الباحث القرآني
ولَمّا كانَ الشَّرابُ مِمّا أُذِنَ فِيهِ في لَيْلِ الصِّيامِ وكانَ غالِبُ شَرابِهِمُ النَّبِيذَ مِنَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ وكانَتْ بِلادُهم حارَّةً فَكانَ رُبَّما اشْتَدَّ فَكانَ عائِقًا عَنِ العِبادَةِ لا سِيَّما الجِهادَ لِأنَّ السَّكْرانَ لا يُنْتَفَعُ بِهِ في رَأْيٍ ولا بَطْشٍ ولَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا في إقامَةِ البَدَنِ كالطَّعامِ آخِرَ بَيانِهِ إلى أنْ فَرَغَ مِمّا هو أوْلى مِنهُ بِالإعْلامِ وخَتَمَ الآياتِ المُتَخَلِّلَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ آياتِ الإذْنِ بِما بَدَأها بِهِ مِنَ الجِهادِ ونَصَّ فِيها عَلى أنَّ فاعِلَ أجَدِّ الجِدِّ وأُمَّهاتِ الأطايِبِ مِنَ الجِهادِ وما ذَكَرَ مَعَهُ في مَحَلِّ الرَّجاءِ لِلرَّحْمَةِ فاقْتَضى الحالُ السُّؤالَ: هَلْ سَألُوا عَنْ أهْزَلِ الهَزْلِ وأُمَّهاتِ الخَبائِثِ؟ فَقالَ مُعَلِّمًا بِسُؤالِهِمْ عَنْهُ مُبَيِّنًا لِما اقْتَضاهُ الحالُ مِن حِلْمِهِ فَيَبْقى ما عَداهُ عَلى الإباحَةِ المَحْضَةِ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ﴾ الَّذِي هو أحَدُ ما غَنِمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في سُرِّيَّتِهِ الَّتِي أُنْزِلَتِ (p-٢٤٠)الآياتُ السّالِفَةُ بِسَبَبِها.
قالَ الحَرالِيُّ: وهو مِمّا مِنهُ الخَمَرُ - بِفَتْحِ المِيمِ - وهو ما وارى مِن شَجَرٍ ونَحْوِهِ، فالخَمْرُ - بِالسُّكُونِ - فِيما يَسْتَبْطِنُ بِمَنزِلَةِ الخَمَرِ - بِالفَتْحِ - فِيما يَسْتَظْهِرُ، كَأنَّ الخَمْرَ يُوارِي ما بَيْنَ العَقْلِ المُسْتَبْصِرِ مِنَ الإنْسانِ وبَهِيمِيَّتِهِ العَجْماءِ، وهي ما أسْكَرَ مِن أيِّ شَرابٍ كانَ سَواءٌ فِيهِ القَلِيلُ والكَثِيرُ ﴿والمَيْسِرِ﴾
قالَ الحَرالِيُّ: اسْمُ مُقامَرَةٍ كانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَعْمَلُ بِها لِقَصْدِ انْتِفاعِ الضُّعَفاءِ وتَحْصِيلِ ظَفَرِ المُغالَبَةِ - انْتَهى.
وقَرَنَهُما سُبْحانَهُ وتَعالى لِتَآخِيهِما في الضَّرَرِ بِالجِهادِ وغَيْرِهِ (p-٢٤١)بِإذْهابِ المالِ مَجّانًا عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ما بَيَّنَ سُبْحانِهِ وتَعالى مِنَ المُؤاخاةِ بَيْنَهُما هُنا وفي المائِدَةِ وإنْ كانَ سُبْحانَهُ وتَعالى اقْتَصَرَ هُنا عَلى ضَرَرِ الدِّينِ وهو الإثْمُ لِأنَّهُ أُسٌّ يَتْبَعُهُ كُلُّ ضَرَرٍ فَقالَ في الجَوابِ: ﴿قُلْ فِيهِما﴾ أيْ في اسْتِعْمالِهِما ﴿إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ لِما فِيهِما مِنَ المُساوِي المُنابِذَةِ لِمَحاسِنِ الشَّرْعِ مِنَ الكَذِبِ والشَّتْمِ وزَوالِ العَقْلِ واسْتِحْلالِ مالِ الغَيْرِ فَهَذا مُثْبِتٌ لِلتَّحْرِيمِ بِإثْباتِ الإثْمِ ولِأنَّهُما مِنَ الكَبائِرِ.
قالَ الحَرالِيُّ: في قِراءَتَيِ الباءِ المُوَحَّدَةِ والمُثَلَّثَةِ إنْباءٌ عَنْ مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ مِن كِبَرِ المِقْدارِ وكَثْرَةِ العَدَدِ وواحِدٌ مِن هَذَيْنِ مِمّا يَصُدُّ ذا الطَّبْعِ الكَرِيمِ والعَقْلِ الرَّصِينِ عَنِ الإقْدامِ عَلَيْهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَنِ الإثْمِ الصَّغِيرِ القَلِيلِ فَكَيْفَ عَنِ الكَبِيرِ الكَثِيرِ - انْتَهى.
﴿ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ يَرْتَكِبُونَهُما لِأجْلِها مِنَ التِّجارَةِ في الخَمْرِ واللَّذَّةِ بِشُرْبِها، ومِن أخْذِ (p-٢٤٢)المالِ الكَثِيرِ في المَيْسِرِ وانْتِفاعِ الفُقَراءِ وسَلْبِ الأمْوالِ والِافْتِخارِ عَلى الأبْرامِ والتَّوَصُّلِ بِهِما إلى مُصادَقاتِ الفِتْيانِ ومُعاشَراتِهِمْ والنَّيْلِ مِن مَطاعِمِهِمْ ومَشارِبِهِمْ وأُعْطِيّاتِهِمْ ودَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ فَكَيْفَ ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ وفي هَذا كَما قالَ الحَرالِيُّ تَنْبِيهٌ عَلى النَّظَرِ في تَفاوُتِ الخَيْرَيْنِ وتَفاوُتِ الشَّرَّيْنِ - انْتَهى.
قالَ أبُو حاتِمٍ أحْمَدُ بْنُ أحْمَدَ الرّازِيُّ في كِتابِ الزِّينَةِ: وقالَ بَعْضُ أهْلِ المَعْرِفَةِ: والنَّفْعُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ في المَيْسِرِ أنَّ العَرَبَ في الشِّتاءِ والجَدْبِ كانُوا يَتَقامَرُونَ بِالقِداحِ عَلى الإبِلِ ثُمَّ يَجْعَلُونَ لُحُومَها لِذَوِي الفَقْرِ والحاجَةِ فانْتَفَعُوا واعْتَدَلَتْ أحْوالُهُمْ؛ قالَ الأعْشى في ذَلِكَ:
؎المُطْعِمُو الضَّيْفِ إذا ما شَتُّوا والجاعِلُو القُوتِ عَلى الياسِرِ
انْتَهى.
وقالَ غَيْرُهُ: وكانُوا يَدْفَعُونَها لِلْفُقَراءِ ولا يَأْكُلُونَ مِنها ويَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ ويَذُمُّونَ مَن لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ويُسَمُّونَهُ البَرِمَ، وبَيانَ المُرادِ مِنَ المَيْسِرِ عَزِيزُ الوُجُودِ مُجْتَمًّا وقَدِ اسْتَقْصَيْتُ ما قَدَرْتُ عَلَيْهِ (p-٢٤٣)مِنهُ إتْمامًا لِلْفائِدَةِ قالَ المُجِدُّ الفَيْرُوزُ آبادِيُّ في قامُوسِهِ: والمَيْسِرُ اللَّعِبُ بِالقِداحِ، يَسَرَ يَيْسَرُ، أوِ الجَزُورُ الَّتِي كانُوا يَتَقامَرُونَ عَلَيْها، أوِ النَّرْدُ أوْ كُلُّ قِمارٍ - انْتَهى.
وقالَ صاحِبُ كِتابِ الزِّينَةِ: وجَمْعُ الياسِرِ يُسُرٌ وجَمْعُ اليُسْرِ أيْسارٌ فَهو جَمْعُ الجَمْعِ مِثْلُ حارِسٍ وحَرَسٍ وأحْراسٍ - انْتَهى. والقِمارُ كُلُّ مُراهَنَةٍ عَلى غَرَرٍ مَحْضٍ وكَأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ القَمَرِ آيَةِ اللَّيْلِ، لِأنَّهُ يَزِيدُ مالَ المُقامِرِ تارَةً ويَنْقُصُهُ أُخْرى كَما يَزِيدُ القَمَرُ ويَنْقُصُ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدٍ الهَرَوِيُّ في الغَرِيبَيْنِ وعَبْدُ الحَقِّ الإشْبِيلِيُّ في كِتابِهِ الواعِي: قالَ مُجاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمارٌ فَهو المُيْسِرُ حَتّى لَعِبُ الصِّبْيانِ بِالجَوْزِ، وفي تَفْسِيرِ الأصْبَهانِيِّ عَنِ الشّافِعِيِّ: إنَّ المَيْسِرَ ما يُوجِبُ دَفْعَ مالٍ أوْ أخْذَ مالٍ، فَإذا خَلا (p-٢٤٤)الشِّطْرَنْجَ عَنِ الرِّهانِ واللِّسانَ عَنِ الطُّغْيانِ والصَّلاةَ عَنِ النِّسْيانِ لَمْ يَكُنْ مَيْسِرًا.
وقالَ الأزْهَرِيُّ: المَيْسِرُ الجَزُورُ الَّذِي كانُوا يَتَقامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا لِأنَّهُ يُجَزَّأُ أجْزاءً فَكَأنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وكُلُّ شَيْءٍ جَزَّأْتَهُ فَقَدْ يَسَّرَتْهُ، والياسِرُ الجازِرُ لِأنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الجَزُورِ، قالَ وهَذا الأصْلُ في الياسِرِ ثُمَّ يُقالُ لِلضّارِبِينَ بِالقِداحِ والمُتَقامِرِينَ عَلى الجَزُورِ: ياسِرُونَ، لِأنَّهم جازِرُونَ إذْ كانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ، ويُقالُ: يَسَرَ القَوْمُ - إذا قامَرُوا، ورَجُلٌ يَسِرٌ وياسِرٌ والجَمْعُ أيْسارٌ؛ القَزّازُ: فَأنْتَ ياسِرٌ وهو مَيْسُورٌ بِرَجْعٍ والمَفْعُولُ مَيْسُورٌ - يَعْنِي الجَزُورَ، وأيْسارٌ جَمْعُ يُسْرٍ ويُسْرٌ جَمْعٌ ياسِرٍ، وقالَ القَزّازُ: واليُسْرُ القَوْمُ الَّذِينَ (p-٢٤٥)يَتَقامَرُونَ عَلى الجَزُورِ، واحِدُهم ياسِرٌ كَما تَقُولُ: غائِبٌ وغُيَّبٌ، ثُمَّ يُجْمَعُ أيْسُرٌ فَيُقالُ: أيْسارٌ، فَيَكُونُ الأيْسارُ جَمْعَ الجَمْعِ، ويُقالُ لِلضّارِبِ بِالقِداحِ: يُسْرٌ، والجَمْعُ أيْسارٌ، ويُقالُ لِلنَّرْدِ: مَيْسِرٌ، لِأنَّهُ يُضْرَبُ عَلَيْها كَما يُضْرَبُ عَلى الجَزُورِ، ولا يُقالُ ذَلِكَ في الشِّطْرَنْجِ لِمُفارَقَتِها ذَلِكَ المَعْنى؛ وقالَ عَبْدُ الحَقِّ في الواعِي: والمَيْسِرُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ؛ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: كانَ أمْرُ المُيْسِرِ أنَّهم كانُوا يَشْتَرُونَ جَزُورًا فَيَنْحَرُونَها ثُمَّ يُجَزِّئُونَها أجْزاءً، قالَ أبُو عَمْرٍو: عَلى عَشَرَةِ أجْزاءٍ، وقالَ الأصْمَعِيُّ: عَلى ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ جُزْءًا، ثُمَّ يُسْهِمُونَ عَلَيْها بِعَشَرَةِ قِداحٍ، لِسَبْعَةٍ مِنها أنْصِباءُ وهي الفَذُّ والتَّوْأمُ والرَّقِيبُ والحِلْسُ والنّافِسُ والمُسْبِلُ (p-٢٤٦)والمُعْلِي، وثَلاثَةٌ مِنها لَيْسَ لَها أنْصِباءُ وهي المَنِيحُ والسَّفِيحُ والوَغْدُ، ثُمَّ يَجْعَلُونَها عَلى يَدِ رَجُلٍ عَدْلٍ عِنْدَهم يُجِيلُها لَهم بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، ثُمَّ يُقَسِّمُونَها عَلى قَدْرِ ما يَخْرُجُ لَهُمُ السِّهامُ، فَمَن خَرَجَ سَهْمُهُ مِن هَذِهِ السَّبْعَةِ أخَذَ مِنَ الأجْزاءِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ، ومَن خَرَجَ لَهُ واحِدٌ مِنَ الثَّلاثَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في هَذا المَوْضِعِ فَقالَ بَعْضُهُمْ: مَن خَرَجَتْ بِاسْمِهِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا ولَمْ يُغَرَّمْ ولَكِنْ تُعادُ الثّانِيَةُ ولا يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ ويَكُونُ لَغْوًا؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَصِيرُ (p-٢٤٧)ثَمَنُ الجَزُورِ كُلُّهُ عَلى أصْحابِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ فَيَكُونُونَ مَقْمُورِينَ ويَأْخُذُ أصْحابُ السَّبْعَةِ أنْصِباءَ عَلى ما خَرَجَ لَهم فَهَؤُلاءِ الياسِرُونَ.
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: ولَمْ أجِدْ عُلَماءَنا يَسْتَقْصُونَ عِلْمَ مَعْرِفَةِ هَذا ولا يَدَّعُونَهُ، ورَأيْتُ أبا عُبَيْدَةَ أقَلَّهَمُ ادِّعاءً لَهُ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: وقَدْ سَألْتُ عَنْهُ الأعْرابَ فَقالُوا: لا عِلْمَ لَنا بِهَذا، هَذا شَيْءٌ قَدْ قَطَعَهُ الإسْلامُ مُنْذُ جاءَ فَلَسْنا نَدْرِي كَيْفَ كانُوا يَيْسِرُونَ.
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وإنَّما كانَ هَذا مِنهم في أهْلِ الشَّرَفِ والثَّرْوَةِ والجَدَّةِ - انْتَهى. ولَعَلَّ هَذا سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ مَيْسِرًا. وقالَ صاحِبُ الزِّينَةِ: فالَّتِي لَها الغُنْمُ وعَلَيْها الغُرْمُ أيْ مِنَ السِّهامِ يُقالُ لَها: مَوْسُومَةٌ، لِأجْلِ الفُرُوضِ فَإنَّها بِمَنزِلَةِ السِّمَةِ، ويَكُونُ عَدَدُ الأيْسارِ سَبْعَةَ أنْفُسٍ يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ قَدَحًا، ورُبَّما نَقَصَ عَدَدُ الرِّجالِ عَنِ السَّبْعَةِ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنهم قَدَحَيْنِ، فَإذا فَعَلَ ذَلِكَ مُدِحَ بِهِ وسُمِّيَ مَثْنى الأيادِي، قالَ النّابِغَةُ:
؎إنِّي أُتَمِّمُ إيثارِي وأمْنَحُهم ∗∗∗ مَثْنى الأيادِي وأكْسُو الحَفْنَةَ الأُدْما
وقالَ: ويُقالُ لِلَّذِي يَضْرِبُ بِالقِداحِ: حُرْضَةٌ، وإنَّما سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ رَجُلٌ يُجِيلُ لا يَدْخُلُ مَعَ الأيْسارِ ولا يَأْخُذُ نَصِيبًا ولِذَلِكَ يَخْتارُونَهُ (p-٢٤٨)لِأنَّهُ لا غُنْمَ لَهُ ولا غُرْمَ عَلَيْهِ، والَّذِي لا يَضْرِبُ القِداحَ ولا يَدْخُلُ مَعَ الأيْسارِ في شَيْءٍ مِن أُمُورِهِمْ يُقالُ لَهُ: البَرِمُ، وتُجْمَعُ القِداحُ في جِلْدَةٍ، وقالَ بَعْضُهُمْ: في خِرْقَةٍ، وتُسَمّى تِلْكَ الجِلْدَةُ الرِّبابَةَ، أيْ بِكَسْرِ الرّاءِ المُهْمَلَةِ ومُوَحَّدَتَيْنِ، ثُمَّ تُجْمَعُ أطْرافُها ويُعْدَلُ بَيْنَها وتُكْسى يَدُهُ أدِيمًا لِكَيْ لا يَجِدَ مَسَّ قَدَحٍ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ وتُشَدُّ عَيْناهُ، فَيَجْمَعُ أصابِعَهُ عَلَيْها ويَضُمُّها كَهَيْئَةِ الضِّغْثِ ثُمَّ يَضْرِبُ رُؤُوسَها بِحاقِّ راحَتِهِ فَأيُّها طَلَعَ مِنَ الرِّبابَةِ كانَ فائِزًا؛ قالَ: وقالَ غَيْرُهُ: تَكُونُ الرِّبابَةُ شِبْهَ الخَرِيطَةِ تُجْمَعُ فِيها القِداحُ ثُمَّ يُؤْمَرُ الحُرْضَةُ أنْ يُجِيلَها، فَمِنها ما يَعْتَرِضُ في الرِّبابَةِ فَلا يَخْرُجُ ومِنها ما لا يَعْتَرِضُ فَيَطْلُعُ، فَذاكَ يَكُونُ فائِزًا، ويَقْعُدُ رَجُلٌ أمِينٌ عَلى الحُرْضَةِ يُقالُ لَهُ: الرَّقِيبُ، ويُقالُ لِلَّذِي يَضْرِبُ بِالقِداحِ: مُفِيضٌ، والإفاضَةُ الدَّفْعُ وهو أنْ يَدْفَعَها دُفْعَةً واحِدَةً إلى قُدّامَ ويُجِيلُها لِيَخْرُجَ مِنها قَدَحٌ؛ وكَذَلِكَ الإفاضَةُ مِن عَرَفَةَ هو الدَّفْعُ مِنها إلى جَمْعٍ - انْتَهى.
وقالَ في القامُوسِ: كانُوا إذا أرادُوا أنْ يَيْسِرُوا اشْتَرَوْا جَزُورًا نَسِيئَةً ونَحَرُوهُ قَبْلَ أنْ يَيْسِرُوا وقَسَّمُوهُ (p-٢٤٩)ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ سَهْمًا أوْ عَشَرَةَ أقْسامٍ، فَإذا خَرَجَ واحِدٌ واحِدٌ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ ظَهَرَ فَوْزُ مَن خَرَجَ لَهم ذَواتُ الأنْصِباءِ وغُرِّمَ مَن خَرَجَ لَهُ الغَفْلُ - انْتَهى.
وقالَ عَبْدُ الغافِرِ الفارِسِيُّ في مَجْمَعِ الغَرائِبِ: الياسِرُ هو الضّارِبُ في القِداحِ، وهو مِنَ المَيْسِرِ وهو القِمارُ الَّذِي كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ، وكانُوا يَتَقامَرُونَ عَلى الجَزُورِ أوْ غَيْرِهِ ويُجَزِّئُونَهُ أجْزاءً ويُسْهِمُونَ عَلَيْها مَثَلًا بِعَشَرَةِ لِسَبْعَةٍ مِنها أنْصِباءُ وهي الفَذُّ - إلى آخِرِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ، فَمَن خَرَجَ سَهْمُهُ مِنَ السَّبْعَةِ أخَذَ بِحِصَّتِهِ، ومَن خَرَجَ لَهُ واحِدٌ مِنَ الثَّلاثَةِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا؛ ولَهم في ذَلِكَ مَذاهِبُ ما عَرَفَها أهْلُ الإسْلامِ ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ عَلى ثَبْتٍ في كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ - انْتَهى.
هَذا ما قالُوهُ في مادَّةِ يَسَرَ وقَدْ نَظَمْتُ أسْماءَ القِداحِ تَسْهِيلًا لِحِفْظِها في قَوْلِي:
؎الفَذُّ والتَّوْأمُ والرَّقِيبُ ∗∗∗ والحِلْسُ والنّافِسُ يا ضَرِيبُ
؎ومُسْبِلٌ مَعَ المُعَلّى عَدْوًا ∗∗∗ ثُمَّ مَنِيحٌ وسَفِيحٌ وغْدُ
وأمّا ما قالُوهُ في مادَّةِ كُلِّ اسْمٍ مِنها فَقالَ في القامُوسِ: الفَذُّ أيْ بِفَتْحِ الفاءِ وتَشْدِيدِ الذّالِ المُعْجَمَةِ: أوَّلُ سِهامِ المَيْسِرِ، والتَّوْأمُ أيْ (p-٢٥٠)بِفَتْحِ الفَوْقانِيَّةِ المُبْدَلَةِ مِنَ الواوِ وإسْكانِ الواوِ وفَتْحِ الهَمْزَةِ - وزْنَ كَوْكَبٍ: سَهْمٌ مِن سِهامِ المَيْسِرِ أوْ ثانِيها، والرَّقِيبُ أمِينُ أصْحابِ المَيْسِرِ أوِ الأمِينُ عَلى الضَّرِيبِ والثّالِثُ مِن قِداحِ المَيْسِرِ، وقالَ في مادَّةِ ضَرَبَ: والضَّرِيبُ المُوكَلُ بِالقِداحِ أوِ الَّذِي يَضْرِبُ بِها كالضّارِبِ والقَدَحُ الثّالِثِ؛ وقالَ في الجَمْعِ بَيْنَ العُبابِ والمُحْكَمِ: والرَّقِيبُ الحافِظُ ورَقِيبُ القِداحِ الأمِينُ عَلى الضَّرِيبِ، وقِيلَ: هو أمِينُ أصْحابِ المَيْسِرِ، وقِيلَ: هو الرَّجُلُ الَّذِي يَقُومُ خَلْفَ الحُرْضَةِ في المَيْسِرِ ومَعْناهُ كُلُّهُ سَواءٌ، وإنَّما قِيلَ لِلْعَيُّوقِ: رَقِيبُ الثُّرَيّا، تَشْبِيهًا بِرَقِيبِ المَيْسِرِ، والرَّقِيبِ الثّالِثِ مِن قِداحِ المَيْسِرِ، وفِيهِ ثَلاثَةُ فُرُوضٍ، ولَهُ غُنْمُ ثَلاثَةِ أنْصِباءَ إنْ فازَ، وعَلَيْهِ غُرْمُ ثَلاثَةٍ إنْ لَمْ يَفُزْ؛ وقالَ في مادَّةِ ضَرَبَ: وضَرَبَ بِالقِداحِ والضَّرِيبُ المُوكَلُ بِالقِداحِ، وقِيلَ: الَّذِي يَضْرِبُ بِها، قالَ سِيبَوَيْهِ: فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، والضَّرِيبُ القَدَحُ الثّالِثُ مِن قِداحِ المَيْسِرِ، قالَ اللِّحْيانِيُّ: وهو الَّذِي يُسَمّى الرَّقِيبَ، قالَ: وفِيهِ ثَلاثَةُ فُرُوضٍ إلى آخِرِ ما في الرَّقِيبِ؛ وقالَ في القامُوسِ: والحُرْضَةُ أيْ بِضَمِّ المُهْمَلَةِ وإسْكانِ المُهْمَلَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ أمِينُ المُقامِرِينَ، (p-٢٥١)والحِلْسُ بِكَسْرِ المُهْمَلَةِ وإسْكانِ اللّامِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وكَكَتِفٍ الرّابِعُ مِن سِهامِ المَيْسِرِ، والنّافِسُ بِنُونٍ وفاءٍ مَكْسُورَةٍ ومُهْمَلَةٍ اسْمُ فاعِلٍ خامِسُ سِهامِ المَيْسِرِ، ومُسْبِلٌ أيْ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ومُوَحَّدَةٍ قالَ: بِوَزْنِ مُحْسِنٍ، السّادِسُ أوِ الخامِسُ مِن قِداحِ المَيْسِرِ؛ وقالَ في مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ: وهو المُصَفَّحُ أيْضًا يَعْنِي بِفَتْحِ الفاءِ، والمُعَلّى كَمُعَظَّمٍ سابِعُ سِهامِ المَيْسِرِ، والمَنِيحُ كَأمِيرٍ أيْ بِنُونٍ وآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ قَدَحٌ بِلا نَصِيبٍ، والسَّفِيحُ أيْ بِوَزْنِهِ وبِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ فاءٍ وآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ قَدَحٌ مِنَ المَيْسِرِ لا نَصِيبَ لَهُ، والوَغْدُ أيْ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونِ المُعْجَمَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ الأحْمَقُ الضَّعِيفُ الرَّذْلِ الدَّنِيءُ وقَدَحٌ لا نَصِيبَ لَهُ؛ وقالَ صاحِبُ الزِّينَةِ: وكانُوا يَبْتاعُونَ الجَزُورَ ويَتَضَمَّنُونَ ثَمَنَهُ ثُمَّ يَضْرِبُونَ بِالقِداحِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْحَرُونَهُ ويُقَسِّمُونَهُ عَشَرَةَ أجْزاءٍ عَلى ما حَكاهُ أكْثَرُ عُلَماءِ اللُّغَةِ، ثُمَّ يُجِيلُونَ عَلَيْها القِداحَ فَإنْ خَرَجَ المُعَلّى أخَذَ صاحِبُهُ سَبْعَةُ أنْصِباءَ ونَجا مِنَ الغُرْمِ، ثُمَّ يُجِيلُونَ عَلَيْها ثانِيًا فَإنْ خَرَجَ الرَّقِيبُ أخَذَ صاحِبُهُ ثَلاثَةَ أنْصِباءَ ونَجا مِنَ الغُرْمِ، ثُمَّ يُجِيلُونَ عَلَيْها ثانِيًا فَإنْ خَرَجَ الرَّقِيبُ أخَذَ صاحِبُهُ ثَلاثَةَ أنْصِباءَ ونَجا مِنَ الغُرْمِ ونَفِدَتْ أجْزاءُ الجَزُورِ، وغُرِّمَ الباقُونَ عَلى عَدَدِ أنْصِبائِهِمْ فَغُرِّمَ صاحِبُ الفَذِّ نَصِيبًا واحِدًا وصاحِبُ التَّوْأمِ نَصِيبَيْنِ فَعَلى (p-٢٥٢)ذَلِكَ يُقَسِّمُونَ الغُرْمَ بَيْنَهم.
وذُكِرَ عَنِ الأصْمَعِيِّ أنَّهُ قالَ: كانُوا يُقَسِّمُونَ الجَزُورَ عَلى ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ جُزْءًا: لِلْفَذِّ جُزْءٌ، ولِلتَّوْأمِ جُزْءانِ، ولِلرَّقِيبِ ثَلاثَةُ أجْزاءٍ - فَعَلى هَذا حَتّى تَبْلُغَ ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ جُزْءًا؛ وخالَفَهُ في ذَلِكَ أكْثَرُ العُلَماءِ وخَطَّؤُوهُ وقالُوا: إذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وأخَذَ كُلٌّ قَدَحَ نَصِيبِهِ لَمْ يَبْقَ هُنالِكَ غُرْمٌ فَلا يَكُونُ إذًا قامَرٌ ولا مَقْمُورٌ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالُوا لِأجْزاءِ الجَزُورِ: أعْشارٌ، لِأنَّها عَشَرَةُ أجْزاءٍ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
؎وما ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلّا لِتَضْرِبِي ∗∗∗ بِسَهْمَيْكِ في أعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
جَعَلَ القَلْبَ بَدَلًا لِأعْشارِ الجَزُورِ وجَعَلَ العَيْنَيْنِ مَثَلًا لِلْقَدَحَيْنِ أيْ سَبَتْ قَلْبَهُ فَفازَتْ بِهِ كَما يَفُوزُ صاحِبُ المُعَلّى والرَّقِيبِ؛ وقالَ القَزّازُ في التّاءِ الفَوْقانِيَّةِ مِن دِيوانِهِ: والتَّوْأمُ أحَدُ أقْداحِ المَيْسِرِ وهو الثّانِي مِنها، وإنَّما سُمِّيَ تَوْأمًا بِما عَلَيْهِ مِنَ الحُظُوظِ، وعَلَيْهِ حَظّانِ ولَهُ مِن أنْصِباءِ الجَزُورِ نَصِيبانِ، وإنْ قَمَرَتْ أنْصِباءُ الجَزُورِ غُرِّمَ مَن خَرَجَ لَهُ التَّوْأمُ نَصِيبَيْنِ، وذَلِكَ أنَّها عَشْرَةُ قِداحٍ أوَّلُها الفَذُّ وعَلَيْهِ فَرْضٌ (p-٢٥٣)ولَهُ نَصِيبٌ، والثّانِي التَّوْأمُ وعَلَيْهِ فَرْضانِ ولَهُ نَصِيبانِ، والثّالِثُ الرَّقِيبُ وعَلَيْهِ ثَلاثَةُ فُرُوضٍ ولَهُ ثَلاثَةُ أنْصِباءَ، والرّابِعُ الحِلْسُ وعَلَيْهِ أرْبَعَةُ فُرُوضٍ ولَهُ أرْبَعَةُ أنْصِباءَ، والخامِسُ النّافِسُ وعَلَيْهِ خَمْسَةُ فُرُوضٍ ولَهُ خَمْسَةُ أنْصِباءَ، والسّادِسُ المُسْبِلُ وعَلَيْهِ سِتَّةُ فُرُوضٍ ولَهُ سِتَّةُ أنْصِباءَ، والسّابِعُ المُعَلّى وعَلَيْهِ سَبْعَةُ فُرُوضٍ ولَهُ سَبْعَةُ أنْصِباءَ، ومِنها ثَلاثَةٌ لا حُظُوظَ لَها وهي السَّفِيحُ والمَنِيحُ والوَغْدُ، ورُبَّما سَمَّوْها بِأسْماءٍ غَيْرِ هَذِهِ لَكِنْ ذَكَرْنا المُسْتَعْمَلَ مِنها هاهُنا ونَذْكُرُها بِأسْمائِها في مَواضِعِها مِنَ الكِتابِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى؛ وهَذِهِ الَّتِي لا حُظُوظَ لَها لَيْسَ عَلَيْها فَرْضٌ، ولِذَلِكَ تُدْعى أغْفالًا لِأنَّ الغُفْلَ مِنَ الدَّوابِّ الَّذِي لا سِمَةَ لَهُ.
وهَيْئَةُ ما يَفْعَلُونَ في القِمارِ هو أنْ تُنْحَرَ النّاقَةُ وتُقَسَّمَ عَشَرَةَ أجْزاءٍ فَتُعَجَّلَ إحْدى الوِرْكَيْنِ جُزْءًا، والوِرْكُ الأُخْرى جُزْءٌ وعَجُزُها جُزْءٌ، والكاهِلُ جُزْءٌ، والزَّوْرُ وهو الصَّدْرُ جُزْءٌ، والمِلْحا أيْ ما بَيْنَ الكاهِلِ والعَجُزِ مِنَ الصُّلْبِ جُزْءٌ، والكَتِفانِ وفِيهِما العَضُدانِ جُزْءانِ، والفَخِذانِ جُزْءانِ، وتُقَسَّمُ الرَّقَبَةُ والطَّفاطِفُ بِالسَّواءِ عَلى تِلْكَ الأجْزاءِ، وما بَقِيَ مِن عَظْمٍ أوْ بِضْعَةٍ (p-٢٥٤)فَهُوَ الرِّيمُ وأصْلُهُ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى الحَمْلِ وهي الَّتِي تُسَمّى عِلاوَةً فَيَأْخُذُ الجازِرُ؛ ورُبَّما اسْتَثْنى بائِعُ النّاقَةِ مِنها شَيْئًا لِنَفْسِهِ وأكْثَرُ ما يُسْتَثْنى الأطْرافُ والرَّأْسُ، فَإذا صارَتِ الجَزُورُ عَلى هَذِهِ الهَيْئَةِ أحْضَرُوا رَجُلًا يَضْرِبُ بِها بَيْنَهم يُقالُ لَهُ الحُرْضَةُ فَتُشَدُّ عَيْناهُ ويُجْعَلُ عَلى يَدَيْهِ ثَوْبٌ لِئَلّا يُحِسَّ القِداحَ ثُمَّ يُؤْتى بِخَرِيطَةٍ فِيها القِداحُ واسِعَةَ الأسْفَلِ ضَيِّقَةَ الفَمِ قَدْرَ ما يَخْرُجُ مِنها سَهْمٌ أوْ سَهْمانِ والقِداحُ فِيها كَفُصُوصِ النَّرْدِ الطِّوالِ غَيْرَ أنَّها مُسْتَدِيرَةٌ فَتُجْعَلُ الخَرِيطَةُ عَلى يَدَيِ الحُرْضَةِ، ويُؤْتى بِرَجُلٍ يُجْعَلُ أمِينًا عَلَيْهِ يُقالُ لَهُ الرَّقِيبُ فَيُقالُ لَهُ: جَلْجِلِ القِداحَ، فَيُجَلْجِلُها في الخَرِيطَةِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا، فَإذا فَعَلَ ذَلِكَ أفاضَ بِها وهو أنْ يَدْفَعَها دَفْعَةً واحِدَةً فَتَنْدُرُ مِن مَخْرَجِها ذَلِكَ الضِّيقِ، فَإذا خَرَجَ قَدَحٌ أخَذَهُ الرَّقِيبُ، فَإنْ كانَ مِنَ الثَّلاثَةِ الَّتِي لا فُرُوضَ عَلَيْها رَدَّهُ إلى الخَرِيطَةِ وقالَ: أعِدْ، وإنْ كانَ مِنَ السَّبْعَةِ ذَواتِ الحُظُوظِ دَفَعَهُ إلى صاحِبِهِ وقالَ لَهُ: اعْتَزِلِ القَوْمَ، وذاكَ أنَّ الَّذِينَ يَتَقامَرُونَ قَدْ أخَذَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم قَدَحًا عَلى ما يُحِبُّ، (p-٢٥٥)فَإنْ كانَ الَّذِي خَرَجَ الفَذُّ أخَذَ صاحِبُهُ جُزْءًا وسَلِمَ مِنَ الغُرْمِ وأعادَ الحُرْضَةُ الإفاضَةَ، وإنْ كانَ الَّذِي خَرَجَ التَّوْأمُ أخَذَ صاحِبُهُ نَصِيبَيْنِ واعْتَزَلَ القَوْمَ وسَلِمَ مِنَ الغُرْمِ أيْضًا، وكَذا كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَأْخُذُ ما خَرَجَ لَهُ ويَعْتَزِلُ القَوْمَ ويَسْلَمُ مِنَ الغُرْمِ، فَإذا خَرَجَ في الثّانِيَةِ قَدَحٌ أخَذَ صاحِبُهُ ما خَرَجَ لَهُ وكَذا الثّالِثُ يَأْخُذُ ما خَرَجَ لَهُ ويَعْتَزِلُ القَوْمَ ما لَمْ يَسْتَغْرِقِ الأوَّلُ والثّانِي أنْصِباءَ الجَزُورِ، مِثْلَ أنْ يَخْرُجَ لِلْأوَّلِ الرَّقِيبُ فَيَأْخُذُ ثَلاثَةَ أنْصِباءَ، ثُمَّ يَخْرُجُ لِلثّانِي المُعَلّى فَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أنْصِباءَ ويُغَرَّمُ الباقُونَ ثَمَنَ الجَزُورِ.
أوْ يَخْرُجُ في الأوَّلِ الفَذُّ وفي الثّانِي التَّوْأمُ وفي الثّالِثِ المُعَلّى فَيَذْهَبُ أيْضًا سائِرُ الأنْصِباءِ ويُغَرَّمُ باقِي القَوْمِ ثَمَنَ الجَزُورِ، وكَذا ما كانَ مِثْلَ هَذا؛ فَإنْ زادَتْ سِهامُ مَن خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ عَلى ما بَقِيَ مِنَ الجَزُورِ غُرِّمَ لَهُ مَن بَقِيَ ما زادَ سَهْمُهُ؛ وذَلِكَ مِثْلَ أنْ يَخْرُجَ لِلْأوَّلِ المُعَلّى فَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أنْصِباءَ ثُمَّ يَخْرُجُ لِلثّانِي النّافِسُ وحَظُّهُ خَمْسَةٌ وإنَّما بَقِيَ مِنَ الجَزُورِ ثَلاثَةٌ فَيَأْخُذُها ويَغَرَمُ لَهُ الباقُونَ خُمُسَيِ الجَزُورِ، وكَذا لَوْ خَرَجَ لِلْأوَّلِ النّافِسُ وأخَذَ خَمْسَةَ أنْصِباءَ ثُمَّ خَرَجَ لِلثّانِي الحِلْسُ فَأخَذَ أرْبَعَةَ أنْصِباءَ وخَرَجَ لِلثّالِثِ المُعَلّى أخَذَ النَّصِيبَ الَّذِي بَقِيَ وغَرِمَ لَهُ الباقُونَ ثَلاثَةَ أخْماسِ (p-٢٥٦)الجَزُورِ، وعَلى هَذا سائِرُ قِمارِهِمْ، إذا تَدَبَّرْتَهُ عَلِمَتْ كَيْفَ يَجْرِي جَمِيعُهُ ويَغْرَمُ القَوْمُ ما يَلْزَمُهم عَلى قَدْرِ سِهامِهِمُ الباقِيَةِ يَفْرِضُونَ ما لَزِمَهم عَلى عَدَدِ ما في أنْصِبائِهِمْ مِنَ الفَرْضِ، وقَدْ ذُكِرَ أنَّ الجَزُورَ تُجَزَّأُ عَلى عَدَدِ ما في القِداحِ مِنَ الفُرُوضِ وهي ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ جُزْءًا، ولا مَعْنى لِهَذا القَوْلِ لِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ في هَذا قِمارٌ ولا فَوْزٌ ولا خَيْبَةٌ إذْ كُلُّ واحِدٍ يَخْتارُ لِنَفْسِهِ ما أحَبَّ مِنَ السِّهامِ ثُمَّ يَأْخُذُ ما خَرَجَ لَهُ ثُمَّ لا تُفْرَغُ أجْزاءُ الجَزُورِ إلّا بِفَراغِ القِداحِ، فَلا مَعْنى لِلتَّقامُرِ عَلَيْها، والأوَّلُ أصَحُّ ويَدُلُّ عَلَيْهِ شِعْرُ العَرَبِ، وذَلِكَ لِأنَّ الرَّجُلَ رُبَّما أخَذَ في المَيْسِرِ قَدَحَيْنِ فَيَفُوزُ بِأجْزاءِ الجَزُورِ، مِثْلَ أنْ يَأْخُذَ المُعَلّى والرَّقِيبَ فَإذا ضَرَبَ لَهُ الحُرْضَةُ خَرَجَ لَهُ أحَدُهُما فَفازَ بِحَظِّهِ ثُمَّ إذا ضَرَبَ الثّانِيَةَ خَرَجَ لَهُ الآخَرُ فَيَفُوزُ بِسائِرِ الجَزُورِ، ولَوْ كانَ السِّهامُ والأنْصِباءُ عَلى ما ذَكَرُوا لَمْ يَفُزْ صاحِبُ سَهْمَيْنِ بِسائِرِ (p-٢٥٧)الأنْصِباءِ إذْ لا تَذْهَبُ الأنْصِباءُ إلّا بِفَراغِ القِداحِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى فَوْزِ صاحِبِ السَّهْمَيْنِ بِالكُلِّ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎وما ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلّا لِتَضْرِبِي ∗∗∗ بِسَهْمَيْكِ في أعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
يَقُولُ: تَضْرِبُ بِسَهْمَيْها المُعَلّى والرَّقِيبِ فَتَحُوزُ القَلْبَ كُلَّهُ، ومِن هَذا قَوْلُ كُثَيِّرٍ ووَصْفُ ناقَةٍ هَزَلَها السَّيْرُ حَتّى أذْهَبَ لَحْمَها:
؎وتُؤْبَنُ مِن نَصِّ الهَواجِرِ والسُّرى ∗∗∗ بِقَدَحَيْنِ فازا مِن قِداحِ المُقَعْقَعِ
يَقُولُ: هَذِهِ النّاقَةُ هَزَلَها السَّيْرُ حَتّى لَمْ يَبْقَ مِن لَحْمِها شَيْءٌ فَكَأنَّهُ ضَرَبَ عَلَيْها بِالقِداحِ فَفازَ مِنها قَدَحانِ فاسْتَوْلَيا عَلى أعْشارِها وهو الرَّقِيبُ والمُعَلّى - انْتَهى.
هَكَذا ذَكَرَ شَرْحُ قَوْلِ كُثَيِّرٍ ورَأيْتُ عَلى حاشِيَةِ نُسْخَةٍ مِن كِتابِهِ ما لَعَلَّهُ ألْيَقُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ قالَ أيْ يُظَنُّ بِها فَضْلٌ عَلى الإبِلِ في سَيْرِها بَعْدَ نَصِّ الهَواجِرِ والسُّرى لِصَبْرِها وكَرَمِها وشِدَّتِها كَفَضْلِ رَجُلٍ فازَ قَدَحُهُ مَرَّتَيْنِ عَلى قِداحِ أصْحابِهِ؛ والمُقَعْقَعُ هو الَّذِي يُجِيلُ القِداحَ - انْتَهى.
وهُوَ أقْرَبُ مِمّا قالَهُ لِأنَّ قَوْلَهُ: تُؤْبَنُ بِقَدَحَيْنِ فازا، ظاهِرٌ في أنَّ القَدَحَيْنِ لَها وأنَّها هي الفائِزَةُ؛ واللَّهُ سُبْحانَهُ (p-٢٥٨)وتَعالى المُوَفِّقُ - هَذا. وقَوْلُهُ: لا مَعْنى لِلتَّقامُرِ عَلَيْها، عَلى تَقْدِيرِ التَّجْزِئَةِ بِثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ في التَّفاوُتِ في الأنْصِباءِ، وذَلِكَ بِأنْ تَكُونَ السِّهامُ وهي القِداحُ عَشَرَةً، فَإنَّهُ لَمّا قالَ: إنَّ الأجْزاءَ تَكُونُ ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ، لَمْ يَقُلْ: إنَّها عَلى عَدَدِ السِّهامِ، حَتّى تَكُونَ السِّهامُ ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ، بَلْ قالَ: إنَّها عَلى عَدَدِ الفُرُوضِ الَّتِي في السِّهامِ، وقَدْ عَلِمَ أنَّها عَشَرَةٌ؛ وقَدْ صَرَّحَ صاحِبُ الزِّينَةِ وغَيْرُهُ عَنِ الأصْمَعِيِّ كَما مَضى وهو مِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ، فَحِينَئِذٍ مَن خَرَجَ لَهُ المُعَلّى مَثَلًا أخَذَ سَبْعَةَ أنْصِباءَ مِن ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ فَيَكُونُ أكْثَرَ حَظًّا مِمَّنْ خَرَجَ لَهُ ما عَلَيْهِ سِتَّةُ فُرُوضٍ فَما دُونَها لِلضَّرَباتِ؛ وقَوْلُهُ: إنَّ الرَّجُلَ رُبَّما أخَذَ قَدَحَيْنِ - إلى آخِرِهِ، يُبَيِّنُ وجْهًا آخَرَ مِنَ التَّفاوُتِ، وهو أنَّ الرَّجُلَ رُبَّما خَرَجَ لَهُ سَهْمٌ واحِدٌ لِاعْتِراضِ السِّهامِ وتَحَرُّفِها عَنْ سُنَنِ الِاسْتِقامَةِ حالَ الخُرُوجِ، ورُبَّما خَرَجَ لَهُ (p-٢٥٩)سَهْمانِ أوْ ثَلاثَةٌ في إفاضَةٍ واحِدَةٍ لِاسْتِقامَةِ السِّهامِ واعْتِدالِها لِلْخُرُوجِ فَفازَ بِمُعْظَمِ الجَزُورِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ الرِّجالُ أقَلَّ مِنَ السِّهامِ، ورُبَّما خَرَجَ لَهُ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ مَعَ الوَفاءِ لِلثَّمَنِ بَيْنَهم عَلى السَّواءِ، وهَذا الوَجْهُ يَتَأتّى أيْضًا بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ السِّهامُ والرِّجالُ عَلى عَدَدِ الأجْزاءِ، لِانْحِصارِ العَدِّ فِيمَن خَرَجَ لَهُ سِهامٌ سَواءٌ كانَ عَلى عَدَدِهِمْ أوْ أكْثَرُ وانْحِصارُ الغُرْمِ فِيمَن لَمْ يَخْرُجْ لَهُ سَهْمٌ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَخْرُجَ لِغَيْرِهِ عَدَدٌ مِنَ السِّهامِ؛ وبِتَقْدِيرِ أنْ لا يَخْرُجَ لِكُلٍّ واحِدٍ واحِدٍ يَكُونُ قِمارًا أيْضًا، لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم غَيْرُ واثِقٍ بِالفَوْزِ ويَكُونُ فائِدَةُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ لِلْفُقَراءِ، ومَن قالَ: إنَّ مَن خَرَجَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ السِّهامِ الثَّلاثَةِ الأغْفالِ يُغْرَمُ، كانَ القِمارُ عِنْدَهُ لازِمًا في كُلِّ صُورَةٍ بِكُلِّ تَقْدِيرٍ.
وقالَ في الكَشّافِ: إنَّهم كانُوا يُعْطُونَ الأنْصِباءَ لِلْفُقَراءِ ولا يَأْخُذُونَ مِنها شَيْئًا، وقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْ صاحِبِ الزِّينَةِ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
ولَمّا ذَكَرَ ما يُذْهِبُ ضِياءَ الرُّوحِ وقِوامَ البَدَنِ وذَمَّ النَّفَقَةَ فِيهِما (p-٢٦٠)اقْتَضى الحالُ السُّؤالَ عَمّا يَمْدَحُ الإنْفاقَ فِيهِ فَقالَ عاطِفًا عَلى السُّؤالِ عَنِ المُقْتَضِي لِتَبْذِيرِ المالِ ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ وأشْعَرَ تَكْرِيرُ السُّؤالِ عَنْها بِتَكْرِيرِ الوارِداتِ المُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، فَأنْبَأ ذَلِكَ بِعِظَمِ شَأْنِها لِأنَّها أعْظَمُ دَعائِمِ الجِهادِ وساقَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى طَرِيقِ العَطْفِ لِأنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ السُّؤالُ عَنْهُ والجَوابُ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢١٥] مَنَعَ مِن تَوَقُّعِ سُؤالٍ آخَرَ، وأمّا اليَتامى والمَحِيضُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ ما يُوجِبُ تَوَقُّعَ السُّؤالِ عَنِ السُّؤالِ عَنْهُما أصْلًا، وادِّعاءُ أنَّ سَبَبَ العَطْفِ النُّزُولُ جُمْلَةً وسَبَبَ القَطْعِ النُّزُولُ مُفَرَّقًا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ شافٍ لِلْغُلَّةِ بِعَدَمِ بَيانِ الحِكْمَةِ يَرُدُّهُ ما ورَدَ أنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] وهي بِالواوِ أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ والواحِدِيُّ مِن وجْهَيْنِ في مُقَدِّمَةِ أسْبابِ النُّزُولِ وتَرْجَمَ لَها البُخارِيُّ في الصَّحِيحِ ومَن تَتَبَّعَ أسْبابَ النُّزُولِ وجَدَ كَثِيرًا مِن ذَلِكَ.
وقالَ الحَرالِيُّ: في العَطْفِ إنْباءٌ بِتَأكُّدِ التَّلَدُّدِ مَرَّتَيْنِ كَما في قِصَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ، لَكِنْ رُبَّما تَخَوَّفَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ مِن ثالِثَتِها فَوَقَعَ ضَمُّهم عَنِ السُّؤالِ في الثّالِثَةِ لِتَقاصُرِ ما يَقَعُ في هَذِهِ (p-٢٦١)الأُمَّةِ عَمّا وقَعَ في بَنِي إسْرائِيلَ بِوَجْهٍ ما، وقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى في الجَوابِ: ﴿قُلِ العَفْوَ﴾ وهو ما سَمَحَتْ بِهِ النَّفْسُ مِن غَيْرِ كُلْفَةٍ قالَ: فَكَأنَّهُ ألْزَمَ النَّفْسَ نَفَقَةَ العَفْوِ وحَرَّضَها عَلى نَفَقَةِ ما تَنازَعَ فِيهِ ولَمْ يُلْزِمْها ذَلِكَ لِئَلّا يَشُقَّ عَلَيْها لِما يُرِيدُهُ بِهَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ اليُسْرِ، فَصارَ المُنْفِقُ عَلى ثَلاثِ رُتَبٍ: رُتْبَةِ حَقٍّ مَفْرُوضٍ لا بُدَّ مِنهُ وهي الصَّدَقَةُ المَفْرُوضَةُ الَّتِي إمْساكُها هَلَكَةٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وفي مُقابَلَتِهِ عَفْوٌ لا يَنْبَغِي الِاسْتِمْساكُ بِهِ لِسَماحِ النَّفْسِ بِفَسادِهِ فَمَن أمْسَكَهُ تَكَلَّفَ إمْساكَهُ، وفِيما بَيْنَهُما ما تُنازِعُ النَّفْسُ إمْساكَهُ فَيَقَعُ لَها المُجاهَدَةُ في إنْفاقِهِ وهو مَتْجَرُها الَّذِي تَشْتَرِي بِهِ الآخِرَةَ مِن دُنْياها «قالَتِ امْرَأةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ما يَحِلُّ لَنا مِن أمْوالِ أزْواجِنا - تَسْألُ عَنِ الإنْفاقِ مِنها، قالَ: الرُّطْبُ - بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الطّاءِ - تَأْكُلِينَهُ وتُهْدِينَهُ» لِأنَّهُ مِنَ العَفْوِ الَّذِي يَضُرُّ إمْساكُهُ بِفَسادِهِ؛ لِأنَّ الرُّطْبَ هو ما إذا أُبْقِيَ مِن يَوْمٍ إلى يَوْمٍ تَغَيَّرَ كالعِنَبِ والبِطِّيخِ وفي مَعْناهُ الطَّبائِخُ وسائِرُ الأشْياءِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِمَبِيتِها - انْتَهى.
وفِي تَخْصِيصِ المُنْفِقِ بِالعَفْوِ مَنعٌ (p-٢٦٢)لِمُتَعاطِي الخَمْرِ قَبْلَ حُرْمَتِها مِنَ التَّصَرُّفِ، إذْ كانَ الأغْلَبُ أنْ تَكُونَ تَصَرُّفاتُهُ لا عَلى هَذا الوَجْهِ، لِأنَّ حالَةَ السُّكْرِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِها والتَّصَرُّفَ فِيها يُعَقِّبُ في الأغْلَبِ عِنْدَ الإفاقَةِ أسَفًا وكَذا المَيْسِرُ بَلْ هو أغْلَظُ. ولَعَلَّ تَأْخِيرَ بَيانِ أنَّ المَحْثُوثَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ إنَّما هو الفَضْلُ إلى هَذا المَحَلِّ لِيَحْمِلَ أهْلُ الدِّينِ الرَّغْبَةَ فِيهِ مَعَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الضِّيقِ عَلى الإيثارِ عَلى النَّفْسِ مِن غَيْرِ أمْرٍ بِهِ رَحْمَةً لَهُمْ، ومِن أعْظَمِ المُلَوِّحاتِ إلى ذَلِكَ أنَّ في بَعْضِ الآياتِ الذّاكِرَةِ لَهُ فِيما سَلَفَ ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] قالَ الأصْبَهانِيُّ: قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ: كانَ الرَّجُلُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ إذا كانَ لَهُ ذَهَبٌ أوْ فِضَّةٌ أوْ زَرْعٌ أوْ ضَرْعٌ يَنْظُرُ ما يَكْفِيهِ وعِيالَهُ لِنَفَقَةِ سَنَةٍ أمْسَكَهُ وتَصَدَّقَ بِسائِرِهِ، فَإنْ كانَ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ أمْسَكَ ما يَكْفِيهِ وعِيالَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وتَصَدَّقَ بِالباقِي حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ الزَّكاةِ فَنَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ.
لَمّا بَيَّنَ الأحْكامَ الماضِيَةَ في هَذِهِ السُّورَةِ أحْسَنَ بَيانٍ وفَصَّلَ ما قَصَّ مِن جَمِيعِ ما أرادَ أبْدَعَ تَفْصِيلٍ لا سِيَّما أمْرَ النَّفَقَةِ فَإنَّها بَيَّنَها مَعَ أوَّلِ السُّورَةِ إلى هُنا في أنْواعٍ مِنَ البَيانِ عَلى غايَةِ الحِكْمَةِ والإتْقانِ كانَ مَوْضِعَ سُؤالٍ: هي يُبَيِّنُ لَنا رَبُّنا غَيْرَ هَذا مِنَ الآياتِ كَهَذا البَيانِ؟ فَقالَ: ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ مِثْلَ ما مَضى مِن هَذا البَيانِ العَلِيِّ الرُّتْبَةِ (p-٢٦٣)البَعِيدِ المَنالِ عَنْ مَنازِلِ الأرْذالِ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ ﴿لَكُمُ﴾ جَمِيعَ ﴿الآياتِ﴾
قالَ الحَرالِيُّ: فَجَمَعَها لِأنَّها آياتٌ مِن جِهاتٍ مُخْتَلِفاتٍ لِما يَرْجِعُ لِأمْرِ القَلْبِ ولِلنَّفْسِ ولِلْجِسْمِ ولِحالِ المَرْءِ مَعَ غَيْرِهِ - انْتَهى.
وأفْرَدَ الخِطابَ أوَّلًا وجَمَعَ ثانِيًا إعْلامًا بِعَظَمَةِ هَذا القَوْلِ لِلْإقْبالِ بِهِ عَلى الرَّأْسِ، وإيماءً إلى أنَّهُ ﷺ قَدِ امْتَلَأ عِلْمًا مِن قَبْلِ هَذا بِحَيْثُ لا يَحْتاجُ إلى زِيادَةٍ وأنَّ هَذا البَيانَ إنَّما هو لِلْأتْباعِ يَتَفَهَّمُونَهُ عَلى مَقادِيرِ أفْهامِهِمْ وهِمَمِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ تَمَّ بِكَذَلِكَ أيِ البَيانِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ ما بَعْدَهُ فَيَكُونُ البَيانُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً في خِطابِهِ تَلْوِيحًا، وأُخْرى في خِطابِهِمْ تَصْرِيحًا؛ أوْ يُقالُ: أشارَ إلى عُلُوِّ الخِطابِ بِالإفْرادِ وإلى عُمُومِهِ بِالجَمْعِ انْتَهى.
﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ لِتَكُونُوا عَلى حالَةٍ يُرْجى لَكم مَعَها التَّفَكُّرُ، وهو طَلَبُ الفِكْرِ وهو يَدُ النَّفْسِ الَّتِي تُنالُ بِها المَعْلُوماتُ كَما تُنالُ بِيَدِ الجِسْمِ المَحْسُوساتُ - قالَهُ الحَرالِيُّ.
{"ayah":"۞ یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِۖ قُلۡ فِیهِمَاۤ إِثۡمࣱ كَبِیرࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَاۤ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَیَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا یُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق