الباحث القرآني

﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ ﴿واليَوْمِ المَوْعُودِ﴾ ﴿وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ ﴿النّارِ ذاتِ الوَقُودِ﴾ ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ ﴿وما نَقَمُوا مِنهم إلّا أنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ . فِي افْتِتاحِ السُّورَةِ بِهَذا القَسَمِ تَشْوِيقٌ إلى ما يَرِدُ بَعْدَهُ وإشْعارٌ بِأهَمِّيَّةِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ، وهو مَعَ ذَلِكَ يَلْفِتُ ألْبابَ السّامِعِينَ إلى الأُمُورِ المُقْسَمِ بِها؛ لِأنَّ بَعْضَها مِن دَلائِلِ عَظِيمِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ المُقْتَضِيَةِ تَفَرُّدَ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ وإبْطالَ الشَّرِيكِ، وبَعْضُها مُذَكِّرٌ بِيَوْمِ البَعْثِ المَوْعُودِ، ورَمَزَ إلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، إذِ القَسَمُ لا يَكُونُ إلّا بِشَيْءٍ ثابِتِ الوُقُوعِ، وبَعْضُها بِما فِيهِ مِنَ الإبْهامِ يُوَجِّهُ أنْفُسَ السّامِعِينَ إلى تَطَلُّبِ بَيانِهِ. ومُناسَبَةُ القَسَمِ لِما أقْسَمَ عَلَيْهِ أنَّ المُقْسَمَ عَلَيْهِ تَضَمَّنَ العِبْرَةَ بِقِصَّةِ أصْحابِ الأُخْدُودِ، ولَمّا كانَتِ الأخادِيدُ خُطُوطًا مَجْعُولَةً في الأرْضِ مُسْتَعِرَةً بِالنّارِ أقْسَمَ عَلى ما تَضَمَّنَها بِالسَّماءِ بِقَيْدِ صِفَةٍ مِن صِفاتِها الَّتِي يَلُوحُ بِها لِلنّاظِرِينَ في نُجُومِها ما أسْماهُ العَرَبُ بُرُوجًا وهي تُشْبِهُ داراتٍ مُتَلَأْلِئَةً بِأنْوارِ النُّجُومِ اللّامِعَةِ الشَّبِيهَةِ بِتَلَهُّبِ النّارِ. والقَسَمُ بِالسَّماءِ بِوَصْفِ ذاتِ البُرُوجِ يَتَضَمَّنُ قَسَمًا بِالأمْرَيْنِ مَعًا لِتَلْتَفِتَ أفْكارُ المُتَدَبِّرِينَ إلى ما في هَذِهِ المَخْلُوقاتِ وهَذِهِ الأحْوالِ مِن دَلالَةٍ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ وسَعَةِ العِلْمِ الإلَهِيِّ، إذْ خَلْقُها عَلى تِلْكَ المَقادِيرِ المَضْبُوطَةِ لِيَنْتَفِعَ بِها النّاسُ في (p-٢٣٨)مَواقِيتِ الأشْهُرِ والفَصْلِ. كَما قالَ تَعالى في نَحْوِ هَذا ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٧] . وأمّا مُناسَبَةُ القَسَمِ بِاليَوْمِ المَوْعُودِ فَلِأنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ بِاتِّفاقِ أهْلِ التَّأْوِيلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ وعَدَ بِوُقُوعِهِ، قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ﴾ [المعارج: ٤٤] مَعَ ما في القَسَمِ بِهِ مِن إدْماجِ الإيماءِ إلى وعِيدِ أصْحابِ القِصَّةِ المُقْسَمِ عَلى مَضْمُونِها ووَعِيدِ أمْثالِهِمُ المُعَرَّضِ بِهِمْ. ومُناسَبَةُ القَسَمِ بِـ ﴿وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ عَلى اخْتِلافِ تَأْوِيلاتِهِ، سَتُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّأْوِيلاتِ وهي قَرِيبَةٌ مِن مُناسَبَةِ القَسَمِ بِاليَوْمِ المَوْعُودِ، ويُقابِلُهُ في المُقْسَمِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ . والبُرُوجُ: تُطْلَقُ عَلى عَلاماتٍ مِن قُبَّةِ الجَوِّ يَتَراءى لِلنّاظِرِ أنَّ الشَّمْسَ تَكُونُ في سَمْتِها مُدَّةَ شَهْرٍ مِن أشْهُرِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، فالبُرُوجُ: اسْمٌ مَنقُولٌ مِنِ اسْمِ البُرْجِ بِمَعْنى القَصْرِ؛ لِأنَّ الشَّمْسَ تَنْزِلُهُ أوْ مَنقُولٌ مِنَ البُرْجِ بِمَعْنى الحِصْنِ. والبُرْجُ السَّماوِيُّ يَتَألَّفُ مِن مَجْمُوعَةِ نُجُومٍ قَرِيبٌ بَعْضُها مِن بَعْضٍ لا تَخْتَلِفُ أبْعادُها أبَدًا. وإنَّما سُمِّيَ بُرْجًا لِأنَّ المُصْطَلِحِينَ تَخَيَّلُوا أنَّ الشَّمْسَ تَحِلُّ فِيهِ مُدَّةً فَهو كالبُرْجِ، أيِ: القَصْرِ أوِ الحِصْنِ، ولَمّا وجَدُوا كُلَّ مَجْمُوعَةٍ مِنها يُخالُ مِنها شَكْلٌ لَوْ أُحِيطَ بِإطارٍ لِخَطٍّ مَفْرُوضٍ لَأشْبَهَ مُحِيطُها مُحِيطَ صُورَةٍ تَخَيُّلِيَّةٍ لِبَعْضِ الذَّواتِ مِن حَيَوانٍ أوْ نَباتٍ أوْ آلاتٍ، مَيَّزُوا بَعْضَ تِلْكَ البُرُوجِ مِن بَعْضٍ بِإضافَتِهِ إلى اسْمِ ما تُشْبِهُهُ تِلْكَ الصُّورَةُ تَقْرِيبًا، فَقالُوا: بُرْجُ الثَّوْرِ، بُرْجُ الدَّلْوِ، بُرْجُ السُّنْبُلَةِ مَثَلًا. وهَذِهِ البُرُوجُ هي في التَّحْقِيقِ سُمُوتٌ تُقابِلُها الشَّمْسُ في فَلَكِها مُدَّةَ شَهْرٍ كامِلٍ مِن أشْهُرِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، يُوَقِّتُونَ بِها الأشْهُرَ والفُصُولَ بِمَوْقِعِ الشَّمْسِ نَهارًا في المَكانِ الَّذِي تَطْلُعُ فِيهِ نُجُومُ تِلْكَ البُرُوجِ لَيْلًا، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان: ٦١] في سُورَةِ الفُرْقانِ. ﴿وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ مُرادٌ بِهِما النَّوْعُ. فالشّاهِدُ: الرّائِي، أوِ المُخْبِرُ بِحَقٍّ لِإلْزامِ مُنْكِرِهِ. والمَشْهُودُ: المَرْئِيُّ أوِ المَشْهُودُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ. وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الوَصْفَيْنِ لِدَلالَةِ (p-٢٣٩)الكَلامِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الشّاهِدُ حاضِرَ ذَلِكَ اليَوْمِ المَوْعُودِ مِنَ المَلائِكَةِ قالَ تَعالى: ﴿وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الشّاهِدُ اللَّهَ تَعالى ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أوِ الرُّسُلُ والمَلائِكَةُ. والمَشْهُودُ: النّاسُ المَحْشُورُونَ لِلْحِسابِ وهم أصْحابُ الأعْمالِ المُعَرَّضُونَ لِلْحِسابِ؛ لِأنَّ العُرْفَ في المَجامِعِ أنَّ الشّاهِدَ فِيها: هو السّالِمُ مِن مَشَقَّتِها وهُمُ النَّظّارَةُ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلى ما يَجْرِي في المَجْمَعِ، وأنَّ المَشْهُودَ الَّذِي يَطَّلِعُ النّاسُ عَلى ما يَجْرِي عَلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الشّاهِدُ: الشّاهِدِينَ مِنَ المَلائِكَةِ، وهُمُ الحَفَظَةُ الشّاهِدُونَ عَلى الأعْمالِ، والمَشْهُودُ: أصْحابُ الأعْمالِ، وأنْ يَكُونَ الشّاهِدُ الرُّسُلَ المُبَلِّغِينَ لِلْأُمَمِ، حَيْثُ يَقُولُ الكُفّارُ: ﴿ما جاءَنا مِن بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ﴾ [المائدة: ١٩] ومُحَمَّدٌ ﷺ يَشْهَدُ عَلى جَمِيعِهِمْ، وهو ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] . وعَلى مُخْتَلَفِ الوُجُوهِ فالمُناسَبَةُ ظاهِرَةٌ بَيْنَ ﴿شاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ وبَيْنَ ما في المُقْسَمِ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾، وقَوْلِهِ: ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ أيْ: حُضُورٌ. ورَوى التِّرْمِذِيُّ مِن طَرِيقِ مُوسى بْنِ عُبَيْدَةَ إلى أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، واليَوْمُ المَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ» . أيْ: فالتَّقْدِيرُ: ويَوْمٌ شاهِدٌ ويَوْمٌ مَشْهُودٌ. قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ مُوسى بْنِ عُبَيْدَةَ ومُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ في الحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ وغَيْرُهُ مِن قِبَلِ حِفْظِهِ اهـ. ووَصْفُ يَوْمٍ بِأنَّهُ شاهِدٌ مُجازٌ عَقْلِيٌّ، ومَحْمَلُ هَذا الحَدِيثِ عَلى أنَّ هَذا مِمّا يُرادُ في الآيَةِ مِن وصْفِ شاهَدٍ ووَصْفِ مَشْهُودٍ فَهو مِن حَمْلِ الآيَةِ عَلى ما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ في حَقِيقَةٍ ومَجازٍ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ التّاسِعَةِ. وجَوابُ القَسَمِ قِيلَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ عَلَيْهِ (p-٢٤٠)والتَّقْدِيرُ أنَّهم مَلْعُونُونَ كَما لُعِنَ أصْحابُ الأُخْدُودِ. وقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: أنَّ الأمْرَ لَحَقٌّ في الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ، أوْ لَتُبْعَثُنَّ. وقِيلَ: الجَوابُ مَذْكُورٌ فِيما يَلِي، فَقالَ الزَّجّاجُ: هو ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: ١٢] . أيْ: والكَلامُ بَيْنَهُما اعْتِراضٌ قُصِدَ بِهِ التَّوْطِئَةُ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وتَوْكِيدُ الحَقِيقِ الَّذِي أفادَ القَسَمَ بِتَحْقِيقِ ذِكْرِ النَّظِيرِ. وقالَ الفَرّاءُ: الجَوابُ قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ أيْ: فَيَكُونُ (قُتِلَ) خَبَرًا لا دُعاءً ولا شَتْمًا، ولا يَلْزَمُ ذِكْرُ (قَدْ) في الجَوابِ مَعَ كَوْنِ الجَوابِ ماضِيًا؛ لِأنَّ (قَدْ) تُحْذَفُ بِناءً عَلى أنَّ حَذْفَها لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالضَّرُورَةِ. ويَتَعَيَّنُ عَلى قَوْلِ الفَرّاءِ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا في لازِمِ مَعْناهُ مِنَ الإنْذارِ لِلَّذِينَ يَفْتِنُونَ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِفاتِنِي أصْحابِ الأُخْدُودِ، وإلّا فَإنَّ الخَبَرَ عَنْ أصْحابِ الأُخْدُودِ لا يَحْتاجُ إلى التَّوْكِيدِ بِالقَسَمِ، إذْ لا يُنْكِرُهُ أحَدٌ فَهو قِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ. وانْتِساقُ ضَمائِرِ جَمْعِ الغائِبِ المَرْفُوعَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وما نَقَمُوا﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أصْحابُ الأُخْدُودِ واضِعِيهِ لِتَعْذِيبِ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: الجَوابُ هو جُمْلَةُ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [البروج: ١٠] فَيَكُونُ الكَلامُ الَّذِي بَيْنَهُما اعْتِراضًا وتَوْطِئَةً عَلى نَحْوِ ما قَرَّرْناهُ في كَلامِ الزَّجّاجِ. وقَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ صِيغَتُهُ تُشْعِرُ بِأنَّهُ إنْشاءُ شَتْمٍ لَهم، شَتْمُ خِزْيٍ وغَضَبٍ، وهَؤُلاءِ لَمْ يُقْتَلُوا، فَفِعْلُ قُتِلَ لَيْسَ بِخَبَرٍ بَلْ شَتْمٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ [الذاريات: ١٠] . وقَوْلِهِمْ: قاتَلَهُ اللَّهُ. وصُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ مَعْنى اللَّعْنِ ويَدُلُّ عَلى الوَعِيدِ؛ لِأنَّ الغَضَبَ واللَّعْنَ يَسْتَلْزِمانِ العِقابَ عَلى الفِعْلِ المَلْعُونِ لِأجْلِهِ. وقِيلَ: هو دُعاءٌ عَلى أصْحابِ الأُخْدُودِ بِالقَتْلِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] والقَتْلُ مُسْتَعارٌ لِأشَدِّ العَذابِ كَما يُقالُ: أهْلَكَهُ اللَّهُ، أيْ: أوْقَعَهُ في أشَدِّ العَناءِ، وأيًّا ما كانَ فَجُمْلَةُ ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ عَلى هَذا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَسَمِ وما بَعْدَهُ. ومَن جَعَلَ ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ جَوابَ القَسَمِ جَعَلَ الكَلامَ خَبَرًا وقَدَّرَهُ (p-٢٤١)لَقَدْ قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ، فَيَكُونُ المُرادُ مِن أصْحابِ الأُخْدُودِ الَّذِينَ أُلْقُوا فِيهِ وعُذِّبُوا فِيهِ ويَكُونُ لَفْظُ أصْحابٍ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى مُجَرَّدِ المُقارَنَةِ والمُلازَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ [يوسف: ٣٩] ولَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا تَعَيُّنَ تَأْوِيلِ هَذا القَوْلِ بِأنَّ الخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ. ولَفْظُ أصْحابٍ يَعُمُّ الآمِرِينَ بِجَعْلِ الأُخْدُودِ، والمُباشِرِينَ لِحَفْرِهِ وتَسْعِيرِهِ، والقائِمِينَ عَلى إلْقاءِ المُؤْمِنِينَ فِيهِ. وهَذِهِ قِصَّةٌ اخْتَلَفَ الرُّواةُ في تَعْيِينِها وفي تَعْيِينِ المُرادِ مِنها في هَذِهِ الآيَةِ. والرِّواياتُ كُلُّها تَقْتَضِي أنَّ المَفْتُونِينَ بِالأُخْدُودِ قَوْمٌ اتَّبَعُوا النَّصْرانِيَّةَ في بِلادِ اليَمَنِ عَلى أكْثَرِ الرِّواياتِ، أوْ في بِلادِ الحَبَشَةِ عَلى بَعْضِ الرِّواياتِ، وذُكِرَتْ فِيها رِواياتٌ مُتَقارِبَةٌ تَخْتَلِفُ بِالإجْمالِ والتَّفْصِيلِ، والتَّرْتِيبِ، والزِّيادَةِ، والتَّعْيِينِ وأصَحُّها ما رَواهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ صُهَيْبٍ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قَصَّ هَذِهِ القِصَّةَ عَلى أصْحابِهِ. ولَيْسَ فِيما رُوِيَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ ساقَها تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الآيَةِ والتِّرْمِذِيُّ ساقَ حَدِيثَها في تَفْسِيرِ سُورَةِ البُرُوجِ. وعَنْ مُقاتِلٍ: كانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الأخادِيدَ في ثَلاثٍ مِنَ البِلادِ: في نَجْرانَ، وبِالشّامِ، وبِفارِسَ، أمّا الَّذِينَ بِالشّامِ فَـ (انْطانْيُوسُ الرُّومِيُّ)، وأمّا الَّذِي بِفارِسَ فَهو (بُخْتَنَصَّرَ)، والَّذِي بِنَجْرانَ (فَيُوسُفُ ذُو نُواسٍ) . ولْنَذْكُرِ القِصَّةَ الَّتِي أشارَ إلَيْها القُرْآنُ تُؤْخَذُ مِن سِيرَةِ ابْنِ إسْحاقَ عَلى أنَّها جَرَتْ في نَجْرانَ مِن بِلادِ اليَمَنِ، وإنَّهُ كانَ مَلِكٌ وهو ذُو نُواسٍ لَهُ كاهِنٌ أوْ ساحِرٌ، وكانَ لِلسّاحِرِ تِلْمِيذٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثّامِرِ، وكانَ يَجِدُ في طَرِيقِهِ إذا مَشى إلى الكاهِنِ صَوْمَعَةً فِيها راهِبٌ كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى دِينِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ويَقْرَأُ الإنْجِيلَ، اسْمُهُ (فَيْمِيُونُ) بِفاءٍ، فَتَحْتِيَّةٍ، فَمِيمٍ، فَتَحْتِيَّةٍ (وضُبِطَ في الطَّبْعَةِ الأُورُبِّيَّةِ مِن سِيرَةِ ابْنِ إسْحاقَ الَّتِي يَلُوحُ أنَّ أصْلَها المَطْبُوعَةَ عَلَيْهِ أصْلٌ صَحِيحٌ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَضَمٍّ) قالَ السُّهَيْلِيُّ: ووَقَعَ لِلطَّبَرِيِّ بِقافٍ عِوَضَ الفاءِ. وقَدْ يُحَرَّفُ فَيُقالُ: مَيْمُونٌ بِمِيمٍ في أوَّلِهِ وبِتَحْتِيَّةٍ واحِدَةٍ، أصْلُهُ مِن غَسّانَ مِنَ الشّامِ ثُمَّ ساحَ فاسْتَقَرَّ بِنَجْرانَ، وكانَ مُنْعَزِلًا عَنِ النّاسِ مُخْتَفِيًا في صَوْمَعَتِهِ، وظَهَرَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ في قَوْمِهِ كَراماتٌ، وكانَتْ كُلَّما ظَهَرَتْ لَهُ كَرامَةٌ دَعا مَن ظَهَرَتْ لَهم إلى أنْ يَتَّبِعُوا النَّصْرانِيَّةَ، فَكَثُرَ المُتَنَصِّرُونَ في نَجْرانَ، وبَلَغَ ذَلِكَ المَلِكَ ذا (p-٢٤٢)نُواسٍ وكانَ يَهُودِيًّا، وكانَ أهْلُ نَجْرانَ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً، فَقَتَلَ المَلِكُ الغُلامَ وقَتَلَ الرّاهِبَ، وأمَرَ بِأخادِيدَ وجُمِعَ فِيها حَطَبٌ وأُشْعِلَتْ، وعُرِضَ أهْلُ نَجْرانَ عَلَيْها، فَمَن رَجَعَ عَنِ التَّوْحِيدِ تَرَكَهُ، ومَن ثَبَتَ عَلى الدِّينِ الحَقِّ قَذَفَهُ في النّارِ. فَكانَ أصْحابُ الأُخْدُودِ مِمَّنْ عُذِّبَ مِن أهْلِ دِينِ المَسِيحِيَّةِ في بِلادِ العَرَبِ. وقِصَصُ الأخادِيدِ كَثِيرَةٌ في التّارِيخِ، والتَّعْذِيبُ بِالحَرْقِ طَرِيقَةٌ قَدِيمَةٌ، ومِنها: نارُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وأمّا تَحْرِيقُ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ مِائَةً مِن بَنِي تَمِيمٍ وتَلْقِيبُهُ بِالمُحَرِّقِ فَلا أعْرِفُ أنَّ ذَلِكَ كانَ بِاتِّخاذِ أُخْدُودٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَأيْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ أصْحابَ الأُخْدُودِ هو مُحَرِّقٌ وآلُهُ الَّذِي حَرَقَ مِن بَنِي تَمِيمٍ مِائَةً. والأُخْدُودُ: بِوَزْنِ أُفْعُولٍ، وهو صِيغَةٌ قَلِيلَةُ الدَّوَرانِ غَيْرُ مَقِيسَةٍ، ومِنها قَوْلُهم: أُفْحُوصٌ، مُشْتَقٌّ مِن فَحَصَتِ القَطاةُ، والدَّجاجَةُ إذا بَحَثَتْ في التُّرابِ مَوْضِعًا تَبِيضُ فِيهِ، وقَوْلُهم أُسْلُوبٌ اسْمٌ لِطَرِيقَةٍ، ولِسَطْرِ النَّحْلِ، وأُقْنُومٌ اسْمٌ لِأصِلِ الشَّيْءِ. وقَدْ يَكُونُ هَذا الوَزْنُ مَعَ هاءِ تَأْنِيثٍ مِثْلَ أُكْرُومَةٍ، وأُعْجُوبَةٍ، وأُطْرُوحَةٍ، وأُضْحُوكَةٍ. وقَوْلُهُ: النّارُ بَدَلٌ مِنَ الأُخْدُودِ بَدَلَ اشْتِمالٍ أوْ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ لِأنَّ المُرادَ بِالأُخْدُودِ الحَفِيرُ بِما فِيهِ. والوَقُودُ: بِفَتْحِ الواوِ اسْمُ ما تُوقَدُ بِهِ النّارُ مِن حَطَبٍ ونِفْطٍ ونَحْوِهِ. ومَعْنى ذاتِ الوَقُودِ: أنَّها لا يُخْمَدُ لَهَبُها؛ لِأنَّ لَها وقُودًا يُلْقى فِيها كُلَّما خَبَتْ. ويَتَعَلَّقُ ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ بِفِعْلِ قُتِلَ، أيْ: لُعِنُوا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَعَدُوا عَلى الأُخْدُودِ. وضَمِيرُ (هم) عائِدٌ إلى أصْحابِ الأُخْدُودِ، فَإنَّ المَلِكَ يَحْضُرُ تَنْفِيذَ أمْرِهِ ومَعَهُ مَلَأُهُ، أوْ أُرِيدَ بِها المَأْمُورُونَ مِنَ المَلِكِ. فَعَلى احْتِمالِ أنَّهم أعْوانُ المَلِكِ، فالقُعُودُ الجُلُوسُ كُنِّيَ بِهِ عَنِ المُلازَمَةِ لِلْأُخْدُودِ لِئَلّا يَتَهاوَنَ الَّذِينَ يَحْشُونَ النّارَ بِتَسْعِيرِها، وعَلى لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ؛ لِأنَّهم لا يَقْعُدُونَ فَوْقَ النّارِ، ولَكِنْ حَوْلَها، وإنَّما عَبَّرَ عَنِ القُرْبِ والمُراقَبَةِ بِالِاسْتِعْلاءِ، كَقَوْلِ الأعْشى: ؎وباتَ عَلى النّارِ النَّدى والمُحَلَّقُ (p-٢٤٣)ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص: ٢٣] أيْ: عِنْدَهُ. وعَلى احْتِمالِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِـ ﴿أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ المُؤْمِنِينَ المُعَذَّبِينَ فِيهِ، فالقُعُودُ حَقِيقَةً وعَلى لِلِاسْتِعْلاءِ الحَقِيقِيِّ، أيْ: قاعِدُونَ عَلى النّارِ بِأنْ كانُوا يَحْرِقُونَهم مَرْبُوطِينَ بِهَيْئَةِ القُعُودِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أشَدُّ تَعْذِيبًا وتَمْثِيلًا، أيْ: بَعْدَ أنْ يُقْعِدُوهم في الأخادِيدِ يُوقِدُونَ النّارَ فِيها، وذَلِكَ أرْوَعُ وأطْوَلُ تَعْذِيبًا. وأُعِيدَ ضَمِيرُ هم في قَوْلِهِ: ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ﴾ لِيَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى بَعْضِ أصْحابِ الأُخْدُودِ. وضَمِيرُ يَفْعَلُونَ يَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى ﴿أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾، فَمَعْنى كَوْنِهِمْ شُهُودًا عَلى ما يَفْعَلُونَهُ: أنْ بَعْضَهم يَشْهَدُ لِبَعْضٍ عِنْدَ المَلِكِ بِأنَّ أحَدًا لَمْ يُفَرِّطْ فِيما وكِّلَ بِهِ مِن تَحْرِيقِ المُؤْمِنِينَ، فَضَمائِرُ الجَمْعِ وصِيغَتُهُ مُوَزَّعَةٌ. ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إلى ما تَقْتَضِيهِ دَلالَةُ الِاقْتِضاءِ مِن تَقْسِيمِ أصْحابِ الأُخْدُودِ إلى أُمَراءَ ومَأْمُورِينَ شَأْنُ الأعْمالِ العَظِيمَةِ، فَلَمّا أخْبَرَ عَنْ أصْحابِ الأُخْدُودِ بِأنَّهم قُعُودٌ عَلى النّارِ عَلِمَ أنَّهُمُ المُوَكَّلُونَ بِمُراقَبَةِ العُمّالِ، فَعُلِمَ أنَّ لَهم أتْباعًا مِن سَعّارِينَ ووَزَعَةٍ فَهم مَعادُ ضَمِيرِ يَفْعَلُونَ. وعَلى هَذا الوَجْهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ شُهُودٌ جَمْعَ شاهِدٍ بِمَعْنى مُخْبِرٍ بِحَقٍّ، وأنْ يَكُونَ بِمَعْنى حاضِرٍ ومُراقَبٍ لِظُهُورِ أنَّ أحَدًا لا يَشْهَدُ عَلى فِعْلِ نَفْسِهِ. وجُمْلَةُ ﴿وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: قُعُودٌ شاهِدِينَ عَلى فِعْلِهِمْ بِالمُؤْمِنِينَ عَلى الوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ في مَعادِ ضَمِيرِ يَفْعَلُونَ وفائِدَةُ هَذِهِ الحالِ تَفْظِيعُ ذَلِكَ القُعُودِ وتَعْظِيمُ جُرْمِهِ، إذْ كانُوا يُشاهِدُونَ تَعْذِيبَ المُؤْمِنِينَ لا يَرْأفُونَ في ذَلِكَ ولا يَشْمَئِزُّونَ، وبِذَلِكَ فارَقَ مَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مَضْمُونَ جُمْلَةِ ﴿إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ﴾ بِاعْتِبارِ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ . وفِي الإتْيانِ بِالمَوْصُولِ في قَوْلِهِ: ﴿ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ﴾ مِنَ الإبْهامِ ما يُفِيدُ أنَّ لِمُوقِدِي النّارِ مِنَ الوَزَعَةِ والعَمَلِ ومَن يُباشِرُونَ إلْقاءَ المُؤْمِنِينَ فِيها غِلْظَةً وقَسْوَةً في تَعْذِيبِ المُؤْمِنِينَ وإهانَتِهِمْ والتَّمْثِيلِ بِهِمْ، وذَلِكَ زائِدٌ عَلى الإحْراقِ. (p-٢٤٤)وجُمْلَةُ ﴿وما نَقَمُوا مِنهم إلّا أنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، والواوُ واوُ الحالِ أوْ عاطِفَةٌ عَلى الحالِ الَّتِي قَبْلَها. والمَقْصُودُ التَّعَجُّبُ مِن ظُلْمِ أهْلِ الأُخْدُودِ أنَّهم يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الفَظاعَةِ، لا لِجُرْمٍ في شَأْنِهِ أنْ يُنْقَمَ مِن فاعِلِهِ، فَإنْ كانَ الَّذِينَ خَدَّدُوا الأُخْدُودَ يَهُودًا كَما كانَ غالِبُ أهْلِ اليَمَنِ يَوْمَئِذٍ، فالكَلامُ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أيْ: ما نَقَمُوا مِنهم شَيْئًا يُنْقَمُ، بَلْ لِأنَّهم آمَنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ كَما آمَنَ بِهِ الَّذِينَ عَذَّبُوهم. ومَحَلُّ التَّعَجُّبِ أنَّ المَلِكَ ذا نُواسٍ وأهْلَ اليَمَنِ كانُوا مُتَهَوِّدِينَ، فَهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وحْدَهُ ولا يُشْرِكُونَ بِهِ فَكَيْفَ يُعَذِّبُونَ قَوْمًا آمَنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ مِثْلَهم ؟ ! وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا وما أُنْزِلَ مِن قَبْلُ﴾ [المائدة: ٥٩] وإنْ كانَ الَّذِينَ خَدَّدُوا الأُخْدُودَ مُشْرِكِينَ فَإنَّ عَرَبَ اليَمَنِ بَقِيَ فِيهِمْ مَن يَعْبُدُ الشَّمْسَ، فَلَيْسَ الِاسْتِثْناءُ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ؛ لِأنَّ شَأْنَ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ أنْ يَكُونَ ما يُشْبِهُ ضِدَّ المَقْصُودِ هو في الواقِعِ مِن نَوْعِ المَقْصُودِ، فَلِذَلِكَ يُؤَكَّدُ بِهِ المَقْصُودُ وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ المَلِكَ وجُنْدَهُ نَقَمُوا مِنهُمُ الإيمانَ بِاللَّهِ حَقِيقَةً إنْ كانَ المَلِكُ مُشْرِكًا. وإجْراءُ الصِّفاتِ الثَّلاثِ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ وهي: (العَزِيزُ، الحَمِيدُ، ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾) لِزِيادَةِ تَقْرِيرِ أنَّ ما نَقَمُوهُ مِنهم لَيْسَ مِن شَأْنِهِ أنْ يُنْقَمَ، بَلْ هو حَقِيقٌ بِأنْ يُمْدَحُوا بِهِ؛ لِأنَّهم آمَنُوا بِرَبٍّ حَقِيقٍ بِأنْ يُؤْمَنَ بِهِ لِأجْلِ صِفاتِهِ الَّتِي تَقْتَضِي عِبادَتَهُ ونَبْذَ ما عَداهُ؛ لِأنَّهُ يَنْصُرُ مَوالِيَهُ ويُثِيبُهم ولِأنَّهُ يَمْلِكُهم، وما عَداهُ ضَعِيفُ العِزَّةِ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ ولا يَمْلِكُ مِنهم شَيْئًا فَيَقْوى التَّعْجِيبُ مِنهم بِهَذا. وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ تَذْيِيلٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينَ اتَّخَذُوا الأُخْدُودَ وبِوَعْدِ الَّذِينَ عُذِّبُوا في جَنْبِ اللَّهِ، ووَعِيدٌ لِأمْثالِ أُولَئِكَ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ مِن كُلِّ مَن تَصَدَّوْا لِأذى المُؤْمِنِينَ، ووَعْدُ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمُ المُشْرِكُونَ مِثْلَ: بِلالٍ، وعَمّارٍ، وصُهَيْبٍ، وسُمَيَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب