الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبُرُوجِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا رُزَيق بْنُ أَبِي سَلْمَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [[المسند (٢/٣٢٦) .]] . وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ-مَوْلَى بَنِي [[في م: "مولى ابن".]] هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ عَبَّادٍ السَّدُوسِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا الْمُهَزِّمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات فِي الْعِشَاءِ [[المسند (٢/٣٢٧) .]] تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * يُقْسِمُ اللَّهُ بِالسَّمَاءِ وَبُرُوجِهَا، وَهِيَ: النُّجُومُ الْعِظَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٦١] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الْبُرُوجُ: النُّجُومُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْبُرُوجُ الَّتِي فِيهَا الْحَرَسُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ رَافِعٍ: الْبُرُوجُ: قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ المِنْهَال بْنُ عَمْرٍو: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ الْخَلْقُ الْحَسَنُ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا: مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، تَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَهْرًا، وَيَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمَيْنِ وَثُلْثًا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة [[في م: "منزلا".]] ويستسرّ ليلتين. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْغُزِّيُّ [[في أ: "المقرئ".]] حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ-يَعْنِي ابْنَ مُوسَى-حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿وَشَاهِدٍ﴾ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ فِيهَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ، ﴿وَمَشْهُودٍ﴾ يَوْمُ عَرَفَةَ" [[ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٣٣٩) من طريق روح بن عبادة وعبيد اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره".]] . وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيمة، مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيدة الرَّبَذِيِّ-وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ-وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَشْبَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَيُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ عَمَّارٍ-مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-أَمَّا عَلِيٌّ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا يُونُسُ فَلَمْ يَعْدُ أَبَا هُرَيْرَةَ-أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ: يَعْنِي الشاهدَ يومُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمٌ مَشْهُودٌ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [[المسند (٢/٢٩٨) ووقع فيه: "يعني الشاهد يوم عرفة، والموعود يوم القيامة".]] . وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ، سَمِعْتُ عَمَّارًا-مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [[المسند (٢/٢٩٨،٢٩٩) .]] . وَقَدْ رُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَلَمْ أَرَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ضَمْضَم بْنُ زُرْعَة، عَنْ شُرَيح بْنِ [[في أ: "عن".]] عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّ الْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنَا" [[تفسير الطبري (٣٠/٨٢) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٣/٢٩٨) عن هاشم بن مرثد، عن محمد بن إسماعيل به، وفيه ضعف وانقطاع، وقد تقدم هذا الإسناد مرارا.]] . ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْك، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّب أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ سَيِّدَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الشاهدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ" [[تفسير الطبري (٣٠/٨٢) .]] . وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّاهِدُ هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [[تفسير الطبري (٣٠/٨٣) .]] [هُودٍ: ١٠٣] . وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ شِبَاكٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ: سَأَلْتَ أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَا يَوْمَ الذَّبْحِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ ﷺ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النِّسَاءِ: ٤١] ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [[تفسير الطبري (٣٠/٨٣) .]] . وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: ﴿وَمَشْهُودٍ﴾ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: الشَّاهِدُ: ابْنُ آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: الشَّاهِدُ: مُحَمَّدٌ ﷺ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. [وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ] [[زيادة من م، أ، والطبري.]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ: الشَّاهِدُ: الْإِنْسَانُ. وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ الشَّاهِدُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَبِهِ عَنْ سُفْيَانَ-هُوَ الثَّوْرِيُّ-عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يَوْمُ الذَّبْحِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، يَعْنِي الشَّاهِدَ وَالْمَشْهُودَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَكْثِرُوا عليَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ" [[تفسير الطبري (٣٠/٨٤) .]] . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَتَلَا ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٧٩] ، والمشهود: نَحْنُ. حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ﴾ أَيْ: لُعِنُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ، وَهِيَ الْحَفِيرُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَمَدوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَهَرُوهُمْ وَأَرَادُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أخدُودًا وَأَجَّجُوا فيه نار، وَأَعَدُّوا لَهَا وَقُودًا يُسَعِّرُونَهَا بِهِ، ثُمَّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَقَذَفُوهُمْ فِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ أَيْ: مُشَاهِدُونَ لِمَا يُفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أَيْ: وَمَا كَانَ لَهُمْ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِجَنَابِهِ، الْمَنِيعِ الْحَمِيدِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدّر عَلَى عِبَادِهِ هَؤُلَاءِ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِهِمْ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ بِهِ، فَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ، وَإِنْ خَفِيَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أَيْ: لَا يَغِيبُ عَنْهُ شيء في جميع السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، مَنْ هُمْ. فَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ حِينَ أَرَادَ مَلِكُهُمْ تَحْلِيلَ تَزْوِيجِ [[في أ: "تزوج".]] الْمَحَارِمِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ، فَعَمَدَ إِلَى حَفْرِ أُخْدُودٍ فَقَذَفَ فِيهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ فِيهِمْ تَحْلِيلُ الْمَحَارِمِ إِلَى الْيَوْمِ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا بِالْيَمَنِ اقْتَتَلَ مُؤْمِنُوهُمْ وَمُشْرِكُوهُمْ، فَغَلَبَ مُؤْمِنُوهُمْ عَلَى كُفَّارِهِمْ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا فَغَلَبَ الْكُفَّارُ الْمُؤْمِنِينَ، فخدُّوا لَهُمُ الْأَخَادِيدَ، وَأَحْرَقُوهُمْ فِيهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَاحِدُهُمْ [[في م، أ: "ونبيهم".]] حَبَشِيٌّ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ قَالَ: نَاسٌ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَدّوا أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً، فعُرضوا عَلَيْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ. وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مٌزَاحم، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ [[في أ: "بن".]] عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيب: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي، فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا لِأُعْلِّمُهُ السِّحْرَ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ، فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرُ السَّاحِرِ. قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ. وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ. فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أيْ بُنَي، أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ سَتُبتلى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ. فَكَانَ الْغُلَامُ يبُرئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ وَيَشْفِيهِمْ، وَكَانَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَعَمِيَ، فَسَمِعَ بِهِ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا أجمعُ. فَقَالَ: مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ. ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ، مَنْ رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي؟ فَقَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أيْ بُنَي، بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ؟ قَالَ: مَا أَشْفِي أَنَا أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأَتَى بِالرَّاهِبِ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهدهوه [مِنْ فَوْقِهِ] [[زيادة من المسند.]] فَذَهَبُوا بِهِ، فَلَمَّا عَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ، اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ. وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ فِي قُرقُور فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمْ بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فغرِّقوه فِي الْبَحْرِ. فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ. اللَّهُمَّ، اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل: "بسم اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ"، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَفَعَلَ، وَوَضْعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ قَوْسِهِ ثُمَّ رَمَاهُ، وَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ". فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ فَقَدَ -وَاللَّهِ-نَزَلَ بِكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ. فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدّت فِيهَا الْأَخَادِيدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعَوْهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا. قَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنَّكِ على الحق". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الصَّحِيحِ عَنْ هُدْبة بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ [[المسند (٦/١٦) وصحيح مسلم برقم (٣٠٠٥) .]] وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ [[سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٦١) .]] وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ، بِهِ وَاخْتَصَرُوا أَوَّلَهُ. وَقَدْ جَوّده الْإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، فَرَوَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيلانَ وعَبد بْنِ حُمَيد-الْمَعْنَى وَاحِدٌ-قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ ثَابِتٍ البُناني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ هَمَس-والهَمس فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: تَحْرِيكُ شَفَتَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ-فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ-يَا رَسُولَ اللَّهِ-إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ هَمَسْتَ؟ قَالَ: "إِنْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَ أُعجِب بِأُمَّتِهِ فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ؟. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ. فَاخْتَارُوا النِّقْمَةَ، فسلَّط عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا". قَالَ: وَكَانَ إِذَا حَدّث بِهَذَا الْحَدِيثِ، حَدّث بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: كَانَ مَلك مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ تَكَهَّنَ لَهُ، فَقَالَ الْكَاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا-أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقنًا-فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذَا فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ [[في أ: "في أواخره".]] يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ قَالَ: فَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ دُفِنَ قَالَ: فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِصْبُعُهُ عَلَى صُدغه كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[سنن الترمذي برقم (٣٣٤٠) .]] . وَهَذَا السِّيَاقُ لَيْسَ فِيهِ صَرَاحَةٌ أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ المزِّي: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ صُهَيب الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْبَارِ النَّصَارَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي السِّيرَةِ بِسِيَاقٍ آخَرَ، فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي-وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ، عَنْ أَهْلِهَا-: أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ-وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إِلَيْهَا جمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ-ساحرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيمُون [[في أ: "ميمون".]] -وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ، قَالُوا: رَجُلٌ نَزَلَهَا-ابْتَنَى [[في م: "فابتنى".]] خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّاحِرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِمُهُمُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ؛ أَخْشَى ضَعْفَكَ عَنْهُ. وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ، وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ إِلَى أَقْدَاحٍ فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبْقِ لِلَّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كَتَبَهُ في قدْح، وَكُلُّ اسْمٍ فِي قَدَحٍ، حَتَّى إِذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قدْحا قدْحًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقدْحه، فَوَثَبَ القدْح حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ يَضُرُهُ شَيْءٌ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى بِهِ صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي كَتَمَهُ فَقَالَ: وَمَا هُوَ: قَالَ: هُوَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ. قَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ. فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضَرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدِ اللَّهِ، أتوحدُ اللَّهَ وتدخلُ فِي دِينِي وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فيعافيكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، فَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ فَيشفَى حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ، حَتَّى رُفع شَأْنُهُ إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ. قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ، فَيُطرح عَلَى رَأْسِهِ، فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهِ نَجْرَانَ، بُحور لَا يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا، فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إِنَّكَ-وَاللَّهِ-لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحّدَ اللَّهَ فَتُؤمن بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ سُلّطتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي. قَالَ: فوحّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ، فَقَتَلَهُ، وَهَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ. وَاسْتَجْمَعَ أهلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ-وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْإِنْجِيلِ وحُكمه-ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أهلَ دِينِهِمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ: فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنْدِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وخيَّرهم بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ الْأُخْدُودَ، فَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ وَمَثَّلَ بِهِمْ، حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ ﷺ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾ [[السيرة النبوية لابن هشام (١/٣٤) .]] . هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ هُوَ ذُو نُوَاسٍ، وَاسْمُهُ: زُرْعَةُ، ويسمَّى فِي زَمَانِ مَمْلَكَتِهِ بِيُوسُفَ، وَهُوَ ابْنُ تِبَان أَسْعَدُ أَبِي كَرب، وَهُوَ تُبَّع الَّذِي غَزَا الْمَدِينَةَ وَكَسَى الْكَعْبَةَ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ حِبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ تَهَوّد مَنْ تَهَوّد مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى يَدَيْهِمَا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مَبسوطًا، فَقَتَلَ ذُو نُوَاسٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأُخْدُودِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ: دَوْسٌ ذُو ثَعلبان، ذَهَبَ فَارِسًا، وطَرَدُوا وَرَاءَهُ فَلَمْ يُقدَر عَلَيْهِ، فَذَهَبَ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَقْدُمُهُمْ أَرْيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاسْتَنْقَذُوا الْيَمَنَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ، وذهب ذو نواس هاربًا فَلَجَّج فِي الْبَحْرِ، فَغَرِقَ. وَاسْتَمَرَّ مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي أَيْدِي النَّصَارَى سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سيف ابن ذِي يَزِنَ الْحِمْيَرِيُّ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى، لَمَّا اسْتَجَاشَ بِكِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ فِي السُّجُونِ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِهِمُ الْيَمَنَ، وَرَجَعَ الْمُلْكُ إِلَى حِمْيَرَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ-فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ حُدِّث: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَفَر خَربَة مَنْ خَرِب نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْن فِيهَا قَاعِدًا، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، مُمْسِكًا عَلَيْهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذْتَ يَدَهُ عَنْهَا ثَعبتْ دَمًا، وَإِذَا أَرْسَلْتَ يَدَهُ رُدّت عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ: رَبِّيَ اللَّهُ. فكُتِب فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِمْ: أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدّفَن الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. فَفَعَلُوا [[السيرة النبوية لابن هشام (١/٣٦) .]] . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا افْتَتَحَ أَصْبَهَانَ وَجَدَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَقَطَ، فَبَنَاهُ فَسَقَطَ، ثُمَّ بَنَاهُ فَسَقَطَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَهُ رَجُلًا صَالِحًا. فَحَفَرَ الْأَسَاسَ فَوَجَدَ فِيهِ رَجُلًا قَائِمًا مَعَهُ سَيْفٌ، فِيهِ مَكْتُوبٌ: أَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ، نَقَمْتُ عَلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. فَاسْتَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى، وَبَنَى الْحَائِطَ، فَثَبَتَ. قُلْتُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُضاض بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمَيُّ، أَحَدُ مُلُوكِ جُرْهُمِ الَّذِينَ وَلُوا أَمْرَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ وَلَدِ نَبْت [[في م: "ثابت".]] بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَلدُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ هُوَ آخِرُ مُلُوكِ جُرْهُمَ بِمَكَّةَ، لَمَّا أَخْرَجَتْهُمْ خُزَاعَةُ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي شِعْرِهِ الَّذِي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [[السيرة النبوية لابن هشام (١/١١٥) .]] إِنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ قَالَهُ الْعَرَبُ: كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسمُر بمكَّةَ سَامِرُ ... بَلَى، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا ... صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِرُ ... وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَدِيمًا بَعْدَ زَمَانِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقُرْبٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقْتَضِي أَنَّ قِصَّتَهُمْ كَانَتْ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تُبَّعٍ، وَفِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، فَاتَّخَذُوا أَتُّونًا، وَأُلْقِيَ فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ. وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ بَابِلَ بُخْتُنَصَّرُ، الَّذِي وَضَعَ الصَّنَمَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وصاحباه: عُزَرْيَا وَمِيشَائِيلُ، فَأَوْقَدَ لَهُمْ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنَّارَ، ثُمَّ أَلْقَاهُمَا فِيهِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَنْقَذَهُمَا مِنْهَا، وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ وَهُمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ﴾ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: خَدّ بِالْعِرَاقِ، وخَدّ بِالشَّامِ، وخَدّ بِالْيَمَنِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: وَاحِدَةٌ بِنَجْرَانَ بِالْيَمَنِ، وَالْأُخْرَى بِالشَّامِ، وَالْأُخْرَى بِفَارِسَ، أَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ فَهُوَ أَنْطَنَانُوسُ الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ فَهُوَ بُخْتُنَصَّرُ، وَأَمَّا الَّتِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ يُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ. فَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ وَالشَّامِ فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ فِيهِمْ قُرْآنًا، وَأَنْزَلَ فِي الَّتِي كَانَتْ بِنَجْرَانَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ-هُوَ ابْنُ أَنَسٍ-فِي قَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ﴾ قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا وَقَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ وَصَارُوا أَحْزَابًا، ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٣، الرُّومُ: ٣٢] ، اعْتَزَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ سَكَنُوهَا، وَأَقَامُوا عَلَى عِبَادَةِ الله ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [الْبَيِّنَةِ: ٥] ، وَكَانَ هَذَا أَمْرُهُمْ حَتَّى سَمِعَ بِهِمْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وحُدّث حَدِيثَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي اتَّخَذُوا [[في أ: "التي لتخذوها".]] وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ وَقَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي عبدتُ فَإِنِّي قَاتِلُكُمْ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فخَدَّ أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ، وَقَالَ لَهُمُ الْجَبَّارُ-وَوَقَفهم عَلَيْهَا-: اخْتَارُوا هَذِهِ أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَقَالُوا: هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا. وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ، فَفَزِعَتِ الذُّرِّيَّةُ، فَقَالُوا لَهُمْ: لَا نَارَ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ. فَوَقَعُوا فِيهَا، فَقُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمْ حَرّهُا، وَخَرَجَتِ النَّارُ مِنْ مَكَانِهَا فَأَحَاطَتْ بِالْجَبَّارِينَ، فَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثت عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، بِهِ نَحْوَهُ [[تفسير الطبري (٣٠/٨٨) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أَيْ: حَرقوا [[في م: "حرقوا بالنار".]] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أبْزَى. ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ أَيْ: لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا فَعَلُوا، وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا أَسْلَفُوا. ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب