِهِ آيَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِقَارِئِهَا عَاجِلًا وَآجِلًا، فَأَمَّا فِي الْعَاجِلِ فَهِيَ حَارِسَةٌ لِمَنْ قَرَأَهَا مِنَ الْآفَاتِ، وَرُوِيَ لَنَا عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّهُ قال: آية الكرسي تدعى في التوراة وَلِيَّةُ اللَّهِ. يُرِيدُ يُدْعَى قَارِئُهَا فِي مَلَكُوتِ السموات والأرض عزيزا، قال: فكان عبد الرحمن ابن عَوْفٍ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي زَوَايَا بَيْتِهِ الْأَرْبَعِ، مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يَلْتَمِسُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَارِسًا مِنْ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، وَأَنْ تَنْفِيَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ مِنْ زَوَايَا بَيْتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَارَعَ جِنِّيًّا فَصَرَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: خَلِّ عَنِّي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا تَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَّا، فَخَلَّى عَنْهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنَّا بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ. قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ، وفى الخبر: مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ رُوحِهِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَكَانَ كَمَنْ قَاتَلَ مَعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ حَتَّى يُسْتَشْهَدَ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ وَلَا يُوَاظِبُ عَلَيْهَا إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ عَابِدٌ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ آمَنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ وَالْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: "مَا هِيَ"؟ قُلْتُ قَالَ لِي: إِذَا آوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ "اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا [[الضمير في "كانوا" راجع إلى الصحابة. قال القسطلاني: "وكان الأصل أن يقول" كنا "لكنه على طريق الالتفات، وقيل هو مدرج من كلام بعض رواته".]] أحرص شي عَلَى الْخَيْرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَّا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ"؟ قَالَ: لَا، قَالَ: "ذَاكَ شَيْطَانٌ". وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَجُلًا مِنَ الْجِنِّ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ الْإِنْسِيُّ، فَقَالَ لَهُ الْإِنْسِيُّ: إِنِّي لَأَرَاكَ ضَئِيلًا شَخِيتًا كَأَنَّ ذُرَيْعَتَيْكَ ذُرَيْعَتَا كَلْبٍ فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْجِنِّ، أَمْ أَنْتَ مِنْ بَيْنِهِمْ كَذَلِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ! إِنِّي مِنْهُمْ لَضَلِيعٌ وَلَكِنْ عَاوِدْنِي الثَّانِيَةَ فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلَّمْتُكَ شَيْئًا يَنْفَعُكَ، قَالَ نَعَمْ، فصرعه، قال: تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: "اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّكَ تَقْرَأْهَا فِي بَيْتٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ لَهُ خَبَجٌ كَخَبَجِ الْحِمَارِ ثُمَّ لَا يَدْخُلُهُ حَتَّى يُصْبِحَ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ حَدِيثِ عُمَرَ حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: أَهُوَ عُمَرُ؟ فَقَالَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا عُمَرَ!. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ: الضَّئِيلُ: الدَّقِيقُ، وَالشَّخِيتُ: الْمَهْزُولُ، وَالضَّلِيعُ: جَيِّدُ الْأَضْلَاعِ، وَالْخَبَجُ: الرِّيحُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَبَجُ: الضُّرَاطُ، وَهُوَ الْحَبَجُ أَيْضًا بِالْحَاءِ. وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَرَأَ حم- الْمُؤْمِنَ- إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ" قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نُدِبُوا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى قِرَاءَتِهَا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ. عَنْ أَنَسٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:" أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ مَا أُعْطِي [[في الأصول: "... أعطيته قلوب الشاكرين" والتصويب عن كتاب "السر القدسي في تفسير آية الكرسي".]] الشَّاكِرِينَ وَأَجْرَ النَّبِيِّينَ وَأَعْمَالَ الصِّدِّيقِينَ وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ يَمِينِي بِالرَّحْمَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ "قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ مَنْ سَمِعَ بِهَذَا لَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ:" إِنِّي لَا أُعْطِيهِ مِنْ عِبَادِي إِلَّا لِنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيقٍ أَوْ رَجُلٍ أُحِبُّهُ [[في هـ: اجتبيته.]] أَوْ رَجُلٍ أُرِيدَ قَتْلَهُ فِي سَبِيلِي". وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا مُوسَى مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَعْطَيْتُهُ ثَوَابَ الْأَنْبِيَاءِ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَعْنَاهُ عِنْدِي أَعْطَيْتُهُ ثَوَابَ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا ثَوَابُ النُّبُوَّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتِ التَّوْحِيدَ وَالصِّفَاتِ الْعُلَا، وَهِيَ خَمْسُونَ كَلِمَةً، وَفِي كُلِّ كَلِمَةٍ خَمْسُونَ بَرَكَةً، وَهِيَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَ "اللَّهُ" مُبْتَدَأٌ، و "لَا إِلهَ" مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَعْبُودٌ أَوْ مَوْجُودٌ. وَ "إِلَّا هُوَ" بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعٍ لَا إِلَهَ. وَقِيلَ: "اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ مَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ لَا إله إلا إياه، نصب على الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيُّ آيَةٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: "اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّهُ يُكَرَّرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ مُضْمَرٍ وَظَاهِرٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَرَّةً. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ بَدَلًا مِنْ "هُوَ"، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. وَ "الْحَيُّ" اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى يُسَمَّى بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى يَدْعُو بهذا الدعاء: ياحي يَا قَيُّومُ. وَيُقَالُ: إِنَّ آصَفَ بْنَ بَرْخِيَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ إِلَى سليمان دعا بقوله ياحي يَا قَيُّومُ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ لَهُمْ: أيا هيا شرا هيا، يَعْنِي يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. وَيُقَالُ: هُوَ دُعَاءُ أَهْلِ الْبَحْرِ إِذَا خَافُوا الْغَرَقَ يَدْعُونَ بِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: إِنَّهُ يُقَالُ حَيٌّ قَيُّومٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ. وَقِيلَ: سَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا لِصَرْفِهِ الْأُمُورَ مَصَارِيفَهَا وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ مَقَادِيرَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَيِّ الْبَاقِي. قَالَ لَبِيَدٌ: فَإِمَّا تَرِينِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سالما ... ولست بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. (الْقَيُّومُ) مِنْ قَامَ، أَيِ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ مَا خَلَقَ، عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ حَتَّى يُجَازِيَهَا بِعَمَلِهَا، مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِهَا لَا يَخْفَى عليه شي مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعَهَا قَمَرٌ يَقُومُ قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي "عُيُونِ التَّفْسِيرِ" لِإِسْمَاعِيلَ الضرير تَفْسِيرِ الْقَيُّومِ قَالَ: وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ عَقِيبَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ: "لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْقَيُّومُ الَّذِي لَا بدئ [[في الأصول: "لا بديل له" والتصويب عن اللسان.]] لَهُ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ. وَأَصْلُ قَيُّومٍ قَيْوُومٌ اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً، وَلَا يَكُونُ قَيُّومٌ فَعُّولًا، لِأَنَّهُ مِنَ الواو فكان يكون قيووما. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ "الْحَيُّ الْقَيَّامُ" بِالْأَلِفِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقَيُّومَ أَعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَصَحُّ بِنَاءً وَأَثْبَتُ عِلَّةً. والقيام مَنْقُولٌ عَنِ الْقَوَّامِ إِلَى الْقَيَّامِ، صُرِفَ عَنِ الْفَعَّالِ إِلَى الْفَيْعَالِ، كَمَا قِيلَ لِلصَّوَّاغِ الصَّيَّاغُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ ذَا الْعَرْشِ لَلَّذِي يَرْزُقُ الْنَا ... سَ [[في ج: الخلق.]] وَحَيٌّ عَلَيْهِمْ قَيُّومُ ثُمَّ نَفَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذَهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ. وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَالنُّعَاسُ مَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَإِذَا صَارَ فِي الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا، قَالَ عَدِيُّ بْنُ الرِّقَاعِ يَصِفُ امْرَأَةً [[هذا البيت في وصف ظبي، وقيل هذا البيت: لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم كأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم.]] بِفُتُورِ النَّظَرِ: وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ [[رنق النوم في عينيه: خالطها.]] ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَفَرَّقَ الْمُفَضَّلُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: السِّنَةُ مِنَ الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَسْنَانُ الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: السِّنَةُ: رِيحُ النَّوْمِ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ. قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ فُتُورٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَلَا يَفْقِدُ مَعَهُ عَقْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُدْرِكُهُ خَلَلٌ وَلَا يَلْحَقُهُ مَلَلٌ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَالْأَصْلُ فِي سِنَةٍ وَسْنَةٌ حذفت الواو كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَسِنَ [[الذي في كتب اللغة أن الفعل من باب "فرح".]]. وَالنَّوْمُ هُوَ الْمُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ الذِّهْنُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَ "لَا" تَوْكِيدٌ. قُلْتُ: وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ:" وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنَامُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا قَالَ فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيُنَحِّي إحداهما عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ- قَالَ- ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا أن لو كان ينام لم تمتسك [[في ابن عطية: تستمسك. وفى هـ، چ، ز: تمسك.]] السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ "وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ بِالْمِلْكِ فَهُوَ مَالِكُ الْجَمِيعِ وَرَبُّهُ. وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِ" مَا" وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ حَيْثُ الْمُرَادُ الْجُمْلَةُ وَالْمَوْجُودُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالَ الْكُفَّارُ: مَا نَعْبُدُ أَوْثَانًا إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ "مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَ "ذَا" خَبَرُهُ، وَ "الَّذِي" نَعْتٌ لِ "ذَا"، وَإِنْ شِئْتَ بَدَلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "ذَا" زَائِدَةٌ كَمَا زِيدَتْ مَعَ "مَا" لِأَنَّ "مَا" مُبْهَمَةٌ فَزِيدَتْ "ذَا" مَعَهَا لِشَبَهِهَا بِهَا. وَتَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمُجَاهِدُونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ أَكْرَمَهُمْ وَشَرَّفَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى، كَمَا قَالَ:" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [[راجع ج ١١ ص ٣٨١.]] "قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَشْفَعُونَ فِيمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى النَّارِ وَهُوَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَوْ وَصَلَ وَلَكِنْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي" بَابٌ بَقِيَّةٌ مِنْ أبو أب الرُّؤْيَةِ": إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّ إِخْوَانَنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا. وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِيمَنْ يَقْرُبُ أَمْرُهُ، وَكَمَا يَشْفَعُ الطِّفْلُ الْمُحْبَنْطِئُ [[المحبنطئ: اللازق بالأرض، وفى الحديث "إن السقط يظلل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ. (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع امتناع يظل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء، وقيل: هو الممتنع امتناع طلبة لا امتناع إباء.]] عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن حَصَلَ فِي النَّارِ مِنْ عُصَاةِ أُمَمِهِمْ بِذُنُوبٍ دُونَ قُرْبَى وَلَا مَعْرِفَةٍ إِلَّا بِنَفْسِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ تَبْقَى شَفَاعَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ فِي الْمُسْتَغْرِقِينَ [في الخطايا [[في هـ.]] و]- الذنوب الَّذِينَ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي تَعْجِيلِ الْحِسَابِ فَخَاصَّةٌ لَهُ. قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ كَيْفِيَّةَ الشَّفَاعَةِ بَيَانًا شَافِيًا، وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ وَأَنَّ الشَّافِعِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيُخْرِجُونَ مِنْهَا أُنَاسًا اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ شَفَاعَتَانِ: شَفَاعَةٌ فِيمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى النَّارِ، وَشَفَاعَةٌ فِيمَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا. فَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:" ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ [[قال النووي: هو بتنوين "دحض" ودال مفتوحة والحاء ساكنة، و "مزلة" بفتح الميم وفى الزاي لغتان الفتح والكسر، والدحض، والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الاقدام ولا تستقر.]] مَزِلَّةٌ فِيهَا خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ [[الحسكة (بالتحريك): واحدة الحسك وهو نبات له ثمرة خشنة تعلق بأصواف الغنم يعمل من الحديد على مثاله، وهو آلات العسكر يلقى حوله لتنشب في رجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين له. والسعدان منبته سهول الأرض وهو من أطيب مراعى الإبل ما دام رطبا.]] تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ [[الركاب: الإبل التي يسار عليها، ولا واحد لهام لفظها.]] فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ [[مخدوش مرسل أي مجروح مطلق من القيد.]] مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ [[مكدوس أي مدفوع في جهنم. قال ابن الأثير: وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ويروى بالشين المعجمة من الكدش وهو السوق الشديد، والطرد والجرح أيضا.]] فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يقولون ربنا لم نذر فيها أحد مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا "وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [[راجع ج ٥ ص ١٩٤]] "-" فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا [[الحمم (بضم الحاء وفتح الميم الاولى المخففة): الفحم، الواحدة حممة كحطمة.]] "وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:" فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ- أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ- وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي [وَجِبْرِيَائِي [[في هـ وب وج.]]] لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أبى هريرة عنه عليه الصلاة وسلم: "حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ" الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. قُلْتُ: فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخله النَّارَ وَحَصَلَ فِيهَا، أَجَارَنَا اللَّهُ! مِنْهَا وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: "مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ أَوْ وَصَلَ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يُصَفُّ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفُوفًا- وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ أَهْلُ الْجَنَّةِ- فَيَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا فُلَانُ أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ اسْتَسْقَيْتَ فَسَقَيْتُكَ شَرْبَةً؟ قَالَ فَيَشْفَعُ لَهُ وَيَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ نَاوَلْتُكَ طَهُورًا؟ فَيَشْفَعُ لَهُ- قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ- وَيَقُولُ يَا فُلَانُ أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتَنِي لِحَاجَةِ كَذَا وَكَذَا فَذَهَبْتُ لَكَ؟ فَيَشْفَعُ له". وَأَمَّا شَفَاعَاتُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فاختلف فيها، فقيل ثلاث اثْنَتَانِ، وَقِيلَ: خَمْسٌ، يَأْتِي بَيَانُهَا فِي" سُبْحَانَ [[راجع ج ١٠ ص ٣٠٩.]] "إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ﴾ الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: "لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" الدُّنْيَا "وَما خَلْفَهُمْ" الْآخِرَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْيَدِ هُوَ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ الْإِنْسَانَ، وَمَا خَلْفَهُ هُوَ كُلُّ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، وَبِنَحْوِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ قَالَ السُّدِّيُّ وغيره. قوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ، أَيْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حين نقر العصفور في البحر: ما نقصى عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا يَتَبَعَّضُ» . وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا مَعْلُومَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ. فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" الْكُرْسِيُّ لُؤْلُؤَةٌ وَالْقَلَمُ لُؤْلُؤَةٌ وَطُولُ الْقَلَمِ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ [[في هـ وب وج: حيث لا يعلمه العالمون.]] ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ- وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ- عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَبَيْنَ الْعَرْشِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ. يُقَالُ: كُرْسِيٌّ وَكِرْسِيٌّ وَالْجَمْعُ الْكَرَاسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ. وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَمِنْهُ الْكُرَّاسَةُ الَّتِي تَضُمُّ الْعِلْمَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ... كَرَاسِيٌّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ أَيْ عُلَمَاءٌ بِحَوَادِثِ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: كُرْسِيُّهُ قُدْرَتُهُ الَّتِي يُمْسِكُ بِهَا السموات وَالْأَرْضَ، كَمَا تَقُولُ: اجْعَلْ لِهَذَا الْحَائِطِ كُرْسِيًّا، أَيْ مَا يَعْمِدُهُ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابن عباس في قول "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قاله الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ [[ليس في ج وب وهـ عن ابن مسعود.]] وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قَالَ: عِلْمُهُ. وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُرْسِيُّ الْمَشْهُورُ مَعَ الْعَرْشِ. وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" قَالَ: إِنَّ الصَّخْرَةَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَمُنْتَهَى الْخَلْقِ عَلَى أَرْجَائِهَا، عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: وَجْهُ إِنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ نَسْرٍ، فَهُمْ قِيَامٌ عَلَيْهَا قد أحاطوا بالأرضين والسموات، وَرُءُوسُهُمْ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ وَالْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ وَاللَّهُ وَاضِعٌ كُرْسِيَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كُرْسِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْآخَرُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ. وَفِي رِوَايَةِ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي قَوْلِهِ "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" فإن السموات وَالْأَرْضَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ. وَأَرْبَابُ الْإِلْحَادِ يَحْمِلُونَهَا عَلَى عِظَمِ الْمُلْكِ وَجَلَالَةِ السُّلْطَانِ، وَيُنْكِرُونَ وُجُودَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَهْلُ الْحَقِّ يُجِيزُونَهُمَا، إِذْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ مُتَّسَعٌ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ وَلَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ [[كذا في ب وهامش هـ. وفى: هـ وا وج وح: المرجل. والأطيط للرحل لا للرجل كما في اللغة.]]. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رُوِّينَا أَيْضًا فِي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ فِيمَا يُرَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنَ الْعَرْشِ مَوْضِعَ الْقَدَمَيْنِ مِنَ السَّرِيرِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ما أعجب شي رَأَيْتَهُ"؟ قَالَ: رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلُ طعام فمر فارس فأذراه [[كذا في ج وب، وأذراه: رمى به وأطاره.]] فقعدت تجمع طَعَامَهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا: "لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ- أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ- لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِ أَبِي مُوسَى "الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ" يُرِيدُ هُوَ مِنْ عَرْشِ الرَّحْمَنِ كَمَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ أَسِرَّةِ الْمُلُوكِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ نَفْسُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُرْضِيٍّ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "آيَةُ الْكُرْسِيِّ- ثُمَّ قَالَ- يَا أَبَا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كخلقة مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ". أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السموات وَالْأَرْضُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ حَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ عِظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ عِظَمُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ لَا يؤده حفظ هذا الامر العظيم. و (يَؤُدُهُ) مَعْنَاهُ يُثْقِلُهُ، يُقَالُ: آدَنِي الشَّيْءُ بِمَعْنَى أَثْقَلَنِي وَتَحَمَّلْتُ مِنْهُ الْمَشَقَّةَ، وَبِهَذَا فَسَّرَ اللَّفْظَةَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ لِلْكُرْسِيِّ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْكُرْسِيِّ، فَهُوَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَ (الْعَلِيُّ) يُرَادُ بِهِ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ لَا عُلُوُّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّحَيُّزِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَجْهُ أَلَّا يُحْكَى. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السموات الْعُلَى: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالْعَلِيُّ وَالْعَالِي: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ لِلْأَشْيَاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَا فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمْ ... تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لنسر وكاسر وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [[راجع ج ١٣ ص ٢٤٨.]] ". وَ (الْعَظِيمُ) صِفَةٌ بِمَعْنَى عَظِيمِ الْقَدْرِ وَالْخَطَرِ وَالشَّرَفِ، لَا عَلَى مَعْنَى عِظَمِ الْأَجْرَامِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْعَظِيمَ مَعْنَاهُ الْمُعَظَّمُ، كَمَا يُقَالُ: الْعَتِيقُ بِمَعْنَى الْمُعَتَّقِ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ الْأَعْشَى: فَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ ... فِنْطِ [[الإسفنط ضرب من الأشربة: فارسي معرب.]] مَمْزُوجَةٌ بِمَاءٍ زُلَالِ وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ بِمَعْنَى معظم لوجب ألا بكون عَظِيمًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَبَعْدَ فَنَائِهِمْ، إذ لا معظم له حينئذ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب