الباحث القرآني
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى حُكْمٍ عَزِيزٍ، قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ رَوَاهُ العَوْفي مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ [[في د: "وقاله".]] حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ -وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، فِيمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ-: بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ؛ وَمَنِ ادَّعَى النَّسْخَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾ هَذَا هُوَ الْخَبَرُ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: "شَهَادَةُ اثْنَيْنِ"، حُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامه. وَقِيلَ: دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَوَا عَدْلٍ﴾ وَصَفَ الِاثْنَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْكُمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَهُ الْجُمْهُورُ. قَالَ [[في د: "قاله".]] عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ قَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: رُوي عَنْ عُبيدة، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُر، والسُّدِّي، وقتادةَ، ومُقاتل بْنِ حَيَّان، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، نَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى: ذَلِكَ ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: مِنْ حَي [[في د: "من أهل".]] الْمُوصِي. وَذَلِكَ قَوْلٌ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعُبَيْدَةَ وَعِدَّةٍ غَيْرِهِمَا.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنِ أَبِي عَمْرَة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ.
ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ، وشُرَيْح، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي مِجْلزَ، والسُّديِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْكُمْ﴾ أَيِ: الْمُرَادُ مِنْ قَبِيلَةِ الْمُوصِي، يَكُونُ الْمُرَادُ هَاهُنَا: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أَيْ: مِنْ غَيْرِ قَبِيلَةِ الْمُوصِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: سَافَرْتُمْ، ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ وَهَذَانَ شَرْطَانِ لِجَوَازِ اسْتِشْهَادِ الذِّمِّيِّينَ عِنْدَ فَقْدِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَفَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ووَكِيع قَالَا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُرَيْحٍ قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني [[في د: "اليهود والنصارى".]] إِلَّا فِي سَفَرٍ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَفَرٍ إِلَّا فِي وَصِيَّةٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي قَالَ: قَالَ شُرَيْحٌ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ إِفْرَادِهِ، وَخَالَفَهُ الثَّلَاثَةُ فَقَالُوا: لَا تَجُوزُ شهادة أهل الذمة على المسلمين. وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي حَضَرٍ وَلَا سفر، إنما هي في المسلمين. [[تفسير الطبري (١١/١٦٦) .]] وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَرْضُ حَرْبٌ، وَالنَّاسُ كُفَّارٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ نُسخت الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، أَوْ يُشْهِدَهُمَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيط قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ [[في د: "قال ابن مسعود في هذه الآية".]] هَذَا رَجُلٌ سَافَرَ وَمَعَهُ مَالٌ، فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ. وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ ثَالِثٌ مَعَهُمَا اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْوَصْفَانِ: الْوِصَايَةُ وَالشَّهَادَةُ، كَمَا فِي قِصَّةِ تَمِيم الدَّارِيِّ، وعَدِيّ بْنِ بَدَّاء، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا آنِفًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابنُ جَرِيرٍ كَوْنَهُمَا شَاهِدَيْنَ، قَالَ: لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُكْمًا يَحْلِفُ فِيهِ الشَّاهِدُ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى قِيَاسِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِشَهَادَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَقَدِ اغْتُفِرَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قَامَتْ قَرَائِنُ الرِّيبَةِ حَلِفَ هَذَا الشَّاهِدُ بِمُقْتَضَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ قَالَ [الْعَوْفِيُّ، عَنِ] [[زيادة من د.]] ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي، وَقَتَادَةُ، وعِكْرِمة، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَعْنِي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاةَ أَهْلِ دِينِهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنْ يُقَامَ هَذَانَ الشَّاهِدَانِ [[في د: "أن قيامها".]] بَعْدَ صَلَاةٍ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِيهَا بِحَضْرَتِهِمْ، ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ أَيْ: فَيَحْلِفَانِ [[في د: "يحلفان".]] بِاللَّهِ ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أَيْ: إِنْ ظَهَرَتْ لَكُمْ مِنْهُمَا رِيبَةٌ، أَنَّهُمَا قَدْ خَانَا أَوْ غَلَّا فَيَحْلِفَانِ حِينَئِذٍ بِاللَّهِ ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ﴾ أَيْ: بِأَيْمَانِنَا. قَالَهُ مُقاتِل بْنُ حَيَّانَ ﴿ثَمَنًا﴾ أَيْ: لَا نَعْتَاضُ عَنْهُ بِعِوَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرِيبًا إِلَيْنَا لَا نُحَابِيهِ، ﴿وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ﴾ أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهَا، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهَا.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةً آللَّهِ" مَجْرُورًا عَلَى الْقَسَمِ. رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، عن عامر الشعبي.
وحَكَي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ: "وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةً اللَّهُ"، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ.
﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ أَيْ: إِنْ فَعَلْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، مِنْ تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ، أَوْ تَبْدِيلِهَا، أَوْ تَغْيِيرِهَا [[في د: "وتغييرها".]] أَوْ كَتْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ أَيْ: فَإِنِ اشْتَهَرَ وَظَهَرَ وَتَحَقَّقَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ الْوَصِيَّيْنِ، أَنَّهُمَا خَانَا أَوْ غَلا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ إِلَيْهِمَا، وَظَهَرَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ﴾ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: "اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ". ورُوي عَنْ عَلِيٍّ، وأُبيّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمْ قَرَؤُوهَا: ﴿اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ﴾ .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ الفَرْوِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ﴾ ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. [[المستدرك (٢/٢٣٧) ووافقه الذهبي.]]
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلِين". وَقَرَأَ الْحَسَنُ: "مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلان"، حَكَاهُ ابنُ جَرِيرٍ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْمَعْنَى بِذَلِكَ: أَيْ مَتَى تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَلَى خِيَانَتِهِمَا، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ وَلِيَكُونَا مِنْ أوْلى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ الْمَالَ ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ أَيْ: لِقَوْلِنَا: إِنَّهُمَا خَانَا أحقُّ وَأَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا الْمُتَقَدِّمَةِ ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾ أَيْ: فِيمَا قُلْنَا مِنَ الْخِيَانَةِ ﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: إِنْ كُنَّا قَدْ كَذَبْنَا عَلَيْهِمَا.
وَهَذَا التَّحْلِيفُ لِلْوَرَثَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، كَمَا يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ إِذَا ظَهَرَ لَوْث [[في د: "اللوث".]] فِي جَانِبِ الْقَاتِلِ، فَيُقْسِمُ الْمُسْتَحِقُّونَ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ "الْقَسَامَةِ" مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بَاذَانَ -يَعْنِي: أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ قَالَ: بَرئ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي وَغَيْرَ عَديّ بْنِ بَدَّاء. وَكَانَا [[في د: "فكانا".]] نَصْرَانِيَّيْنِ، يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ، يُقَالُ لَهُ: بُدَيْل بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، بِتِجَارَةٍ وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمُلْكَ، وَهُوَ عُظْم [[في د: "أعظم".]] تِجَارَتِهِ. فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ -قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ، فبعناه بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ. فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا. وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما د فع إِلَيْنَا غَيْرَهُ-قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَدَفَعْتُ [[في د: "وأديت".]] إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ [[في د: "عليه".]] أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُعَظَّمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا، فنزعتْ الْخَمْسُمِائَةٍ مِنْ عَدي بْنِ بَدَّاء.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أبي شعيب الحَرَّاني، عن محمد بن سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ فَذَكَرَهُ [[سنن الترمذي برقم (٣٠٥٩) وتفسير الطبري (١١/١٨٦) .]] -وَعِنْدَهُ: فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُعَظَّم بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَحَلَفَا. فَنزعَتْ الْخَمْسُمِائَةٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء.
ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ، وَأَبُو النَّضْرِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ عِنْدِي مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، يُكَنَّى أَبَا النَّضْرِ، وَقَدْ تَرَكَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، يُكَنَّى أَبَا النَّضْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ لِسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ رِوَايَةً عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ، وَقَدْ رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى الِاخْتِصَارِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدّاء، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَوَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ. فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحبهم. وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ. [[سنن الترمذي برقم (٣٦٠٦) وسنن أبي داود برقم (٣٠٦٠) وأصله في صحيح البخاري برقم (٢٧٨٠) لكن البخاري لم يذكره تحديثًا وإنما حكاية قول.]]
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، كُوفِيٌّ، قِيلَ: إِنَّهُ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً غيرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ مِنْهُمْ: عِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ. وَذَكَرُوا أَنَّ التَّحْلِيفَ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَكَذَا ذَكَرَهَا مُرْسَلَةً: مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِهَا فِي السَّلَفِ وَصِحَّتِهَا.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا [[في د: "من الشواهد لها أيضا".]] مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بدَقُوقا، قَالَ: فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ -يَعْنِي: أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-فَأَخْبَرَاهُ [[في د: "فأخبره".]] وَقَدَّمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ: بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدّلا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ. قَالَ: فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ الْأَزْرَقِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَضَى بِدَقُوقَا. [[في د: "به".]] [[تفسير الطبري (١١/١٦٥) .]]
وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ إِلَى الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
فَقَوْلُهُ: "هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ [[في د: "الذي كان على عهده".]] رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" الظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ قِصَّةَ تَمِيمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدّاء، قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِسْلَامَ تَمِيم بْنِ أوْسٍ الدَّارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مُتَأَخِّرًا، يَحْتَاجُ مُدَّعِي نَسْخِهِ إِلَى دَلِيلٍ فَاصِلٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ قَالَ: هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يُوصِي وَيُشْهِدُ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، قَالَ: هَذَا فِي الْحَضَرِ، ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فِي السَّفَرِ، ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ هَذَا الرَّجُلُ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ فِي سَفَرِهِ، وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَدْعُو رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَيُوصِي إِلَيْهِمَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمَا مِيرَاثَهُ فَيَقْبَلَانِ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ أَهْلُ الْمَيِّتِ الْوَصِيَّةَ وَعَرَفُوا [مَالَ صَاحِبِهِمْ] [[زيادة من د.]] تَرَكُوا الرَّجُلَيْنِ [[في د: "تركوهما".]] وَإِنِ ارْتَابُوا رَفَعُوهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى العلْجين حِينَ انتُهى بِهِمَا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي دَارِهِ، فَفَتَحَ الصَّحِيفَةَ، فَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَيِّتِ وخَوّنوهما [[في د: "وضربوهما".]] فَأَرَادَ أَبُو مُوسَى أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلَكِنِ اسْتَحْلِفْهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا، فَيُوقَفُ الرَّجُلَانِ بعد صلاتهما في دِينِهِمَا، فَيَحْلِفَانِ: بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ: أَنَّ صَاحِبَهُمْ لَبِهَذَا أَوْصَى، وَأَنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ. فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كَتَمْتُمَا أَوْ خُنْتُما فَضَحْتُكُما فِي قَوْمِكُمَا، وَلَمْ تَجُزْ لَكُمَا شَهَادَةٌ، وَعَاقَبْتُكُمَا. فَإِذَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. [[تفسير الطبري (١١/١٧٥) .]]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا هُشيْم، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَا إِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الْوَفَاةُ فِي سَفَرٍ، فَلْيُشْهِدْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِذَا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْوَرَثَةُ قُبل قَوْلُهُمَا، وَإِنِ اتَّهَمُوهُمَا أُحْلِفَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ: بِاللَّهِ مَا كَتَمْنَا وَلَا كَذَبْنَا وَلَا خُنَّا وَلَا غَيَّرنا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنِ ارْتِيبَ فِي شَهَادَتِهِمَا اسْتَحْلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِاللَّهِ: مَا اشْتَرَيْنَا بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا. فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا، قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللَّهِ: أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، وَإِنَّا لَمْ نَعْتَدِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ يَقُولُ: مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ: أَنَّ شَهَادَةَ الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شَهَادَةَ الكافرَيْن، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَوْلِيَاءِ.
وَهَكَذَا رَوَى العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وَهَكَذَا قَرَّر [[في د: "أورد".]] هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ غيرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينِ وَالسَّلَفِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ أَيْ: شَرْعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ مِنْ تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ وَقَدِ اسْتُرِيبَ بِهِمَا، أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَتِهِمَا الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أَيْ: يَكُونُ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ [[في د: "بها".]] عَلَى وَجْهِهَا، هُوَ تَعْظِيمُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ وَإِجْلَالُهُ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْفَضِيحَةِ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ [[في د: "فيستحقون".]] مَا يَدْعُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ ﴿وَاسْمَعُوا﴾ أَيْ: وَأَطِيعُوا ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ يَعْنِي: الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ شريعته.
{"ayahs_start":106,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ","فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰۤ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّاۤ إِثۡمࣰا فَـَٔاخَرَانِ یَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَیَـٰنِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَـٰدَتُنَاۤ أَحَقُّ مِن شَهَـٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَیۡنَاۤ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَاۤ أَوۡ یَخَافُوۤا۟ أَن تُرَدَّ أَیۡمَـٰنُۢ بَعۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق