الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ «رُوِيَ (أنَّهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا﴾ فَأخَذَ المُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَها، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ ومُعاذًا ونَفَرًا مِنَ الصَّحابَةِ قالُوا: أفْتِنا يا رَسُولَ اللَّهِ في الخَمْرِ فَإنَّها مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ مُسْلِبَةٌ لِلْمالِ)، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَشَرِبَها قَوْمٌ وتَرَكَها آخَرُونَ. ثُمَّ دَعا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ناسًا مِنهم فَشَرِبُوا وسَكِرُوا، فَأمَّ أحَدُهم فَقَرَأ: « قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فَنَزَلَتْ ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ فَقَلَّ مَن يَشْرَبُها، ثُمَّ دَعا عِتْبانُ بْنُ مالِكٍ سَعْدَ بْنَ أبِي وقّاصٍ في نَفَرٍ فَلَمّا سَكِرُوا افْتَخَرُوا وتَناشَدُوا، فَأنْشَدَ سَعْدٌ شِعْرًا فِيهِ هِجاءُ الأنْصارِ، فَضَرَبَهُ أنْصارِيٌّ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجَّهُ، فَشَكا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا فَنَزَلَتْ ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: انْتَهَيْنا يا رَبِّ.» والخَمْرُ في الأصْلِ مَصْدَرُ خَمَرَهُ إذا (p-138)سَتَرَهُ، سُمِّيَ بِها عَصِيرُ العِنَبِ والتَّمْرِ إذا اشْتَدَّ وغَلا كَأنَّهُ يَخْمُرُ العَقْلَ، كَما سُمِّيَ سَكَرًا لِأنَّهُ يُسْكِرُهُ أيْ يَحْجِزُهُ، وهي حَرامٌ مُطْلَقًا وكَذا كُلُّ ما أسْكَرَ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: نَقِيعُ الزَّبِيبِ والتَّمْرِ إذا طُبِخَ حَتّى ذَهَبَ ثُلُثاهُ ثُمَّ اشْتَدَّ حَلَّ شُرْبُهُ ما دُونَ السَّكَرِ. ﴿والمَيْسِرِ﴾ أيْضًا مَصْدَرٌ كالمَوْعِدِ، سُمِّيَ بِهِ القِمارُ لِأنَّهُ أخْذُ مالِ الغَيْرِ بِيُسْرٍ أوْ سَلْبُ يَسارِهِ، والمَعْنى يَسْألُونَكَ عَنْ تَعاطِيهِما لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ فِيهِما﴾ أيْ في تَعاطِيهِما. ﴿إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ مِن حَيْثُ إنَّهُ يُؤَدِّي إلى الِانْتِكابِ عَنِ المَأْمُورِ، وارْتِكابِ المَحْظُورِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ « كَثِيرٌ» بِالثّاءِ. ﴿وَمَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ مِن كَسْبِ المالِ والطَّرَبِ والِالتِذاذِ ومُصادَقَةِ الفِتْيانِ، وفي الخَمْرِ خُصُوصًا تَشْجِيعُ الجَبانِ وتَوْفِيرُ المُرُوءَةِ وتَقْوِيَةُ الطَّبِيعَةِ. ﴿وَإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ أيِ المَفاسِدُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنهُما أعْظَمُ مِنَ المَنافِعِ المُتَوَقَّعَةِ مِنهُما. ولِهَذا قِيلَ إنَّها المُحَرَّمَةُ لِلْخَمْرِ لِأنَّ المَفْسَدَةَ إذا تَرَجَّحَتْ عَلى المَصْلَحَةِ اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الفِعْلِ، والأظْهَرُ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِما مَرَّ مِن إبْطالِ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ. ﴿وَيَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ قِيلَ سائِلُهُ أيْضًا عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ سَألَ أوَّلًا عَنِ المُنْفَقِ والمَصْرِفِ، ثُمَّ سَألَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الإنْفاقِ. ﴿قُلِ العَفْوَ﴾ العَفْوُ نَقِيضُ الجُهْدِ ومِنهُ يُقالُ لِلْأرْضِ السَّهْلَةِ، وهو أنْ يُنْفِقَ ما تَيَسَّرَ لَهُ بَذْلُهُ ولا يَبْلُغُ مِنهُ الجَهْدَ. قالَ: ؎ خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي... ولا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أغْضَبُ وَرُوِيَ «أنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ ﷺ بِبَيْضَةٍ مِن ذَهَبٍ أصابَها في بَعْضِ المَغانِمِ فَقالَ: خُذْها مِنِّي صَدَقَةً، فَأعْرَضَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْهُ حَتّى كَرَّرَ عَلَيْهِ مِرارًا فَقالَ: هاتِها مُغْضَبًا فَأخَذَها فَحَذَفَها حَذْفًا لَوْ أصابَهُ لَشَجَّهُ ثُمَّ قالَ: « يَأْتِي أحَدُكم بِمالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ ويَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النّاسَ، إنَّما الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ « العَفْوُ» . ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ أيْ مِثْلَ ما بَيَّنَ أنَّ العَفْوَ أصْلَحُ مِنَ الجَهْدِ، أوْ ما ذَكَرَ مِنَ الأحْكامِ، والكافُ في مَوْضِعِ النَّصْبِ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ تَبْيِينًا مِثْلَ هَذا التَّبْيِينِ، وإنَّما وحَّدَ العَلامَةَ والمُخاطَبُ بِهِ جَمْعٌ عَلى تَأْوِيلِ القَبِيلِ والجَمْعِ، ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ في الدَّلائِلِ والأحْكامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب