الباحث القرآني

﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾، هَذا عَلى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ والتَّقْرِيبِ لِلنّاسِ بِما يَفْهَمُونَهُ (p-٢٥٢)واللَّهُ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ، شَبَّهَ تَعالى عَطاءَ المُؤْمِنِ في الدُّنْيا بِما يَرْجُو ثَوابَهُ في الآخِرَةِ بِالقَرْضِ، كَما شَبَّهَ بَذْلَ النُّفُوسِ والأمْوالِ في الجَنَّةِ بِالبَيْعِ والشِّراءِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالقِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وكانَ ذَلِكَ مِمّا يُفْضِي إلى بَذْلِ النُّفُوسِ والأمْوالِ في إعْزازِ دِينِ اللَّهِ؛ أثْنى عَلى مَن بَذَلَ شَيْئًا مِن مالِهِ في طاعَةِ اللَّهِ، وكانَ هَذا أقَلَّ حَرَجًا عَلى المُؤْمِنِينَ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلّا بَذْلُ المالِ دُونَ النَّفْسِ، فَأتى بِهَذِهِ الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ مَعْنى الطَّلَبِ. قالَ ابْنُ المَغْرِبِيِّ: انْقَسَمَ الخَلْقُ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ إلى فِرَقٍ ثَلاثَةٍ: الأُولى: اليَهُودُ، قالُوا: إنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ يَحْتاجُ إلَيْنا ونَحْنُ أغْنِياءُ، وهَذِهِ جَهالَةٌ عَظِيمَةٌ؛ ورَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ﴾ [آل عمران: ١٨١] . والثّانِيَةُ: آثَرَتِ الشُّحَّ والبُخْلَ، وقَدَّمَتِ الرَّغْبَةَ في المالِ. والثّالِثَةُ: بادَرَتْ إلى الِامْتِثالِ، كَفِعْلِ أبِي الدَّحْداحِ وغَيْرِهِ. انْتَهى. و”مَن“ اسْتِفْهامِيَّةٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ”ذا“، و”الَّذِي“ نَعْتٌ لِذا، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، ومَنَعَ أبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ ”مَن“ و”ذا“ بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ، كَما كانَتْ ”ما“ مَعَ ”ذا“، قالَ: لِأنَّ ”ما“ أشَدُّ إبْهامًا مِن ”مَن“، إذا كانَتْ ”مَن“ لِمَن يَعْقِلُ. وأصْحابُنا يُجِيزُونَ تَرْكِيبَ ”مَن“ مَعَ ”ذا“ في الِاسْتِفْهامِ وتَصْيِرَهُما كاسْمٍ واحِدٍ، كَما يُجِيزُونَ ذَلِكَ في ”ما“ و”ذا“، فَيُجِيزُونَ في: مَن ذا عِنْدَكَ، أنْ يَكُونَ: ”مَن“ و”ذا“، بِمَنزِلَةِ اسْمِ الِاسْتِفْهامِ. وانْتَصَبَ لَفْظُ الجَلالَةِ بِـ ”يُقْرِضُ“ وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: عِبادَ اللَّهِ المَحاوِيجَ، أسْنَدَ الِاسْتِقْراضَ إلى اللَّهِ وهو المُنَزَّهُ عَنِ الحاجاتِ، تَرْغِيبًا في الصَّدَقَةِ، كَما أضافَ الإحْسانَ إلى المَرِيضِ والجائِعِ والعَطْشانِ إلى نَفْسِهِ تَعالى في قَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا: (يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي واسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي واسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي)، الحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، والبُخارِيُّ. وانْتَصَبَ ”قَرْضًا“ عَلى المَصْدَرِ الجارِي عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إقْراضًا، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؛ فَيَكُونُ بِمَعْنى: مَقْرُوضٍ، أيْ: قِطْعَةً مِنَ المالِ، كالخَلْقِ بِمَعْنى المَخْلُوقِ. وانْتَصَبَ ”حَسَنًا“ عَلى أنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ ”قَرْضًا“ وهو الظّاهِرُ، أوْ عَلى أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إذا أعْرَبْنا قَرْضًا مَفْعُولًا بِهِ، أيْ: إقْراضًا حَسَنًا، ووَصْفُهُ بِالحُسْنِ لِكَوْنِهِ طَيِّبَ النِّيَّةِ خالِصًا لِلَّهِ، قالَهُ ابْنُ المُبارَكِ. أوْ لِكَوْنِهِ يَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوابَهُ، أوْ لِكَوْنِهِ جَيِّدًا كَثِيرًا، أوْ لِكَوْنِهِ بِلا مَنٍّ ولا أذًى، قالَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ، أوْ لِكَوْنِهِ لا يَطْلُبُ بِهِ عِوَضًا، قالَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القُشَيْرِيُّ التُّسْتَرِيُّ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ: ”فَيُضَعِّفُهُ“ بِالتَّشْدِيدِ مِن ضَعَّفَ، والباقُونَ: ”فَيُضاعِفُهُ“ مِن ضاعَفَ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُما بِمَعْنًى. وقِيلَ: مَعْناهُما مُخْتَلِفٌ، وقَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، بِنَصْبِ الفاءِ، والباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى العَطْفِ عَلى صِلَةِ الَّذِي، وهو قَوْلُهُ: ”يُقْرِضُ“، أوْ عَلى الِاسْتِئْنافِ، أيْ: فَهو يُضاعِفُهُ. والأوَّلُ أحْسَنُ؛ لِأنَّهُ لا حَذْفَ فِيهِ، والنَّصْبُ عَلى أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلِاسْتِفْهامِ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ - وإنْ كانَ عَنِ المُقْرِضِ - فَهو عَنِ الإقْراضِ في المَعْنى، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أيُقْرِضُ اللَّهَ أحَدٌ فَيُضاعِفَهُ ؟ وقالَ أبُو عَلِيٍّ: الرَّفْعُ أحْسَنُ، وذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلى أنَّهُ: إذا كانَ الِاسْتِفْهامُ عَنِ المُسْنَدِ إلَيْهِ الحُكْمُ، لا عَنِ الحُكْمِ؛ فَلا يَجُوزُ النَّصْبُ بِإضْمارِ أنَّ بَعْدَ الفاءِ في الجَوابِ، فَهو مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ، وقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ: (مَن يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ) . وكَذَلِكَ سائِرُ أدَواتِ الِاسْتِفْهامِ الِاسْمِيَّةِ والحَرْفِيَّةِ. وانْتَصَبَ ”أضْعافًا“ عَلى الحالِ مِنَ الهاءِ في ”يُضاعِفُهُ“ . قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، تَضَمَّنَ مَعْنى فَيُضاعِفُهُ: فَيُصَيِّرُهُ. ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى المَصْدَرِ بِاعْتِبارِ أنْ يُطْلِقَ الضِّعْفَ، وهو المُضاعِفُ أوِ المُضَعَّفُ، بِمَعْنى المُضاعَفَةِ أوِ التَّضْعِيفِ، كَما أطْلَقَ العَطاءَ وهو اسْمُ المُعْطى بِمَعْنى الإعْطاءِ، وجُمِعَ لِاخْتِلافِ جِهاتِ التَّضْعِيفِ بِاعْتِبارِ الإخْلاصِ، وهَذِهِ المُضاعَفَةُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ لَكِنَّها كَثِيرَةٌ. قالَ الحَسَنُ، والسُّدِّيُّ: لا يَعْلَمُ كُنْهَ التَّضْعِيفِ إلّا اللَّهُ تَعالى، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَدْ رُوِيَتْ مَقادِيرُ مِنَ التَّضْعِيفِ، وجاءَ في القُرْآنِ: (p-٢٥٣)﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١]، ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١] . قِيلَ: والآيَةُ عامَّةٌ في سائِرِ وُجُوهِ البِرِّ مِن صَدَقَةٍ، وجِهادٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ. وقِيلَ: خاصَّةٌ بِالنَّفَقَةِ في الجِهادِ. وقِيلَ: بِالصَّدَقَةِ وإنْفاقِ المالِ عَلى الفُقَراءِ المُحْتاجِينَ. ﴿واللَّهُ يَقْبِضُ ويَبْسُطُ﴾، أيْ: يَسْلُبُ قَوْمًا ويُعْطِي قَوْمًا. أوْ يُقَتِّرُ ويُوَسِّعُ، قالَهُ الحَسَنُ. أوْ يَقْبِضُ الصَّدَقاتِ ويَخْلُفُ البَذْلَ مَبْسُوطًا. أوْ يَقْبِضُ أيْ: يُمِيتُ؛ لِأنَّ مَن أماتَهُ فَقَدْ قَبَضَهُ، ويَبْسُطُ أيْ: يُحْيِيهِ؛ لِأنَّ مَن مَدَّ لَهُ في عُمْرِهِ فَقَدْ بَسَطَهُ. أوْ يَقْبِضُ بَعْضَ القُلُوبِ فَلا تَنْبَسِطُ، ويَبْسُطُ بَعْضَها فَيُقَدِّمُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ. أوْ يَقْبِضُ بِتَعْجِيلِ الأجَلِ، ويَبْسُطُ بِطُولِ الأمَلِ. أوْ يَقْبِضُ بِالخَطَرِ ويَبْسُطُ بِالإباحَةِ. أوْ يَقْبِضُ الصَّدْرَ ويُوَسِّعُهُ. أوْ يَقْبِضُ يَدَ مَن يَشاءُ بِالإنْفاقِ في سَبِيلِهِ، ويَبْسُطُ يَدَ مَن يَشاءُ بِالإنْفاقِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ وغَيْرُهُ. أوْ يَقْبِضُ الصَّدَقَةَ ويَبْسُطُ الثَّوابَ، قالَهُ الزَّجّاجُ. ولِلْمُتَصَوِّفَةِ في القَبْضِ والبَسْطِ أقاوِيلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ. وقَرَأ حَمْزَةُ بِخِلافٍ عَنْ خَلّادٍ، وحَفْصٍ، وهِشامٍ، وقُنْبُلٍ، والنَّقّاشِ عَنِ الأخْفَشِ هُنا، وأبُو قُرَّةَ عَنْ نافِعٍ: ”يَبْسُطُ“ بِالسِّينِ، وخَبَرُ الحُلْوانِيِّ، عَنْ قالُونَ، عَنْ نافِعٍ. والباقُونَ: بِالصّادِ. ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: خَبَرٌ مَعْناهُ الوَعِيدُ، أيْ: فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم. قِيلَ: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن ضُرُوبِ عِلْمِ البَيانِ، وصُنُوفِ البَلاغَةِ: الِاسْتِفْهامَ الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرى التَّعَجُّبِ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٣]، والحَذْفَ بَيْنَ ﴿مُوتُوا ثُمَّ أحْياهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣]، أيْ: فَماتُوا ثُمَّ أحْياهم، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٤٣]، أيْ: مَلَكُ اللَّهِ بِإذْنِهِ، وفي ﴿لا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٣]، أيْ: لا يَشْكُرُونَهُ، وفي قَوْلِهِ: ”سَمِيعٌ“ لِأقْوالِكم عَلِيمٌ بِأعْمالِكم، وفي قَوْلِهِ: ”تُرْجَعُونَ“؛ فَيُجازِي كُلًّا بِما عَمِلَ. والطِّباقَ في قَوْلِهِ: ﴿مُوتُوا ثُمَّ أحْياهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣]، وفي: ﴿يَقْبِضُ ويَبْسُطُ﴾ . والتَّكْرارَ في: ﴿عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ [البقرة: ٢٤٣] . والِالتِفاتَ في: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٤] . والتَّشْبِيهَ بِغَيْرِ أداتِهِ في: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾، شَبَّهَ قَبُولَهُ تَعالى إنْفاقَ العَبْدِ في سَبِيلِهِ ومُجازاتِهِ عَلَيْهِ بِالقَرْضِ الحَقِيقِيِّ؛ فَأطْلَقَ اسْمَ القَرْضِ عَلَيْهِ، والِاخْتِصاصَ بِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ ”حَسَنًا“ . والتَّجْنِيسَ المُغايِرَ في قَوْلِهِ: ﴿فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب