الباحث القرآني

(p-١٠٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ ﴿النّارِ ذاتِ الوَقُودِ﴾ ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ لا بُدَّ لِلْقَسَمِ مِن جَوابٍ، واخْتَلَفُوا فِيهِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: ما ذَكَرَهُ الأخْفَشُ وهو أنَّ جَوابَ القَسَمِ قَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ واللّامُ مُضْمَرَةٌ فِيهِ، كَما قالَ: ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ [الشمس: ١] ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩] يُرِيدُ: لَقَدْ أفْلَحَ، قالَ: وإنْ شِئْتَ عَلى التَّقْدِيمِ كَأنَّهُ قِيلَ: قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ. وثانِيها: ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ، وهو أنَّ جَوابَ القَسَمِ: ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وقَتادَةَ. وثالِثُها: أنَّ جَوابَ القَسَمِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ الآيَةَ. كَما تَقُولُ: واللَّهِ إنَّ زَيْدًا لَقائِمٌ، إلّا أنَّهُ اعْتَرَضَ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ قَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ . ورابِعُها: ما ذَكَرَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ أنَّ جَوابَ القَسَمِ مَحْذُوفٌ، وهَذا اخْتِيارُ صاحِبِ ”الكَشّافِ“ إلّا أنَّ المُتَقَدِّمِينَ، قالُوا: ذَلِكَ المَحْذُوفُ هو أنَّ الأمْرَ حَقٌّ في الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: جَوابُ القَسَمِ هو الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: أقْسَمَ بِهَذِهِ الأشْياءِ، أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ كَما لُعِنَ أصْحابُ الأُخْدُودِ، وذَلِكَ لِأنَّ السُّورَةَ ورَدَتْ في تَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ وتَصْبِيرِهِمْ عَلى أذى أهْلِ مَكَّةَ وتَذْكِيرِهِمْ بِما جَرى عَلى مَن تَقَدَّمُهم مِنَ التَّعْذِيبِ عَلى الإيمانِ حَتّى يَقْتَدُوا بِهِمْ ويَصْبِرُوا عَلى أذى قَوْمِهِمْ، ويَعْلَمُوا أنَّ كَفّارَ مَكَّةَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنزِلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كانُوا في الأُمَمِ السّالِفَةِ يَحْرِقُونَ أهْلَ الإيمانِ بِالنّارِ، وأحِقّاءُ بِأنْ يُقالَ فِيهِمْ: قُتِلَتْ قُرَيْشٌ كَما: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا قِصَّةَ أصْحابِ الأُخْدُودِ عَلى طُرُقٍ مُتَبايِنَةٍ ونَحْنُ نَذْكُرُ مِنها ثَلاثَةً: أحَدُها: أنَّهُ كانَ لِبَعْضِ المُلُوكِ ساحِرٌ، فَلَمّا كَبُرَ ضُمَّ إلَيْهِ غُلامٌ لِيُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، وكانَ في طَرِيقِ الغُلامِ راهِبٌ، فَمالَ قَلْبُ الغُلامِ إلى ذَلِكَ الرّاهِبِ ثُمَّ رَأى الغُلامُ في طَرِيقِهِ ذاتَ يَوْمٍ حَيَّةً قَدْ حَبَسَتِ النّاسَ فَأخَذَ حَجَرًا، وقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ الرّاهِبُ أحَبَّ إلَيْكَ مِنَ السّاحِرِ فَقَوِّنِي عَلى قَتْلِها بِواسِطَةِ رَمْيِ الحَجَرِ إلَيْها، ثُمَّ رَمى فَقَتَلَها، فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإعْراضِ الغُلامِ عَنِ السِّحْرِ واشْتِغالِهِ بِطَرِيقَةِ الرّاهِبِ، ثُمَّ صارَ إلى حَيْثُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ ويَشْفِي مِنَ الأدْواءِ، فاتَّفَقَ أنْ عَمِيَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَأبْرَأهُ فَلَمّا رَآهُ المَلِكُ قالَ: مَن رَدَّ عَلَيْكَ نَظَرَكَ ؟ فَقالَ رَبِّي فَغَضِبَ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلى الغُلامِ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلى الرّاهِبِ فَأحْضَرَ الرّاهِبَ وزَجَرَهُ عَنْ دِينِهِ فَلَمْ يَقْبَلِ الرّاهِبُ قَوْلَهُ فَقُدَّ بِالمِنشارِ، ثُمَّ أتَوْا بِالغُلامِ إلى جَبَلٍ لِيُطْرَحَ مِن ذُرْوَتِهِ فَدَعا اللَّهَ، فَرَجَفَ بِالقَوْمِ فَهَلَكُوا ونَجا، فَذَهَبُوا بِهِ إلى سَفِينَةٍ لَجَّجُوا بِها لِيُغْرِقُوهُ، فَدَعا اللَّهَ فانْكَفَأتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا ونَجا، فَقالَ لِلْمَلِكِ: لَسْتَ بِقاتِلِي حَتّى تَجْمَعَ النّاسَ في صَعِيدٍ وتَصْلُبَنِي عَلى جِذْعٍ وتَأْخُذَ سَهْمًا مِن كِنانَتِي، وتَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ ثُمَّ تَرْمِينِي بِهِ، فَرَماهُ فَوَقَعَ في صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وماتَ، فَقالَ النّاسُ: آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: نَزَلَ بِكَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ، فَأمَرَ بِأخادِيدَ في أفْواهِ السِّكَكِ، وأُوقِدَتْ فِيها النِّيرانُ، فَمَن لَمْ يَرْجِعْ مِنهم طَرَحَهُ فِيها، حَتّى جاءَتِ امْرَأةٌ مَعَها صَبِيٌّ فَتَقاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فِيها فَقالَ الصَّبِيُّ: يا أُمّاهُ اصْبِرِي فَإنَّكِ عَلى الحَقِّ، فَصَبَرَتْ عَلى ذَلِكَ. الرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهم حِينَ اخْتَلَفُوا في أحْكامِ المَجُوسِ قالَ: هم أهْلُ الكِتابِ (p-١٠٨)وكانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتابِهِمْ وكانَتِ الخَمْرُ قَدْ أُحِلِّتْ لَهم فَتَناوَلَها بَعْضُ مُلُوكِها فَسَكِرَ فَوَقَعَ عَلى أُخْتِهِ فَلَمّا صَحا نَدِمَ وطَلَبَ المَخْرَجَ فَقالَتْ لَهُ: المَخْرَجُ أنْ تَخْطُبَ النّاسَ فَتَقُولُ: إنِ اللَّهَ تَعالى قَدْ أحَلَّ نِكاحَ الأخَواتِ ثُمَّ تَخْطُبُهم بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَهُ، فَخَطَبَ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنهُ ذَلِكَ فَقالَتْ لَهُ: ابْسُطْ فِيهِمُ السَّوْطَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَقالَتِ: ابْسُطْ فِيهِمُ السَّيْفَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَأمَرَتْهُ بِالأخادِيدِ وإيقادِ النِّيرانِ وطَرْحِ مَن أتى فِيها الَّذِينَ أرادَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ . الرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ وقَعَ إلى نَجْرانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كانَ عَلى دِينِ عِيسى فَدَعاهم فَأجابُوهُ فَصارَ إلَيْهِمْ ذُو نُواسٍ اليَهُودِيُّ بِجُنُودٍ مِن حِمْيَرَ فَخَيَّرَهم بَيْنَ النّارِ واليَهُودِيَّةِ فَأبَوْا، فَأحْرَقَ مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا في الأخادِيدِ، وقِيلَ سَبْعِينَ ألْفًا، وذُكِرَ أنَّ طُولَ الأُخْدُودِ أرْبَعُونَ ذِراعًا وعَرْضَهُ اثْنا عَشَرَ ذِراعًا، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«أنَّهُ كانَ إذا ذُكِرَ أصْحابُ الأُخْدُودِ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِن جَهْدِ البَلاءِ» “ فَإنْ قِيلَ: تَعارُضُ هَذِهِ الرِّواياتِ يَدُلُّ عَلى كَذِبِها، قُلْنا: لا تَعارُضَ فَقِيلَ: إنَّ هَذا كانَ في ثَلاثِ طَوائِفَ ثَلاثَ مَرّاتٍ مَرَّةً بِاليَمَنِ، ومَرَّةً بِالعِراقِ، ومَرَّةً بِالشّامِ، ولَفْظُ الأُخْدُودِ، وإنْ كانَ واحِدًا إلّا أنَّ المُرادَ هو الجَمْعُ وهو كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وقالَ القَفّالُ: ذَكَرُوا في قِصَّةِ أصْحابِ الأُخْدُودِ رِواياتٍ مُخْتَلِفَةً ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنها ما يَصِحُّ إلّا أنَّها مُتَّفِقَةٌ في أنَّهم قَوْمٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ خالَفُوا قَوْمَهم أوْ مَلِكًا كافِرًا كانَ حاكِمًا عَلَيْهِمْ فَألْقاهم في أُخْدُودٍ وحَفَرَ لَهم، ثُمَّ قالَ: وأظُنُّ أنَّ تِلْكَ الواقِعَةَ كانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِأصْحابِ رَسُولِهِ تَنْبِيهًا لَهم عَلى ما يَلْزَمُهم مِنَ الصَّبْرِ عَلى دِينِهِمْ واحْتِمالِ المَكارِهِ فِيهِ فَقَدْ كانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ عَلى حَسَبِ ما اشْتَهَرَتْ بِهِ الأخْبارُ مِن مُبالَغَتِهِمْ في إيذاءِ عَمّارٍ وبِلالٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الأُخْدُودُ: الشَّقُّ في الأرْضِ يُحْفَرُ مُسْتَطِيلًا وجَمْعُهُ الأخادِيدُ ومَصْدَرُهُ الخَدُّ وهو الشَّقُّ يُقالُ: خَدَّ في الأرْضِ خَدًّا وتَخَدَّدَ لَحْمُهُ إذا صارَ طَرائِقَ كالشُّقُوقِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِأصْحابِ الأُخْدُودِ القاتِلِينَ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِمُ المَقْتُولِينَ، والرِّوايَةُ المَشْهُورَةُ أنَّ المَقْتُولِينَ هُمُ المُؤْمِنُونَ، ورُوِيَ أيْضًا أنَّ المَقْتُولِينَ هُمُ الجَبابِرَةُ لِأنَّهم لَمّا ألْقَوُا المُؤْمِنِينَ في النّارِ عادَتِ النّارُ عَلى الكَفَرَةِ فَأحْرَقَتْهم ونَجّى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ مِنها سالِمِينَ، وإلى هَذا القَوْلِ ذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ والواقِدِيُّ وتَأوَّلُوا قَوْلَهُ: ﴿فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ﴾ أيْ لَهم عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ في الدُّنْيا. إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ وُجُوهًا ثَلاثَةً وذَلِكَ لِأنّا إمّا أنْ نُفَسِّرَ أصْحابَ الأُخْدُودِ بِالقاتِلِينَ أوْ بِالمَقْتُولِينَ. أمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ فَفِيهِ تَفْسِيرانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ هَذا دُعاءٌ عَلَيْهِمْ أيْ لُعِنَ أصْحابُ الأُخْدُودِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ [الذاريات: ١٠] . والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ أُولَئِكَ القاتِلِينَ قُتِلُوا بِالنّارِ عَلى ما ذَكَرْنا أنَّ الجَبابِرَةَ لَمّا أرادُوا قَتْلَ المُؤْمِنِينَ بِالنّارِ عادَتِ النّارُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَتْهم، وأمّا إذا فَسَّرْنا أصْحابَ الأُخْدُودِ بِالمَقْتُولِينَ كانَ المَعْنى أنَّ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ قُتِلُوا بِالإحْراقِ بِالنّارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا لا دُعاءً. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ قُتِّلَ بِالتَّشْدِيدِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿النّارِ ذاتِ الوَقُودِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: النّارُ إنَّما تَكُونُ عَظِيمَةً إذا كانَ هُناكَ شَيْءٌ يَحْتَرِقُ بِها إمّا حَطَبٌ أوْ غَيْرُهُ، فالوَقُودُ اسْمٌ (p-١٠٩)لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [التحريم: ٦] وفي: ﴿ذاتِ الوَقُودِ﴾ تَعْظِيمُ أمْرِ ما كانَ في ذَلِكَ الأُخْدُودِ مِنَ الحَطَبِ الكَثِيرِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ: هَذا بَدَلُ الِاشْتِمالِ كَقَوْلِكَ: سُلِبَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ فَإنَّ الأُخْدُودَ مُشْتَمِلٌ عَلى النّارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قُرِئَ الوُقُودِ بِالضَّمِّ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: العامِلُ في ”إذْ“ ”قُتِلَ“ والمَعْنى لُعِنُوا في ذَلِكَ الوَقْتِ الَّذِي هم فِيهِ قُعُودٌ عِنْدَ الأُخْدُودِ يُعَذِّبُونَ المُؤْمِنِينَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الآيَةِ إشْكالٌ وهو أنَّ قَوْلَهُ: (هم) ضَمِيرٌ عائِدٌ إلى أصْحابِ الأُخْدُودِ، لِأنَّ ذَلِكَ أقْرَبُ المَذْكُوراتِ والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (عَلَيْها) عائِدٌ إلى النّارِ فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ أصْحابَ الأُخْدُودِ كانُوا قاعِدِينَ عَلى النّارِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ. والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الضَّمِيرَ في هم عائِدٌ إلى أصْحابِ الأُخْدُودِ، لَكِنَّ المُرادَ هاهُنا مِن أصْحابِ الأُخْدُودِ المَقْتُولُونَ لا القاتِلُونَ فَيَكُونُ المَعْنى إذِ المُؤْمِنُونَ قُعُودٌ عَلى النّارِ يَحْتَرِقُونَ مُطَّرِحُونَ عَلى النّارِ. وثانِيها: أنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ في (عَلَيْها) عائِدًا إلى طَرَفِ النّارِ وشَفِيرِها والمَواضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الجُلُوسُ فِيها، ولَفْظُ ”عَلى“ مَشْعِرٌ بِذَلِكَ تَقُولُ مَرَرْتُ عَلَيْها تُرِيدُ مُسْتَعْلِيًا بِمَكانٍ يَقْرُبُ مِنهُ، فالقائِلُونَ كانُوا جالِسِينَ فِيها وكانُوا يَعْرِضُونَ المُؤْمِنِينَ عَلى النّارِ، فَمَن كانَ يَتْرُكُ دِينَهُ تَرَكُوهُ ومَن كانَ يَصْبِرُ عَلى دِينِهِ ألْقَوْهُ في النّارِ. وثالِثُها: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّ الضَّمِيرَ في هم عائِدٌ إلى أصْحابِ الأُخْدُودِ بِمَعْنى القاتِلِينَ، والضَّمِيرَ في عَلَيْها عائِدٌ إلى النّارِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ أُولَئِكَ القاتِلِينَ كانُوا قاعِدِينَ عَلى النّارِ، فَإنّا بَيَّنّا أنَّهم لَمّا ألْقَوُا المُؤْمِنِينَ في النّارِ ارْتَفَعَتِ النّارُ إلَيْهِمْ فَهَلَكُوا بِنَفْسِ ما فَعَلُوهُ بِأيْدِيهِمْ لِأجْلِ إهْلاكِ غَيْرِهِمْ، فَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّهم في تِلْكَ الحالَةِ كانُوا مَلْعُونِينَ أيْضًا، ويَكُونُ المَعْنى أنَّهم خَسِرُوا الدُّنْيا والآخِرَةَ. ورابِعُها: أنْ تَكُونَ عَلى بِمَعْنى عِنْدَ، كَما قِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَهم عَلَيَّ ذَنْبٌ﴾ [الشعراء: ١٤] أيْ عِنْدِي. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ فاعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿شُهُودٌ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ حُضُورًا، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الشُّهُودَ الَّذِينَ تَثْبُتُ الدَّعْوى بِشَهادَتِهِمْ، أمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، فالمَعْنى إنَّ أُولَئِكَ الجَبابِرَةَ القاتِلِينَ كانُوا حاضِرِينَ عِنْدَ ذَلِكَ العَمَلِ يُشاهِدُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الغَرَضُ مِن ذِكْرِ ذَلِكَ أحَدَ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: إمّا وصْفُهم بِقَسْوَةِ القَلْبِ إذْ كانُوا عِنْدَ التَّعْذِيبِ بِالنّارِ حاضِرِينَ مُشاهِدِينَ لَهُ، وإمّا وصْفُهم بِالجِدِّ في تَقْرِيرِ كُفْرِهِمْ وباطِلِهِمْ حَيْثُ حَضَرُوا في تِلْكَ المَواطِنِ المُنَفِّرَةِ والأفْعالِ المُوحِشَةِ، وأمّا وصْفُ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ المَقْتُولِينَ بِالجِدِّ دِينُهم والإصْرارِ عَلى حَقِّهِمْ، فَإنَّ الكُفّارَ إنَّما حَضَرُوا في ذَلِكَ المَوْضِعِ طَمَعًا في أنَّ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ إذا نَظَرُوا إلَيْهِمْ هابُوا حُضُورَهم واحْتَشَمُوا مِن مُخالَفَتِهِمْ، ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِمْ وبَقُوا مُصِرِّينَ عَلى دِينِهِمُ الحَقِّ، فَإنْ قُلْتَ المُرادُ مِنَ الشُّهُودِ إنْ كانَ هَذا المَعْنى، فَكانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ: وهم لِما يَفْعَلُونَ شُهُودٌ ولا يُقالُ: وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ شُهُودٌ ؟ قُلْنا: إنَّما ذَكَرَ لَفْظَةَ عَلى بِمَعْنى أنَّهم عَلى قُبْحِ فِعْلِهِمْ بِهَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ، وهو إحْراقُهم بِالنّارِ كانُوا حاضِرِينَ مُشاهِدِينَ لِتِلْكَ الأفْعالِ القَبِيحَةِ. أمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي: وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الشُّهُودِ الشَّهادَةَ الَّتِي تَثْبُتُ الدَّعْوى بِها فَفِيهِ وُجُوهٌ: (p-١١٠)أحَدُها: أنَّهم جُعِلُوا شُهُودًا يَشْهَدُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عِنْدِ المَلِكِ أنَّ أحَدًا مِنهم لَمْ يُفَرِّطْ فِيما أُمِرَ بِهِ، وفُوِّضَ إلَيْهِ مِنَ التَّعْذِيبِ وثانِيها: أنَّهم شُهُودٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ يُؤَدُّونَ شَهادَتَهم يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤]، وثالِثُها: أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ مُشاهِدُونَ لِما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ الإحْراقِ بِالنّارِ حَتّى لَوْ كانَ ذَلِكَ مِن غَيْرِهِمْ لَكانُوا شُهُودًا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَعَ هَذا لَمْ تَأْخُذْهم بِهِمْ رَأْفَةٌ، ولا حَصَلَ في قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ ولا شَفَقَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب