الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: ”نَزَلَتْ في «عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ومُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ونَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالُوا: أفْتِنا في الخَمْرِ والمَيْسِرِ، فَإنَّهُما مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ ومَسْلَبَةٌ لِلْمالِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ - تَعالى - هَذِهِ الآيَةَ“،» وفي بَعْضِ الرِّواياتِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَدِمَ المَدِينَةَ وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ويَأْكُلُونَ المَيْسِرَ، فَسَألُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ - تَعالى - هَذِهِ الآيَةَ”، فَقالَ قَوْمٌ: ما حَرُما عَلَيْنا، فَكانُوا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ إلى أنْ صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعامًا، فَدَعا أُناسًا مِنَ الصَّحابَةِ وأتاهم بِخَمْرٍ فَشَرِبُوا وسَكِرُوا وحَضَرَتْ صَلاةُ المَغْرِبِ، فَقَدَّمُوا عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -، فَقَرَأ: ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ إلَخْ بِحَذْفِ (لا) فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ فَقَلَّ مَن يَشْرَبُها، ثُمَّ اتَّخَذَ عُتْبانُ بْنُ مالِكٍ صَنِيعًا ودَعا رِجالًا مِنَ المُسْلِمِينَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وكانَ قَدْ شَوى لَهم رَأْسَ بَعِيرٍ فَأكَلُوا مِنهُ وشَرِبُوا الخَمْرَ، حَتّى أخَذَتْ مِنهُمْ، ثُمَّ إنَّهُمُ افْتَخَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ (p-112)وتَناشَدُوا الأشْعارَ، فَأنْشَدَ سَعْدٌ ما فِيهِ هِجاءُ الأنْصارِ وفَخْرٌ لِقَوْمِهِ، فَأخَذَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ لِحى البَعِيرِ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ سَعْدٍ فَشَجَّهُ مُوَضَّحَةً، فانْطَلَقَ سَعْدٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وشَكا إلَيْهِ الأنْصارَ، فَقالَ:“اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا رَأْيَكَ في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ وذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ الأحْزابِ بِأيّامٍ، فَقالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: انْتَهَيْنا يا رَبِّ» . وعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -: ”لَوْ وقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنها في بِئْرٍ، فَبُنِيَتْ في مَكانِها مَنارَةٌ لَمْ أُؤَذِّنْ عَلَيْها، ولَوْ وقَعَتْ في بَحْرٍ ثُمَّ جَفَّ، فَنَبَتَ فِيهِ الكَلَأُ لَمْ أرْعَهُ دابَّتِي“. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -: ”لَوْ أدْخَلْتُ أُصْبُعِي فِيها لَمْ تَتْبَعْنِي“، وهَذا هو الإيمانُ والتُّقى حَقًّا. والخَمْرُ عِنْدَ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: الَّتِي مِن ماءِ العِنَبِ إذا غَلى واشْتَدَّ وقُذِفَ بِالزُّبْدِ، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تُخَمِّرُ العَقْلَ؛ أيْ: تَسْتُرُهُ ومِنهُ خِمارُ المَرْأةِ لِسَتْرِهِ وجْهَها، والخامِرُ وهو مَن يَكْتُمُ الشَّهادَةَ، وقِيلَ: لِأنَّها تُغَطّى حَتّى تَشْتَدَّ، ومِنهُ: «خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ”؛» أيْ: غَطُّوها، وقِيلَ: لِأنَّها تُخالِطُ العَقْلَ، وخامَرَهُ داءٌ خالَطَهُ، وقِيلَ: لِأنَّها تُتْرَكُ حَتّى تُدْرَكَ، ومِنهُ اخْتَمَرَ العَجِينُ؛ أيْ: بَلَغَ إدْراكَهُ، وهي أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ، وعَلَيْها فالخَمْرُ مَصْدَرٌ يُرادُ بِهِ اسْمَ الفاعِلِ أوِ المَفْعُولِ، ويَجُوزُ أنْ يَبْقى عَلى مَصْدَرِيَّتِهِ لِلْمُبالَغَةِ، وذَهَبَ الإمامانِ إلى عَدَمِ اشْتِراطِ القَذْفِ، ويَكْفِي الِاشْتِدادُ؛ لِأنَّ المَعْنى المُحَرَّمَ يَحْصُلُ بِهِ، ولِلْإمامِ أنَّ الغَلَيانَ بِدايَةُ الشِّدَّةِ وكَمالُها بِقَذْفِ الزُّبْدِ وسُكُونِهِ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصّافِي مِنَ الكَدِرِ، وأحْكامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُناطُ بِالنِّهايَةِ كالحَدِّ وإكْفارِ المُسْتَحِلِّ وحُرْمَةِ البَيْعِ، وأخَذَ بَعْضُهم بِقَوْلِهِما في حُرْمَةِ الشُّرْبِ احْتِياطًا، ثُمَّ إطْلاقُ الخَمْرِ عَلى غَيْرِ ما ذُكِرَ مَجازٌ عِنْدَنا، وهو المَعْرُوفُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: هو حَقِيقَةٌ في كُلِّ مُسْكِرٍ؛ لِما أخْرَجَ الشَّيْخانِ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ: «“كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ”». وأخْرَجَ أبُو داوُدَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهو مِن خَمْسَةٍ؛ مِنَ العِنَبِ والتَّمْرِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والذُّرَةِ، و(الخَمْرُ) ما خامَرَ العَقْلَ، وأخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «“الخَمْرُ مِن هاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، وأشارَ إلى الكَرْمِ والنَّخْلَةِ”». وأخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ أنَسٍ:“حَرُمَتِ الخَمْرُ حِينَ حَرُمَتْ، وما يُتَّخَذُ مِن خَمْرِ الأعْنابِ إلّا قَلِيلٌ، وعامَّةُ خَمْرِنا البُسْرُ والتَّمْرُ”، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ كُلَّهُ بَيانُ الحُكْمِ، وتَعْلِيمُ أنَّ ما أسْكَرَ حَرامٌ كالخَمْرِ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَنصِبُ الإرْشادِ، لا تَعْلِيمُ اللُّغاتِ العَرَبِيَّةِ، سِيَّما والمُخاطِبُونَ في الغايَةِ القُصْوى مِن مَعْرِفَتِها، وما يُقالُ: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن مُخامَرَةِ العَقْلِ، وهي مَوْجُودَةٌ في كُلِّ مُسْكِرٍ لا يَقْتَضِي العُمُومَ، ولا يُنافِي كَوْنَ الِاسْمِ خاصًّا فِيما تَقَدَّمَ، فَإنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ، ثُمَّ هو اسْمٌّ خاصٌّ لِلنَّجْمِ المَعْرُوفِ، لا لِكُلِّ ما ظَهَرَ، وهَذا كَثِيرُ النَّظِيرِ، وتَوَسَّطَ بَعْضُهم فَقالَ: إنَّ (الخَمْرَ) حَقِيقَةٌ في لُغَةِ العَرَبِ في الَّتِي مِن ماءِ العِنَبِ إذا صارَ مُسْكِرًا، وإذا اسْتُعْمِلَ في غَيْرِهِ كانَ مَجازًا، إلّا أنَّ الشّارِعَ جَعَلَهُ حَقِيقَةً في كُلِّ مُسْكِرٍ شابَهَ مَوْضُوعَهُ اللُّغَوِيَّ، فَهو في ذَلِكَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ كالصَّلاةِ والصَّوْمِ والزَّكاةِ في مَعانِيها المَعْرُوفَةِ شَرْعًا، والخِلافُ قُوِيٌّ، ولِقُوَّتِهِ ووُقُوعِ الإجْماعِ عَلى تَسْمِيَةِ المُتَّخِذِ مِنَ العِنَبِ خَمْرًا دُونَ المُسْكِرِ مِن غَيْرِهِ أكْفَرُوا مُسْتَحِلَّ الأوَّلِ، ولَمْ يُكَفِّرُوا مُسْتَحِلَّ الثّانِي، بَلْ قالُوا: إنَّ عَيْنَ الأوَّلِ حَرامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ ولا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، ومَن أنْكَرَ حُرْمَةَ العَيْنِ وقالَ: إنَّ السُّكْرَ مِنهُ حَرامٌ؛ لِأنَّهُ بِهِ يَحْصُلُ الفَسادُ، فَقَدْ كَفَرَ لِجُحُودِهِ الكِتابَ؛ إذْ سَمّاهُ رِجْسًا فِيهِ، والرِّجْسُ مُحَرَّمُ العَيْنِ فَيَحْرُمُ كَثِيرُهُ وإنْ لَمْ يُسْكِرْ، وكَذا قَلِيلُهُ ولَوْ قَطْرَةٌ، ويُحَدُّ شارِبُهُ مُطْلَقًا، وفي الخَبَرِ: «“حَرُمَتِ الخَمْرُ لِعَيْنِها”، وفي رِوايَةٍ:“بِعَيْنِها قَلِيلِها وكَثِيرِها سَواءٌ”، والسُّكْرُ مِن كُلِّ شَرابٍ»، وقالُوا: إنَّ الطَّبْخَ لا يُؤَثِّرُ؛ لِأنَّهُ لِلْمَنعِ مِن ثُبُوتٍ الحُرْمَةِ، لا لِرَفْعِها بَعْدَ ثُبُوتِها، إلّا أنَّهُ لا يُحَدُّ فِيهِ ما لَمْ يُسْكَرْ مِنهُ، بِناءً عَلى أنَّ الحَدَّ (p-113)بِالقَلِيلِ النِّيِّئِ خاصَّةً - وهَذا قَدْ طُبِخَ - وأمّا غَيْرُ ذَلِكَ فالعَصِيرُ إذا طُبِخَ حَتّى يَذْهَبَ أقَلُّ مِن ثُلْثَيْهِ وهو المَطْبُوخُ أدْنى طَبْخِهِ - ويُسَمّى الباذِقَ - والمُنَصَّفُ وهو ما ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ، فَحَرامٌ عِنْدِنا إذا غَلى واشْتَدَّ وقُذِفَ بِالزُّبْدِ، أوْ إذا اشْتَدَّ عَلى الِاخْتِلافِ، وقالَ الأوْزاعِيُّ وأكْثَرُ المُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ مُباحٌ؛ لِأنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ ولَيْسَ بِخَمْرٍ، ولَنا أنَّهُ رَقِيقٌ مُلِدٌّ مُطْرِبٌ، ولِذا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الفُسّاقُ، فَيُحَرَّمُ شُرْبُهُ رَفَعًا لِلْفَسادِ المُتَعَلِّقِ بِهِ، وأمّا نَقِيعُ التَّمْرِ وهو السُّكْرُ - وهو النِّيِّئُ مِن ماءِ التَّمْرِ - فَحَرامٌ مَكْرُوهٌ، وقالَ شَرِيكٌ: إنَّهُ مُباحٌ لِلِامْتِنانِ ولا يَكُونُ بِالمُحَرَّمِ، ويَرُدُّهُ إجْماعُ الصَّحابَةِ، والآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى الِابْتِداءِ، كَما أجْمَعَ عَلَيْهِ المُفَسِّرُونَ، وقِيلَ: أرادَ بِها التَّوْبِيخَ؛ أيْ: أتَتَّخِذُونَ ﴿مِنهُ سَكَرًا﴾ وتَدَّعُونَ ( رِزْقًا حَسَنًا ) وأمّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ - وهو النِّيِّئُ مِن ماءِ الزَّبِيبِ، فَحَرامٌ إذا اشْتَدَّ وغَلى، وفِيهِ خِلافُ الأوْزاعِيِّ، ونَبِيذُ الزَّبِيبِ والتَّمْرِ إذا طُبِخَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أدْنى طَبْخَةٍ حَلالٌ، وإنِ اشْتَدَّ إذا شُرِبَ مِنهُ ما يَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ لا يُسْكِرُ مِن غَيْرِ لَهْوٍ ولا طَرَبٍ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ، وعِنْدَ مُحَمَّدٍ والشّافِعِيِّ حَرامٌ، ونَبِيذُ العَسَلِ والتِّينِ والحِنْطَةِ والذُّرَةِ والشَّعِيرِ وعَصِيرُ العِنَبِ إذا طُبِخَ وذَهَبَ ثُلْثاهُ حَلالٌ عِنْدَ الإمامِ الأوَّلِ والثّانِي، وعِنْدَ مُحَمَّدٍ والشّافِعِيِّ حَرامٌ أيْضًا، وأفْتى المُتَأخِّرُونَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ في سائِرِ الأشْرِبَةِ، وذَكَرَ ابْنُ وهْبانَ أنَّهُ مُرْوِيٌّ عَنِ الكُلِّ، ونَظَمَ ذَلِكَ، فَقالَ: وفي عَصْرِنا فاخْتِيرَ حَدٌّ وأوْقَعُوا طَلاقًا لِمَن مِن مُسْكِرِ الحَبِّ يَسْكَرُ وعَنْ كُلِّهِمْ يُرْوى، وأفْتى مُحَمَّدٌ بِتَحْرِيمِ ما قَدْ – قَلَّ – وهو المُحَرَّرُ وعِنْدِي أنَّ الحَقَّ الَّذِي لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ أنَّ الشَّرابَ المُتَّخَذَ مِمّا عَدّا العِنَبَ كَيْفَ كانَ وبِأيِّ اسْمٍ سُمِّيَ مَتى كانَ بِحَيْثُ يَسْكَرُ مَن لَمْ يَتَعَوَّدْهُ حَرامٌ، وقَلِيلُهُ كَكَثِيرِهِ، ويُحَدُّ شارِبُهُ ويَقَعُ طَلاقُهُ ونَجاسَتُهُ غَلِيظَةٌ. وفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أنَّهُ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ النَّقِيعِ، وهو نَبِيذُ العَسَلِ، فَقالَ:“كُلُّ شَرابٍ أسْكَرَ فَهو حَرامٌ”،» ورَوى أبُو داوُدَ: «“نَهى رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفْتِرٍ”،» وصَحَّ: «“ما أسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ”،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «“ما أسْكَرَ الفِرْقُ مِنهُ فَمِلْءُ الكَفِّ مِنهُ حَرامٌ» والأحادِيثُ مُتَظافِرَةٌ عَلى ذَلِكَ، ولَعَمْرِي إنَّ اجْتِماعَ الفُسّاقِ في زَمانِنا عَلى شُرْبِ المُسْكِراتِ مِمّا عَدا (الخَمْرِ) ورَغْبَتَهم فِيها فَوْقَ اجْتِماعِهِمْ عَلى شُرْبِ (الخَمْرِ) ورَغْبَتِهِمْ فِيهِ بِكَثِيرٍ، وقَدْ وضَعُوا لَها أسْماءً كالعَنْبَرِيَّةِ والإكْسِيرِ ونَحْوِهِما ظَنًّا مِنهم أنَّ هَذِهِ الأسْماءَ تُخْرِجُها مِنَ الحُرْمَةِ وتُبِيحُ شُرْبَها لِلْأُمَّةِ - وهَيْهاتَ هَيْهاتَ - الأمْرُ وراءَ ما يَظُنُّونَ، فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، نَعَمْ حُرْمَةُ هَذِهِ الأشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الخَمْرِ حَتّى لا يُكَفَّرَ مُسْتَحَلُّها كَما قَدَّمْنا؛ لِأنَّها اجْتِهادِيَّةٌ، ولَوْ ذَهَبَ ذاهِبٌ إلى القَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ لَمْ يَبْقَ في يَدِهِ مِنَ النّاسِ اليَوْمَ إلّا قَلِيلٌ. والمَيْسِرِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِن (يَسَرَ) كالمَوْعِدِ والمَرْجِعِ، يُقالُ: يَسَرْتَهُ إذا قَمَرْتَهُ، واشْتِقاقُهُ إمّا مِنَ (اليُسْرِ)؛ لِأنَّهُ أخَذَ المالَ بِيُسْرٍ وسُهُولَةٍ، أوْ مِنَ اليَسارِ؛ لِأنَّهُ سُلِبَ لَهُ، وقِيلَ: مِن يَسَّرُوا الشَّيْءَ إذا اقْتَسَمُوهُ، وسُمِّيَ المُقامِرُ ياسِرًا؛ لِأنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الفِعْلِ يُجْزِئُ لَحْمَ الجَزُورِ، وقالَ الواحِدِيُّ: مِن يُسْرِ الشَّيْءِ إذا وجَبَ، والياسِرُ الواجِبُ بِسَبَبِ القَدَحِ، وصِفَتُهُ أنَّهُ كانَتْ لَهم عَشَرَةُ أقْداحٍ هي الأزْلامُ والأقْلامُ الفَذُّ والتَّوْأمُ والرَّقِيبُ والحِلْسُ والنّافِسُ والمُسْبِلُ والمُعْلّى والمَنِيحُ والسَّفِيحُ والوَغْدُ؛ لِكُلِّ واحِدٍ مِنها نَصِيبٌ مَعْلُومٌ مِن جَزُورٍ يَنْحَرُونَها، ويُجَزِّءُونَها ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ إلّا الثَّلاثَةَ، وهو المَنِيحُ والسَّفِيحُ والوَغْدُ، لِلْفَذِّ سَهْمٌ، ولِلتَّوْأمِ سَهْمانِ، ولِلرَّقِيبِ ثَلاثَةٌ، ولِلْحِلْسِ أرْبَعَةٌ، ولِلنّافِسِ خَمْسَةٌ، ولِلْمُسْبِلِ سِتَّةٌ، ولِلْمُعْلّى سَبْعَةٌ يَجْعَلُونَها في الرَّبابَةِ - وهي خَرِيطَةٌ - ويَضَعُونَها عَلى يَدَيْ عَدْلٍ، ثُمَّ (p-114)يُجَلْجِلُها، ويُدْخِلُ يَدَهُ فَيَخْرُجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنها، فَمَن خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِن ذَواتِ الأنْصِباءِ أخَذَ النَّصِيبَ المَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ القَدَحُ، ومَن خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِمّا لا نَصِيبَ لَهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا وغَرِمَ ثَمَنَ الجَزُورِ كُلِّهِ مَعَ حِرْمانِهِ، وكانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الأنْصِباءَ إلى الفُقَراءِ ولا يَأْكُلُونَ مِنها، ويَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ ويَذُمُّونَ مَن لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ويُسَمُّونَهُ البَرِمَ. ونَقَلَ الأزْهَرِيُّ كَيْفِيَّةً أُخْرى لِذَلِكَ، ولَمْ يَذْكُرِ الوَغْدَ في الأسْماءِ بَلْ ذَكَرَ غَيْرَهُ، والَّذِي اعْتَمَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وكَثِيرُونَ ما ذَكَرْناهُ، وقَدْ نَظَمَ بَعْضُهم هَذِهِ الأسْماءَ، فَقالَ: كُلُّ سِهامِ الياسِرِينَ عَشَرَهْ فَأوْدِعُوها صُحُفًا مُنَشَّرَهْ لَها فُرُوضٌ ولَها نَصِيبُ الفَذُّ والتَّوْأمُ والرَّقِيبُ والحِلْسُ يَتْلُوهُنَّ ثُمَّ النّافِسُ وبَعْدَهُ مُسْبِلُهُنَّ السّادِسُ ثُمَّ المُعلّى كاسْمِهِ المُعَلّى صاحِبُهُ في الياسِرِينَ الأعْلى والوَغْدُ والسَّفِيحُ والمَنِيح غُفْلٌ فَما فِيما يُرى رَبِيحُ وفي حُكْمِ ذَلِكَ جَمِيعُ أنْواعِ القِمارِ مِنَ النَّرْدِ والشَّطْرَنْجِ وغَيْرِهِما، حَتّى أدْخَلُوا فِيهِ لَعِبَ الصِّبْيانِ بِالجَوْزِ والكِعابِ والقَرْعَةِ في غَيْرِ القِسْمَةِ وجَمِيعَ أنْواعِ المُخاطَرَةِ والرِّهانِ. وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ فَهو مِنَ المَيْسِرِ، ومَعْنى الآيَةِ يَسْألُونَكَ عَمّا في تَعاطِي هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، ودَلَّ عَلى التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ فِيهِما﴾ إذِ المُرادُ في تَعاطِيهِما بِلا رَيْبَ ﴿إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ مِن حَيْثُ إنَّ تَناوُلَهُما مُؤَدٍّ إلى ما يُوجِبُ الإثْمَ، وهو تَرْكُ المَأْمُورِ، وفِعْلُ المَحْظُورِ ﴿ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ مِنَ اللَّذَّةِ والفَرَحِ وهَضْمِ الطَّعامِ وتَصْفِيَةِ اللَّوْنِ وتَقْوِيَةِ الباهِ وتَشْجِيعِ الجَبانِ وتَسَخِّيَةِ البَخِيلِ وإعانَةِ الضَّعِيفِ، وهي باقِيَةٌ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وبَعْدَهُ، وسَلْبُها بَعْدَ التَّحْرِيمِ مِمّا لا يُعْقَلُ ولا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وخَبَرُ: «ما جَعَلَ اللَّهُ - تَعالى - شِفاءَ أُمَّتِي فِيما حَرُمَ عَلَيْها» لا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ كَما لا يَخْفى. ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ أيِ: المَفاسِدِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنها أعْظَمُ مِنَ المَنافِعِ المُتَوَقَّعَةِ فِيهِما، فَمِن مَفاسِدِ الخَمْرِ إزالَةُ العَقْلِ الَّذِي هو أشْرَفُ صِفاتِ الإنْسانِ، وإذا كانَتْ عَدْوَةً لِلْأشْرَفِ لَزِمَ أنْ تَكُونَ أخَسَّ الأُمُورِ؛ لِأنَّ العَقْلَ إنَّما سُمِّيَ عَقْلًا؛ لِأنَّهُ يَعْقِلُ - أيْ يَمْنَعُ صاحِبَهُ عَنِ القَبائِحِ الَّتِي يَمِيلُ إلَيْها بِطَبْعِهِ - فَإذا شَرِبَ زالَ ذَلِكَ العَقْلُ المانِعُ عَنِ القَبائِحِ وتَمَكَّنَ إلْفُها - وهو الطَّبْعُ - فارْتَكَبَها وأكْثَرَ مِنها، ورُبَّما كانَ ضِحْكَةً لِلصِّبْيانِ حَتّى يَرْتَدَّ إلَيْهِ عَقْلُهُ. ذَكَرابْنُ أبِي الدُّنْيا أنَّهُ مَرَّ بِسَكْرانٍ وهو يَبُولُ بِيَدِهِ ويَغْسِلُ بِهِ وجْهَهُ كَهَيْئَةِ المُتَوَضِّئِ، ويَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الإسْلامَ نُورًا والماءَ طَهُورًا. وعَنِ العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ في الجاهِلِيَّةِ: ألا تَشْرَبُ الخَمْرَ، فَإنَّها تَزِيدُ في حَرارَتِكَ؟ فَقالَ: ما أنا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلَهُ جَوْفِي، ولا أرْضى أنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ قَوْمٍ وأُمْسِيَ سَفِيهَهم. ومِنها صَدُّها عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ - تَعالى - وعَنِ الصَّلاةِ وإيقاعُها العَداوَةَ والبَغْضاءَ غالِبًا. ورُبَّما يَقَعُ القَتْلُ بَيْنَ الشّارِبِينَ في مَجْلِسِ الشُّرْبِ، ومِنها أنَّ الإنْسانَ إذا ألِفَها اشْتَدَّ مَيْلُهُ إلَيْها، وكادَ يَسْتَحِيلُ مُفارَقَتُهُ لَها وتَرْكُهُ إيّاها، ورُبَّما أوْرَثَتْ فِيهِ أمْراضًا كانَتْ سَبَبًا لِهَلاكِهِ، وقَدْ ذَكَرَ الأطِبّاءُ لَها مَضارَّ بَدَنِيَّةً كَثِيرَةً، كَما لا يَخْفى عَلى مَن راجَعَ كُتُبَ الطِّبِّ، وبِالجُمْلَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيها سِوى إزالَةِ العَقْلِ والخُرُوجِ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقامَةِ لَكَفى، فَإنَّهُ إذا اخْتَلَّ العَقْلُ حَصَلَتِ الخَبائِثُ بِأسْرِها، ولِذَلِكَ قالَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”اجْتَنِبُوا الخَمْرَ، فَإنَّها أُمُّ الخَبائِثِ“،» ولَمْ يَثْبُتْ أنَّ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - شَرِبُوها في وقْتٍ أصْلًا، ومِن مَفاسِدِ (المَيْسِرِ) أنَّ فِيهِ أكْلَ الأمْوالِ بِالباطِلِ، وأنَّهُ يَدْعُو كَثِيرًا (p-115)مِنَ المُقامِرِينَ إلى السَّرِقَةِ وتَلَفِ النَّفْسِ وإضاعَةِ العِيالِ وارْتِكابِ الأُمُورِ القَبِيحَةِ والرَّذائِلِ الشَّنِيعَةِ والعَداوَةِ الكامِنَةِ والظّاهِرَةِ، وهَذا أمْرٌ مُشاهَدٌ لا يُنْكِرُهُ إلّا مَن أعْماهُ اللَّهُ تَعالى وأصَمَّهُ، ولِدَلالَةِ الآيَةِ عَلى أعَظْمِيَّةِ المَفاسِدِ ذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّها هي المُحَرِّمَةُ لِلْخَمْرِ، فَإنَّ المَفْسَدَةَ إذا تَرَجَّحَتْ عَلى المَصْلَحَةِ اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الفِعْلِ، وزادَ بَعْضُهم عَلى ذَلِكَ بِأنَّ فِيها الإخْبارَ بِأنَّ فِيها الإثْمَ الكَبِيرَ، والإثْمُ إمّا العِقابُ أوْ سَبَبُهُ، وكُلٌّ مِنهُما لا يُوصَفُ بِهِ إلّا المُحَرَّمُ، والحَقُّ أنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا في التَّحْرِيمِ كَما قالَ قَتادَةُ: إذْ لِلْقائِلِ أنْ يَقُولَ: الإثْمُ بِمَعْنى المَفْسَدَةِ، ولَيْسَ رُجْحانُ المُفْسِدَةِ مُقْتَضِيًا لِتَحْرِيمِ الفِعْلِ بَلْ لِرُجْحانِهِ، ومِن هُنا شَرِبَها كِبارُ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - بَعْدَ نُزُولِها، وقالُوا: إنَّما نَشْرَبُ ما يَنْفَعُنا، ولَمْ يَمْتَنِعُوا حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ المائِدَةِ، فَهي المُحَرِّمَةُ مِن وُجُوهٍ، كَما سَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى -، وقُرِئَ: (إثْمٌ كَثِيرٌ) بِالمُثَلَّثَةِ، وفي تَقْدِيمِ الإثْمِ ووَصْفِهِ بِالكِبَرِ أوِ الكَثْرَةِ وتَأْخِيرِ ذِكْرِ المَنافِعِ مَعَ تَخْصِيصِها بِالنّاسِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى غَلَبَةِ الأوَّلِ ما لا يَخْفى، وقَرَأ أُبَيٌّ: (وإثْمُهُما أقْرَبُ مِن نَفْعِهِما). ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: «”أنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحابَةِ أُمِرُوا بِالنَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ - تَعالى - أتَوُا النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالُوا: إنّا لا نَدْرِي ما هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي أُمِرْنا بِها في أمْوالِنا، فَما نُنْفِقُ مِنها؟ فَنَزَلَتْ“؛ وكانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُنْفِقُ الرَّجُلُ مالَهُ حَتّى ما يَجِدَ ما يَتَصَدَّقُ، ولا ما يَأْكُلُ حَتّى يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ». وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ أبانَ عَنْ يَحْيى، أنَّهُ بَلَغَهُ «”أنَّ مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ وثَعْلَبَةَ أتَيا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لَنا أرِقّاءَ وأهْلِينَ، فَما نُنْفِقُ مِن أمْوالِنا؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ“،» وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى يَسْألُونَكَ قَبْلَها عَطْفُ القَصَّةِ عَلى القَصَّةِ، وقِيلَ: نَزَلَتْ في عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ كَنَظِيرَتِها، وكَأنَّهُ سُئِلَ أوَّلًا عَنِ المُنْفَقِ والمَصْرِفِ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الإنْفاقِ بِقَرِينَةِ الجَوابِ، فالمَعْنى: يَسْألُونَكَ عَنْ صِفَةِ ما يُنْفِقُونَهُ ﴿قُلِ العَفْوَ﴾ أيْ: صِفَتِهِ أنْ يَكُونَ عَفْوًا فَكَلِمَةُ ما لِلسُّؤالِ عَنِ الوَصْفِ كَما يُقالُ: ما زِيدُ؟ فَيُقالُ: كَرِيمٌ، إلّا إنَّهُ قَلِيلٌ في الِاسْتِعْمالِ، وأصْلُ العَفْوِ نَقِيضُ الجُهْدِ، ولِذا يُقالُ لِلْأرْضِ المُمَهَّدَةِ السَّهْلَةِ الوَطْءُ: عَفْوٌ، والمُرادُ بِهِ ما لا يَتَبَيَّنُ في الأمْوالِ، وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -: الفَضْلُ مِنَ العِيالِ، وعَنِ الحَسَنِ: ما لا يُجْهِدُ. أخْرَجَ الشَّيْخانِ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ“،» وأخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْهُ أيْضًا، أنَّهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما أبْقَتْ غِنى، واليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ، تَقُولُ المَرْأةُ: أنْفِقْ عَلَيَّ أوْ طَلِّقْنِي، ويَقُولُ مَمْلُوكُكَ: أنْفِقْ عَلَيَّ أوْ بِعْنِي، ويَقُولُ ولَدُكَ: إلى مَن تَكِلُنِي“،» وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ جابِرٍ، قالَ: «قَدِمَ أبُو حَصِينٍ السُّلَمِيُّ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الحَمامَةِ مِن ذَهَبٍ، فَقالَ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ، أصَبْتُ هَذِهِ مِن مَعْدِنٍ، فَخُذْها فَهي صَدَقَةٌ، ما أمْلِكُ غَيْرَها، فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، ثُمَّ أتاهُ مِن قِبَلِ رُكْنِهِ الأيْمَنِ، فَقالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أتاهُ مِن رُكْنِهِ الأيْسَرِ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أتاهُ مِن خَلْفِهِ، فَأخَذَها رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَحَذَفَهُ بِها، فَلَوْ أصابَتْهُ لَأوْجَعَتْهُ أوْ لَعَقَرَتْهُ، فَقالَ: يَأْتِي أحَدُكم بِما يَمْلِكُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ“». وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ المُبْتَدَأِ عَلى أنَّ ( ماذا يُنْفِقُونَ ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والباقُونَ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ الفِعْلِ، و(ماذا) مَفْعُولُ (يُنْفِقُونَ) لِيُطابِقَ الجَوابُ السُّؤالَ. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ أيْ: مِثْلِ ما بَيَّنَ أنَّ العَفْوَ أصْلَحُ مِنَ الجُهْدِ؛ لِأنَّهُ أبْقى لِلِبانِ وأكْثَرُ نَفْعًا في الآخِرَةِ، فالمُشارُ إلَيْهِ ما يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلِ العَفْوَ﴾ وإيرادُ صِيغَةِ البَعِيدِ مَعَ قُرْبِهِ لِكَوْنِهِ (p-116)مَعْنى مُتَقَدِّمَ الذِّكْرِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُشارُ إلَيْهِ جَمِيعَ ما ذُكِرَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ إذْ لا مُخَصَّصٌ مَعَ كَوْنِ التَّعْمِيمِ أفْيَدُ، والقُرْبُ إنَّما يُرَجِّحُ القَرِيبَ عَلى ما سِواهُ فَقَطْ، وجَعْلُ المُشارِ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ عَلى ما فِيهِ لا يَخْفى بُعْدُهُ، والكافُ في مَوْضِعِ النَّصْبِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، واللّامُ في الآياتِ لِلْجِنْسِ؛ أيْ: يُبَيِّنُ لَكُمُ الآياتِ المُشْتَمِلَةَ عَلى الأحْكامِ تَبْيِينًا مِثْلَ هَذا التَّبْيِينِ، إمّا بِإنْزالِها واضِحَةَ الدَّلالَةِ، أوْ بِإزالَةِ إجْمالِها بِآيَةٍ أُخْرى، أوْ بِبَيانٍ مِن قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ ( كَذَلِكم ) عَلى طِبْقِ ( لَكم ) لَكِنَّهُ وُحِّدَ بِتَأْوِيلِ نَحْوِ القَبِيلَةِ أوِ الجَمْعِ مِمّا هو مُفْرَدُ اللَّفْظِ جَمْعُ المَعْنى رَوْمًا لِلتَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ لُحُوقِ عَلامَةِ الخِطابِ بِاسْمِ الإشارَةِ، وقِيلَ: إنَّ الإفْرادَ لِلْإيذانِ بِأنَّ المُرادَ بِهِ كُلُّ مَن يَتَلَقّى الكَلامَ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ وفِيهِ أنَّهُ يَلْزَمُ تَعَدُّدُ الخِطابِ في كَلامٍ واحِدٍ مِن غَيْرِ عَطْفٍ، وذا لا يَجُوزُ كَما نَصَّ عَلَيْهِ الرِّضى ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ 229﴾ أيْ: في الآياتِ، فَتَسْتَنْبِطُوا الأحْكامَ مِنها وتَفْهَمُوا المَصالِحَ والمَنافِعَ المَنُوطَةَ بِها، وبِهَذا التَّقْدِيرِ حَسُنَ كَوْنُ تَرْجِّي التَّفَكُّرِ غايَةً لِتَبْيِينِ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب