الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية، نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وجماعة، أتوا رسول الله ﷺ، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 770، وعنه ابن حجر في "العجاب" 1/ 546، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 73، البغوي في "تفسيره" 1/ 249، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 239، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 156. وورد عن عمر قوله: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ فدعي عمر فقرئت عليه، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. الحديث رواه أبو داود == (3670) كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، والترمذي (3048) كتاب التفسير، باب: من سورة المائدة، والنسائي 8/ 286 كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، وأحمد 1/ 53، والحاكم 2/ 305، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن المديني كما في "تفسير ابن كثير" 1/ 274.]]. والخَمْر عند أهل اللغة سميت خمرًا لسترها العقل. قال ابن المُظَفَّر: الَخْمر معروف، واختمارها: إِدْرَاكها وغَلَيَانُها، ومُخَمِّرُها: مُتَّخِذُها، وخُمْرَتُها: ما غشي المَخْمورَ من الخُمَارِ [[في "مقاييس اللغة" 2/ 215 زيادة: [والسكر في قلبه] والكلام منسوب إلى الخليل فلعل الليث ناقل كما قال محقق "تهذيب اللغة"، كما أنه أخبر عن الخمر بالمذكر فقال: معروف، وكذا في "التهذيب"، والعبارة المنقولة عن الخليل: الخمر معروفة.]]، وأنشد: وقد أَصَابَتْ حُمَيَّاها مَقَاتِلَهُ ... فلم تكَد تَنْجَلِي عن قَلْبِه الخُمَرُ [[البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 1099، "مقاييس اللغة" 2/ 215، "لسان العرب" 2/ 1259 (خمر) وروايته: لذٌّ أصابت.]] وخَمَرْتُ الدابةَ أُخْمِرُها، إذا سَقَيْتُهَا الخَمْر [[نقله عن ابن المظفر في "تهذيب اللغة" 1/ 1099.]]، قال الكسائي: اختمرت خمرًا، ولا يقال: أخمرتها [[نقل عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1099 قوله: أبو عبيد عن الكسائي: خمرت العجين وفطرته، وهي الخمرة الذي يجعل في العجين يسميه الناس: الخمير.]]، وأصل هذا السحرف: التغطية. روى ثعلب عن عمرو عن أبيه [[في "تهذيب اللغة" 1/ 1099: ثعلب عن ابن الأعرابي.]] قال: الخَامِرُ: الذي يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ، وفي الحديث: "خمروا آنيتكم" [[رواه البخاري (3280) كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2013) كتاب الأشربة باب تغطية الإناء في الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، من حديث جابر بن عبد الله. والتخمير: التغطية.]]. وقد اخْتَمَرَتِ المرأةُ بخمارها، وتَخَمَّرَتْ وهي حَسَنَهُ الخِمْرَةِ، ويقال: خَامِرِي أمَّ عَامر [[مثَل يضرب للرجل الأحمق، وأم عامر هي الضبع، قال ابن السكيت: الضبع محَمَّق، ويدخل عليها الرجل في وجارها تحمل عليه، فيقول: خامري أم عامر، ليست أم عامر هاهنا، فتمكنه حتى يكْعمَها ويوثقها بحبل ثم يجرها. ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1099، "مقاييس اللغة" 2/ 217، "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 238.]]، أي: ادخُلِي الخَمَرَ، واستتري، والخَمَرَ: ما واراك من شجرٍ وغيره من وهْدَةٍ وأَكَمَةٍ. وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تدرك، وقال ابن الأنباري: سميت خَمْرًا؛ لأنها تُخَامِرُ العَقْلَ، أي: تخالِطُه، يقال: خَامَره الداءُ، إذا خَالَطَه، وأنشد لكثير: هَنِيئًا مَرِيئًا غيرَ داءٍ مُخَامِرٍ [[عجز البيت: لعزة من أعراضنا ما استحلت. والبيت في "ديوانه" ص100، كتاب "العين" 4/ 263، "مقاييس اللغة" 2/ 216. "المعجم المفصل" 1/ 547.]] يقال: خامر السقامُ كبدَه، وخامرت كبدُه السقامَ، تجعل أيهما شئت فاعلًا، قال: أتَيْت الوَلِيدَ له عَايدًا ... وقد خَامَرَ القَلْبُ منه سَقَامَا [[البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره.]] وهذا [[في (ش) (وهو).]] الذي ذكره راجع إلى الأول؛ لأن الشيء إذا خالط [[في (ي) (خالطه).]] الشيء يصير بمنزلة الساتر، هذا قول أهل اللغة في اشتقاقها [[ينظر في مادة خمر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 291، "تهذيب اللغة" 1/ 1101، "المفردات" ص 165، "عمدة الحفاظ" 1/ 614، "اللسان" 2/ 1261.]]. فأما حدها: فمذهب الثوري [[ينظر: "اختلاف العلماء" للمروزي 204، "تفسير الثعلبي" 2/ 784، "بداية المجتهد" 1/ 549.]] وأبي حنيفة وأكثر أهل الرأي [[ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 278، "شرح معاني الآثار" 4/ 212، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 324.]]: أن الخمر ما اعتصر من الحبلة [[الحبلة: العنبة.]] والنخلة، فغلى [[في (م): (فغشي).]] بطبعه دون عمل النار فيه، وأن ما سوى ذلك فليس بخمر، ومذهب مالك [[ينظر: "الموطأ" في الأشربة، باب: الحد في الخمر 1/ 843، "المدونة" 6/ 261.]] والشافعي [[ينظر. "الأم" 6/ 195.]] وأحمد [[ينظر: "المغني" 12/ 514، "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" 6/ 372.]] وأهل الأثر [[ينظر: "التمهيد" 1/ 245، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 149.]]: أن الخمر كل شراب مسكر، سواء كان عصيرًا أو نقيعًا، مطبوخًا كان أو نيئًا. واللغة تشهد لهذا. قال الزجاج: القياس أن ما عمل عمل الخمر أن يقال لها خمر، وأن يكون [[في (ش) (تكون).]] في التحريم بمنزلها [[ابن الأنباري، ذكره الزجاج 1/ 291.]]، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما [[في (ش): (وإما).]] ذكر الميسر من بينه وهو قمار في الجُزُر [[في (م): (الجزد)، وفي (ش): (الجرر)، وفي (ي): (الحرر).]]، وحُرِّم كلُّه قياسًا على الميسر، وكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته، وكل مُسْكِرٍ مخالط للعقل مُغَطٍّ عليه فهو خمر، ويقال لكل شارب غلبه بخار شرب المسكر، أيِّ مُسْكِرٍ كان: مخمور، وبه خمار، فهذا بين واضح، وقد قال النبي ﷺ "إن من التمر لخمرًا، وإن من العنب لخمرًا، وإن من الزبيب لخمرًا، وإن من الحنطة لخمرًا، وإن من الشعير لخمرًا، وإن من الذرة لخمرًا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر" [[أخرجه أبو داود (3672) كتاب الأشربة، باب: الخمر مما هو؟، والترمذي (1872) كتاب الأشربة، باب: ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، وابن ماجه (3380) كتاب الأشربة، باب: مما يكون منه الخمر، والإمام أحمد 4/ 267 والحاكم 4/ 164 وصححه. وحسنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" 10/ 44.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ يعني: القمار، قال ابن عباس: كان الرجلُ في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله، فأنزل الله هذه الآية [[رواه أبو عبيد في " الناسخ والمنسوخ" ص 249، والطبري في "تفسيره" 2/ 358، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 90،والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 628، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 878، "الدر المنثور" 1/ 452.]]. والمَيْسِر عند أهل اللغة: مَفْعِل، من قولهم: يَسَر لي هذا الشيء يَيْسِرُ يَسَرًا ومَيْسِرًا، إذا وجب، والياسر: الواجبُ بقدح وجب ذلك أو مُنَاحبةٍ [[في (ش): مناجية. وفي (أ) كأنها: مناخبة، وما أثبت من "تفسير الثعلبي" 2/ 878، والمناخبة: المراهنة والمخاطرة كما في النهاية، وأثبت محقق "تفسير الطبري" فتاحة.]] أو غير ذلك، هذا أصله، ثم قيل للقمار: ميسر، وللمقامر: ياسر ويسرٌ [["تفسير الطبري" 2/ 357، "تفسير الثعلبي" 2/ 878، وعنده: الواجب بقداح.]]، قال: يَسَرُ الشِّتَاءِ وفَارِسٌ ذو قدمة ... في الحَرْبِ أن حَاصَ الجَبَانُ مَحِيصَا [[البيت لم أهتد لقائله، ولا من ذكره.]] ويجمع يَسَر أَيْسَارًا. قال طرفة: وهم أيْسَارُ لُقْمَانَ إذا ... أغْلَتِ الشَّتْوَةُ أبْدَاءَ الجُزُرْ [[البيت في "اللسان" 8/ 4959 (يسر)، "تفسير القرطبي" 3/ 53، والشتوة: مفرد شتاء، والعرب تجعل الشتاء مجاعة؛ لأن الناس يلتزمون فيه البيوت ولا يخرجون للانتجاع، وأبداء: جمع بدء، خير عظم في الجزور، وقيل: هو خير نصيب فيها.]] قال ابن الأعرابي: يقال: يَسَر الياسِر يَيْسِر، إذا جاء بقِدْحِه للقمار [[نقله في "اللسان" 8/ 4959 (يسر).]]. وقيل: أخذ الميسر من التجزئة والاقتسام [[من قوله: يسر الياسر. ساقط من (أ) و (م).]]، ويقال: يَسَروا الشيء، أي: اقتسموه، قال: أقولُ لهم بالشِعْبِ إذ يَيْسِرُونني ... ألم تيأسوا أني ابنُ [[في (ش) و (ي): (لي).]] فَارِسِ زَهْدَمِ [[البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي، ينظر: "مجاز القرآن"،"اللسان" 8/ 4959، "تفسير القرطبي" 3/ 53، ورواية الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3981 "يسر". أقول لأهل الشعب، ورواية "اللسان": ألم تعلموا. وتيأسوا: تعلموا. وزهدم: اسم فرس.]] أي: تقتسمونني كما نقتسم أعضاء الجزور في الميسر، أراد أنهم أخذوا فداه فاقتسموه، فكأنهم اقتسموا نفسه، وكانت العرب تنحر الجزور وتجعله أقسامًا [[ليست في (أ) ولا (م).]] يتقامر عليها بالقِداح، على عادة لهم في ذلك [[ينظر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة ص 56 - 154، "تفسير الثعلبي" 2/ 879، "المحرر الوجيز" 2/ 234، "الميسر والأزلام" لعبد السلام هارون ص 12 - 54.]]. قال النضر: الياسر: الجزار، ويَسَرْتُ الناقة، أي [[في (ش): (إذا).]]: جَزَّأْتُ لَحْمَها [[نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3980.]]، وقول الأعشى: والجَاعِلُو القُوتِ على اليَاسِرِ [[عجز بيت للأعشى، وصدره: لمطعمون اللحم إذا ما شتوا ينظر: "ديوانه" ص 95، "تهذيب اللغة" 4/ 3980، "لسان العرب" 8/ 4959 (يسر).]] يعني: الجازر، وقيل: الميسر من اليُسْر، وهو تَسَهُّلُ الشيء، وذلك أنهم كانوا يشتركون في الجزور لِيَسْهُل أمرُه [[ينظر في الميسر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة، "تهذيب اللغة" 4/ 3981، "عمدة الحفاظ" 4/ 409، "لسان العرب" 8/ 4959 (يسر).]]، وإلى هذا ذهب مقاتل؛ لأنه قال: [[ليست في (ش)]] سمي ميسرًا لأنهم كانوا يقولون: يَسِّرُوا لنا ثَمَنَ الجَزُور [["تفسير مقاتل" 1/ 188.]]، وليست هذه الآية المُحَرِّمَةُ للخمر ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ [[ليست في (ي).]] إنما المحرمة التي في المائدة [[تقدم ذلك في ذكر سبب نزول الآية.]]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أراد: الإثم بسببهما من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وزوال العقل والمنع من الصلاة، والقمار يورث [[من قوله: الخاصمة. ساقط من (أ) ولا (م).]] الجماعة [[ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي).]] العداوة، بأن يصير مال الإنسان إلى غيره بغير جزاء يأخذه عليه [[ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 889 - 890.]]. وقال الربيع [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 361، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 891.]] والضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 361، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 174، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 891.]]: إثم كبير بعد التحريم، ومنافع للناس قبل التحريم. والأول الوجه، وعنى بالمنافع ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر، والتجارة فيها، واللذة عند شربها، والتقوي بها [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 292، "تفسير الثعلبي" 2/ 890]]، كقول الشاعر [[ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي).]] الأعشى: لنا من ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وكَأبةٌ ... وذِكرى هُمُومٍ ما تَغِبُّ أَذَاتُها وعند العِشَاءِ طيبِ نَفْسٍ ولَذّةٍ ... ومالٍ كثِيرٍ عدة نَشَوَاتُها [[البيتان للأعشى بن قيس في قصيدة فخر له، ينظر: "ديوانه" ص 31 وفي الأشربة لابن قتيبة ص 198، "تفسير الطبري" 2/ 359 "تفسير الثعلبي" 2/ 890.]] ومنفعة الميسر: ما يصاب من القمار، ويرتفق به الفقراء [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 293، "تفسير الثعلبي" 2/ 890.]]. وقال قتادة: في هذه الآية ذمها ولم [[في (ي): (فلم).]] يحِّرْمها، وهي يومئذ حلال [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 363، وذكره في "زاد المسير" 1/ 2414، وفي "الحجة" 2/ 307.]]. وذهب قوم من أهل النظر: إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية؛ لأن الكتاب قد دل في موضع آخر على تحريم الإثم في قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ [الأعراف: 33] وقد حرم الإثم، وقال: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، فوجب أن يكون محرمًا [[من "الحجة" 2/ 308.]]. واختلف القراء في قوله: ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء، الباقون بالباء (1)، وحجتهم: أن الباء أولى؛ لأن الكِبَر مثلُ العِظَم، ومقابل الكِبرِ الصِّغَر، قال الله تعالى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53] وقد استعملوا في وصف الذنب العِظَمَ والكِبَرَ، يدل على ذلك قوله: ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: 32]، ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: 31]، بالباء، كذلك هاهنا ينبغي أن يكون بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبائر. وقالوا في اللمم: صغيرٌ وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، فلو كان (كثير) متجهًا في هذا لوجب (2) أن يقال في غير الكبيرة (3): قليل، ألا ترى أن القلة تقابل الكثرة، كما أن الصغر يقابل الكبر. واتفاق القراء على الباء في ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ﴾، ورفضهم الثاء مما يقوي الباء. وأما من قرأ بالثاء فلأنه قد جاء فيهما ما يقوي (4) وصف الإثم فيهما بالكثرة دون الكبر، وهو قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 91] فذكر عددًا من الذنوب فيهما، ولأن (5) النبي ﷺ لعن عَشْرَةً في سبب الخمر (6)، فدل على كثرة الإثم فيها، ولأن الإثم في هذه الآية عودل به المنافع فَحَسُنَ أن يوصف بالكثرة [[في (ش): (بالكثير) وفي (بالكبيرة).]]؛ لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرةٌ ومنافعُ [[من "الحجة" 1/ 312 - 314 بتصرف.]]. وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ نزل في سؤال عمرو بن الجموح، لما نزل قوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 215] في سؤاله أعاد السؤال وسأل عن مقدار ما ينفق، فنزل قوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [[ذكر السيوطي في "لباب النقول" 1/ 41 أن ابن المنذر أخرج عن أبي حيان أن عمرو ابن الجموح سأل النبي ﷺ ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت. وذكره مقاتل بنحوه 1/ 188 وذكر الثعلبي في "تفسيره" 2/ 891 أن رسول الله ﷺ حثهم على الصدقة، ورغبهم فيها من غير عزم، فقالوا: يا رسول الله، ماذا ننفق وعلى من نتصدق؟ فنزلت، وعنه نقله ابن حجر في "العجاب" 1/ 546، والسيوطي في "لباب النقول" ص 42، وعزاه لابن جرير، وبنحوه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 381.]]. قال ابن عباس في رواية مقسم: العفو: ما فضل من المال عن العيال [[رواه سعيد بن منصور في "سننه" 3/ 838، والطبري في "تفسيره" 2/ 364، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 133، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 894.]]، وهو قول السدي [[رواه عنه الطبري 2/ 364، والثعلبي 2/ 893، البغوي في "تفسيره" 1/ 253.]] وقتادة [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 89، والطبري 2/ 364، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 893]] وعطاء [[رواه سعيد بن منصور 3/ 339، والطبري في "تفسيره" 2/ 364، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 893.]]. وقال في رواية الوالبي: ما لا يتبين [[في (ش): (مانبين)]] في أموالكم [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 364، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 394، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 631، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 894.]]. وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 365 بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 894.]]. وأصل العفو في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: 95]، أي: زادوا على (ما) [[ساقطة من (ش).]] كانوا عليه من العدد [["تفسيرالثعلبي" 2/ 896]]. وقال الشاعر: ولكنا نُعِضُّ السَّيْفَ منها ... بأسْؤُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ [[القائل: لبيد، ينظر: "ديوانه" ص 104، "مجاز القرآن" 0/ 222، "تفسير الطبري" 2/ 366 "تفسير الثعلبي" 2/ 896 والضمير في قوله: منها، يعود إلى الإبل، يقال: أعضَّه السيف، إذا ضربه به والباء في (أسوق) زائدة، كُوْم: عظام الأسمنة يقال في البعير: أكوم، والناقة: كوماء.]] أي: زائدات الشحم. قال أهل التفسير: أُمِروا أن ينفقوا الفَضْل، وكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه ما يكفيه في عامه، وينفق باقيه، إلى أن فرضت الزكاة، فنسخت آيةُ الزكاة المفروضة هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة [[من قوله: المفروضة. ساقطة من (ي).]] [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 293، وعزاه الثعلبي 2/ 899 للكلبي، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 238، واستظهر ابن الجوزي أن لا نسخ في الآية،== وأنها في الإنفاق المندوب إليه، وقال الطبري 2/ 368: فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقات غير المفروضات، ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. وينظر: "النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 665.]]. واختلف القرَّاء في رفع العفو ونصبه، فقرؤا بالوجهين جميعًا [[قرأ أبو عمرو: ﴿قل العفوُ﴾ رفعا، والباقون نصبًا.]]، فمن نصب جعل (ماذا) اسمًا واحدًا، فيكون قوله: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ بمنزلة ما ينفقون [[قوله: بمنزلة ما ينفقون ساقطة من (أ) و (م).]]، و (ماذا) في موضع نصب، كما أن ما وأيًّا في قولك: ما ينفقون، وأيًّا ينفقون، كذلك [[ساقطة من (ي).]]، وجواب هذا العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ما أنفقت؟ درهمًا، أي: أنفقت درهمًا. ومن رفع العفو جعل ذا [[في (ي): (إذا).]] بعد (ما) بمنزلة الذي، ورد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو، أي: الذي ينفقون العفو، فيضمن [[في (ش): (فيضمر) لحلها هي الصواب.]] المبتدأ الذي كان خبرًا في سؤال السائل، كما تقول في جواب ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد [[من "الحجة" 2/ 318 بتصرف.]]. قال أبو إسحاق: ويجوز أن تنصب ﴿الْعَفْوَ﴾ وإن كان (ما) وحدها اسمًا، تحمل (العفوَ) على ينفقون [[في (ي): (ما ينفقون).]]، كأنه قيل [[(قيل) ساقطة من (ش).]]: قل أنفقوا العفو، ويجوز [[في (ي): (فيجوز).]] أن يرفع العفو، وإن جعلت ما وذا بمنزلة شيء واحد، على معنى: قل هو العفو [[ذكره الزجاج 1/ 293.]]، والكلام في (ماذا) قد مر مستقصى [[ينظر ما تقدم.]]. وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أشار إلى ما بين في الإنفاق، كأنه قال: مثل الذي بينه لكم في الإنفاق إذ يقول: (قل العفو) يبين لكم الآيات لتتذكروا [[(لتتفكروا) في (ش)، وفي (ي): (تتفكروا).]] في أمر الدنيا والآخرة، فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا. وقيل: مثل البيان في الخمر والميسر يبين الله لكم الآيات [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 368 - 369، "بحر العلوم" 1/ 203، "تفسير الثعلبي" 2/ 900 - 901، "الكشاف" 1/ 263.]]. وقال: ﴿كَذَلِكَ﴾ وهو يخاطب جماعة؛ لأن الجماعة معناها القبيل، كأنه قال: كذلك أيها القبيل. وقد أتى القرآن في غير موضع (بذلك) للجماعة، قال الله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ﴾ ثم قال: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 30] والأصل: (ذلكن) [[في (ي) و (ش) و (م): (ولكن).]]، إلا أن الجماعة في معنى القبيل، وجائز أن يكون الكاف للنبي ﷺ، أي: كذلك أيها النبي يبين الله لكم الآيات؛ لأن خطاب النبي ﷺ مشتمل على خطاب أمته، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق:1] [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 293 - 294 بتصرف، "تفسير الثعلبي" 2/ 900.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب