الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ الآيَةَ: ١٠٦. (p-١١٨)قالَ قائِلُونَ: المُرادُ بِالآيَةِ ظاهِرُها، وهي الشَّهادَةُ عَلى الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، وأجازُوا بِهَذا شَهادَةَ أهْلِ الذِّمَّةِ عَلى وصِيَّةِ المُسْلِمِ في السَّفَرِ، ورَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أبِي مُوسى، وهو قَوْلُ أبِي مُوسى وقَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وجَعَلُوا هَذا الحُكْمَ مَخْصُوصًا بِالوَصِيَّةِ عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ لِوُقُوعِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ، ولا يَمْتَنِعُ اخْتِلافُ الحُكْمِ عِنْدَ الضَّرُوراتِ. ويُقَوِّي ذَلِكَ أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ مِن آخِرِ القُرْآنِ نُزُولًا، حَتّى قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وغَيْرُهُما إنَّهُ لا مَنسُوخَ فِيها. ومُتَضَمَّنُ هَذا القَوْلِ أنْ يَكُونَ عَلى الشّاهِدِ يَمِينٌ، وأنْ يَتَعَيَّنَ إمْضاؤُهُ الشَّهادَةَ لِمَكانِ اليَمِينِ مَعَ الِارْتِيابِ، وأنَّهُ إذا ظَهَرَ لَوْثٌ مِن جِهَةِ الشُّهُودِ، صارَتْ يَمِينُ الوَرَثَةِ مُعارِضَةً لِشَهادَةِ الشُّهُودِ، وأعْظَمُ مِنهُ أنَّهُ قالَ: ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ . وقالَ: ﴿تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ . وظاهِرُ ذَلِكَ رُجُوعُ حُكْمِ اليَمِينِ إلى النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ أُثْبِتَ التَّخْيِيرُ فِيهِما، فَيَكُونُ المُسْلِمُ الشّاهِدُ مُحَلَّفًا عَلى الشَّهادَةِ عَلى الوَصِيَّةِ، وذَلِكَ بَعِيدٌ. وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن أحَدِ نَوْعَيْنِ: إمّا التَّأْوِيلُ وإمّا إثْباتُ النَّسْخِ. أمّا التَّأْوِيلُ فَغايَةُ ما قِيلَ فِيهِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما: ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، أنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا وتَقْدِيرُهُ: إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ، فاسْتَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ، يَعْنِي: مِنَ العَشِيرَةِ، فَإنَّهم أحْفَظُ وأضْبَطُ وأبْعَدُ عَنِ النِّسْيانِ، أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ، يَعْنِي: مِن غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ، إنْ سافَرْتُمْ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ فَيَحْلِفانِ (p-١١٩)بَعْدَ العَصْرِ، فَإنْ ظَهَرَ أنَّهُما شَهِدا بِالزُّورِ، رُدَّ ما شَهِدا بِهِ عَلى الوَرَثَةِ، إذا حَلَفَ الآخَرانِ تُجْرَحُ شَهادَةُ الأوَّلَيْنِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما﴾ [المائدة: ١٠٧] . فَقِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ( مِنكم أوْ مِن غَيْرِكم ) ضَمِيرٌ يَقْتَضِي انْصِرافًا إلى المَذْكُورِ قَبْلَهُ لا لِلْعَشِيرَةِ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ ضَمِيرًا عَنْها ولَمْ يَجِدْ لَها فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرًا، وهَذا بَيِّنٌ. لِأنَّ اليَمِينَ لا يَتَوَجَّهُ لا عَلى الشّاهِدِ مِنَ القَبِيلَةِ ولا مِن غَيْرِها. والتَّأْوِيلُ الثّانِي: ما نُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ، فَإنَّهُ قالَ: نَزَلَتِ الآيَةُ في مُسْلِمٍ حَضَرَهُ المَوْتُ وأوْصى إلى نَصْرانِيَّيْنِ، وسَلَّمَ المالَ إلَيْهِما، والقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الشَّهادَةِ، فَإنَّ المُوصى إلَيْهِ كَيْفَ يَشْهَدُ عَلى فِعْلِ نَفْسِهِ، وعَلى أنَّهُ رُدَّ عَلى جَمِيعِ ما عِنْدَهُ، ولَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا.
وقَدْ يُسَمّى اليَمِينُ شَهادَةً في قَوْلِهِ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦] . فَقِيلَ لَهُمُ: اليَمِينُ لا يَخْتَصُّ بِالعَدْلِ. فَأجابُوا بِأنَّهُ ذَكَرَ العَدْلَ احْتِياطًا في الوَصِيَّةِ، واتِّقاءً لِلْيَمِينِ الفاجِرَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ عُثِرَ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا فَآخَرانِ يَقُومانِ (p-١٢٠)مَقامَهُما﴾ [المائدة: ١٠٧] . فَأجابُوا: بِأنَّ مَعْنى ذَلِكَ ما ذُكِرَ في سَبَبِ النُّزُولِ، وهو أنَّهُ وجَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخَوَّصَةٍ بِذَهَبٍ عِنْدَ رَجُلٍ، وكانَ الجامُ مِن جُمْلَةِ التَّرِكَةِ، فَلَمّا طُولِبَ الرَّجُلُ بِهِ ذَكَرَ أنَّهُ اشْتَراهُ مِن تَمِيمٍ الدّارِيِّ وعَدِيِّ بْنِ نَدا، فَلَمّا رُوجِعا في ذَلِكَ قالا: كانَ قَدْ جَعَلَهُ المُوصِي لَنا أوْ باعَهُ مِنّا. وإذا كانَ كَذَلِكَ، حَلَفَ الوارِثُ لا المُدَّعِي لِمِلْكِ الجامِ، فَهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِنَ شَهادَتِهِما وما اعْتَدَيْنا﴾ [المائدة: ١٠٧] . أيْ: يَحْلِفانِ أنَّ الشَّيْءَ لَهُما وما اعْتَدَيا، وهَذا مُجْمَلٌ، فَهَذا وجْهُ التَّأْوِيلِ. فَأمّا النَّوْعُ الآخَرُ؛ وهو دَعْوى النَّسْخِ، والنّاسِخُ لا بُدَّ مِن بَيانِهِ عَلى وجْهٍ يَتَنافى الجَمْعُ بَيْنَهُما مَعَ تَراضِي النّاسِخِ، وهَؤُلاءِ زَعَمُوا أنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِن آخِرِ ما نَزَلَتْ وأنَّ فِيها: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، والكافِرُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرْضِيًا عِنْدَ المُسْلِمِينَ. وهَذا لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ناسِخًا عِنْدَنا، فَإنَّهُ في قِصَّةٍ غَيْرِ قِصَّةِ الوَصِيَّةِ، وأمْكَنَ تَخْصِيصُ الوَصِيَّةِ بِهِ لِمَكانِ الحاجَةِ والضَّرُورَةِ، لِأنَّهُ رُبَّما كانَ الكافِرُ ثِقَةً عِنْدَ المُسْلِمِ، ويَرْتَضِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَلَيْسَ فِيما قالَهُ ناسِخٌ. (p-١٢١)والنَّوْعُ الثّانِي مِنَ النّاسِخِ أبانَهُ بَعْدَهُ عَنِ الأُصُولِ في التَّفْرِقَةِ في قَبُولِ الشَّهادَةِ في السَّفَرِ والحَضَرِ وتَحْلِيفِ الشّاهِدِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ لا تَخْفى، وهَذا الجِنْسُ لا يَصْلُحُ ناسِخًا، وإنَّما يُؤَيِّدُ بِهِ التَّأْوِيلَ بَعْدَ وُجُودِ التَّأْوِيلِ. وفي الآيَةِ دَلِيلٌ لِلشّافِعِيِّ عَلى أنَّ اليَمِينَ تَتَغَلَّظُ بِالزَّمانِ والمَكانِ.
واسْتَدَلَّ الرّازِيُّ بِهِ عَلى قَبُولِ شَهادَةِ الكافِرِ عَلى الكافِرِ، فَقالَ: في ضِمْنِ شَهادَةِ الكافِرِ عَلى المُسْلِمِ في الوَصِيَّةِ قَبُولُها عَلى أهْلِ مِلَّتِهِ لا مَحالَةَ، ثَبَتَ النَّسْخُ في بَعْضِ ذَلِكَ فَبَقِيَ في البَعْضِ، وهَذا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ الآيَةَ إذا تَضَمَّنَتْ حُكْمًا وقَدْ نُسِخَ المَذْكُورُ بِعَيْنِهِ، فَلا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ فَرْعٍ لَهُ لَمْ يُنْسَخْ وتَعَذَّرَ بَقاؤُهُ وهَذا لا خَفاءَ بِبُطْلانِهِ، فَلَمْ يُطْنِبْ فِيهِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق