الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ اسْتِئْنافٌ لِإبْطالِ عَمَلَيْنِ غالِبَيْنِ عَلى النّاسِ في الجاهِلِيَّةِ وهُما شُرْبُ الخَمْرِ والمَيْسِرُ وهَذا مِن عِدادِ الأحْكامِ الَّتِي بَيَّنَها في هاتِهِ السُّورَةِ مِمّا يَرْجِعُ إلى إصْلاحِ الأحْوالِ الَّتِي كانَ عَلَيْها النّاسُ في الجاهِلِيَّةِ، والمَشْرُوعُ في بَيانِها مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] إلى آخِرِ السُّورَةِ، عَدا ما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الآدابِ والزَّواجِرِ والبَشائِرِ والمَواعِظِ والأمْثالِ والقَصَصِ؛ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَفَنُّنِ أسالِيبِهِ تَنْشِيطًا لِلْمُخاطَبِينَ والسّامِعِينَ والقارِئِينَ ومَن بُلِّغَ، وقَدْ تَناسَقَتْ في هَذِهِ الآيَةِ. والسّائِلُونَ هُمُ المُسْلِمُونَ؛ قالَ الواحِدِيُّ: نَزَلَتْ في عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ومُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ونَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أفْتِنا في الخَمْرِ فَإنَّها مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ مُتْلِفَةٌ لِلْمالِ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَ في الكَشّافِ: فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَرَكَ الخَمْرَ قَوْمٌ وشَرِبَها آخَرُونَ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَها آيَةُ المائِدَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] الآيَةَ. وشُرْبُ الخَمْرِ عَمَلٌ مُتَأصِّلٌ في البَشَرِ قَدِيمًا لَمْ تُحَرِّمْهُ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرائِعِ لا القَدْرَ المُسْكِرَ بَلَهُ ما دُونَهُ، وأمّا ما يَذْكُرُهُ بَعْضُ عُلَماءِ الإسْلامِ: إنَّ الإسْكارَ حَرامٌ في الشَّرائِعِ كُلِّها فَكَلامٌ لا شاهِدَ لَهم عَلَيْهِ بَلِ الشَّواهِدُ عَلى ضِدِّهِ مُتَوافِرَةٌ، وإنَّما جَرَّأهم عَلى هَذا القَوْلِ ما قَعَّدُوهُ في (p-٣٣٩)أُصُولِ الفِقْهِ مِن أنَّ الكُلِّيّاتِ التَّشْرِيعِيَّةَ وهي حَفِظُ الدِّينِ والنَّفْسِ والعَقْلِ والنَّسَبِ والمالِ والعِرْضِ هي مِمّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرائِعُ، وهَذا القَوْلُ وإنْ كُنّا نُساعِدُ عَلَيْهِ فَإنَّ مَعْناهُ عِنْدِي أنَّ الشَّرائِعَ كُلَّها نَظَرَتْ إلى حِفْظِ هاتِهِ الأُمُورِ في تَشْرِيعاتِها، وأمّا أنْ تَكُونَ مُراعاةً بِاطِّرادٍ في غَيْرِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ فَلا أحْسَبُ ذَلِكَ يَتِمُّ، عَلى أنَّ في مُراعاتِها دَرَجاتٍ، ولا حاجَةَ إلى البَحْثِ في هَذا بَيْدَ أنَّ كُتُبَ أهْلِ الكِتابِ لَيْسَ فِيها تَحْرِيمُ الخَمْرِ ولا التَّنْزِيهُ عَنْ شُرْبِها، وفي التَّوْراةِ الَّتِي بِيَدِ اليَهُودِ: أنَّ نُوحًا شَرِبَ الخَمْرَ حَتّى سَكِرَ، وأنَّ لُوطًا شَرِبَ الخَمْرَ حَتّى سَكِرَ سُكْرًا أفْضى بِزَعْمِهِمْ إلى أمْرٍ شَنِيعٍ، والأخِيرُ مِنَ الأكاذِيبِ؛ لِأنَّ النُّبُوَّةَ تَسْتَلْزِمُ العِصْمَةَ، والشَّرائِعُ وإنِ اخْتَلَفَتْ في إباحَةِ أشْياءَ فَهُنالِكَ ما يَسْتَحِيلُ عَلى الأنْبِياءِ مِمّا يُؤَدِّي إلى نَقْصِهِمْ في أنْظارِ العُقَلاءِ والَّذِي يَجِبُ اعْتِقادُهُ: أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ لا يَأْتِيهِ الأنْبِياءُ؛ لِأنَّها لا يَشْرَبُها شارِبُوها إلّا لِلطَّرَبِ واللَّهْوِ والسُّكْرِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الأنْبِياءُ، ولا يَشْرَبُونَها لِقَصْدِ التَّقَوِّي لِقِلَّةِ هَذا القَصْدِ مِن شُرْبِها. وفِي سِفْرِ اللّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْراةِ: وكَلَّمَ اللَّهُ هارُونَ قائِلًا: خَمْرًا ومُسْكِرًا لا تَشْرَبْ أنْتَ وبُنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكم إلى خَيْمَةِ الِاجْتِماعِ لِكَيْ لا تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا في أجْيالِكم. ولِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ المُقَدَّسِ والمُحَلَّلِ وبَيْنَ النَّجِسِ والطّاهِرِ. وشُيُوعُ شُرْبِ الخَمْرِ في الجاهِلِيَّةِ مَعْلُومٌ لِمَن عَلِمَ أدَبَهم وتارِيخَهم فَقَدْ كانَتِ الخَمْرُ قِوامَ أوَدِ حَياتِهِمْ، وقُصارى لَذّاتِهِمْ ومَسَرَّةَ زَمانِهِمْ ومَلْهى أوْقاتِهِمْ، قالَ طَرَفَةُ: ؎ولَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفَتى وجِدِّكَ لَمْ أحْفِلْ مَتى قامَ عُوَّدِي ؎فَمِنهُنَّ سَبْقِي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ ∗∗∗ كُمَيْتٍ مَتى ما تُعْلَ بِالماءِ تُزْبِدِ وعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ ولَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ لِلْعَرَبِ عَيْشٌ أعْجَبُ مِنها، وما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ أشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الخَمْرِ. فَلا جَرَمَ أنْ جاءَ الإسْلامُ في تَحْرِيمِها بِطَرِيقَةِ التَّدْرِيجِ فَأقَرَّ حِقْبَةً إباحَةَ شُرْبِها وحَسْبُكم في هَذا الِامْتِنانِ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٦٧] عَلى تَفْسِيرِ مَن فَسَّرَ السَّكَرَ بِالخَمْرِ، وقِيلَ السَّكَرُ: هو النَّبِيذُ غَيْرُ المُسْكِرِ، والأظْهَرُ التَّفْسِيرُ الأوَّلُ. وآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، واتَّفَقَ أهْلُ الأثَرِ عَلى أنَّ تَحْرِيمَ الخَمْرِ وقَعَ في المَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الأحْزابِ بِأيّامٍ، أيْ في آخِرِ سَنَةِ أرْبَعٍ أوْ سَنَةِ خَمْسٍ عَلى الخِلافِ في عامِ غَزْوَةِ الأحْزابِ. (p-٣٤٠)والصَّحِيحُ الأوَّلُ، فَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلى النّاسِ بِأنِ اتَّخَذُوا سَكَرًا مِنَ الثَّمَراتِ الَّتِي خَلَقَها لَهم، ثُمَّ إنِ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ رَحْمَتَهُ بِالنّاسِ حَتّى في حَمْلِهِمْ عَلى مَصالِحِهِمْ فَجاءَهم في ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَقِيلَ: إنَّ آيَةَ سُورَةِ البَقَرَةِ هَذِهِ هي أوَّلُ آيَةٍ آذَنَتْ بِما في الخَمْرِ مِن عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وأنَّ سَبَبَ نُزُولِها ما تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ وصْفُها بِما فِيها مِنَ الإثْمِ والمَنفَعَةِ تَنْبِيهًا لَهم، إذْ كانُوا لا يَذْكُرُونَ إلّا مَحاسِنَها فَيَكُونُ تَهْيِئَةً لَهم إلى ما سَيَرِدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، قالَ البَغَوِيُّ: إنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إنَّ اللَّهَ تَقَدَّمَ في تَحْرِيمِ الخَمْرِ» أيِ ابْتَدَأ يُهَيِّئُ تَحْرِيمَها يُقالُ: تَقَدَّمْتُ إلَيْكَ في كَذا أيْ عَرَضْتُ عَلَيْكَ !، وفي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ: أنَّها مُمَهِّدَةٌ لِتَحْرِيمِ الخَمْرِ عَلى البَتاتِ ولَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةٌ أيْ مُعَرِّضَةٌ بِالكَفِّ عَنْ شُرْبِها تَنَزُّهًا. وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ: نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النِّساءِ وقَبْلَ آيَةِ سُورَةِ المائِدَةِ، وهَذا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ كَما رَوى أبُو داوُدَ، ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَأى أنَّ آيَةَ المائِدَةِ نَسَخَتْ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] ونَسَخَتْ آيَةَ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾، ونُسِبَ لِابْنِ عُمَرَ والشَّعْبِيِّ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ. وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ آيَةَ البَقَرَةِ هَذِهِ ثَبَتَ بِها تَحْرِيمُ الخَمْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ عِنْدَهم نازِلَةً بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ النِّساءِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣]، وإذْ كانَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّساءِ وسُورَةِ المائِدَةِ، فَيَجِيءُ عَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ البَقَرَةِ وأنَّها وُضِعَتْ هُنا إلْحاقًا بِالقَضايا الَّتِي حَكى سُؤالَهم عَنْها. وأنَّ مَعْنى ﴿فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ في تَعاطِيهِما بِشُرْبِ أحَدِهِما واللَّعِبِ بِالآخَرِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وهَذا هو الأظْهَرُ مِنَ الآيَةِ؛ إذْ وصَفَ الإثْمَ فِيها بِوَصْفٍ كَبِيرٍ فَلا تَكُونُ آيَةُ سُورَةِ العُقُودِ إلّا مُؤَكِّدَةً لِلتَّحْرِيمِ ونَصًّا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ ما في آيَتِنا هَذِهِ مِن ذِكْرِ المَنافِعِ ما قَدْ يَتَأوَّلُهُ المُتَأوِّلُونَ بِالعُذْرِ مِن شُرْبِها، وقَدْ رُوِيَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ ناسًا شَرِبُوا الخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فَصَلّى رَجُلانِ فَجَعَلا يَهْجُرانِ كَلامًا لا يُدْرى ما هو، وشَرِبَها رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلى قَتْلى بَدْرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ ﷺ فَجاءَهُ فَزِعًا ورَفَعَ شَيْئًا كانَ (p-٣٤١)بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ فَقالَ الرَّجُلُ: أُعُوذُ بِاللَّهِ مِن غَضَبِ اللَّهِ ورَسُولِهِ وآلى: لا أطْعَمُها أبَدًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَها بِآيَةِ سُورَةِ المائِدَةِ. والخَمْرُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِن مَصْدَرِ خَمَرَ الشَّيْءَ خَمَرَهُ مِن بابِ نَصَرَ إذا سَتَرَهُ، سُمِّيَ بِهِ عَصِيرُ العِنَبِ إذا غَلى واشْتَدَّ وقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَصارَ مُسْكِرًا؛ لِأنَّهُ يَسْتُرُ العَقْلَ عَنْ تَصَرُّفِهِ الخَلْقِيِّ تَسْمِيَةً مَجازِيَّةً وهي إمّا تَسْمِيَةٌ بِالمَصْدَرِ، أوْ هو اسْمٌ جاءَ عَلى زِنَةِ المَصْدَرِ: هو اسْمٌ لِكُلِّ مَشْرُوبٍ مُسْكِرٍ سَواءٌ كانَ عَصِيرَ عِنَبٍ أوْ عَصِيرَ غَيْرِهِ أوْ ماءً نُبِذَ فِيهِ زَبِيبٌ أوْ تَمْرٌ أوْ غَيْرُهُما مِنَ الأنْبِذَةِ وتُرِكَ حَتّى يَخْتَمِرَ ويُزْبِدَ، واسْتَظْهَرَهُ صاحِبُ القامُوسِ. والحَقُّ أنَّ الخَمْرَ كُلُّ شَرابٍ مُسْكِرٍ، إلّا أنَّهُ غَلَبَ عَلى عَصِيرِ العِنَبِ المُسْكِرِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَتَنافَسُونَ فِيهِ، وأنَّ غَيْرَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَمْرٌ ونَبِيذٌ وفَضِيخٌ، وقَدْ ورَدَتْ أخْبارٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُعْظَمَ شَرابِ العَرَبِ يَوْمَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ مِن فَضِيخِ التَّمْرِ، وأنَّ أشْرِبَةَ أهْلِ المَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ خَمْسَةٌ غَيْرُ عَصِيرِ العِنَبِ، وهي مِنَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ والعَسَلِ والذُّرَةِ والشَّعِيرِ وبَعْضُها يُسَمّى الفَضِيخَ، والنَّقِيعَ، والسُّكُرْكَة، والبِتْعَ. وما ورَدَ في بَعْضِ الآثارِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وبِالمَدِينَةِ خَمْسَةُ أشْرِبَةٍ ما فِيها شَرابُ العِنَبِ، مَعْناهُ لَيْسَ مَعْدُودًا في الخَمْسَةِ شَرابُ العِنَبِ لِقِلَّةِ وجُودِهِ ولَيْسَ المُرادُ أنَّ شَرابَ العِنَبِ لا يُوجَدُ بِالمَدِينَةِ. وقَدْ كانَ شَرابُ العِنَبِ يُجْلَبُ إلى الحِجازِ ونَجْدٍ مِنَ اليَمَنِ والطّائِفِ والشّامِ قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ؎ولا تُبْقِي خُمُورَ الأنْدَرِينا وأنْدَرِينُ بَلَدٌ مِن بِلادِ الشّامِ. وقَدِ انْبَنى عَلى الخِلافِ في مُسَمّى الخَمْرِ في كَلامِ العَرَبِ خِلافٌ في الأحْكامِ، فَقَدْ أجْمَعَ العُلَماءُ كُلُّهم عَلى أنَّ خَمْرَ العِنَبِ حَرامٌ كَثِيرُها إجْماعًا وقَلِيلُها عِنْدَ مُعْظَمِ العُلَماءِ ويُحَدُّ شارِبُ الكَثِيرِ مِنها عِنْدَ الجُمْهُورِ وفي القَلِيلِ خِلافٌ كَما سَيَأْتِي في سُورَةِ المائِدَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيما عَداها فَقالَ الجُمْهُورُ: كُلُّ شَرابٍ أسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ وحُكْمُهُ كَحُكْمِ الخَمْرِ في كُلِّ شَيْءٍ أخْذًا بِمُسَمّى الخَمْرِ عِنْدَهم، وبِالقِياسِ الجَلِيِّ الواضِحِ أنَّ حِكْمَةَ التَّحْرِيمِ هي الإسْكارُ وهو ثابِتٌ لِجَمِيعِها وهَذا هو الصَّوابُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: (p-٣٤٢)يُخْتَصُّ شَرابُ العِنَبِ بِتِلْكَ الأحْكامِ أمّا ما عَداهُ فَلا يُحَرَّمُ مِنهُ إلّا القَدْرُ المُسْكِرُ، هَكَذا يَنْقُلُ المُخالِفُونَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ، وكانَ العُلَماءُ في القَدِيمِ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا حَتّى رُبَّما أوْهَمَ نَقْلُهم أنَّهُ لا يَرى عَلى مَن سَكِرَ بِغَيْرِ الخَمْرِ شَيْئًا، ويَزِيدُ ذَلِكَ إيهامًا قاعِدَةُ أنَّ المَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا لا يَتَقَيَّدُ بِالسَّلامَةِ ورُبَّما عَضَّدُوا ذَلِكَ بِمَنقُولِ قَصَصٍ وحَوادِثَ كَقَوْلِ أبِي نُواسٍ: ؎أباحَ العِراقِيُّ النَّبِيذَ وشُرْبَهُ ∗∗∗ وقالَ حَرامانِ المُدامَةُ والسُّكْرُ ولَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الحَنَفِيَّةُ هو أنَّ الأشْرِبَةَ المُسْكِرَةَ قِسْمانِ، أحَدُهُما مُحَرَّمٌ شُرْبُهُ وهو أرْبَعَةٌ: الخَمْرُ وهو النَّيِّئُ مِن عَصِيرِ العِنَبِ إذا غَلى واشْتَدَّ وقَذَفَ بِالزَّبَدِ، والطِّلاءُ بِكَسْرِ الطّاءِ وبِالمَدِّ وهو عَصِيرُ العِنَبِ إذا طُبِخَ حَتّى ذَهَبَ أقَلُّ مِن ثُلُثَيْهِ ثُمَّ تُرِكَ حَتّى صارَ مُسْكِرًا، والسَّكَرُ بِفَتْحِ السِّينِ والكافِ وهو النَّيِّئُ مِن ماءِ الرُّطَبِ أيْ مِنَ الماءِ الحارِّ المَصْبُوبِ عَلى الرُّطَبِ ثُمَّ يَصِيرُ مُسْكِرًا، والنَّقِيعُ وهو النَّيِّئُ مِن نَبِيذِ الزَّبِيبِ، وهَذِهِ الأرْبَعَةُ حَرامٌ قَلِيلُها وكَثِيرُها ونَجِسَةُ العَيْنِ لَكِنَّ الخَمْرَ يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّها ويُحَدُّ شارِبُ القَلِيلِ والكَثِيرِ مِنها، وأمّا الثَّلاثَةُ الباقِيَةُ فَلا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّها ولا يُحَدُّ شارِبُها إلّا إذا سَكِرَ. القِسْمُ الثّانِي: الأشْرِبَةُ الحَلالُ شُرْبُها وهي نَبِيذُ التَّمْرِ والزَّبِيبِ إذا طُبِخَ ولَوْ أدْنى طَبْخَةٍ، ونَبِيذُ الخَلِيطَيْنِ مِنهُما إذا طُبِخَ أدْنى طَبْخَةٍ، ونَبِيذُ العَسَلِ والتِّينِ والبُرِّ والشَّعِيرِ والذُّرَةِ طُبِخَ أمْ لَمْ يُطْبَخْ. والمُثَلَّثُ وهو ما طُبِخَ مِن ماءِ العِنَبِ حَتّى ذَهَبَ ثُلُثاهُ وبَقِيَ ثُلُثُهُ، فَهَذِهِ الأرْبَعَةُ يَحِلُّ شُرْبُها؛ إذا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ اللَّهْوُ والطَّرَبُ بَلِ التَّقَوِّي عَلى العِبادَةِ كَذا أوْ إصْلاحُ هَضْمِ الطَّعامِ أوِ التَّداوِي وإلّا حُرِّمَتْ ولا يُحَدُّ شارِبُها إلّا إذا سَكِرَ. وهَذا التَّفْصِيلُ دَلِيلُهُ القِياسُ، لِأنَّ هَذِهِ الأشْرِبَةَ لَمْ يَبْقَ فِيها الإسْكارُ المُعْتادُ، وأمّا الحَدُّ فَلا وجْهَ لِلتَّفْصِيلِ فِيهِ لِأنَّهُ إنْ كانَ عَلى السُّكْرِ فالجَمِيعُ سَواءٌ في الإسْكارِ، عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ ألّا يَكُونَ الحَدُّ إلّا عِنْدَ حُصُولِ السُّكْرِ ولَيْسَ في الآثارِ ما يَشْهَدُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وإنْ كانَ الحَدُّ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَلا أرى أنَّ قاعِدَةَ سَدِّ الذَّرِيعَةِ تَبْلُغُ إلى حَدِّ مُرْتَكِبِ الذَّرِيعَةِ قَبْلَ حُصُولِ المُتَذَرَّعِ إلَيْهِ. وتَمَسَّكَ الحَنَفِيَّةُ لِهَذا التَّفْصِيلِ بِأنَّ الأنْبِذَةَ شَرِبَها الصَّحابَةُ هو تَمَسُّكٌ أوْهى مِمّا قَبْلَهُ، إذِ الصَّحابَةُ يُحاشُونَ عَنْ شُرْبِ المُسْكِراتِ وإنَّما شَرِبُوا الأنْبِذَةَ قَبْلَ اخْتِمارِها، واسْمُ النَّبِيذِ يُطْلَقُ عَلى الحُلْوِ والمُخْتَمِرِ فَصارَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، وقَدْ خالَفَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ إمامَهُ في ذَلِكَ فَوافَقَ الجُمْهُورَ. (p-٣٤٣)ورُبَّما ذَكَرَ بَعْضُهم في الِاسْتِدْلالِ أنَّ الخَمْرَ حَقِيقَةٌ في شَرابِ العِنَبِ النَّيِّئِ، مَجازٌ في غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِذَةِ والشَّرابِ المَطْبُوخِ، وقَدْ جاءَ في الآيَةِ لَفَظُ الخَمْرِ فَيُحْمَلُ عَلى حَقِيقَتِهِ، وإلْحاقُ غَيْرِهِ بِهِ إثْباتُ اللُّغَةِ بِالقِياسِ، وهَذا باطِلٌ، لِأنَّ الخِلافَ في كَوْنِ الخَمْرِ حَقِيقَةً في شَرابِ العِنَبِ أوْ في الأعَمِّ خِلافٌ في التَّسْمِيَةِ اللُّغَوِيَّةِ والإطْلاقِ، فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ كَيْفَ يَظُنُّ المُجْتَهِدُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُحَرِّمُ خُصُوصَ شَرابِ العِنَبِ ويَتْرُكُ غَيْرَهُ مِمّا يُساوِيهِ في سائِرِ الصِّفاتِ المُؤَثِّرَةِ في الأحْكامِ، فَإنْ قالُوا: إنَّ الصِّفَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ في القُرْآنِ قَدْ سَوَّيْنا فِيها جَمِيعَ الأشْرِبَةِ وذَلِكَ بِتَحْرِيمِ القَدْرِ المُسْكِرِ وبَقِيَتْ لِلْخَمْرِ أحْكامٌ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ كَتَحْرِيمِ القَلِيلِ والحَدِّ عَلَيْهِ أوْ عَلى السُّكْرِ فَتِلْكَ هي مَحَلُّ النَّظَرِ، قُلْنا: هَذا مُصادَرَةٌ لِأنَّنا اسْتَدْلَلْنا عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ لا يُظَنُّ بِالشّارِعِ أنْ يُفَرِّقَ في الأحْكامِ بَيْنَ أشْياءَ مُتَماثِلَةٍ في الصِّفاتِ، عَلى أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ ثُبُوتًا لا يَدَعُ لِلشَّكِّ في النُّفُوسِ مَجالًا أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «إنَّ الخَمْرَ مِنَ العَصِيرِ والزَّبِيبِ والتَّمْرِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والذُّرَةِ» رَواهُ النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ وهو في سُنَنِ أبِي داوُدَ وقالَ «الخَمْرُ مِن هاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ والعِنَبَةِ» رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ وهو في سُنَنِ أبِي داوُدَ، وقالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ» رَواهُ ابْنُ عُمَرَ في سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وقالَ أنَسٌ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الخَمْرُ وما نَجِدُ شَرابَ العِنَبِ إلّا قَلِيلًا، وعامَّةُ شَرابِنا فَضِيخُ التَّمْرِ. كَما في سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ. وأمّا التَّوَسُّعُ في الخَمْرِ بَعْدَ الطَّبْخِ، فَهو تَشْوِيهٌ لِلْفِقْهِ ولَطْخٌ، وماذا يُفِيدُ الطَّبْخُ إنْ كانَ الإسْكارُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا. وصْفُ اللَّهِ الخَمْرَ بِأنَّ فِيها إثْمًا كَبِيرًا ومَنافِعَ. والإثْمُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ بِفِعْلِ ما فِيهِ فَسادٌ ولا يُرْضِي اللَّهَ، وأشارَ الرّاغِبُ إلى أنَّ في اشْتِقاقِ الإثْمِ مَعْنى الإبْطاءِ عَنِ الخَيْرِ، وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الأعْرافِ: الإثْمُ عِبارَةٌ عَنِ الذَّمِّ الوارِدِ في الفِعْلِ، فَكَأنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّ الإثْمَ ضِدُّ الثَّوابِ، وظاهِرُ اصْطِلاحِ الشَّرِيعَةِ أنَّ الإثْمَ هو الفِعْلُ المَذْمُومُ في الشَّرْعِ، فَهو ضِدُّ القُرْبَةِ فَيَكُونُ مَعْنى ﴿فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أنَّهُما يَتَسَبَّبُ مِنهُما ما هو إثْمٌ في حالِ العَرْبَدَةِ وحالِ الرِّبْحِ والخَسارَةِ مِنَ التَّشاجُرِ. وإطْلاقُ الكَبِيرِ عَلى الإثْمِ مَجازٌ، لِأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأجْسامِ، فالمُرادُ مِنَ الكَبِيرِ: الشَّدِيدُ في نَوْعِهِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وجِيءَ بِفي الدّالَّةِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِإفادَةِ شِدَّةِ تَعَلُّقِ الإثْمِ والمَنفَعَةِ بِهِما؛ لِأنَّ الظَّرْفِيَّةَ (p-٣٤٤)أشَدُّ أنْواعِ التَّعَلُّقِ، وهي هُنا ظَرْفِيَّةٌ مَجازِيَّةٌ شائِعَةٌ في كَلامِ العَرَبِ، وجُعِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِذاتِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ لِلْمُبالَغَةِ، والمُرادُ في اسْتِعْمالِهِما المُعْتادِ. واخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِالإثْمِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ يَعُودُ عَلى مُتَعاطِي شُرْبِها بِالعُقُوبَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ الكافِ وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (كَثِيرٌ) بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ، وهو مَجازٌ اسْتُعِيرَ وصْفُ الكَثِيرِ لِلشَّدِيدِ تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ الكَيْفِيَّةِ بِوَفْرَةِ العَدَدِ. والمَنافِعُ: جُمَعُ مَنفَعَةٍ، وهي اسْمٌ عَلى وزْنِ مَفْعَلَةٍ وأصْلُهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا قُصِدَ مِنهُ قُوَّةُ النَّفْعِ، لِأنَّ المَصْدَرَ المِيمِيَّ أبْلَغُ مِن جِهَةِ زِيادَةِ المَبْنِي. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْمَ مَكانٍ دالًّا عَلى كَثْرَةِ ما فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: مَسْبَعَةٌ ومَقْبَرَةٌ أيْ يَكْثُرُ فِيهِما النَّفْعُ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِمْ مَصْلَحَةٌ ومَفْسَدَةٌ، فالمَنفَعَةُ عَلى كُلِّ حالٍ أبْلَغُ مِنَ النَّفْعِ. والإثْمُ الَّذِي في الخَمْرِ نَشَأ عَمّا يَتَرَتَّبُ عَلى شُرْبِها تارَةً مِنَ الإفْراطِ فِيهِ والعَرْبَدَةِ مِن تَشاجُرٍ يَجُرُّ إلى البَغْضاءِ والصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ، وفِيها ذَهابُ العَقْلِ والتَّعَرُّضُ لِلسُّخْرِيَةِ، وفِيها ذَهابُ المالِ في شُرْبِها، وفي الإنْفاقِ عَلى النَّدامى حَتّى كانُوا رُبَّما رَهَنُوا ثِيابَهم عِنْدَ الخَمّارِينَ قالَ عُمارَةُ بْنُ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ: ؎ولَسْنا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إذا انْتَشَوْا ∗∗∗ ثِيابُ النَّدامى عِنْدَهم كالمَغانِمِ ؎ولَكِنَّنا يا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنا ∗∗∗ بِمَنزِلَةِ الرَّيّانِ لَيْسَ بِعائِمِ وقالَ عَنْتَرَةُ: ؎وإذا سَكِرْتُ فَإنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ ∗∗∗ مالِي، وعِرْضِي وافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ وكانُوا يَشْتَرُونَ الخَمْرَ بِأثْمانٍ غالِيَةٍ ويَعُدُّونَ المُماكَسَةَ في ثَمَنِها عَيْبًا، قالَ لَبِيدٌ: ؎أُغْلِي السِّباءَ بِكُلِّ أدْكَنَ عاتِقٍ ∗∗∗ أوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها ومِن آثامِها ما قَرَّرَهُ الأطِبّاءُ المُتَأخِّرُونَ أنَّها تُورِثُ المُدْمِنِينَ عَلَيْها أضْرارًا في الكَبِدِ والرِّئَتَيْنِ والقَلْبِ وضَعْفًا في النَّسْلِ، وقَدِ انْفَرَدَ الإسْلامُ عَنْ جَمِيعِ الشَّرائِعِ بِتَحْرِيمِها، ولِأجْلِ ما فِيها مِنَ المَضارِّ في المُرُوءَةِ حَرَّمَها بَعْضُ العَرَبِ عَلى أنْفُسِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ، فَمِمَّنْ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ في الجاهِلِيَّةِ قَيْسُ بْنُ عاصِمٍ المِنقَرِيُّ بِسَبَبِ أنَّهُ شَرِبَ يَوْمًا حَتّى سَكِرَ فَجَذَبَ ابْنَتَهُ وتَناوَلَ ثَوْبَها، ورَأى القَمَرَ فَتَكَلَّمَ كَلامًا، فَلَمّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ حِينَ صَحا آلى لا يَذُوقُ خَمْرًا ما عاشَ وقالَ:(p-٣٤٥) ؎رَأيْتُ الخَمْرَ صالِحَةً وفِيها ∗∗∗ خِصالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الحَلِيما ؎فَلا واللَّهِ أشْرَبُها صَحِيحًا ∗∗∗ ولا أُشْفى بِها أبَدًا سَقِيمًا ؎ولا أُعْطِي بِها ثَمَنًا حَياتِي ∗∗∗ ولا أدْعُو لَها أبَدًا نَدِيمًا ؎فَإنَّ الخَمْرَ تَفْضَحُ شارِبِيها ∗∗∗ وتُجْنِيهِمْ بِها الأمْرَ العَظِيما وفِي أمالِي القالِي نِسْبَةُ البَيْتَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِصَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، ومِنهم عامِرُ بْنُ الظَّرِبِ العُدْوانِيُّ، ومِنهم عَفِيفُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الكِنْدِيُّ عَمُّ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وصَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ الكِنانِيُّ، وأسْلُومُ البالِي، وسُوَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ الطّائِيُّ، وأدْرَكَ الإسْلامَ وأسَدُ بْنُ كُرَزٍ القَسْرِيُّ البَجَلِيُّ الَّذِي كانَ يُلَقَّبُ في الجاهِلِيَّةِ بِرَبِّ بَجِيلَةَ، وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وأبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ، وعُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وأُمِّيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعانَ. وأمّا المَنافِعُ فَمِنها مَنافِعُ بَدَنِيَّةٌ وهي ما تُكْسِبُهُ مِن قُوَّةِ بَدَنِ الضَّعِيفِ في بَعْضِ الأحْوالِ وما فِيها مِن مَنافِعِ التِّجارَةِ فَقَدْ كانَتْ تِجارَةُ الطّائِفِ واليَمَنِ مِنَ الخَمْرِ، وفِيها مَنافِعُ مِنَ اللَّذَّةِ والطَّرَبِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎ولَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفَتى ∗∗∗ وجِدِّكَ لَمْ أحْفِلْ مَتى قامَ عُوَّدِي ؎فَمِنهُنَّ سَبْقِي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ ∗∗∗ كُمَيْتٍ مَتى ما تُعْلَ بِالماءِ تُزْبَدِ وذَهَبَ بَعْضُ عُلَمائِنا إلى أنَّ المَنافِعَ مالِيَّةٌ فَقَطْ فِرارًا مِنَ الِاعْتِرافِ بِمَنافِعَ بَدَنِيَّةٍ لِلْخَمْرِ وهو جُحُودٌ لِلْمَوْجُودِ ومِنَ العَجِيبِ أنَّ بَعْضَهم زَعَمَ أنَّ في الخَمْرِ مَنافِعَ بَدَنِيَّةً ولَكِنَّها بِالتَّحْرِيمِ زالَتْ. وذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ المَيْسِرُ عَطْفًا عَلى الخَمْرِ ومُخْبِرًا عَنْهُما بِأخْبارٍ مُتَّحِدَةٍ فَما قِيلَ في مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ مِن تَحْرِيمِ الخَمْرِ أوْ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنْ شُرْبِها يُقالُ مِثْلُهُ في المَيْسِرِ، وقَدْ بانَ أنَّ المَيْسِرَ قَرِينُ الخَمْرِ في التَّمَكُّنِ مِن نُفُوسِ العَرَبِ يَوْمَئِذٍ وهو أكْبَرُ لَهْوٍ يَلْهُونَ بِهِ، وكَثِيرًا ما يَأْتُونَهُ وقْتَ الشَّرابِ إذا أعْوَزَهُمُ اللَّحْمُ لِلشِّواءِ عِنْدَ شُرْبِ الخَمْرِ، فَهم يَتَوَسَّلُونَ لِنَحْرِ الجَزُورِ ساعَتَئِذٍ بِوَسائِلَ قَدْ تَبْلُغُ بِهِمْ إلى الِاعْتِداءِ عَلى جُزُرِ النّاسِ بِالنَّحْرِ كَما في قِصَّةِ حَمْزَةَ، إذْ نَحَرَ شارِفًا لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ حِينَ كانَ حَمْزَةُ مَعَ شَرْبٍ فَغَنَّتْهُ قَيْنَتُهُ مُغْرِيَةً إيّاهُ بِهَذا الشّارِفِ: ؎ألا يا حَمَزُ لِلشُّرُفِ النِّواءِ ∗∗∗ وهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالفِناءِ فَقامَ إلَيْها فَشَقَّ بَطْنَها وأخْرَجَ الكَبِدَ فَشَواهُ في قِصَّةٍ شَهِيرَةٍ، وقالَ طَرَفَةُ يَذْكُرُ (p-٣٤٦)اعْتِداءَهُ عَلى ناقَةٍ مِن إبِلِ أبِيهِ في حالِ سُكْرِهِ: ؎فَمَرَّتْ كَهاةٌ ذاتُ خَيْفٍ جُلالَةٌ ∗∗∗ عَقِيلَةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلَنْدَدِ ؎يَقُولُ وقَدْ تَرَ الوَظِيفَ وساقَها ∗∗∗ ألَسْتَ تَرى أنْ قَدْ أتَيْتَ بِمُؤْيِدِ ؎وقالَ ألا ماذا تَرَوْنَ بِشارِبٍ ∗∗∗ شَدِيدٍ عَلَيْنا بَغْيُهُ مُتَعَمِّدِ فَلا جَرَمَ أنْ كانَ المَيْسِرُ أيْسَرَ عَلَيْهِمْ لِاقْتِناءِ اللَّحْمِ لِلشُّرْبِ ولِذَلِكَ كَثُرَ في كَلامِهِمْ قَرْنُهُ بِالشُّرْبِ، وقالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الفَقْعَسِيُّ يَذْكُرُ الإبِلَ: ؎نُحابِي بِها أكْفاءَنا ونُهِينُها ∗∗∗ ونَشْرَبُ في أثْمانِها ونُقامِرُ وذَكَرَ لَبِيدٌ الخَمْرَ ثُمَّ ذَكَرَ المَيْسِرَ في مُعَلَّقَتِهِ فَقالَ: ؎أُغْلِي السِّباءَ بِكُلِّ أدْكَنَ عاتِقِ ∗∗∗ أوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها ثُمَّ قالَ: ؎وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها ∗∗∗ بِمَغالِقٍ مُتَشابِهٍ أجْسامُها وذَكَرَهُما عَنْتَرَةُ في بَيْتٍ واحِدٍ فَقالَ يَذْكُرُ مَحاسِنَ قِرْنِهِ الَّذِي صَرَعَهُ في الحَرْبِ: ؎رَبِذٍ يَداهُ بِالقِداحِ إذا شَتا ∗∗∗ هَتّاكِ غاياتِ التِّجارِ مُلَوَّمِ فَلِأجْلِ هَذا قُرِنَ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ الخَمْرِ بِذِكْرِ المَيْسِرِ، ولِأجْلِهِ اقْتَرَنا في سُؤالِ السّائِلِينَ عَنْهُما إنْ كانَ ثَمَّةَ سُؤالٌ. والمَيْسِرُ: اسْمُ جِنْسٍ عَلى وزْنِ مَفْعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ المَيْسِرِ. وهو ضِدُّ العُسْرِ والشِّدَّةِ، أوْ مِنَ اليَسارِ وهو ضِدُّ الإعْسارِ، كَأنَّهم صاغُوهُ عَلى هَذا الوَزْنِ مُراعاةً لِزِنَةِ اسْمِ المَكانِ مِن يَسَرَ يَيْسِرُ وهو مَكانٌ مَجازِيٌّ جَعَلُوا ذَلِكَ التَّقامُرَ بِمَنزِلَةِ الظَّرْفِ الَّذِي فِيهِ اليَسارُ أوِ اليُسْرُ، لِأنَّهُ يُفْضِي إلى رَفاهَةِ العَيْشِ وإزالَةِ صُعُوبَةِ زَمَنِ المَحَلِّ وكَلَبِ الشِّتاءِ، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: هو مَصْدَرٌ كالمَوْعِدِ، وفِيهِ أنَّهُ لَوْ كانَ مَصْدَرًا لَكانَ مَفْتُوحَ السِّينِ؛ إذِ المَصْدَرُ الَّذِي عَلى وزْنِ المَفْعَلِ لا يَكُونُ إلّا مَفْتُوحَ العَيْنِ ما عَدا ما شَذَّ، ولَمْ يَذْكُرُوا المَيْسِرَ في الشّاذِّ، إلّا أنْ يُجابَ بِأنَّ العَرَبَ وضَعُوا هَذا الِاسْمَ عَلى وزْنِ المَصْدَرِ الشّاذِّ لِيُعْلَمَ أنَّهُ الآنَ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ. والمَيْسِرُ: قِمارٌ كانَ لِلْعَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ، وهو مِنِ القِمارِ القَدِيمِ المُتَوَغِّلِ في القِدَمِ كانَ لِعادٍ مِن قَبْلُ، وأوَّلُ مَن ورَدَ ذِكْرُ لَعِبِ المَيْسِرِ عَنْهُ في كَلامِ العَرَبِ هو لُقْمانُ بْنُ عادٍ ويُقالُ (p-٣٤٧)لُقْمانُ العادِيُّ، والظّاهِرُ أنَّهُ ولَدُ عادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إرَمَ بْنِ سامَ، وهو غَيْرُ لُقْمانَ الحَكِيمِ، والعَرَبُ تَزْعُمُ أنَّ لُقْمانَ كانَ أكْثَرَ النّاسِ لَعِبًا بِالمَيْسِرِ حَتّى قالُوا في المَثَلِ: أيْسَرُ مِن لُقْمانَ وزَعَمُوا أنَّهُ كانَ لَهُ ثَمانِيَةُ أيْسارٍ لا يُفارِقُونَهُ هم مِن سادَةِ عادٍ وأشْرافِهِمْ، ولِذَلِكَ يُشَبِّهُونَ أهْلَ المَيْسِرِ إذا كانُوا مِن أشْرافِ القَوْمِ بِأيْسارِ لُقْمانَ قالَ طَرَفَةُ بْنُ العَبْدِ: ؎وهم أيْسارُ لُقْمانَ إذا ∗∗∗ أغْلَتِ الشَّتْوَةُ أبْداءَ الجُزُرْ أرادَ التَّشْبِيهَ البَلِيغَ. وصِفَةُ المَيْسِرِ أنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ عَشْرَةَ قِداحٍ جَمْعُ قِدْحٍ بِكَسْرِ القافِ وهو السَّهْمُ الَّذِي هو أصْغَرُ مِنَ النِّبْلِ ومِنَ السَّهْمِ فَهو سَهْمٌ صَغِيرٌ مِثْلُ السِّهامِ الَّتِي تَلْعَبُ بِها الصِّبْيانُ ولَيْسَ في رَأْسِهِ سِنانٌ وكانُوا يُسَمُّونَها الحِظاءُ جَمْعُ حُظْوَةٍ وهي السَّهْمُ الصَّغِيرُ وكُلُّها مِن قَصَبِ النَّبْعِ، وهَذِهِ القِداحُ هي: الفَذُّ، والتَّوْأمُ، والرَّقِيبُ، والحِلْسُ، والنّافِسُ، والمُسْبِلُ، والمُعَلّى، والسَّفِيحُ، والمَنِيحُ، والوَغْدُ، وقِيلَ النّافِسُ، وهو الرّابِعُ والحِلْسُ خامِسٌ، فالسَّبْعَةُ الأُوَلُ لَها حُظُوظٌ مِن واحِدٍ إلى سَبْعَةٍ عَلى تَرْتِيبِها، والثَّلاثَةُ الأخِيرَةُ لا حُظُوظَ لَها وتُسَمّى أغْفالًا جَمْعُ غُفْلٍ بِضَمِّ الغَيْنِ وسُكُونِ الفاءِ وهو الَّذِي أُغْفِلَ مِنَ العَلامَةِ، وهَذِهِ العَلاماتُ خُطُوطٌ واحِدٌ إلى سَبْعَةٍ كَأرْقامِ الحِسابِ الرُّومانِيِّ إلى الأرْبَعَةِ، وقَدْ خَطُّوا العَلاماتِ عَلى القِداحِ ذاتِ العَلاماتِ بِالشَّلْطِ في القَصَبَةِ أوْ بِالحَرْقِ بِالنّارِ فَتُسَمّى العَلامَةُ حِينَئِذٍ قَرْمَةً، وهَذِهِ العَلاماتُ تُوضَعُ في أسافِلِ القِداحِ. فَإذا أرادُوا التَّقامُرَ اشْتَرَوْا جَزُورًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلى ما بَعْدَ التَّقامُرِ وقَسَّمُوهُ أبِداءً أيْ أجْزاءً إلى ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ جُزْءًا أوْ إلى عَشَرَةِ أجْزاءٍ عَلى اخْتِلافٍ بَيْنَ الأصْمَعِيِّ وأبِي عُبَيْدَةَ، والظّاهِرُ أنَّ لِلْعَرَبِ في ذَلِكَ طَرِيقَتَيْنِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الأصْمَعِيُّ وأبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ تِلْكَ القِداحَ في خَرِيطَةٍ مِن جِلْدٍ تُسَمّى الرِّبابَةَ بِكَسْرِ الرّاءِ هي مِثْلُ كِنانَةِ النِّبالِ وهي واسِعَةٌ لَها مَخْرَجٌ ضَيِّقٌ يَضِيقُ عَنْ أنْ يَخْرُجَ مِنهُ قِدْحانِ أوْ ثَلاثَةٌ، ووَكَّلُوا بِهَذِهِ الرِّبابَةِ رَجُلًا يُدْعى عِنْدَهُمُ الحُرْضَةَ والضَّرِيبَ والمُجِيلَ، وكانُوا يُغَشُّونَ عَيْنَيْهِ بِمَغْمَضَةٍ، ويَجْعَلُونَ عَلى يَدَيْهِ خِرْقَةً بَيْضاءَ يُسَمُّونَها المِجْوَلَ يَعْصِبُونَها عَلى يَدَيْهِ أوْ جِلْدَةً رَقِيقَةً يُسَمُّونَها السُّلْفَةَ بِضَمِّ السِّينِ وسُكُونِ اللّامِ، ويَلْتَحِفُ هَذا الحُرْضَةُ بِثَوْبٍ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنهُ ثُمَّ يَجْثُو عَلى رُكْبَتَيْهِ (p-٣٤٨)ويَضَعُ الرِّبابَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ويَقُومُ وراءَهُ رَجُلٌ يُسَمّى الرَّقِيبَ أوِ الوَكِيلَ هو الأمِينُ عَلى الحُرْضَةِ وعَلى الأيْسارِ كَيْ لا يَحْتالَ أحَدٌ عَلى أحَدٍ وهو الَّذِي يَأْمُرُ الحُرْضَةَ بِابْتِداءِ المَيْسِرِ، يَجْلِسُونَ والأيْسارُ حَوْلَ الحُرْضَةِ جِثِيًّا عَلى رُكَبِهِمْ، قالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: ؎دَفَعْتُ إلى المُجِيلِ وقَدْ تَجاثَوْا ∗∗∗ عَلى الرُّكْباتِ مَطْلَعَ كُلِّ شَمْسِ ثُمَّ يَقُولُ الرَّقِيبُ لِلْحُرْضَةِ: جَلْجِلِ القِداحَ أيْ حَرِّكْها فَيُخَضْخِضُها في الرِّبابَةِ كَيْ تَخْتَلِطَ ثُمَّ يُفِيضُها أيْ يَدْفَعُها إلى جِهَةِ مَخْرَجِ القِداحِ مِنَ الرِّبابَةِ دَفْعَةً واحِدَةً عَلى اسْمٍ واحِدٍ مِنَ الأيْسارِ فَيَخْرُجُ قِدْحٌ فَيَتَقَدَّمُ الوَكِيلُ فَيَأْخُذُهُ ويَنْظُرُهُ فَإنْ كانَ مِن ذَواتِ الأنْصِباءِ دَفَعَهُ إلى صاحِبِهِ وقالَ لَهُ قُمْ فاعْتَزِلْ فَيَقُومُ ويَعْتَزِلُ إلى جِهَةٍ ثُمَّ تُعادُ الجَلْجَلَةُ، وقَدِ اغْتَفَرُوا إذا خَرَجَ أوَّلُ القِداحِ غُفْلًا ألّا يُحْسَبَ في غُرْمٍ ولا في غُنْمٍ بَلْ يُرَدُّ إلى الرِّبابَةِ وتُعادُ الإحالَةُ وهَكَذا ومَن خَرَجَتْ لَهُمُ القِداحُ الأغْفالُ يَدْفَعُونَ ثَمَنَ الجَزُورَ. فَأمّا عَلى الوَصْفِ الَّذِي وصَفَ الأصْمَعِيُّ أنَّ الجَزُورَ يُقَسَّمُ إلى ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ جُزْءًا فَظاهِرٌ أنَّ لِجَمِيعِ أهْلِ القِدْحِ القامِرَةِ شَيْئًا مِن أبْداءِ الجَزُورِ لِأنَّ مَجْمُوعَ ما عَلى القِداحِ الرّابِحَةِ مِنَ العَلاماتِ ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ، وعَلى أهْلِ القَدّاحِ غُرْمُ ثَمَنِهِ. وأمّا عَلى الوَصْفِ الَّذِي وصَفَ أبُو عُبَيْدَةَ أنَّ الجَزُورَ يُقَسَّمُ إلى عَشَرَةِ أبْداءٍ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ لَيْسَ كُلُّ المُتَقامِرِينَ بِرابِحٍ، لِأنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بِمِقْدارِ عَشَرَةِ سِهامٍ مِمّا رُقِّمَتْ بِهِ القِداحُ وحِينَئِذٍ إذا نَفِدَتِ الأجْزاءُ انْقَطَعَتِ الإفاضَةُ وغَرِمَ أهْلُ السِّهامِ الأغْفالِ ثَمَنَ الجَزُورِ ولَمْ يَكُنْ لِمَن خَرَجَتْ لَهُ سِهامٌ ذاتُ حُظُوظٍ بَعْدَ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا أبْداءَ الجَزُورِ شَيْءٌ إذْ لَيْسَ في المَيْسِرِ أكْثَرُ مِن جَزُورٍ واحِدٍ قالَ لَبِيدٌ: ؎وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها البَيْتَ، وإذْ لا غُنْمَ في المَيْسِرِ إلّا مِنَ اللَّحْمِ لا مِنَ الدَّراهِمِ أوْ غَيْرِها، ولَعَلَّ كُلًّا مِن وصْفَيِ الأصْمَعِيِّ وأبِي عُبَيْدَةَ كانَ طَرِيقَةً لِلْعَرَبِ في المَيْسِرِ بِحَسَبِ ما يَصْطَلِحُ عَلَيْهِ أهْلُ المَيْسِرِ، وإذا لَمْ يُجْمَعِ العَدَدُ الكافِي مِنَ المُتَياسِرِينَ أخَذَ بَعْضُ مَن حَضَرَ سَهْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةً فَكَثُرَ بِذَلِكَ رِبْحُهُ أوْ غُرْمُهُ وإنَّما يَفْعَلُ هَذا أهْلُ الكَرَمِ واليَسارِ لِأنَّهُ مُعَرَّضٌ لِخَسارَةٍ عَظِيمَةٍ، إذا لَمْ يَفُزْ قِدْحُهُ، ويُقالُ في هَذا الَّذِي يَأْخُذُ أكْثَرَ مِن سَهْمٍ مُتَمِّمُ الأيْسارِ قالَ النّابِغَةُ: ؎إنِّي أُتَمِّمُ أيَسارِي وأمْنَحُهم ∗∗∗ مَثْنى الأيادِي وأكْسُو الجَفْنَةَ الأدُما (p-٣٤٩)ويُسَمُّونَ هَذا الإتْمامَ بِمَثْنى الأيادِي كَما قالَ النّابِغَةُ، لِأنَّهُ يَقْصِدُ مِنهُ تَكْرِيرَ المَعْرُوفِ عِنْدَ الرِّبْحِ فالأيادِي بِمَعْنى النِّعَمِ، وكانُوا يُعْطُونَ أجْرَ الرَّقِيبِ والحُرْضَةِ والجَزّارِ مِن لَحْمِ الجَزُورِ فَأمّا أجْرُ الرَّقِيبِ فَيُعْطاهُ مِن أوَّلِ القِسْمَةِ وأفْضَلِ اللَّحْمِ ويُسَمُّونَهُ بَدْءًا، وأمّا الحُرْضَةُ فَيُعْطى لَحْمًا دُونَ ذَلِكَ وأمّا الجَزّارُ فَيُعْطى مِمّا يَبْقى بَعْدَ القَسْمِ مِن عَظْمٍ أوْ نِصْفِ عَظْمٍ ويُسَمُّونَهُ الرِّيمَ. ومَن يَحْضُرُ المَيْسِرَ مِن غَيْرِ المُتَياسِرِينَ يُسَمَّوْنَ الأعْرانَ جَمْعَ عَرِنٍ بِوَزْنِ كَتِفٍ وهم يَحْضُرُونَ طَمَعًا في اللَّحْمِ، والَّذِي لا يُحِبُّ المَيْسِرَ ولا يَحْضُرُهُ لِفَقْرِهِ سُمِّيَ البَرِمَ بِالتَّحْرِيكِ. وأصْلُ المَقْصِدِ مِنَ المَيْسِرِ هو المَقْصِدُ مِنِ القِمارِ كُلِّهِ وهو الرِّبْحُ واللَّهْوُ يَدُلُّ لِذَلِكَ تَمَدُّحُهم وتُفاخُرُهم بِإعْطاءِ رِبْحِ المَيْسِرِ لِلْفُقَراءِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ هَذا الإعْطاءُ مُطَّرِدًا لِكُلِّ مَن يَلْعَبُ المَيْسِرَ لَما كانَ تَمَدُّحٌ بِهِ قالَ الأعْشى: ؎المُطْعِمُو الضَّيْفِ إذا ما شَتَوْا ∗∗∗ والجاعِلُو القُوتَ عَلى الياسِرِ ثُمَّ إنَّ كِرامَهم أرادُوا أنْ يُظْهِرُوا التَّرَفُّعَ عَنِ الطَّمَعِ في مالِ القِمارِ فَصارُوا يَجْعَلُونَ الرِّبْحَ لِلْفُقَراءِ واليَتامى ومَن يُلِمُّ بِساحَتِهِمْ مِن أضْيافِهِمْ وجِيرَتِهِمْ، قالَ لَبِيدٌ: ؎أدْعُو بِهِنَّ لِعاقِرٍ أوْ مُطْفِلٍ ∗∗∗ بُذِلَتْ لِجِيرانِ الجَمِيعِ لِحامُها ؎فالضَّيْفُ والجارُ الجَنِيبُ كَأنَّما ∗∗∗ هَبَطا تَبالَةَ مُخْصِبًا أهْضامُها فَصارَ المَيْسِرُ عِنْدَهم مِن شِعارِ أهْلِ الجُودِ كَما تَقَدَّمَ في أبْياتِ لَبِيدٍ، وقالَ عَنْتَرَةُ كَما تَقَدَّمَ: ؎رَبِذٍ يَداهُ بِالقِداحِ إذا شَتا ∗∗∗ هَتّاكِ غاياتِ التِّجارِ مُلَوِّحِ أيْ خَفِيفِ اليَدِ في المَيْسِرِ لِكَثْرَةِ ما لَعِبَ المَيْسِرَ في الشِّتاءِ لِنَفْعِ الفُقَراءِ، وقالَ عُمَيْرُ بْنُ الجَعْدِ: ؎يَسِرٍ إذا كانَ الشِّتاءُ ومُطْعِمٍ ∗∗∗ لِلَّحْمِ غَيْرِ كُبُنَّةٍ عُلْفُوفِ الكُبُنَّةُ بِضَمَّتَيْنِ المُنْقَبِضُ القَلِيلُ المَعْرُوفِ والعُلْفُوفُ كَعُصْفُورٍ الجافِي. فالمَنافِعُ في المَيْسِرِ خاصَّةٌ وعامَّةٌ وهي دُنْيَوِيَّةٌ كُلُّها، والإثْمُ الَّذِي فِيهِ هو ما يُوقِعُهُ مِنَ العَداوَةِ والبَغْضاءِ ومِن إضاعَةِ الوَقْتِ والِاعْتِيادِ بِالكَسَلِ والبِطالَةِ واللَّهْوِ والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ وعَنِ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ وعَنِ التِّجارَةِ ونَحْوِها مِمّا بِهِ قِوامُ المَدَنِيَّةِ وتِلْكَ آثامٌ لَها آثارُها الضّارَّةُ في الآخِرَةِ، ولِهَذِهِ الِاعْتِباراتِ ألْحَقَ الفُقَهاءُ بِالمَيْسِرِ كُلَّ لَعِبٍ فِيهِ قِمارٌ كالنَّرْدِ، وعَنِ النَّبِيءِ ﷺ «إيّاكم وهاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ فَإنَّهُما مِن مَيْسِرِ العَجَمِ» يُرِيدُ (p-٣٥٠)النَّرْدَ، وعَنْ عَلِيٍّ: النَّرْدُ والشَّطْرَنْجُ مِنَ المَيْسِرِ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ الفُقَهاءِ ومالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا خَلا الشَّطْرَنْجُ مِنَ الرِّهانِ واللِّسانِ عَنِ الطُّغْيانِ والصَّلاةِ عَنِ النِّسْيانِ لَمْ يَكُنْ حَرامًا وهو خارِجٌ عَنِ المَيْسِرِ لِأنَّ المَيْسِرَ ما يُوجِبُ دَفْعَ المالِ وأخْذَهُ وهَذا لَيْسَ كَذَلِكَ وهو وجِيهٌ والمَسْألَةُ مَبْسُوطَةٌ في الفِقْهِ. والنّاسُ مُرادٌ بِهِ العُمُومُ لِاخْتِلافِ المَنافِعِ، ولِأنَّهُ لَمّا وقَعَ الإخْبارُ بِواسِطَةِ ”في“ المُفِيدَةِ الظَّرْفِيَّةِ لَمْ يَكُنْ في الكَلامِ ما يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ النّاسِ يَنْتَفِعُ بِالخَمْرِ والمَيْسِرِ، بَلِ الكَلامُ يَقْتَضِي أنَّ هاتِهِ المَنافِعَ مَوْجُودَةٌ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ لِمَن شاءَ أنْ يَنْتَفِعَ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ [النحل: ٦٩] . ولَيْسَ المُرادُ بِالنّاسِ طائِفَةً لِعَدَمِ صُلُوحِيَّةِ ”ال“ هُنا لِلْعَهْدِ ولَوْ أُرِيدَ طائِفَةٌ لَما صَحَّ إلّا أنْ يُقالَ: ومَنافِعُ الشّارِبِينَ والياسِرِينَ كَما قالَ ﴿وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥] فَإنْ قُلْتَ: ما الوَجْهُ في ذِكْرِ مَنافِعِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ مَعَ أنَّ سِياقَ التَّحْرِيمِ والتَّمْهِيدَ إلَيْهِ يَقْتَضِي تَناسِيَ المَنافِعِ، قُلْتُ: إنْ كانَتِ الآيَةُ نازِلَةً لِتَحْرِيمِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ فالفائِدَةُ في ذِكْرِ المَنافِعِ هي بَيانُ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ لِيَعْتادَ المُسْلِمُونَ مُراعاةَ عِلَلِ الأشْياءِ، لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذا الدِّينَ دِينًا دائِمًا وأوْدَعَهُ أُمَّةً أرادَ أنْ يَكُونَ مِنها مُشَرِّعُونَ لِمُخْتَلِفِ ومُتَجَدِّدِ الحَوادِثِ، فَلِذَلِكَ أشارَ لِعِلَلِ الأحْكامِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾ [الحجرات: ١٢] ونَحْوِ ذَلِكَ، وتَخْصِيصُ التَّنْصِيصِ عَلى العِلَلِ بِبَعْضِ الأحْكامِ في بَعْضِ الآياتِ إنَّما هو في مَواضِعِ خَفاءِ العِلَلِ، فَإنَّ الخَمْرَ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَهم نَفْعُها، والمَيْسِرَ قَدِ اتَّخَذُوهُ ذَرِيعَةً لِنَفْعِ الفُقَراءِ فَوَجَبَ بَيانُ ما فِيهِما مِنَ المَفاسِدِ إنْباءً بِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ، وفائِدَةٌ أُخْرى وهي تَأْنِيسُ المُكَلَّفِينَ عِنْدَ فِطامِهِمْ عَنْ أكْبَرِ لَذائِذِهِمْ تَذْكِيرًا لَهم بِأنَّ رَبَّهم لا يُرِيدُ إلّا صَلاحَهم دُونَ نِكايَتِهِمْ كَقَوْلِهِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وقَوْلِهِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] . وهُنالِكَ أيْضًا فائِدَةٌ أُخْرى وهي عُذْرُهم عَمّا سَلَفَ مِنهم حَتّى لا يَسْتَكِينُوا لِهَذا التَّحْرِيمِ والتَّنْدِيدِ عَلى المَفاسِدِ كَقَوْلِهِ ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكم فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] . * * * (p-٣٥١)﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ كانَ سُؤالُهم عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ حاصِلًا مَعَ سُؤالِهِمْ: ماذا يُنْفِقُونَ، فَعُطِفَتِ الآيَةُ الَّتِي فِيها جَوابُ سُؤالِهِمْ ماذا يُنْفِقُونَ عَلى آيَةِ الجَوابِ عَنْ سُؤالِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، ولِذَلِكَ خُولِفَ الأُسْلُوبُ الَّذِي سَلَفَ في الآياتِ المُخْتَلِفَةِ بِجُمَلِ (يَسْألُونَكَ) بِدُونِ عَطْفٍ فَجِيءَ بِهَذِهِ مَعْطُوفَةً بِالواوِ عَلى الَّتِي قَبْلَها. ومُناسَبَةُ التَّرْكِيبِ أنَّ النَّهْيَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ يُتَوَقَّعُ مِنهُ تَعَطُّلُ إنْفاقٍ عَظِيمٍ كانَ يَنْتَفِعُ بِهِ المَحاوِيجُ، فَبَيَّنَتْ لَهُمُ الآيَةُ وجْهَ الإنْفاقِ الحَقَّ، رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ أنَّ السّائِلَ عَنْ هَذا مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وقِيلَ هو رُجُوعٌ إلى الجَوابِ عَنْ سُؤالِ عَمْرِو بْنِ الجُمُوحِ الَّذِي قِيلَ إنَّهُ المُجابُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢١٥] إلَخْ، وعَلَيْهِ فالجَوابُ عَنْ سُؤالِهِ مُوَزَّعٌ عَلى المَوْضِعَيْنِ لِيَقَعَ الجَوابُ في كُلِّ مَكانٍ بِما يُناسِبُهُ. ولِإظْهارِ ما يَدْفَعُ تَوَقُّعَهم تَعْطِيلَ نَفْعِ المَحاوِيجِ وُصِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِالَّتِي قَبْلَها بِواوِ العَطْفِ. والعَفْوُ: مَصْدَرُ عَفا يَعْفُو إذا زادَ ونَمى قالَ تَعالى ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥]، وهو هُنا ما زادَ عَلى حاجَةِ المَرْءِ مِنَ المالِ أيْ فَضَلَ بَعْدَ نَفَقَتِهِ ونَفَقَةِ عِيالِهِ بِمُعْتادِ أمْثالِهِ، فالمَعْنى أنَّ المَرْءَ لَيْسَ مُطالَبًا بِارْتِكابِ المَآثِمِ لِيُنْفِقَ عَلى المَحاوِيجِ، وإنَّما يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِمّا اسْتَفْضَلَهُ مِن مالِهِ وهَذا أمْرٌ بِإنْفاقٍ لا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وهَذا أفْضَلُ الإنْفاقِ، لِأنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ مِنَ الإنْفاقِ إقامَةُ مَصالِحِ ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ ولا يَحْصُلُ مِنهُ مِقْدارٌ لَهُ بالٌ إلّا بِتَعْمِيمِهِ ودَوامِهِ لِتَسْتَمِرَّ مِنهُ مَقادِيرُ مُتَماثِلَةٌ في سائِرِ الأوْقاتِ وإنَّما يَحْصُلُ التَّعْمِيمُ والدَّوامُ بِالإنْفاقِ مِنَ الفاضِلِ عَنْ حاجاتِ المُنْفِقِينَ فَحِينَئِذٍ لا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فَلا يَتْرُكُهُ واحِدٌ مِنهم ولا يُخِلُّونَ بِهِ في وقْتٍ مِن أوْقاتِهِمْ، وهَذِهِ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وأصْلٌ اقْتِصادِيٌّ عُمْرانِيٌّ، وفي الحَدِيثِ «خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ» فَإنَّ البَداءَةَ بِمَن يَعُولُ ضَرْبٌ مِنِ الإنْفاقِ، لِأنَّهُ إنْ تَرَكَهم في خَصاصَةٍ احْتاجُوا إلى الأخْذِ مِن أمْوالِ الفُقَراءِ، وفي الحَدِيثِ «إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» أيْ يَمُدُّونَ أكُفَّهم لِلسُّؤالِ، (p-٣٥٢)فَتَبَيَّنَ أنَّ المُنْفِقَ بِإنْفاقِهِ عَلى مَن يُنْفِقُ عَلَيْهِ يُخَفِّفُ عَنِ الفُقَراءِ بِتَقْلِيلِ عَدَدِ الدّاخِلِينَ فِيهِمْ، ولِذَلِكَ جاءَ في الحَدِيثِ «وإنَّكَ لا تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وجْهَ اللَّهِ إلّا أُجِرْتَ عَلَيْها حَتّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُها في في امْرَأتِكَ» . ولِهَذا أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِإنْفاقِ العَفْوِ، لِأنَّها لِعُمُومِ المُنْفِقِينَ، فَلا تَنافِيَ أنْ يُنْفِقَ أحَدٌ مِن مالِهِ المُحْتاجِ هو إلَيْهِ أوْ جَمِيعِ مالِهِ إذا صَبَرَ عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ مَن تَجِبْ عَلَيْهِ هو نَفَقَتُهُ. و”ال“ في العَفْوِ لِلْجِنْسِ المَعْرُوفِ لِلسّامِعِينَ، والعَفْوُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ؛ لِأنَّهُ يَتْبَعُ تَعْيِينَ ما يَحْتاجُهُ المُنْفِقُ والنّاسُ في ذَلِكَ مُتَفاوِتُونَ، وجَعَلَ اللَّهُ العَفْوَ كُلَّهُ مُنْفَقًا تَرْغِيبًا في الإنْفاقِ وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الإنْفاقِ هُنا الإنْفاقُ المُتَطَوَّعُ بِهِ، إذْ قَدْ تَضافَرَتْ أدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وانْعَقَدَ إجْماعُ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ لا يَجِبُ عَلى المُسْلِمِ إنْفاقٌ إلّا النَّفَقاتِ الواجِبَةَ وإلّا الزَّكَواتِ وهي قَدْ تَكُونُ مِن بَعْضِ ما يَفْضُلُ مِن أمْوالِ أهْلِ الثَّرْوَةِ إلّا ما شَذَّ بِهِ أبُو ذَرٍّ، إذْ كانَ يَرى كَنْزَ المالِ حَرامًا ويُنادِي بِهِ في الشّامِ فَشَكاهُ مُعاوِيَةُ لِعُثْمانَ فَأمَرَ عُثْمانُ بِإرْجاعِهِ مِنَ الشّامِ إلى المَدِينَةِ ثُمَّ إسْكانِهِ بِالرَّبَذَةِ بِطَلَبٍ مِنهُ، وقَدِ اجْتَهَدَ عُثْمانُ لِيَسُدَّ بابَ فِتْنَةٍ، وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، وعَلى قَوْلِهِ يَكُونُ ”ال“ في ”العَفْوِ“ لِلْعَهْدِ الخارِجِيِّ وهو نَماءُ المالِ المُقَدَّرِ بِالنِّصابِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿قُلِ العَفْوَ﴾ بِنَصْبِ العَفْوِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ ماذا يُنْفِقُونَ، وهَذِهِ القِراءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى اعْتِبارِ ذا بَعْدَ ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ مُلْغاةً فَتَكُونُ ما الِاسْتِفْهامِيَّةُ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا لِـ (يُنْفِقُونَ) فَناسَبَ أنْ يَجِيءَ مُفَسِّرُ ما في جَوابِ السُّؤالِ مَنصُوبًا كَمُفَسَّرِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في إحْدى رِوايَتَيْنِ عَنْهُ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هو العَفْوُ. وهَذِهِ القِراءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى جَعْلِ ذا بَعْدَ ما مَوْصُولَةً؛ أيْ يَسْألُونَكَ عَنِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ، لِأنَّها إذا كانَتْ مَوْصُولَةً كانَتْ مُبْتَدَأً إذْ لا تَعْمَلُ فِيها صِلَتُها وكانَتْ ما الِاسْتِفْهامِيَّةُ خَبَرًا عَنْ ما المَوْصُولَةِ، وكانَ مُفَسَّرُها في الجَوابِ وهو العَفْوُ فَناسَبَ أنْ يُجاءَ بِهِ مَرْفُوعًا كَمُفَسِّرِهِ لِيُطابِقَ الجَوابُ السُّؤالَ في الِاعْتِبارَيْنِ وكِلا الوَجْهَيْنِ اعْتِبارٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ. وقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾، أيْ كَذَلِكَ البَيانُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ، فالكافُ (p-٣٥٣)لِلتَّشْبِيهِ واقِعَةٌ مَوْقِعَ المَفْعُولِ المُطْلَقِ المُبَيِّنِ لِنَوْعِ يُبَيِّنُ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في وُجُوهِ هَذِهِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . أوِ الإشارَةُ راجِعَةٌ إلى البَيانِ الواقِعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إلى قَوْلِهِ العَفْوَ، وقَرَنَ اسْمَ الإشارَةِ بِعَلامَةِ البُعْدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ المُشارِ إلَيْهِ لِكَمالِهِ في البَيانِ، إذْ هو بَيانٌ لِلْحُكْمِ مَعَ بَيانِ عِلَّتِهِ حَتّى تَتَلَقّاهُ الأُمَّةُ بِطِيبِ نَفْسٍ، وحَتّى يُلْحِقُوا بِهِ نَظائِرَهُ، وبَيانٌ لِقاعِدَةِ الإنْفاقِ بِما لا يَشِذُّ عَنْ أحَدٍ مِنَ المُنْفِقِينَ، ولِكَوْنِ الكافِ لَمْ يُقْصَدْ بِها الخِطابُ بَلْ مُجَرَّدُ البُعْدِ الِاعْتِبارِيِّ لِلتَّعْظِيمِ لَمْ يُؤْتَ بِها عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ مِن خِطابِ الجَماعَةِ فَلَمْ يَقُلْ كَذَلِكم عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾ . واللّامُ في لَكم لِلتَّعْلِيلِ والأجَلِ وهو امْتِنانٌ وتَشْرِيفٌ بِهَذِهِ الفَضِيلَةِ لِإشْعارِهِ بِأنَّ البَيانَ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ مِمّا اخْتُصَّتْ بِهِ هاتِهِ الأُمَّةُ لِيَتَلَقَّوُا التَّكالِيفَ عَلى بَصِيرَةٍ بِمَنزِلَةِ المَوْعِظَةِ الَّتِي تُلْقى إلى كامِلِ العَقْلِ مُوَضَّحَةً بِالعَواقِبِ، لِأنَّ اللَّهَ أرادَ لَهاتِهِ الأُمَّةِ أنْ يَكُونَ عُلَماؤُها مُشَرِّعِينَ. وبَيَّنَ فائِدَةَ هَذا البَيانِ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ بِقَوْلِهِ ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ أيْ لِيَحْصُلَ لِلْأُمَّةِ تَفَكُّرٌ وعِلْمٌ في أُمُورِ الدُّنْيا وأُمُورِ الآخِرَةِ، لِأنَّ التَّفَكُّرَ مَظْرُوفٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَتَقْدِيرُ المُضافِ لازِمٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ والآخِرَةِ إذْ لا مَعْنى لِوُقُوعِ التَّفَكُّرِ يَوْمَ القِيامَةِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلى بَيانِ الحَظْرِ والوُجُوبِ والثَّوابِ والعِقابِ لَكانَ بَيانًا لِلتَّفَكُّرِ في أُمُورِ الآخِرَةِ خاصَّةً ولَوِ اقْتَصَرَ عَلى بَيانِ المَنافِعِ والمَضارِّ بِأنْ قِيلَ: قُلْ فِيهِما نَفْعٌ وضُرٌّ لَكانَ بَيانًا لِلتَّفَكُّرِ في أُمُورِ الدُّنْيا خاصَّةً، ولَكِنَّ ذِكْرَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ والثَّوابِ والعِقابِ تَذْكِيرٌ بِمَصْلَحَتَيِ الدّارَيْنِ، وفي هَذا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ إصْلاحِ أُمُورِ الأُمَّةِ في الدُّنْيا، ووَقَعَ في كَلامٍ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وقَدْ ذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيا عِنْدَهُ قالَ لَهُ: الدُّنْيا دارُ صِدْقٍ لِمَن صَدَقَها، ودارُ نَجاةٍ لِمَن فَهِمَ عَنْها، ودارُ غِنًى لِمَن تَزَوُّدَ مِنها، ومَهْبِطُ وحْيِ اللَّهِ ومُصَلّى مَلائِكَتِهِ ومَسْجِدُ أنْبِيائِهِ، فَمَن ذا الَّذِي يَذُمُّها وقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِها إلَخْ. ولا يَخْفى أنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّفَكُّرِ هو الحُكْمُ المَنُوطُ بِالعِلَّةِ وهو حُكْمُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ ثُمَّ ما نَشَأ عَنْهُ قَوْلُهُ ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ كَذَلِكَ لِكَوْنِ الإنْفاقِ مِنَ العَفْوِ وهو ضَعِيفٌ، لِأنَّ ذَلِكَ البَيانَ لا يَظْهَرُ فِيهِ كَمالُ الِامْتِنانِ حَتّى يُجْعَلَ نَمُوذَجًا لِجَلِيلِ البَياناتِ الإلَهِيَّةِ وحَتّى يَكُونَ (p-٣٥٤)مَحَلَّ كَمالِ الِامْتِنانِ وحَتّى تَكُونَ غايَتُهُ التَّفَكُّرَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولا يُعْجِبُكم كَوْنُهُ أقْرَبَ لِاسْمِ الإشارَةِ، لِأنَّ التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هاتِهِ الأُمُورِ اللَّفْظِيَّةِ في نُكَتِ الإعْجازِ إضاعَةٌ لِلْألْبابِ وتَعَلُّقٌ بِالقُشُورِ. وقَوْلُهُ ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ غايَةُ هَذا البَيانِ وحِكْمَتُهُ، والقَوْلُ في لَعَلَّ تَقَدَّمَ. وقَوْلُهُ ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢١٧] يَتَعَلَّقُ بِتَتَفَكَّرُونَ لا بِيُبَيِّنُ، لِأنَّ البَيانَ واقِعٌ في الدُّنْيا فَقَطْ. والمَعْنى: لِيَحْصُلَ لَكم فِكْرٌ أيْ عِلْمٌ في شُئُونِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وما سِوى هَذا تَكَلُّفٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب