الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ أمَرَ بِحِفْظِ المالِ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: اتَّفَقُوا عَلى أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ تَمِيمًا الدّارِيَّ وأخاهُ عَدِيًّا كانا نَصْرانِيَّيْنِ خَرَجا (p-٩٥)إلى الشّامِ ومَعَهُما بَدِيلٌ مَوْلى عَمْرِو بْنِ العاصِ وكانَ مُسْلِمًا مُهاجِرًا، خَرَجُوا لِلتِّجارَةِ، فَلَمّا قَدِمُوا الشّامَ مَرِضَ بَدِيلٌ فَكَتَبَ كِتابًا فِيهِ نُسْخَةُ جَمِيعِ ما مَعَهُ وألْقاهُ فِيما بَيْنَ الأقْمِشَةِ ولَمْ يُخْبِرْ صاحِبَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أوْصى إلَيْهِما وأمَرَهُما أنْ يَدْفَعا مَتاعَهُ إذا رَجَعا إلى أهْلِهِ، وماتَ بَدِيلٌ فَأخَذا مِن مَتاعِهِ إناءً مِن فِضَّةٍ مَنقُوشًا بِالذَّهَبِ ثَلاثَمِائَةِ مِثْقالٍ، ودَفَعا باقِيَ المَتاعِ إلى أهْلِهِ لَمّا قَدِما، فَفَتَّشُوا فَوَجَدُوا الصَّحِيفَةَ وفِيها ذِكْرُ الإناءِ، فَقالُوا لِتَمِيمٍ وعَدِيٍّ: أيْنَ الإناءُ ؟ فَقالا: لا نَدْرِي، والَّذِي دَفَعَ إلَيْنا دَفَعْناهُ إلَيْكم، فَرَفَعُوا الواقِعَةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ» .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ يَعْنِي شَهادَةَ ما بَيْنَكم، وما بَيْنَكم كِنايَةٌ عَنِ التَّنازُعِ والتَّشاجُرِ، وإنَّما أضافَ الشَّهادَةَ إلى التَّنازُعِ لِأنَّ الشُّهُودَ إنَّما يُحْتاجُ إلَيْهِمْ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنازُعِ، وحَذْفُ (ما) مِن قَوْلِهِ: ﴿شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ جائِزٌ لِظُهُورِهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ [الكَهْفِ: ٧٨] أيْ ما بَيْنِي وبَيْنَكَ، وقَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنْعامِ: ٩٤] في قِراءَةِ مَن نَصَبَ، وقَوْلُهُ: ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ يَعْنِي الشَّهادَةَ المُحْتاجَ إلَيْها عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ، و﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ﴾ لِأنَّ زَمانَ حُضُورِ المَوْتِ هو زَمانُ حُضُورِ الوَصِيَّةِ، فَعُرِفَ ذَلِكَ الزَّمانُ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ الواقِعَيْنِ فِيهِ، كَما يُقالُ: ائْتِنِي إذا زالَتِ الشَّمْسُ حِينَ صَلاةِ الظُّهْرِ. والمُرادُ بِحُضُورِ المَوْتِ مُشارَفَتُهُ وظُهُورُ أماراتِ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٠] قالُوا: وقَوْلُهُ: ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الوَصِيَّةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ زَمانَ حُضُورِ المَوْتِ غَيْرَ زَمانِ الوَصِيَّةِ، وهَذا إنَّما يَكُونُ إذا كانا مُتَلازِمَيْنِ، وإنَّما تَحْصُلُ هَذِهِ المُلازَمَةُ عِنْدَ وُجُوبِ الوَصِيَّةِ.
﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ حَذْفٌ، والمُرادُ أنْ يَشْهَدَ ذَوا عَدْلٍ مِنكم، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: شَهادَةُ ما بَيْنَكم عِنْدَ المَوْتِ المَوْصُوفِ، هي أنْ يَشْهَدَ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم، وإنَّما حَسُنَ هَذا الحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: (مِنكم) عَلى قَوْلَيْنِ:
الأوَّلُ: وهو قَوْلُ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم يا مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ، أيْ مِن أهْلِ دِينِكم ومِلَّتِكم، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ يَعْنِي أوْ شَهادَةَ آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ أهْلِ دِينِكم ومِلَّتِكم إذا كُنْتُمْ في السَّفَرِ، فالعَدْلانِ المُسْلِمانِ صالِحانِ لِلشَّهادَةِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ وسَعِيدِ بْنِ (p-٩٦)جُبَيْرٍ، وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٍ ومُجاهِدٍ وابْنِ سِيرِينَ وابْنِ جُرَيْجٍ. قالُوا: إذا كانَ الإنْسانُ في الغُرْبَةِ، ولَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلى وصِيَّتِهِ، جازَ لَهُ أنْ يُشْهِدَ اليَهُودِيَّ أوِ النَّصْرانِيَّ أوِ المَجُوسِيَّ أوْ عابِدَ الوَثَنِ أوْ أيَّ كافِرٍ كانَ، وشَهادَتُهم مَقْبُولَةٌ، ولا يَجُوزُ شَهادَةُ الكافِرِينَ عَلى المُسْلِمِينَ إلّا في هَذِهِ الصُّورَةِ. قالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَرِضَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ في الغُرْبَةِ، فَلَمْ يَجِدْ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلى وصِيَّتِهِ، فَأشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَقَدِما الكُوفَةَ وأتَيا أبا مُوسى الأشْعَرِيَّ وكانَ والِيًا عَلَيْها، فَأخْبَراهُ بِالواقِعَةِ وقَدَّما تَرِكَتَهُ ووَصِيَّتَهُ، فَقالَ أبُو مُوسى: هَذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كانَ في عَهْدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثُمَّ حَلَّفَهُما في مَسْجِدِ الكُوفَةِ بَعْدَ العَصْرِ بِاللَّهِ أنَّهُما ما كَذَبا ولا بَدَّلا، وأجازَ شَهادَتَهُما. ثُمَّ إنَّ القائِلِينَ بِهَذا القَوْلِ، مِنهم مَن قالَ: هَذا الحُكْمُ بَقِيَ مُحْكَمًا، ومِنهم مَن قالَ: صارَ مَنسُوخًا.
القَوْلُ الثّانِي، وهو قَوْلُ الحَسَنِ والزُّهْرِيِّ وجُمْهُورِ الفُقَهاءِ، أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ أيْ مِن أقارِبِكم، وقَوْلَهُ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ أيْ مِنَ الأجانِبِ ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ أيْ إنْ تُوُقِّعَ المَوْتُ في السَّفَرِ، ولَمْ يَكُنْ مَعَكم أحَدٌ مِن أقارِبِكم، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْنِ عَلى الوَصِيَّةِ. وجَعَلَ الأقارِبَ أوَّلًا لِأنَّهم أعْلَمُ بِأحْوالِ المَيِّتِ وهم بِهِ أشْفَقُ، وبِوَرَثَتِهِ أرْحَمُ وأرْأفُ. واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الأوَّلِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَعَمَّمَ بِهَذا الخِطابِ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ، فَلَمّا قالَ بَعْدَهُ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ كانَ المُرادُ أوْ آخَرانِ مِن جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ لا مَحالَةَ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ جَوازَ الِاسْتِشْهادِ بِهَذَيْنِ الآخَرَيْنِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ المُسْتَشْهِدِ في السَّفَرِ، فَلَوْ كانَ هَذانِ الشّاهِدانِ مُسْلِمَيْنِ لَما كانَ جَوازُ الِاسْتِشْهادِ بِهِما مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ؛ لِأنَّ اسْتِشْهادَ المُسْلِمِ جائِزٌ في السَّفَرِ والحَضَرِ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى وُجُوبِ الحَلِفِ عَلى هَذَيْنِ الشّاهِدَيْنِ مِن بَعْدِ الصَّلاةِ، وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ الشّاهِدَ المُسْلِمَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَلِفُ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذَيْنِ الشّاهِدَيْنِ لَيْسا مِنَ المُسْلِمِينَ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ما ذَكَرْناهُ مِن شَهادَةِ النَّصْرانِيَّيْنِ عَلى بَدِيلٍ وكانَ مُسْلِمًا.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: ما رُوِّينا أنَّ أبا مُوسى الأشْعَرِيَّ قَضى بِشَهادَةِ اليَهُودِيَّيْنِ بَعْدَ أنْ حَلَّفَهُما، وما أنْكَرَ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، فَكانَ ذَلِكَ إجْماعًا.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: أنّا إنَّما نُجِيزُ إشْهادَ الكافِرِينَ إذا لَمْ نَجِدْ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ، والضَّرُوراتُ قَدْ تُبِيحُ المَحْظُوراتِ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى أجازَ التَّيَمُّمَ والقَصْرَ في الصَّلاةِ، والإفْطارَ في رَمَضانَ، وأكْلَ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَةِ، والضَّرُورَةُ حاصِلَةٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ؛ لِأنَّ المُسْلِمَ إذا قَرُبَ أجْلُهُ في الغُرْبَةِ ولَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلى نَفْسِهِ ولَمْ تَكُنْ شَهادَةُ الكُفّارِ مَقْبُولَةً، فَإنَّهُ يُضَيِّعُ أكْثَرَ مُهِمّاتِهِ، فَإنَّهُ رُبَّما وجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَواتٌ وكَفّاراتٌ وما أدّاها، ورُبَّما كانَ عِنْدَهُ ودائِعُ أوْ دُيُونٌ كانَتْ في ذِمَّتِهِ. وكَما تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأحْوالِ النِّساءِ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والوِلادَةِ والِاسْتِهْلالِ؛ لِأجْلِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ وُقُوفُ الرِّجالِ عَلى هَذِهِ الأحْوالِ، فاكْتَفَيْنا فِيها بِشَهادَةِ النِّساءِ لِأجْلِ الضَّرُورَةِ، فَكَذا هاهُنا. وأمّا قَوْلُ مَن يَقُولُ بِأنَّ هَذا الحُكْمَ صارَ مَنسُوخًا، فَبَعِيدٌ؛ لِاتِّفاقِ أكْثَرِ الأُمَّةِ عَلى أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ مِن آخِرِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، ولَيْسَ فِيها مَنسُوخٌ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِالقَوْلِ الثّانِي بِقَوْلِهِ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطَّلاقِ: ٢] والكافِرُ لا يَكُونُ عَدْلًا.
(p-٩٧)أجابَ الأوَّلُونَ عَنْهُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالعَدْلِ مَن كانَ عَدْلًا في الِاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ، لا مَن كانَ عَدْلًا في الدِّينِ والِاعْتِقادِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنّا أجْمَعْنا عَلى قَبُولِ شَهادَةِ أهْلِ الأهْواءِ والبِدَعِ، مَعَ أنَّهم لَيْسُوا عُدُولًا في مَذاهِبِهِمْ، ولَكِنَّهم لَمّا كانُوا عُدُولًا في الِاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ قَبِلْنا شَهادَتَهم، فَكَذا هاهُنا. سَلَّمْنا أنَّ الكافِرَ لَيْسَ بِعَدْلٍ، إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ عامٌّ، وقَوْلَهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ خاصٌّ، فَإنَّهُ أوْجَبَ شَهادَةَ العَدْلِ الَّذِي يَكُونُ مِنّا في الحَضَرِ، واكْتَفى بِشَهادَةِ مَن لا يَكُونُ مِنّا في السَّفَرِ، فَهَذِهِ الآيَةُ خاصَّةٌ، والآيَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها عامَّةٌ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ، لا سِيَّما إذا كانَ الخاصُّ مُتَأخِّرًا في النُّزُولِ، ولا شَكَّ أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ مُتَأخِّرَةٌ، فَكانَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الآيَةِ الخاصَّةِ عَلى الآيَةِ العامَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها واجِبًا بِالِاتِّفاقِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ .
وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿أوْ آخَرانِ﴾ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اثْنانِ﴾ والتَّقْدِيرُ: شَهادَةُ بَيْنِكم أنْ يَشْهَدَ اثْنانِ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ المَقْصُودُ مِنهُ بَيانُ أنَّ جَوازَ الِاسْتِشْهادِ بِآخَرَيْنِ مِن غَيْرِهِمْ مَشْرُوطٌ بِما إذا كانَ المُسْتَشْهِدُ مُسافِرًا ضارِبًا في الأرْضِ وحَضَرَتْ عَلاماتُ نُزُولِ المَوْتِ بِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: تَحْبِسُونَهُما، أيْ تُوقِفُونَهُما كَما يَقُولُ الرَّجُلُ: مَرَّ بِي فُلانٌ عَلى فَرَسٍ فَحَبَسَ عَلَيَّ دابَّتَهُ؛ أيْ أوْقَفَها، وحَبَسْتُ الرَّجُلَ في الطَّرِيقِ أُكَلِّمُهُ؛ أيْ أوْقَفْتُهُ.
فَإنْ قِيلَ: ما مَوْقِعُ ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ ؟
قُلْنا: هو اسْتِئْنافٌ، كَأنَّهُ: قِيلَ كَيْفَ نَعْمَلُ إنْ حَصَلَتِ الرِّيبَةُ فِيهِما ؟ فَقِيلَ: تَحْبِسُونَهُما.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ فِيهِ أقْوالٌ، الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن بَعْدِ صَلاةِ أهْلِ دِينِهِما.
والثّانِي: قالَ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ: مِن بَعْدِ صَلاةِ العَصْرِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ عُرِفَ أنَّ المُرادَ هو صَلاةُ العَصْرِ، مَعَ أنَّ المَذْكُورَ هو الصَّلاةُ المُطْلَقَةُ ؟
قُلْنا: إنَّما عُرِفَ هَذا التَّعْيِينُ بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ هَذا الوَقْتَ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهم بِالتَّحْلِيفِ بَعْدَها، فالتَّقْيِيدُ بِالمَعْرُوفِ المَشْهُورِ أغْنى عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ.
وثانِيها: ما رُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ صَلّى النَّبِيُّ ﷺ صَلاةَ العَصْرِ، ودَعا بِعَدِيٍّ وتَمِيمٍ، فاسْتَحْلَفَهُما عِنْدَ المِنبَرِ، فَصارَ فِعْلُ الرَّسُولِ دَلِيلًا عَلى التَّقْيِيدِ.
وثالِثُها: أنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيانِ يُعَظِّمُونَ هَذا الوَقْتَ ويَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ ويَحْتَرِزُونَ عَنِ الحَلِفِ الكاذِبِ، وأهْلُ الكِتابِ يُصَلُّونَ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها.
والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ بَعْدَ الظُّهْرِ أوْ بَعْدَ العَصْرِ؛ لِأنَّ أهْلَ الحِجازِ كانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُما.
(p-٩٨)والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ بَعْدَ أداءِ الصَّلاةِ أيَّ صَلاةٍ كانَتْ والغَرَضُ مِنَ التَّحْلِيفِ بَعْدَ إقامَةِ الصَّلاةِ هو أنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، فَكانَ احْتِرازُ الحالِفِ عَنِ الكَذِبِ في ذَلِكَ الوَقْتِ أتَمَّ وأكْمَلَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأيْمانُ تُغَلَّظُ في الدِّماءِ والطَّلاقِ والعَتاقِ، والمالِ إذا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، في الزَّمانِ والمَكانِ، فَيَحْلِفُ بَعْدَ العَصْرِ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقامِ، وبِالمَدِينَةِ عِنْدَ المِنبَرِ، وفي بَيْتِ المَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وفي سائِرِ البُلْدانِ في أشْرَفِ المَساجِدِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْلِفُ مِن غَيْرِ أنْ يَخْتَصَّ الحَلِفُ بِزَمانٍ أوْ مَكانٍ، وهَذا عَلى خِلافِ الآيَةِ، ولِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ التَّهْوِيلُ والتَّعْظِيمُ، ولا شَكَّ أنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أقْوى.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ﴾ لِلْجَزاءِ، يَعْنِي: تَحْبِسُونَهُما فَيُقْدِمانِ لِأجْلِ ذَلِكَ الحَبْسِ عَلى القَسَمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ. والمَعْنى: إنِ ارْتَبْتُمْ في شَأْنِهِما واتَّهَمْتُمُوهُما فَحَلِّفُوهُما، وبِهَذا يَحْتَجُّ مَن يَقُولُ الآيَةُ نازِلَةٌ في إشْهادِ الكُفّارِ؛ لِأنَّ تَحْلِيفَ الشّاهِدِ المُسْلِمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، ومَن قالَ: الآيَةُ نازِلَةٌ في حَقِّ المُسْلِمِ، قالَ: إنَّها مَنسُوخَةٌ، وعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ يُحَلِّفُ الشّاهِدَ والرّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ يَعْنِي يُقْسِمانِ بِاللَّهِ أنّا لا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا قائِلِينَ: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧٧] أيْ لا نَأْخُذُ ولا نَسْتَبْدِلُ، ومَن باعَ شَيْئًا فَقَدِ اشْتَرى ثَمَنَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ أيْ لا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا، ولَوْ كانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَبْوَةَ ذِي قُرْبى أوْ نَفْسِهِ، وخَصَّ ذا القُرْبى بِالذِّكْرِ لِأنَّ المَيْلَ إلَيْهِمْ أتَمُّ والمُداهَنَةَ بِسَبَبِهِمْ أعْظَمُ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ [النِّساءِ: ١٣٥] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذا عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ يَعْنِي أنَّهُما يُقْسِمانِ حالَ ما يَقُولانِ: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ؛ أيِ الشَّهادَةَ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِها وإظْهارِها.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ وقَفَ عَلى قَوْلِهِ: (شَهادَةً) ثُمَّ ابْتَدَأ (آللَّهِ) بِالمَدِّ عَلى طَرْحِ حَرْفِ القَسَمِ وتَعْوِيضِ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ مِنهُ، ورُوِيَ عَنْهُ بِغَيْرِ مَدٍّ عَلى ما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ أنَّ مِنهم مَن يَقُولُ: اللَّهِ لَقَدْ كانَ كَذا، والمَعْنى تاللَّهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ يَعْنِي إذا كَتَمْناها كُنّا مِنَ الآثِمِينَ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق