الباحث القرآني

(p-٤٠٢)ولَمّا كانَتِ النَّفَقَةُ الَّتِي هي مِن أعْظَمِ مَقاصِدِ السُّورَةِ أوْثَقَ دَعائِمِ الجِهادِ وأقْوى مُصَدِّقٍ لِلْإيمانِ ومُحَقَّقٍ لِمُبايَعَةِ المَلِكِ الدَّيّانِ كَرَّرَ الحَثَّ عَلَيْها عَلى وجْهٍ أبْلَغَ تَشْوِيقًا مِمّا مَضى فَقالَ عَلى هَيْئَةِ المُمْتَحِنِ لِلصّادِقِ مِمَّنْ أمَرَهُ وحَذَّرَهُ وأنْذَرَهُ: ﴿مَن ذا الَّذِي﴾ مِنكم يا مَن كَتَبَ عَلَيْهِمُ القِتالَ والخُرُوجَ عَنِ الأنْفُسِ والأمْوالِ ﴿يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالعَظَمَةِ، وهو مِنَ الإقْراضِ أيْ إيقاعِ القَرْضِ ولِذا قالَ: ﴿قَرْضًا﴾ وشَبَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى العَمَلَ بِهِ لِما يُرْجى عَلَيْهِ مِنَ الثَّوابِ فَهو كالقَرْضِ الَّذِي هو بَذْلُ المالِ لِلرُّجُوعِ بِمِثْلِهِ، وعَبَّرَ بِهِ لِدَلالَتِهِ عَلى المَحَبَّةِ لِأنَّهُ لا يُقْرِضُكَ إلّا مُحِبٌّ، ولِأنَّ أجْرَهُ أكْثَرُ مِن أجْرِ (p-٤٠٣)الصَّدَقَةِ ﴿حَسَنًا﴾ أيْ جامِعًا لِطِيبٍ النَّفْسِ وإخْلاصِ النِّيَّةِ وزَكاءِ المالِ. وقالَ الحَرالِيُّ: القَرْضُ الجَزُّ مِنَ الشَّيْءِ والقَطْعُ مِنهُ، كَأنَّهُ يَقْطَعُ لَهُ مِن مالِهِ قِطْعَةً لِيَقْطَعَ لَهُ مِن ثَوابِهِ أقْطاعًا مُضاعَفَةً، والقَرْضُ بَيْنَ النّاسِ قَرْضًا بِقَرْضٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنِ ازْدادَ فَقَدْ أرْبى ومَن زادَ مِن غَيْرِ عَقْدٍ ولا عَهْدٍ فَقَدْ وفى، فالقَرْضُ مُساواةٌ والرِّبا ازْدِيادٌ، ووَصَفَ سُبْحانَهُ وتَعالى القَرْضَ الَّذِي حَرَّضَ عَلَيْهِ بِالحَسَنِ لِتَكُونَ المُعامَلَةُ بَذْلَةً عَلى وجْهِ الإحْسانِ الَّذِي هو رُوحُ الدِّينِ وهو أنْ يُعامِلَ اللَّهَ بِهِ كَأنَّهُ يَراهُ - انْتَهى. ولَمّا كانَتِ الأنْفُسُ مَجْبُولَةً عَلى الشُّحِّ بِما لَدَيْها إلّا لِفائِدَةٍ رَغَّبَها بِقَوْلِهِ مُسَبِّبًا عَنْ ذَلِكَ: ﴿فَيُضاعِفَهُ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: مِنَ المُضاعَفَةِ مُفاعَلَةٌ مِنَ الضِّعْفِ - بِالكَسْرِ - وهي ثَنْيُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ مَرَّةً أوْ مَرّاتٍ، وأزالَ عَنْهُ رَيْبَ الِاحْتِمالِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ﴾ أيْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. (p-٤٠٤)قالَ الحَرالِيُّ: هَذِهِ المُضاعَفَةُ أوَّلُ إنْبائِها أنَّ الزّائِدَ ضِعْفٌ لَيْسَ كَسْرًا مِن واحِدِ المُقْرِضِ لِيَخْرُجَ ذَلِكَ عَنْ مَعْنى وفاءِ القَضاءِ فَإنَّ المُقْتَرِضَ تارَةً يُوفِي عَلى الواحِدِ كَسْرًا مِن وزْنِهِ، «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَقْتَرِضُ قَرْضًا إلّا وفى عَلَيْهِ زِيادَةً، وقالَ: خَيْرُ النّاسِ أحْسَنُهم قَضاءً» فَأنْبَأ تَعالى أنَّ اقْتِراضَهُ لَيْسَ بِهَذِهِ المَثابَةِ بَلْ بِما هو فَوْقَ ذَلِكَ لِأنَّهُ يَضْعُفُ القَرْضُ بِمِثْلِهِ وأمْثالِهِ إلى ما يُقالُ فِيهِ الكَثْرَةُ؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿أضْعافًا﴾ ما يُفِيدُ أنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرٍ، وفي قَوْلِهِ: ﴿كَثِيرَةً﴾ ما يُفِيدُ البَلاغَ إلى فَوْقِ العَشْرِ وإلى المِائَةِ كَأنَّهُ المُفَسِّرُ في قَوْلِهِ بَعْدَ هَذا ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٦١] فَأوْصَلَ تَخْصِيصَ هَذِهِ الكَثْرَةِ إلى المِئِينَ ثُمَّ فَتَحَ بابَ التَّضْعِيفِ إلى ما لا يَنالُهُ عِلْمُ العالِمِينَ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١] - انْتَهى. ولَّما رَغَّبَ سُبْحانَهُ وتَعالى في إقْراضِهِ أتْبَعَهُ جُمْلَةً حالِيَّةً مِن ضَمِيرٍ يُضاعِفُ مَرْهَبَةً مَرْغَبَةً فَقالَ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً (p-٤٠٥)﴿يَقْبِضُ﴾ أيْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ وهي إيقاعُ القَبْضِ والإقْتارِ بِمَن يَشاءُ وإنْ جَلَّتْ أمْوالُهُ. قالَ الحَرالِيُّ: والقَبْضُ إكْمالُ الأخْذِ، أصْلُهُ القَبْضُ بِاليَدِ كُلِّهِ، والقَبْضُ - بِالمُهْمَلَةِ - أخْذُ بِأطْرافِ الأصابِعِ وهو جَمْعٌ عَنْ بَسْطٍ فَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِهِ ﴿ويَبْسُطُ﴾ أيْ لِمَن يَشاءُ وإنْ ضاقَتْ حالُهُ، والبَسْطُ تَوْسِعَةُ المُجْتَمَعِ إلى حَدِّ غايَةٍ ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ حِسًّا بِالبَعْثِ ومَعْنًى في جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، فَهو يُجازِيكم في الدّارَيْنِ عَلى حَسَبِ ما يَعْلَمُ مِن نِيّاتِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب