الباحث القرآني

﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفُهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ ويَبْصُطُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] إلى آخِرِها، وجُمْلَةِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى المَلَأِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [البقرة: ٢٤٦] الآيَةَ، قُصِدَ بِهِ الِاسْتِطْرادُ لِلْحَثِّ عَلى الإنْفاقِ لِوَجْهِ اللَّهِ في طُرُقِ البِرِّ، لِمُناسَبَةِ الحَثِّ عَلى القِتالِ، فَإنَّ القِتالَ يَسْتَدْعِي إنْفاقَ المُقاتِلِ عَلى نَفْسِهِ في العِدَّةِ والمَئُونَةِ مَعَ الحَثِّ عَلى إنْفاقِ الواجِدِ فَضْلًا في سَبِيلِ اللَّهِ: بِإعْطاءِ العِدَّةِ لِمَن لا عِدَّةَ لَهُ، والإنْفاقِ عَلى المُعْسِرِينَ مِنَ الجَيْشِ، وفِيها تَبْيِينٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٤] فَكانَتْ ذاتَ ثَلاثَةِ أغْراضٍ. و(القَرْضُ) إسْلافُ المالِ ونَحْوِهِ بِنِيَّةِ إرْجاعِ مِثْلِهِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى البَذْلِ لِأجْلِ الجَزاءِ، فَيَشْمَلُ بِهَذا المَعْنى بَذْلَ النَّفْسِ والجِسْمِ رَجاءَ الثَّوابِ، فَفِعْلُ يُقْرِضُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ. والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في التَّحْضِيضِ والتَّهْيِيجِ عَلى الِاتِّصافِ بِالخَيْرِ كَأنَّ المُسْتَفْهِمَ لا يَدْرِي مَن هو أهْلُ هَذا الخَيْرِ والجَدِيرُ بِهِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎إذا القَوْمُ قالُوا مَن فَتًى خِلْتُ أنَّنِي عُنِيتُ فَلَمْ أكْسَلْ ولَمْ أتَـبَـلَّـدِ و(ذا) بَعْدَ أسْماءِ الِاسْتِفْهامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا في مَعْناهُ كَما تَقُولُ، وقَدْ رَأيْتَ شَخْصًا لا تَعْرِفُهُ: (مَن ذا) فَإذا لَمْ يَكُنْ في مَقامِ الكَلامِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِأنْ يُشارَ إلَيْهِ بِالِاسْتِفْهامِ كانَ اسْتِعْمالُ (ذا) بَعْدَ اسْمِ الِاسْتِفْهامِ لِلْإشارَةِ المَجازِيَّةِ بِأنْ يَتَصَوَّرَ المُتَكَلِّمُ في ذِهْنِهِ شَخْصًا مَوْهُومًا مَجْهُولًا صَدَرَ مِنهُ فِعْلٌ فَهو يَسْألُ عَنْ تَعْيِينِهِ، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ لِلِاهْتِمامِ بِالفِعْلِ الواقِعِ وتَطَّلُبِ مَعْرِفَةِ فاعِلِهِ ولِكَوْنِ هَذا الِاسْتِعْمالِ يُلازِمُ ذِكْرَ فِعْلٍ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ، قالَ النُّحاةُ كُلُّهم بَصْرِيُّهم وكُوفِيُّهم: بِأنَّ (ذا) مَعَ الِاسْتِفْهامِ تَتَحَوَّلُ إلى اسْمٍ مَوْصُولٍ مُبْهَمٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، فَعَدُّوهُ اسْمَ مَوْصُولٍ، وبَوَّبَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ فَقالَ ”بابُ إجْرائِهِمْ ذا وحْدَهُ بِمَنزِلَةِ الَّذِي (p-٤٨٢)ولَيْسَ يَكُونُ كالَّذِي إلّا مَعَ (ما) و(مَن) في الِاسْتِفْهامِ فَيَكُونُ (ذا) بِمَنزِلَةِ الَّذِي ويَكُونُ“ ما ”- أيْ أوْ مَن - حَرْفَ الِاسْتِفْهامِ وإجْراؤُهم إيّاهُ مَعَ ما - أيْ أوْ مَن - بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ“ ومَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا﴾ [النحل: ٣٠] وبَقِيَّةُ أسْماءِ الإشارَةِ مِثْلُ اسْمِ (ذا) عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وأمّا البَصْرِيُّونَ فَقَصَرُوا هَذا الِاسْتِعْمالَ عَلى (ذا) ولَيْسَ مُرادُهم أنَّ ذا مَعَ الِاسْتِفْهامِ يَصِيرُ اسْمَ مَوْصُولٍ؛ فَإنَّهُ يَكْثُرُ في الكَلامِ أنْ يَقَعَ بَعْدَهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ، كَما في هَذِهِ الآيَةِ، ولا مَعْنى لِوُقُوعِ اسْمَيْ مَوْصُولٍ صِلَتُهُما واحِدَةٌ، ولَكِنَّهم أرادُوا أنَّهُ يُفِيدُ مُفادَ اسْمِ المَوْصُولِ، فَيَكُونُ ما بَعْدَهُ مِن فِعْلٍ أوْ وصْفٍ في مَعْنى صِلَةِ المَوْصُولِ، وإنَّما دَوَّنُوا ذَلِكَ لِأنَّهم تَناسَوْا ما في اسْتِعْمالِ ”ذا“ في الِاسْتِفْهامِ مِنَ المَجازِ، فَكانَ تَدْوِينُها قَلِيلَ الجَدْوى. والوَجْهُ أنَّ (ذا) في الِاسْتِفْهامِ لا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ لِلْإشارَةِ وإنَّما هي إشارَةٌ مَجازِيَّةٌ، والفِعْلُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ يَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ. فَوِزانُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ [النحل: ٢٤] وِزانُ قَوْلِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ يُخاطِبُ بَغْلَتَهُ: نَجَوْتِ وهَذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ والإقْراضُ: فِعْلُ القَرْضِ. والقَرْضُ: السَّلَفُ، وهو بَذْلُ شَيْءٍ لِيُرَدَّ مِثْلُهُ أوْ مُساوِيهُ، واسْتُعْمِلَ هُنا مَجازًا في البَذْلِ الَّذِي يُرْجى الجَزاءُ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا في تَحْقِيقِ حُصُولِ التَّعْوِيضِ والجَزاءِ. ووَصْفُ القَرْضِ بِالحَسَنِ لِأنَّهُ لا يَرْضى اللَّهُ بِهِ إلّا إذا كانَ مُبَرَّأً عَنْ شَوائِبِ الرِّياءِ والأذى، كَما قالَ النّابِغَةُ:     لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبَوَقِيلَ: القَرْضُ هُنا عَلى حَقِيقَتِهِ وهو السَّلَفُ، ولَعَلَّهُ عُلِّقَ بِاسْمِ الجَلالَةِ لِأنَّ الَّذِي يُقْرِضُ النّاسَ طَمَعًا في الثَّوابِ كَأنَّهُ أقْرَضَ اللَّهَ تَعالى؛ لِأنَّ القَرْضَ مِنَ الإحْسانِ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ وفي مَعْنى هَذا ما جاءَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ: «يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قالَ يا رَبِّ وكَيْفَ أُطْعِمُكَ وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ قالَ أما عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ» . الحَدِيثَ. وقَدْ رَوَوْا: أنَّ ثَوابَ الصَّدَقَةِ عَشْرُ أمْثالِها وثَوابَ القَرْضِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مِن أمْثالِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَيُضاعِفَهُ﴾ بِألِفٍ بَعْدِ الضّادِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ. بِدُونِ ألِفٍ بَعْدَ الضّادِ وبِتَشْدِيدِ العَيْنِ. ورَفْعُ (فَيُضاعِفُهُ) في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، عَلى العَطْفِ عَلى ﴿يُقْرِضُ﴾ لِيَدْخُلَ في حَيِّزِ (p-٤٨٣)التَّحْضِيضِ مُعاقِبًا لِلْإقْراضِ في الحُصُولِ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، ويَعْقُوبُ: بِنَصْبِ الفاءِ عَلى جَوابِ التَّحْضِيضِ، والمَعْنى عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ واحِدٌ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ يَقْبِضُ ويَبْصُطُ﴾ أصْلُ القَبْضِ: الشَّدُّ والتَّماسُكُ، وأصْلُ البَسْطِ: ضِدُّ القَبْضِ وهو الإطْلاقُ والإرْسالُ، وقَدْ تَفَرَّعَتْ عَنْ هَذا المَعْنى مَعانٍ: مِنها القَبْضُ بِمَعْنى الأخْذِ ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وبِمَعْنى الشُّحِّ ﴿ويَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] ومِنها البَسْطُ بِمَعْنى البَذْلِ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ﴾ [الرعد: ٢٦] وبِمَعْنى السَّخاءِ ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ [المائدة: ٦٤] ومِن أسْمائِهِ تَعالى: القابِضُ، الباسِطُ، بِمَعْنى المانِعِ، المُعْطِي، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ويَبْسُطُ بِالسِّينِ، وقَرَأهُ نافِعٌ، والبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، والكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، بِالصّادِ وهو لُغَةٌ. يُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ هُنا: يَقْبِضُ العَطايا والصَّدَقاتِ، ويَبْسُطُ الجَزاءَ والثَّوابَ، ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ يَقْبِضُ نُفُوسًا عَنِ الخَيْرِ، ويَبْسُطُ نُفُوسًا لِلْخَيْرِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالوَعْدِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلى المُنْفِقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، والتَّقْتِيرِ عَلى البَخِيلِ. وفي الحَدِيثِ، «اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ومُمْسِكًا تَلَفًا»، وفي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الحُلْوانِيِّ عَنْ قالُونَ عَنْ نافِعٍ: أنَّهُ لا يُبالِي كَيْفَ قَرَأ يَبْسُطُ وبَسَطَهُ بِالسِّينِ أوْ بِالصّادِ. أيْ لِأنَّهُما لُغَتانِ مِثْلُ الصِّراطِ والسِّراطِ، والأصْلُ هو السِّينُ، ولَكِنَّها قُلِبَتْ صادًا في بَصَطَهُ ويَبْصُطُ لِوُجُودِ الطّاءِ بَعْدَها، ومَخْرَجُها بِعِيدٌ مِن مَخْرَجِ السِّينِ؛ لِأنَّ الِانْتِقالَ مِنَ السِّينِ إلى الطّاءِ ثَقِيلٌ بِخِلافِ الصّادِ. وقَوْلُهُ ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّنْبِيهِ والتَّذْكِيرِ بِأنَّ ما أُعِدَّ لَهم في الآخِرَةِ مِنَ الجَزاءِ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ أعْظَمُ مِمّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الخَيْرِ في الدُّنْيا، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ المُمْسِكَ البَخِيلَ عَنِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ مَحْرُومٌ مِن خَيْرٍ كَثِيرٍ. رُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتِ الآيَةُ «جاءَ أبُو الدَّحْداحِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ أوَ أنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنّا القَرْضَ ؟ قالَ: نَعَمْ يا أبا الدَّحْداحِ، قالَ: أرِنِي يَدَكَ فَناوَلَهُ يَدَهُ فَقالَ: فَإنِّي أقْرَضْتُ اللَّهَ حائِطًا فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمْ مِن عِذْقٍ رَداحٍ ودارٍ فَساحٍ في الجَنَّةِ لِأبِي الدَّحْداحِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب