الباحث القرآني

قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). فِيهِ تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ) [[راجع ص ٣٧ من هذا الجزء.]] السَّائِلُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَمْرُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ. وكل شي غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ "خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ" فَالْخَمْرُ تَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ تُغَطِّيهِ وَتَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ لَهُ: الْخَمَرُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَخَمَرَتِ الْأَرْضُ كَثُرَ خَمَرُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ أَيْ سِيرَا مُدِلِّينَ فَقَدْ جَاوَزْتُمَا الْوَهْدَةَ الَّتِي يَسْتَتِرُ بِهَا الذِّئْبُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ جَيْشًا يَمْشِي بِرَايَاتٍ وَجُيُوشٍ غَيْرَ مُسْتَخْفٍ: فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ [[العقبان (جمع عقاب): الرايات. وقوله: "بوجه الأرض" أي لا يمر بشيء إلا جعله جهة واحدة، فيكون وجهه مع وجهه حيث يذهب. وقوله: "يستاق الشجر" أي يمر بالرمث (مرعى من مراعى الإبل) والعرفج وسائر الشجر فيستاقه معه، يذهب به من كثرته. وفى ب "العقيان" بالياء، وقال: "العقيان الخالص من الذهب ويقال هو ما ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة" وكذا في ج.]] لَا يَمْشِي الْخَمَرْ ... يُوَجِّهُ الْأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَخَلَ فِي غُمَارِ النَّاسِ وَخُمَارِهِمْ، أَيْ هُوَ فِي مَكَانٍ خَافٍ. فَلَمَّا كَانَتِ الْخَمْرُ تَسْتُرُ الْعَقْلَ وَتُغَطِّيهِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ، كَمَا يُقَالُ: قَدِ اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، أَيْ بَلَغَ إِدْرَاكُهُ. وَخُمِرَ الرَّأْيُ، أَيْ تُرِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ، مِنَ الْمُخَامَرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَخَلْتُ فِي خُمَارِ النَّاسِ، أَيِ اخْتَلَطْتُ بِهِمْ. فَالْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ، فَالْخَمْرُ تُرِكَتْ وَخُمِرَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ، ثُمَّ خَالَطَتِ الْعَقْلَ، ثُمَّ خَمَرَتْهُ، وَالْأَصْلُ الستر. وَالْخَمْرُ: مَاءُ الْعِنَبِ الَّذِي غَلَى أَوْ طُبِخَ، وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِمَارَ كُلَّهُ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمَيْسِرُ مِنْ بَيْنِهِ فَجُعِلَ كُلُّهُ قِيَاسًا عَلَى الْمَيْسِرِ، وَالْمَيْسِرُ إِنَّمَا كَانَ قِمَارًا فِي الْجُزُرِ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ كَالْخَمْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا. الثَّانِيَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ فَمُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ فَهُوَ حَلَالٌ [[أي قليله.]]، وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ أَحَدٌ دُونَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْوُصُولَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ النَّظَرُ وَالْخَبَرُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ [[راجع ج ٦ ص ٢٨٥ وما بعدها، وج ١٠ ص ١٢٨ وما بعدها.]] "إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْبِرِّ إِلَّا أَعْطَاهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَمِنْ كَرَامَتِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمُ الشَّرَائِعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ، ثُمَّ بَعْدَهُ:" لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "ثُمَّ قَوْلُهُ:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ "ثُمَّ قَوْلُهُ:" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ "عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ". الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ الْمَيْسِرُ: قِمَارُ الْعَرَبِ بِالْأَزْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ وَأَهْلِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وعطاء وقتادة ومعاوية ابن صَالِحٍ وَطَاوُسٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عباس أيضا: كل شي فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ وَشِطْرَنْجٍ فَهُوَ الْمَيْسِرُ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَالْكِعَابِ [[الكعاب: فصوص النرد.]]، إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَالْقُرْعَةِ فِي إِفْرَازِ الْحُقُوقِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ مَالِكٌ: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ، فَمِنْ مَيْسِرِ اللَّهْوِ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا. وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْعَجَمِ. وَكُلُّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَسَيَأْتِي فِي" يُونُسَ [[راجع ج ٨ ص ٣٣٧ وما بعدها.]] " زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَيْسِرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيَسَرِ، وَهُوَ وُجُوبُ الشَّيْءِ لِصَاحِبِهِ، يُقَالُ: يَسَرَ لِي كَذَا إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِرُ يَسَرًا وَمَيْسِرًا. وَالْيَاسِرُ: اللَّاعِبُ بِالْقِدَاحِ، وَقَدْ يَسَرَ يَيْسِرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَعِنْهُمْ وَايْسِرْ بِمَا يَسَرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ: الْجَزُورُ الَّذِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ شي جَزَّأْتُهُ فَقَدْ يَسَرْتُهُ. وَالْيَاسِرُ: الْجَازِرُ، لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ. قَالَ: وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْيَاسِرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِينَ عَلَى الْجَزُورِ: يَاسِرُونَ، لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَيَسَرَ الْقَوْمُ الْجَزُورَ أَيِ اجْتَزَرُوهَا وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا. قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الْيَرْبُوعِيُّ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ [[تيأسوا (من يئس) بمعنى علم. وزهدم (كجعفر): اسم فرس.]] كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاءٌ فَضُرِبَ عَلَيْهِ بِالسِّهَامِ. وَيُقَالُ: يَسَرَ الْقَوْمُ إِذَا قَامَرُوا. وَرَجُلٌ يَسَرٌ وَيَاسِرٌ بِمَعْنًى. وَالْجَمْعُ أَيْسَارٌ، قَالَ النَّابِغَةُ: أَنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مَثْنَى الْأَيَادِي [[قوله: "مثنى الايادي" هو أن يعيد معروفه مرتين أو ثلاثا.]] وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الْأَدَمَا وَقَالَ طَرَفَةُ: وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا ... أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ [[الشتوة (واحد جمعه شتاء) والعرب تجعل الشتاء مجاعة، لان الناس يلتزمون فيه البيوت ولا يخرجون للانتجاع. وإبداء (جمع بدء): خير عظيم في الجزور. وقيل: هو خير نصيب فيها.]] أَبْدَاءَ الْجُزُرْ وَكَانَ مَنْ تَطَوَّعَ بِنَحْرِهَا مَمْدُوحًا عِنْدَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَنَاجِيَةٍ نَحَرْتُ لِقَوْمِ صِدْقٍ ... وما ناديت أيسار الجزور الْخَامِسَةُ- رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، حَيَوَانُهُ بِلَحْمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ [[المزابنة: بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر. وعند مالك: كل جزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود، أو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو بيع مجهول بمجهول من جنسه.]] وَالْغَرَرِ [[الغرر: بيع السمك في الماء والطير في الهواء. وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشترى وباطن مجهول. وقال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي يحيط بكنهها المتبايعان حتى تكون معلومة.]] وَالْقِمَارِ، لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى هَلْ فِي الْحَيَوَانِ مِثْلُ اللَّحْمِ الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، فَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ كَبَيْعِ اللَّحْمِ الْمُغَيَّبِ فِي جِلْدِهِ إِذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالْجِنْسُ الْوَاحِدُ عِنْدَهُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالظِّبَاءُ وَالْوُعُولُ وَسَائِرُ الْوُحُوشِ، وَذَوَاتُ الْأَرْبَعِ الْمَأْكُولَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُ جنس واحد، لا يجوز بيع شي مِنْ حَيَوَانِ هَذَا الصِّنْفِ وَالْجِنْسِ كُلِّهِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ لَحْمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ، كَبَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالطَّيْرُ عِنْدَهُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ الْحِيتَانُ مِنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَرَادَ وَحْدَهُ صنف. وقال الشافعي وأصحابه والليث ابن سَعْدٍ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ أَمْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، عَلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقُسِمَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْتُ أَعْلَمُ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ، يَعْنِي الشَّاةَ الْمَذْبُوحَةَ بِالْقَائِمَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَنَحْنُ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْقِيَاسُ وَاتُّبِعَ الْأَثَرُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلِلْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ حُجَجٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ، إلا أنه إذا صح الأثر بطل الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ نهى عن بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا أَعْلَمُهُ يَتَّصِلُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ، وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ افْتَقَدَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا صِحَاحًا. فَكَرِهَ بَيْعَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بِأَنْوَاعِ اللُّحُومِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَعُمُومِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَرٌ يَخُصُّهُ وَلَا إِجْمَاعٌ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُخَصَّ النَّصُّ بِالْقِيَاسِ. وَالْحَيَوَانُ عِنْدَهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْمَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ، كَالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَاعْلَمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ فِيهِما﴾ يَعْنِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ (إِثْمٌ كَبِيرٌ) إِثْمُ الْخَمْرِ مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّارِبِ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ وَالزُّورِ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ مَا يَجِبُ لِخَالِقِهِ، وَتَعْطِيلِ الصَّلَوَاتِ وَالتَّعَوُّقِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ، فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ. قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ كَأْسًا. قَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِمْ [[يرم (بفتح الياء وكسر الراء من رام يريم): أي فلم يبرح.]] حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ، إِلَّا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَعْشَى لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُسْلِمَ فَلَقِيَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يُرِيدُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَقَالُوا: لَا تَصِلُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُكَ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنَّ خِدْمَةَ الرَّبِّ وَاجِبَةٌ. فَقَالُوا: إِنَّهُ يَأْمُرُكَ بِإِعْطَاءِ المال إلى الفقراء. فقال: اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَاجِبٌ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الزِّنَى. فَقَالَ: هُوَ فُحْشٌ وَقَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ صِرْتُ شَيْخًا فَلَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَإِنِّي لَا أَصْبِرُ عَلَيْهِ! فَرَجَعَ، وَقَالَ: أَشْرَبُ الْخَمْرَ سَنَةً ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى سَقَطَ عَنِ الْبَعِيرِ فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ. وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ شَرَّابًا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ غَمَزَ عُكْنَةَ [[العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا.]] ابْنَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَسَبَّ أَبَوَيْهِ، وَرَأَى الْقَمَرَ فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، وَأَعْطَى الْخَمَّارَ كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهَا يَقُولُ: رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا ... وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي ... وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيَهَا ... وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لِأَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ قَالَهَا فِي تَرْكِهِ الْخَمْرَ، وَهُوَ الْقَائِلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا [[بالرفع، إما على إهمال "أن" وإما على أنها مخففة من الثقيلة.]] وَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ عَلَيْهَا مِرَارًا، وَنَفَاهُ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَلَحِقَ بِسَعْدٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَحْبِسَهُ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ أَحَدَ الشُّجْعَانِ الْبُهَمِ [[البهم (بضم ففتح جمع البهمة): الفارس الَّذِي لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ من شدة بأسه.]]، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي حَرْبِ الْقَادِسِيَّةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ حَلَّ قُيُودَهُ وَقَالَ: لَا نَجْلِدُكَ عَلَى الْخَمْرِ أَبَدًا. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا، فَلَمْ يَشْرَبْهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْ كُنْتُ أَشْرَبُهَا إِذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ [وأطهر منها [[زيادة عن كتاب "الاستيعاب".]]]، وأما إذ بهرجتني [[بهرجتني: أي أهدرتني بإسقاط الحد عنى.]] فو الله لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا. وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَأَى قَبْرَ أَبِي مِحْجَنٍ باذر بيجان، أَوْ قَالَ: فِي نَوَاحِي جُرْجَانَ، وَقَدْ نَبَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُ أُصُولِ كَرْمٍ وَقَدْ طَالَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَهِيَ مَعْرُوشَةٌ عَلَى قَبْرِهِ، وَمَكْتُوبٌ عَلَى الْقَبْرِ "هَذَا قَبْرُ أَبِي مِحْجَنٍ" قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَعَجَّبُ وَأَذْكُرُ قَوْلَهُ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الشَّارِبَ يَصِيرُ ضُحْكَةً لِلْعُقَلَاءِ، فَيَلْعَبُ بِبَوْلِهِ وَعَذِرَتِهِ، وَرُبَّمَا يَمْسَحُ وَجْهَهُ، حَتَّى رُئِيَ بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبَوْلِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ وَرُئِيَ بَعْضُهُمْ وَالْكَلْبُ يَلْحَسُ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْقِمَارُ فَيُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أَمَّا فِي الْخَمْرِ فَرِبْحُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنَ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ المماكسة فِيهَا، فَيَشْتَرِي طَالِبُ الْخَمْرِ الْخَمْرَ بِالثَّمَنِ الْغَالِي. هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَنْفَعَتِهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنَافِعِهَا: إِنَّهَا تَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَتُقَوِّي الضَّعْفَ، وَتُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَتُشَجِّعَ الْجَبَانَ، وَتَصُفِّي اللَّوْنَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّذَّةِ بِهَا. وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا [[النهنهة: الكف والمنع.]] اللِّقَاءُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَاحِهَا. وَقَالَ آخَرُ [[هو المنخل اليشكري.]]: فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ وَمَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ مَصِيرُ الشَّيْءِ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي الْقِمَارِ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، فَكَانُوا يَشْتَرُونَ الْجَزُورَ وَيَضْرِبُونَ بِسِهَامِهِمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ، وَمَنْ بَقِيَ سَهْمُهُ آخِرًا كَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْجَزُورِ كُلِّهِ وَلَا يَكُونُ له من اللحم شي. وَقِيلَ: مَنْفَعَتُهُ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْجَزُورِ وكان يفرقه في المحتاجين. وَسِهَامُ الْمَيْسِرِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، مِنْهَا سَبْعَةٌ لَهَا حُظُوظٌ وَفِيهَا فُرُوضٌ عَلَى عَدَدِ الْحُظُوظِ، وَهِيَ: "الْفَذُّ" وَفِيهِ عَلَامَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُ نَصِيبٌ وَعَلَيْهِ نَصِيبٌ إِنْ خَابَ. الثَّانِي- "التَّوْأَمُ" وَفِيهِ عَلَامَتَانِ وَلَهُ وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ. الثَّالِثُ- "الرَّقِيبُ" وَفِيهِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الرَّابِعُ- "الْحِلْسُ" وَلَهُ أَرْبَعٌ. الْخَامِسُ- "النَّافِزُ" وَالنَّافِسُ أَيْضًا وَلَهُ خَمْسٌ. السَّادِسُ- "الْمُسْبِلُ" وَلَهُ سِتٌّ. السَّابِعُ- "الْمُعَلَّى" وَلَهُ سَبْعٌ. فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْضًا، وَأَنْصِبَاءُ الْجَزُورِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ. وَبَقِيَ مِنَ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ الْأَغْفَالُ لَا فُرُوضَ لَهَا وَلَا أَنْصِبَاءَ، وَهِيَ: "الْمُصَدَّرُ" وَ "الْمُضَعَّفُ" وَ "الْمَنِيحُ" وَ "السَّفِيحُ". وَقِيلَ: الْبَاقِيَةُ الْأَغْفَالُ الثَّلَاثَةُ: "السَّفِيحُ" وَ "الْمَنِيحُ" وَ "الْوَغْدُ" تُزَادُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ عَلَى الَّذِي يُجِيلُهَا [[يجيلها: هو من أجال يجيل إجالة إذا حركها، أي يضع يده في الخريطة ويحركها مرتين أو ثلاثا.]] فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا. وَيُسَمَّى الْمُجِيلُ الْمُفِيضَ [[الإفاضة بالقداح: الضرب بها وإجالتها عند القمار.]] وَالضَّارِبَ وَالضَّرِيبَ وَالْجَمْعُ الضُّرَبَاءُ. وَقِيلَ: يُجْعَلُ خَلْفَهُ رَقِيبٌ لِئَلَّا يُحَابِي أَحَدًا، ثُمَّ يَجْثُو الضَّرِيبُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ وَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الرِّبَابَةِ [[سيذكر المؤلف رحمه الله تعالى معنى الربابة.]] فَيُخْرِجُ. وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَضْرِبَ الْجَزُورَ بِهَذِهِ السِّهَامِ فِي الشَّتْوَةِ وَضِيقِ الْوَقْتِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، يُشْتَرَى الْجَزُورُ وَيَضْمَنُ الْأَيْسَارُ ثَمَنَهَا وَيَرْضَى صَاحِبُهَا مِنْ حَقِّهِ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيُسَمُّونَهُ "الْبَرَمَ" قَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ: وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاءُ لِعُرْسِهِ ... إِذَا الْقَشْعُ مِنْ بَرْدِ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا» ثُمَّ تُنْحَرُ وَتُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قِسْمَةِ الْجَزُورِ، فَذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ حُظُوظِ السِّهَامِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُضْرَبُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَنْ فَازَ سَهْمُهُ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الرِّبَابَةِ مُتَقَدِّمًا أَخَذَ أَنْصِبَاءَهُ وَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ. وَالرِّبَابَةُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ): شَبِيهَةٌ بِالْكِنَانَةِ تُجْمَعُ فِيهَا سِهَامُ الْمَيْسِرِ، وَرُبَّمَا سَمَّوْا جَمِيعَ السِّهَامِ رِبَابَةً، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه: وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ [[يفيض: يدفع، ومنه الإفاضة. وصدعت الشيء: أظهرته وبينته.]] وَالرِّبَابَةُ أَيْضًا: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، قَالَ الشَّاعِرُ [[هو علقمة بن عبدة، كما في ديوانه.]]: وَكُنْتُ امْرَأً أَفَضْتُ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ [[ربتني أي ملكتني أرباب من الملوك فضعت حتى صرت إليك. والربوب (جمع رب): المالك.]] وَفِي أَحْيَانٍ رُبَّمَا تَقَامَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يَغْرَمُ الثَّمَنَ مَنْ لَمْ يَفُزْ سَهْمُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَعِيشُ بِهَذِهِ السِّيرَةِ فُقَرَاءُ الْحَيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: الْمُطْعِمُو الضَّيْفِ إِذَا مَا شَتَوْا ... وَالْجَاعِلُو الْقُوتِ عَلَى الْيَاسِرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ [[هو عمر بن قميئة، كما في تاج العروس واللسان، مادة "غلق".]]: بِأَيْدِيهِمْ مَقْرُومَةٌ [[المقرومة: الموسومة بالعلامات. والمغالق قداح الميسر. وقيل: المغالق من نعوت قداح الميسر التي يكون لها الفوز، وليست المغالق من أسمائها، وهى التي تغلق الخطر فتوجبه للمقامر الفائز، كما يغلق الرهن لمستحقه. (عن اللسان).]] وَمَغَالِقُ ... يَعُودُ بِأَرْزَاقِ الْعُفَاةِ [[كذا في الأصول. والعفاة: الأضياف وطلاب المعروف. والذي في اللسان وتاج العروس: "العيال".]] مَنِيحُهَا وَ "الْمَنِيحُ" فِي هَذَا الْبَيْتِ الْمُسْتَمْنِحُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيرُونَ السَّهْمَ الَّذِي قَدِ امَّلَسَ وَكَثُرَ فَوْزُهُ، فَذَلِكَ الْمَنِيحُ الْمَمْدُوحُ. وَأَمَّا الْمَنِيحُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَغْفَالِ فَذَلِكَ إِنَّمَا يُوصَفُ بِالْكَرِّ، وَإِيَّاهُ أَرَادَ الْأَخْطَلُ [[في الأصول: "جرير" والتصويب عن ديوان الأخطل. والبيت من قصيدة يهجو بها جريرا مطلعها: كذبتك عينك أم رأيت بواسط راجع ديوانه ص ٤١ طبع بيروت.]] بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً ... كَرَّ الْمَنِيحِ وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا وَفِي الصِّحَاحِ: "وَالْمَنِيحُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْمَيْسِرِ مِمَّا لَا نَصِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُمْنَحَ صَاحِبُهُ شَيْئًا". وَمِنَ الْمَيْسِرِ قَوْلُ لَبِيدٍ [[كذا في الأصول. والذي في كتاب "الميسر والقداح" لابن قتيبة والمفضليات أنه للمرقش الأكبر، وهو من قصيدة له، مطلعها: ألا بان جيراني ولست بعائف راجع المفضليات ص ٤٧٤ طبع أوربا.]]: إِذَا يَسَرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ ... فَوَاحِشَ ينعى ذكرها بالمصائف فَهَذَا كُلُّهُ نَفْعُ الْمَيْسِرِ، إِلَّا أَنَّهُ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ: الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما﴾ أعلم الله عز وجل أَنَّ الْإِثْمَ أَكْبَرُ مِنَ النَّفْعِ، وَأَعْوَدُ بِالضَّرَرِ فِي الْآخِرَةِ، فَالْإِثْمُ الْكَبِيرُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنَافِعُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "كَثِيرٌ" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَعَنَ الْخَمْرَ وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَةً: بَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ وَعَاصِرَهَا وَالْمَعْصُورَةَ لَهُ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ وَآكِلَ ثَمَنِهَا. وَأَيْضًا فَجَمْعُ الْمَنَافِعِ يَحْسُنُ مَعَهُ جَمْعُ الْآثَامِ. وَ "كَثِيرٌ" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ يُعْطِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ بَاقِي الْقُرَّاءِ وَجُمْهُورُ النَّاسِ "كَبِيرٌ" بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الذَّنْبَ فِي الْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَوَصْفُهُ بِالْكَبِيرِ أَلْيَقُ. وَأَيْضًا فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى "أَكْبَرُ" حُجَّةٌ لِ "كَبِيرٌ" بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى رَفْضِ "أَكْثَرُ" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، إِلَّا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّ فِيهِ "قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَثِيرٌ" "وَإِثْمُهُمَا أَكْثَرُ" بِالثَّاءِ مُثَلَّثَةً فِي الْحَرْفَيْنِ. التَّاسِعَةُ- قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ:" قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [[آية ٣٣ سورة الأعراف.]] "فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا إِثْمًا فَهُوَ حَرَامٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ هَذَا النَّظَرُ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْإِثْمَ الَّذِي فِيهَا هُوَ الْحَرَامُ، لَا هِيَ بِعَيْنِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا النَّظَرُ. قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ إِثْمًا، وَقَدْ حُرِّمَ الْإِثْمُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِثْمُ أَرَادَ بِهِ الْخَمْرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ الْخَمْرَ إِثْمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: "قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ" وَلَمْ يَقُلْ: قُلْ هُمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ. وَأَمَّا آية "الأعراف" وبئت الشِّعْرِ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا هُنَاكَ مُبَيَّنًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا في هذه الْآيَةِ ذَمُّ الْخَمْرِ، فَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَيُعْلَمُ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ آيَةُ "الْمَائِدَةِ" وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ المفسرين. قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِالرَّفْعِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَبِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: إِنْ جَعَلْتَ "ذَا" بِمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاخْتِيَارُ الرَّفْعَ، عَلَى مَعْنَى: الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْوُ، وَجَازَ النَّصْبُ. وَإِنْ جَعَلْتَ "مَا" وَ "ذَا" شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِيَارُ النَّصْبَ، عَلَى مَعْنَى: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَجَازَ الرَّفْعُ. وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ: مَاذَا تَعَلَّمْتَ: أَنَحْوًا أَمْ شِعْرًا؟ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُمَا جَيِّدَانِ حَسَنَانِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي الْآيَةِ عَلَى النَّصْبِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ فِي الآية المتقدمة في قوله تعالى: "وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ" سُؤَالًا عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى مَنْ تُصْرَفُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَالْجَوَابُ خَرَجَ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، كَانَ السُّؤَالُ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ قَدْرِ الْإِنْفَاقِ، وَهُوَ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ "قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ" قَالَ: كَمْ أُنْفِقُ؟ فَنَزَلَ "قُلِ الْعَفْوَ" وَالْعَفْوُ: مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ وَفَضَلَ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى الْقَلْبِ إِخْرَاجُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ فَالْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجِكُمْ، وَلَمْ تُؤْذُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ فَتَكُونُوا عَالَةً، هَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْقُرَظِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: الْعَفْوُ مَا فَضَلَ عَنِ الْعِيَالِ، وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَدَقَةٌ عَنْ ظَهْرِ [[قال ابن الأثير: "والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال".]] غِنًى، وَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أُنْفِقَتْ عَنْ غنى" وفى حديث آخَرَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى". وَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: هَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: بَلْ هِيَ نَفَقَاتُ التَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ نَظَرَ إِلَى مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ لِنَفَقَةِ سَنَةٍ أَمْسَكَهُ وَتَصَدَّقَ بِسَائِرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ أَمْسَكَ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ يَوْمًا وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ وَكُلَّ صَدَقَةٍ أُمِرُوا بِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ. وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ﴾ قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: أَيْ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فَتَحْبِسُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِي فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا فَتَزْهَدُونَ فِيهَا، وَفِي إِقْبَالِ الْآخِرَةِ وبقائها فترغبون فيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب