الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنانِ﴾ . رَوى البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ تَمِيمٌ الدّارِيُّ وعْدِيٌّ يَخْتَلِفانِ إلى مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَهُما فَتًى مِن بَنِي سَهْمٍ، فَتُوفِّيَ بِأرْضٍ لَيْسَ فِيها مُسْلِمٌ، (p-٣٨)فَأوْصى إلَيْهِما، فَدَفَعا تَرِكَتَهُ إلى أهْلِهِ، وحَبَسا جامًا مِن فِضَّةٍ مَخُوصًا بِالذَّهَبِ، فاسْتَحْلَفَهُما - وفي رِوايَةٍ - فَحَلَّفَهُما بَعْدَ العَصْرِ النَّبِيُّ ﷺ ”ما كَتَمْتُما ولا اطَّلَعْتُما“ ثُمَّ وُجِدَ الجامُ بِمَكَّةَ، فَقالُوا: اشْتَرَيْناهُ مِن عَدِيٍّ وتَمِيمٍ، فَجاءَ الرَّجُلانِ مِن ورَثَةِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفا أنَّ هَذا الجامَ لِلسَّهْمِيِّ، ولَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما وما اعْتَدَيْنا قالَ: فَأخَذا الجامَ»، وفِيهِمْ نَزَلَتِ الآيَةُ. قِيلَ: والسَّهْمِيُّ، هو مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ، يُقالُ لَهُ: بَدِيلُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ، وأنَّ جامَ الفِضَّةِ كانَ يُرِيدُ بِهِ (المَلِكَ)، وهو أعْظَمُ تِجاراتِهِ، وأنَّ عَدِيًّا وتَمِيمًا باعاهُ بِألْفِ دِرْهَمٍ واقْتَسَماها. وقِيلَ: اسْمُهُ بَدِيلُ بْنُ أبِي مارِيَةَ مَوْلى العاصِي بْنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ، وأنَّهُ خَرَجَ مُسافِرًا في البَحْرِ إلى أرْضِ النَّجاشِيِّ، وأنَّ إناءَ الفِضَّةِ كانَ وزْنُهُ ثَلاثَمِائَةِ مِثْقالٍ، وكانَ مُمُوَّهًا بِالذَّهَبِ، قالَ فَقَدِمُوا الشّامَ، فَمَرِضَ بَدِيلٌ، وكانَ مُسْلِمًا الحَدِيثَ. وذَكَرَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الفَضْلِ أنَّ ورَثَةَ بُدَيْلٍ قالُوا لَهُما: ألَسْتُما زَعَمْتُما أنَّ صاحِبَنا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِن مَتاعِهِ، فَما بالُ هَذا الإناءِ مَعَكُما، وهو مِمّا خَرَجَ صاحِبُنا بِهِ، وقَدْ حَلَفْتُما عَلَيْهِ، قالا: إنّا كُنّا ابْتَعْناهُ مِنهُ، ولَمْ يَكُنْ لَنا عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَكَرِهْنا أنْ نُقِرَّ لَكم، فَتَأْخُذُوهُ مِنّا، وتَسْألُوا عَلَيْهِ البَيِّنَةَ، ولا نَقْدِرُ عَلَيْها، فَرَفَعُوهُما إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتِ انْتَهى. وفي رِوايَةٍ قالَ تَمِيمٌ: فَلَمّا أسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ ﷺ المَدِينَةَ تَأثَّمْتُ مِن ذَلِكَ، فَأتَيْتُ أهْلَهُ وأخْبَرْتُهُمُ الخَبَرَ، وأدَّيْتُ لَهم خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وأخْبَرْتُهم أنَّ عِنْدَ صاحِبِي مِثْلَها، فَأتَوْا بِهِ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَسَألَهُمُ البَيِّنَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا ما أُمِرُوا بِهِ، فَأمَرَهم أنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِما يُقْطَعُ بِهِ عَلى أهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ إلى قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ أيْمانِهِمْ﴾ فَقامَ عَمْرُو بْنُ العاصِ ورَجُلٌ آخَرُ مِنهم، فَحَلَفا، فَنُزِعَتِ الخَمْسُمِائَةِ مِن يَدِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ. وزادَ الواقِدِيُّ في حَدِيثِهِ أنَّ تَمِيمًا وعَدِيًّا كانا أخَوَيْنِ، ويَعْنِي، واللَّهُ أعْلَمُ، أنَّهُما أخَوانِ لِأُمٍّ، وأنَّ بُدَيْلًا كَتَبَ وصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ودَسَّها في مَتاعِهِ، وأوْصى إلى تَمِيمٍ وعَدِيٍّ؛ أنْ يُؤَدِّيا رَحْلَهُ، وأنَّ الرَّسُولَ اسْتَحْلَفَهُما بَعْدَ العَصْرِ، وأنَّهُ حَلَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ والمُطَّلِبَ بْنَ أبِي وداعَةَ. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا السَّبَبَ مُخْتَصَرًا مُجَرَّدًا، فَذَكَرَ فِيهِ أنَّ بُدَيْلَ بْنَ أبِي مَرْيَمَ، كانَ مِنَ المُهاجِرِينَ، وأنَّهُ كَتَبَ كِتابًا فِيهِ ما مَعَهُ، وطَرَحَهُ في مَتاعِهِ، ولَمْ يُخْبِرْ بِهِ صاحِبَيْهِ، فَأصابَ أهْلُ بُدَيْلٍ الصَّحِيفَةَ، فَطالَبُوهُما بِالإناءِ، فَجَحَدُوا فَرُفِعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَمْ يَصِحَّ لِعَدِيٍّ صُحْبَةٌ فِيما عَلِمْتُ، ولا ثَبَتَ إسْلامُهُ، وقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ في الصَّحابَةِ. وقالَ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: هَذِهِ الآياتُ عِنْدَ أهْلِ المَعانِي مِن أشْكَلِ ما في القُرْآنِ، إعْرابًا، ومَعْنًى وحُكْمًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كَلامُ مَن لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ في تَفْسِيرِها، وذَلِكَ بَيِّنٌ مِن كِتابِهِ انْتَهى. وقالَ أبُو الحَسَنِ السَّخاوِيُّ: ما رَأيْتُ أحَدًا مِنَ الأئِمَّةِ تَخَلَّصَ كَلامُهُ فِيها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها انْتَهى. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها، هي أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾، كانَ في ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنِ الضَّلالِ، واسْتِبْعادٌ عَنْ أنْ يُنْتَفَعَ بِهِمْ في شَيْءٍ مِن أُمُورِ المُؤْمِنِينَ مِن شَهادَةٍ، أوْ غَيْرِها، فَأخْبَرَ تَعالى بِمَشْرُوعِيَّةِ شَهادَتِهِمْ، أوِ الإيصاءِ إلَيْهِمْ في السَّفَرِ عَلى ما سَيَأْتِي بَيانُهُ. وقالَ أبُو نَصْرٍ القُشَيْرِيُّ: لَمّا نَزَلَتِ السُّورَةُ بِالوَفاءِ بِالعُقُودِ، وتَرْكِ الخِياناتِ، انْجَرَّ الكَلامُ إلى هَذا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ بِالرَّفْعِ، وإضافَةِ (شَهادَةُ) إلى (بَيْنِكم) . وقَرَأ الشَّعْبِيُّ والحَسَنُ والأعْرَجُ ﴿شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ بِرَفْعِ (شَهادَةٌ)، وتَنْوِينِهِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ والحَسَنُ أيْضًا (شَهادَةً) بِالنَّصْبِ والتَّنْوِينِ. ورُوِيَ هَذا عَنِ الأعْرَجِ وأبِي حَيْوَةَ، (p-٣٩)و(بَيْنَكم) في هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، فَـ (شَهادَةُ) عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ مُبْتَدَأٌ مُضافٌ إلى بَيْنٍ بَعْدَ الِاتِّساعِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ، وخَبَرُهُ (اثْنانِ) تَقْدِيرُهُ: شَهادَةُ اثْنَيْنِ، أوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ ذَوا شَهادَةِ بَيْنِكُمُ اثْنانِ، واحْتِيجَ إلى الحَذْفِ لِيُطابِقَ المُبْتَدَأُ الخَبَرَ، وكَذا تَوْجِيهُ قِراءَةِ الشَّعْبِيِّ والأعْرَجِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَرْتَفِعَ (اثْنانِ) عَلى الفاعِلِيَّةِ بِـ (شَهادَةُ)، ويَكُونَ (شَهادَةُ) مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وقَدَّرَهُ فِيما فُرِضَ عَلَيْكم أنْ يَشْهَدَ اثْنانِ. وقِيلَ: (شَهادَةُ) مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ . وقِيلَ: خَبَرُهُ ﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾، ويَرْتَفِعُ (اثْنانِ) عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ الشّاهِدانِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم، أوْ عَلى الفاعِلِيَّةِ، التَّقْدِيرُ يَشْهَدُ اثْنانِ. وقِيلَ: (شَهادَةُ) مُبْتَدَأٌ، (واثْنانِ) مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، وأغْنى الفاعِلُ عَنِ الخَبَرِ. وعَلى الإعْرابِ الأوَّلِ يَكُونُ (إذا) مَعْمُولًا لِلشَّهادَةِ، وأمّا (حِينَ) فَذَكَرُوا أنَّهُ يَكُونُ مَعْمُولًا لِحَضَرَ، أوْ ظَرْفًا لِلْمَوْتِ، أوْ بَدَلًا مِن (إذا) ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ البَدَلِ قالَ ﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ بَدَلٌ مِنهُ يَعْنِي مِن (إذا)، وفي إبْدالِهِ مِنهُ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الوَصِيَّةِ، وأنَّها مِنَ الأُمُورِ اللّازِمَةِ الَّتِي لا يَنْبَغِي أنْ يَتَهاوَنَ بِها المُسْلِمُ، ويَذْهَلَ عَنْها. وحُضُورُ المَوْتِ مُشارَفَتُهُ، وظُهُورُ أماراتِ بُلُوغِ الأجَلِ انْتَهى. وقالَ الماتُرِيدِيُّ، واتَّبَعَهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: التَّقْدِيرُ ما بَيْنَكم فَحُذِفَ ما. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: يَعْنِي شَهادَةَ ما بَيْنَكم، (وبَيْنِكم) كِنايَةٌ عَنِ التَّنازُعِ؛ لِأنَّ الشُّهُودَ إنَّما يُحْتاجُ إلَيْهِمْ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنازُعِ، وحَذْفُ (ما) مِن قَوْلِهِ ما بَيْنَكم، جائِزٌ لِظُهُورِهِ ونَظِيرُهُ ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] أيْ ما بَيْنِي وبَيْنِكَ، وقَوْلُهُ ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في قِراءَةِ مَن نَصَبَ انْتَهى. وحَذْفُ (ما) المَوْصُولَةِ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ومَعَ الإضافَةِ، لا يَصِحُّ تَقْدِيرُ (ما) البَتَّةَ، ولَيْسَ قَوْلُهُ ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] نَظِيرُهُ ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] لِأنَّ ذَلِكَ مُضافٌ إلَيْهِ، وهَذا باقٍ عَلى طَرِيقَتِهِ، فَيُمْكِنُ أنْ يُتَخَيَّلَ فِيهِ تَقْدِيرُ (ما) لِأنَّ الإضافَةَ إلَيْهِ أخْرَجَتْهُ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وصَيَّرَتْهُ مَفْعُولًا بِهِ عَلى السَّعَةِ، وأمّا تَخْرِيجُ قِراءَةِ السُّلَمِيِّ والحَسَنِ (شَهادَةً) بِالنَّصْبِ والتَّنْوِينِ، ونَصْبِ (بَيْنَكم) فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِيُقِمْ شَهادَةً اثْنانِ، فَجَعَلَ (شَهادَةً) مَفْعُولًا بِإضْمارِ هَذا الأمْرِ، و(اثْنانِ)، مُرْتَفِعٌ بِـ (لِيُقِمْ) عَلى الفاعِلِيَّةِ، وهَذا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، هو تَقْدِيرُ ابْنِ جِنِّي بِعَيْنِهِ. قالَ ابْنُ جِنِّي: التَّقْدِيرُ لِيُقِمْ شَهادَةً بَيْنَكُمُ اثْنانِ انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي، مُخالِفٌ لِما قالَهُ أصْحابُنا؛ قالُوا: لا يَجُوزُ حَذْفُ الفِعْلِ، وإبْقاءُ فاعِلِهِ، إلّا إنْ أشْعَرَ بِالفِعْلِ ما قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ [النور: ٣٦]، عَلى قِراءَةِ مَن فَتَحَ الباءَ، فَقَرَأهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وذَكَرُوا في اقْتِياسِ هَذا خِلافًا؛ أيْ يُسَبِّحُهُ رِجالٌ، فَدَلَّ يُسَبِّحُ عَلى يُسَبِّحُهُ، أوْ أُجِيبَ بِهِ نَفْيٌ كَأنْ يُقالَ لَكَ: ما قامَ أحَدٌ عِنْدَكَ ؟ فَتَقُولُ بَلى زِيدٌ؛ أيْ قامَ زَيْدٌ، أوْ أُجِيبَ بِهِ اسْتِفْهامٌ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ألا هَلْ أتى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ بَلْ خالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْهُ العَوائِقُ
التَّقْدِيرُ أتى خالِدٌ، أوْ يَأْتِيها خالِدٌ، ولَيْسَ حَذْفُ الفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ ابْنُ جِنِّي، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ واحِدًا مِن هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ. والَّذِي عِنْدِي أنَّ هَذِهِ القِراءَةَ الشّاذَّةَ تَخْرُجُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما؛ أنْ يَكُونَ (شَهادَةً) مَنصُوبَةً عَلى المَصْدَرِ الَّذِي نابَ مَنابَ الفِعْلِ، بِمَعْنى الأمْرِ، واثْنانِ مُرْتَفِعٌ بِهِ، والتَّقْدِيرُ لِيَشْهَدْ بَيْنَكُمُ اثْنانِ فَيَكُونُ مِن بابِ قَوْلِكَ: ضَرْبًا زَيْدًا، إلّا أنَّ الفاعِلَ في ضَرْبًا مُسْنَدٌ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ؛ لِأنَّ مَعْناهُ اضْرِبْ، وهَذا مُسْنَدٌ إلى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ مَعْناهُ لِيَشْهَدْ، والوَجْهُ الثّانِي أنْ يَكُونَ أيْضًا مَصْدَرًا، لَيْسَ بِمَعْنى الأمْرِ، بَلْ يَكُونُ خَبَرًا نابَ مَنابَ الفِعْلِ في الخَبَرِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ قَلِيلًا، كَقَوْلِكَ: افْعَلْ وكَرامَةً ومَسَرَّةً أيْ وأُكْرِمُكَ وأسُرُّكَ، فَكَرامَةٌ ومَسَرَّةٌ بَدَلانِ مِنَ اللَّفْظِ بِالفِعْلِ في الخَبَرِ، وكَما هو الأحْسَنُ في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ
فارْتِفاعُ صَحْبِي وانْتِصابُ (مَطِيَّهم) بِقَوْلِهِ وُقُوفًا؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالفِعْلِ في الخَبَرِ، التَّقْدِيرُ وقَفَ صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهم. والتَّقْدِيرُ في الآيَةِ (p-٤٠)يَشْهَدُ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ اثْنانِ، والشَّهادَةُ هُنا هَلْ هي الَّتِي تُقامُ بِها الحُقُوقُ عِنْدَ الحُكّامِ، أوِ الحُضُورُ، أوِ اليَمِينُ ؟ ثَلاثَةُ أقْوالٍ آخِرُها لِلطَّبَرِيِّ، والقَفّالِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ﴾ [النور: ٦] . وقِيلَ: تَأْتِي الشَّهادَةُ بِمَعْنى الإقْرارِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: ١٦٦]، وبِمَعْنى العِلْمِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، وبِمَعْنى الوَصِيَّةِ. وخُرِّجَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِيها أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
* * *
﴿ذَوا عَدْلٍ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ .
﴿ذَوا عَدْلٍ﴾ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ (اثْنانِ)، و(مِنكم) صِفَةٌ أُخْرى، و﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ صِفَةٌ لِآخَرانِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (مِنكم) مِن أقارِبِكم، و﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ مِنَ الأجانِبِ ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾، يَعْنِي إنْ وقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ، ولَمْ يَكُنْ مَعَكم أحَدٌ مِن عَشِيرَتِكم، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْنِ عَلى الوَصِيَّةِ وجَعَلَ الأقارِبَ أوْلى لِأنَّهم أعْلَمُ بِأحْوالِ المَيِّتِ وبِما هو أصْلَحُ وهم لَهُ أنْصَحُ وقِيلَ: (مِنكم) مِنَ المُسْلِمِينَ وإنَّما جازَتْ في أوَّلِ الإسْلامِ لِقِلَّةِ المُسْلِمِينَ وتَعَذُّرِ وجُودِهِمْ في حالِ السَّفَرِ وعَنْ مَكْحُولٍ نَسَخَها قَوْلُهُ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] انْتَهى. وما اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وبَدَأ بِهِ أوَّلًا؛ هو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ والحَسَنِ والزُّهْرِيِّ، قالُوا: أمَرَ اللَّهُ بِإشْهادِ عَدْلَيْنِ مِنَ القَرابَةِ، إذْ هم أحَقُّ بِحالِ الوَصِيَّةِ، وأدْرى بِصُورَةِ العَدْلِ فِيها، فَإنْ كانَ الأمْرُ في سَفَرٍ، ولَمْ تَحْضُرْ قَرابَةٌ، أسْنَدَها إلى غَيْرِهِما مِنَ المُسْلِمِينَ الأجانِبِ، وهَذا القَوْلُ مُخالِفٌ لِما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ، حَتّى ابْنُ عَطِيَّةَ قالَ: لا نَعْلَمُ خِلافًا أنَّ سَبَبَ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ تَمِيمًا الدّارِيَّ وعَدِيَّ بْنَ زِيادٍ، كانا نَصْرانِيَّيْنِ، وساقا الحَدِيثَ المَذْكُورَ أوَّلًا، فَهَذا القَوْلُ مُخالِفٌ لِسَبَبِ النُّزُولِ، وأمّا القَوْلُ الثّانِي الَّذِي حَكاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ هو مَذْهَبُ أبِي مُوسى وابْنِ المُسَيَّبِ ويَحْيى بْنِ يَعْمُرَ وابْنِ جُبَيْرٍ وأبِي مِجْلَزٍ وإبْراهِيمَ وشُرَيْحٍ وعُبَيْدَةَ السَّلْمانِيِّ وابْنِ سِيرِينَ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ (p-٤١)والسُّدِّيِّ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ الثَّوْرِيُّ ومالَ إلَيْهِ أبُو عُبَيْدٍ، واخْتارَهُ أحْمَدُ قالُوا: مَعْنى قَوْلِهِ: (مِنكم) مِنَ المُؤْمِنِينَ، ومَعْنى ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ مِنَ الكُفّارِ. قالَ بَعْضُهم: وذَلِكَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ ولا مُؤْمِنَ إلّا بِالمَدِينَةِ، وكانُوا يُسافِرُونَ بِالتِّجارَةِ صُحْبَةَ أهْلِ الكِتابِ، وعَبَدَةِ الأوْثانِ، وأنْواعِ الكُفّارِ. ومَذْهَبُ أبِي مُوسى وُشُرَيْحٍ وغَيْرِهِما؛ أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ. قالَ أحْمَدُ: شَهادَةُ أهْلِ الذِّمَّةِ جائِزَةٌ عَلى المُسْلِمِينَ في السَّفَرِ، عِنْدَ عَدَمِ المُسْلِمِينَ. ورَجَّحَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ هَذا القَوْلَ قالَ: قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خِطابٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، فَلَمّا قالَ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ كانَ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ لا مَحالَةَ، وبِأنَّهُ لَوْ كانَ الآخَرانِ مُسْلِمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ جَوازُ الِاسْتِشْهادِ بِهِما مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ؛ لِأنَّ المُسْلِمَ جائِزٌ اسْتِشْهادُهُ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وبِأنَّهُ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ الحَلِفِ مِن بَعْدِ الصَّلاةِ. وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ الشّاهِدَ لا يَجِبُ تَحْلِيفُهُ، فَعَلِمْنا أنَّهُما لَيْسا مِنَ المُسْلِمِينَ، وبِسَبَبِ النُّزُولِ، وهو شَهادَةُ النَّصْرانِيَّيْنِ عَلى بُدَيْلٍ، وكانَ مُسْلِمًا، وبِأنَّ أبا مُوسى قَضى بِشَهادَةِ يَهُودِيَّيْنِ بَعْدَ أنْ حَلَّفَهُما، وما أنْكَرَ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، فَكانَ ذَلِكَ إجْماعًا، وبِاتِّفاقِ أكْثَرِ الأُمَّةِ عَلى أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ مِن آخِرِ ما نَزَلَ، ولَيْسَ فِيها مَنسُوخٌ. وقالَ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ ناصِرًا لِلْقَوْلِ الأوَّلِ: هَذا يَنْبَنِي عَلى مَعْنًى غامِضٍ في العَرَبِيَّةِ، وذَلِكَ أنَّ مَعْنًى آخَرَ في العَرَبِيَّةِ مِن جِنْسِ الأوَّلِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ، فَقَوْلُهُ (آخَرَ) يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِن جِنْسِ الأوَّلِ، ولا يَجُوزُ عِنْدَ أهْلِ العَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وخَسِيسٍ آخَرَ، ولا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وحِمارٍ آخَرَ، فَوَجَبَ مِن هَذا أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ؛ أيْ عَدْلانِ، والكُفّارُ لا يَكُونُونَ عُدُولًا انْتَهى. وما ذَكَرَهُ في المَثَلِ صَحِيحٌ، إلّا أنَّ الَّذِي في الآيَةِ مُخالِفٌ لِلْمَثَلِ الَّتِي ذَكَرَها النَّحّاسُ في التَّرْكِيبِ؛ لِأنَّهُ مَثَّلَ بِآخَرَ وجَعَلَهُ صِفَةً لِغَيْرِ جِنْسِ الأوَّلِ. وأمّا الآيَةُ فَمِن قَبِيلِ ما تَقَدَّمَ فِيهِ آخَرُ عَلى الوَصْفِ، وانْدَرَجَ آخَرُ في الجِنْسِ الَّذِي قَبْلَهُ، ولا يُعْتَبَرُ جِنْسُ وصْفِ الأوَّلِ تَقُولُ: جاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وآخَرُ كافِرٌ، ومَرَرْتُ بِرَجُلٍ قائِمٍ وآخَرَ قاعِدٍ، واشْتَرَيْتُ فَرَسًا سابِقًا وآخَرَ، مُبْطِئًا، فَلَوْ أخَّرْتَ آخَرَ في هَذِهِ المُثُلِ، لَمْ تَجُزِ المَسْألَةُ، لَوْ قُلْتَ: جاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وكافِرٌ آخَرُ، ومَرَرْتُ بِرَجُلٍ قائِمٍ وقاعِدٍ آخَرَ، واشْتَرَيْتُ فَرَسًا سابِقًا ومُبْطِئًا آخَرَ، لَمْ يَجُزْ، ولَيْسَتِ الآيَةُ مِن هَذا القَبِيلِ، إلّا أنَّ التَّرْكِيبَ فِيها جاءَ ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ فَآخَرانِ مِن جِنْسِ قَوْلِهِ ﴿اثْنانِ﴾ ولا سِيَّما إذا قَدَّرْتَهُ رَجُلانِ اثْنانِ فَآخَرانِ هُما مِن جِنْسِ قَوْلِكَ رَجُلانِ اثْنانِ ولا، يُعْتَبَرُ وصْفُ قَوْلِهِ ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾، وإنْ كانَ مُغايِرًا لِقَوْلِهِ مِن غَيْرِكم، كَما لا يُعْتَبَرُ وصْفُ الجِنْسِ في قَوْلِكَ: عِنْدِي رَجُلانِ اثْنانِ مُسْلِمانِ وآخَرانِ كافِرانِ، إذْ لَيْسَ (p-٤٢)مِن شَرْطِ (آخَرَ) إذا تَقَدَّمَ أنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الأوَّلِ بَعِيدٌ وصْفُهُ، وهو عَلى ما ذَكَرْتُهُ هو لِسانُ العَرَبِ؛ قالَ الشّاعِرُ:
؎كانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْغُونَ الزُّجاجَ عَلى قُعْسِ الكَواهِلِ في أشْداقِها ضَخَمُ
؎وآخِرِينَ عَلى الماذِيِّ فَوْقَهم ∗∗∗ مِن نَسْجِ داوُدَ أوْ ما أوْرَثَتْ إرَمُ
التَّقْدِيرُ كانُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا، أوْ ناسًا يُصْغُونَ الزُّجاجَ ثُمَّ، قالَ: وآخَرِينَ تَرى المَأذِيَ فَآخَرِينَ مِن جِنْسِ قَوْلِكَ فَرِيقًا، ولَمْ يَعْبُرْهُ بِوَصْفِهِ، وهو قَوْلُهُ: يُصْغُونَ الزُّجاجَ؛ لِأنَّ الشّاعِرَ قَسَّمَ مَن ذَكَرَ إلى قِسْمَيْنِ مُتَبايِنَيْنِ بِالوَصْفَيْنِ مُتَّحِدِي الجِنْسِ، وهَذا الفَرْقُ قَلَّ مَن يَفْهَمُهُ، فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُهُ، وأمّا القَوْلُ الثّالِثُ الَّذِي حَكاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وهو أنَّهُ مَنسُوخٌ، وحَكاهُ عَنْ مَكْحُولٍ؛ فَهو قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ والنَّخَعِيِّ ومالِكٍ والشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ وغَيْرِهِمْ مِنَ الفُقَهاءِ، إلّا أنَّ أبا حَنِيفَةَ خالَفَهم فَقالَ: تَجُوزُ شَهادَةُ الكُفّارِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ لا عَلى المُسْلِمِينَ، والنّاسِخُ قَوْلُهُ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وقَوْلُهُ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، وزَعَمُوا أنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِن آخِرِ ما نَزَلَ. والظّاهِرُ أنَّ أوْ لِلتَّخْيِيرِ. وقالَ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ فَمَن جَعَلَ قَوْلَهُ ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ أيْ مِن عَشِيرَتِكم كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أنْ يَسْتَشْهِدَ أقارِبَهُ، أوِ الأجانِبَ مِنَ المُسْلِمِينَ، ومَن زَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ مِن غَيْرِكم أيْ مِنَ الكُفّارِ فاخْتَلَفُوا. فَقِيلَ غَيْرُكم يَعْنِي بِهِ أهْلَ الكِتابِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: أهْلُ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، وهو ظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾، وقِيلَ: أوْ لِلتَّرْتِيبِ إذا كانَ قَوْلُهُ ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ يَعْنِي بِهِ مِن غَيْرِ أهْلِ مِلَّتِكم، فالتَّقْدِيرُ إنْ لَمْ يُوجَدْ مِن مِلَّتِكم.
﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ هَذا التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ولَوْ جَرى عَلى لَفْظِ ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ لَكانَ التَّرْكِيبُ إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فَأصابَتْهُ مُصِيبَةُ المَوْتِ، وإنَّما جاءَ الِالتِفاتُ جَمْعًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (أحَدَكُمُ) مَعْناهُ إذا حَضَرَ كُلَّ واحِدٍ مِنكُمُ المَوْتُ، والمَعْنى إذا سافَرْتُمْ في الأرْضِ لِمَصالِحِكم ومَعايِشِكم. وظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ اسْتِشْهادَ آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ المُسْلِمِينَ، مَشْرُوطٌ بِالسَّفَرِ في الأرْضِ، وحُضُورِ عَلاماتِ المَوْتِ.
﴿تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لا لِما دَلَّ عَلَيْهِ الخِطابُ في قَوْلِهِ ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكُمْ﴾ لِأنَّ مَن ضَرَبَ في الأرْضِ وأصابَهُ المَوْتُ، لَيْسَ هو الحابِسَ ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ صِفَةٌ لِآخَرانِ، واعْتُرِضَ بَيْنَ المَوْصُوفِ والصِّفَةِ بِقَوْلِهِ (إنْ أنْتُمْ. . . إلى المَوْتِ)، وأفادَ الِاعْتِراضُ؛ أنَّ العُدُولَ إلى آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ المِلَّةِ، أوِ القَرابَةِ، حَسَبَ اخْتِلافِ العُلَماءِ في ذَلِكَ، إنَّما يَكُونُ مَعَ ضَرُورَةِ السَّفَرِ، وحُلُولِ المَوْتِ فِيهِ. اسْتَغْنى عَنْ جَوابِ (إنْ) . لِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ انْتَهى. وإلى أنَّ ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ صِفَةٌ. ذَهَبُ الحُوفِيُّ وأبُو البَقاءِ، وهو ظاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ قَوْلِ أبِي عَلِيٍّ الَّذِي قَدَّمْناهُ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَوْضِعُ ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ ؟ قُلْتُ: هو اسْتِئْنافُ كَلامٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: بَعْدَ اشْتِراطِ العَدالَةِ فِيهِما، فَكَيْفَ إنِ ارْتَبْنا فِيهِما ؟ فَقِيلَ: ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ . وما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الِاسْتِئْنافِ، أظْهَرُ مِنَ (p-٤٣)الوَصْفِ؛ لِطُولِ الفَصْلِ بِالشَّرْطِ، والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَيْنَ المَوْصُوفِ وصِفَتِهِ. وإنَّما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ اشْتِراطِ العَدالَةِ فِيهِما؛ لِأنَّهُ اخْتارَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ، أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكم، مَعْناهُ أوْ عَدْلانِ آخَرانِ مِن غَيْرِ القَرابَةِ. وتَقَدَّمَ مِن كَلامِ أبِي عَلِيٍّ؛ أنَّ العُدُولَ إلى آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ المِلَّةِ، أوِ القَرابَةِ، إنَّما يَكُونُ مَعَ ضَرُورَةِ السَّفَرِ، وحُلُولِ المَوْتِ فِيهِ، إلى آخِرِ كَلامِهِ، فَظَهَرَ مِنهُ أنَّ تَقْدِيرَ جَوابِ الشَّرْطِ هو ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْنِ مِن غَيْرِكم، أوْ فالشّاهِدانِ آخَرانِ مِن غَيْرِكم. والظّاهِرُ أنَّ الشَّرْطَ قَيْدٌ في شَهادَةِ اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أوْ آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ الوَصِيَّةِ لِلضّارِبِ في الأرْضِ المُشارِفِ عَلى المَوْتِ، أنْ يُشْهِدَ اثْنَيْنِ، ويَكُونُ تَقْدِيرُ الجَوابِ: إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ، فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ، فاسْتَشْهِدُوا اثْنَيْنِ، إمّا مِنكم، وإمّا مِن غَيْرِكم. ولا يَكُونُ الشَّرْطُ إذْ ذاكَ قَيْدًا في آخَرَيْنِ مِن غَيْرِنا فَقَطْ، بَلْ هو قَيْدٌ فِيمَن ضَرَبَ في الأرْضِ، وشارَفَ المَوْتَ، فَيَشْهَدُ اثْنانِ مِنّا، أوْ مِن غَيْرِنا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في الكَلامِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ، وقَدِ اسْتَشْهَدْتُمُوهُما عَلى الإيصاءِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَقْدِيرُهُ؛ وقَدْ أوْصَيْتُمْ. قِيلَ: وهَذا أوْلى لِأنَّ الشّاهِدَ لا يَحْلِفُ، والمُوصى يَحْلِفُ. ومَعْنى ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ تَسْتَوْثِقُونَهُما لِلْيَمِينِ، والخِطابُ لِمَن يَلِي ذَلِكَ مِن وُلاةِ الإسْلامِ، وضَمِيرُ المَفْعُولِ عائِدٌ في قَوْلٍ عَلى آخَرَيْنِ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، وظاهِرُ عَوْدِهِ عَلى اثْنَيْنِ مِنّا، أوْ مِن غَيْرِنا، سَواءٌ كانا وصِيَّيْنِ، أوْ شاهِدَيْنِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ مِن بَعْدِ الصَّلاةِ؛ أنَّ الألِفَ واللّامَ لِلْجِنْسِ، أوْ مِن بَعْدِ أيِّ صَلاةٍ، وقَدْ قِيلَ: بِهَذا الظّاهِرِ، وخَصَّ ذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ بِصَلاةِ دِينِهِما، وذَلِكَ تَغْلِيظٌ في اليَمِينِ. وقالَ الحَسَنُ: بَعْدَ العَصْرِ، أوِ الظُّهْرِ؛ لِأنَّ أهْلَ الحِجازِ كانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُما. وقالَ الجُمْهُورُ هي صَلاةُ العَصْرِ؛ لِأنَّهُ وقْتُ اجْتِماعِ النّاسِ، وكَذا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، اسْتَحْلَفَ عَدِيًّا وتَمِيمًا بَعْدَ العَصْرِ عِنْدَ المِنبَرِ، ورُجِّحَ هَذا القَوْلُ بِفِعْلِهِ وبِقَوْلِهِ في الصَّحِيحِ: «مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ كاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عَلَيْهِ غَضْبانُ» . وبِأنَّ التَّحْلِيفَ كانَ مَعْرُوفًا بَعْدَهُما، فالتَّقْيِيدُ بِالمَعْرُوفِ يُغْنِي عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ، وبِأنَّ جَمِيعَ الأدْيانِ يُعَظِّمُونَ هَذا الوَقْتَ، ويَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَتَكُونُ الألِفُ واللّامُ في هَذا القَوْلِ لِلْعَهْدِ، وكَذا في قَوْلِ الحَسَنِ.
﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ ظاهِرُهُ تَقْيِيدُ حَلِفِهِما بِوُجُودِ الِارْتِيابِ، فَمَتى لَمْ تُوجَدِ الرِّيبَةُ، فَلا تَحْلِيفَ. ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ تَحْلِيفُ أبِي مُوسى لِلْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَشْهَدَهُما مُسْلِمٌ تُوُفِّيَ عَلى وصِيَّتِهِ عَلى أنَّهُ وقَعَتْ رِيبَةٌ، وإنْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ في قِصَّةِ ذَلِكَ المُسْلِمِ. والفاءُ في قَوْلِهِ (فَيُقْسِمانِ) عاطِفَةٌ هَذِهِ الجُمْلَةَ عَلى قَوْلِهِ ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ هَذا هو الظّاهِرُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وإنْ شِئْتَ لَمْ تُقَدِّرِ الفاءَ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ، ولَكِنْ تَجْعَلْهُ جَزاءً، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
؎وإنْسانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الماءَ تارَةً ∗∗∗ فَيَبْدُو وتاراتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
تَقْدِيرُهُ: عِنْدَهُمْ؛ إذا حَسَرَ بَدا، فَكَذَلِكَ إذا حَبَسْتُمُوهُما اقْسِما انْتَهى. ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وإبْقاءِ جَوابِهِ، فَتَكُونُ الفاءُ إذْ ذاكَ فاءَ الجَزاءِ، وإلى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ بَعْدَ الفاءِ؛ أيْ فَهُما يُقْسِمانِ، وفَهُوَ يَبْدُو. وخَرَّجَ أصْحابُنا بَيْتَ ذِي الرُّمَّةِ عَلى تَوْجِيهٍ آخَرَ، وهو أنَّ قَوْلَهُ: يَحْسِرُ الماءَ تارَةً؛ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وقَدْ عُرِّيَتْ عَنِ الرّابِطِ، فَكانَ القِياسُ أنْ لا تَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، لَكِنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِما بِالفاءِ جُمْلَةً فِيها ضَمِيرُ المُبْتَدَأِ، فَحَصَلَ الرَّبْطُ بِذَلِكَ، و﴿لا نَشْتَرِي﴾ هو جَوابُ قَوْلِهِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ، وفَصَلَ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ بِالشَّرْطِ. والمَعْنى إنِ ارْتَبْتُمْ في شَأْنِهِما واتَّهَمْتُمُوهُما، فَحَلِّفُوهُما. وقِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِهِما (p-٤٤)الشّاهِدانِ، فَقَدْ نُسِخَ تَحْلِيفُ الشّاهِدَيْنِ، وإنْ أُرِيدَ الوَصِيّانِ، فَلَيْسَ بِمَنسُوخٍ تَحْلِيفُهُما. وعَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ كانَ يُحَلِّفُ الشّاهِدَ والرّاوِيَ إذا اتَّهَمَهُما. والضَّمِيرُ في (بِهِ) عائِدٌ عَلى اللَّهِ، أوْ عَلى القَسَمِ، أوْ عَلى تَحْرِيفِ الشَّهادَةِ، أقْوالٌ ثالِثُها لِأبِي عَلِيٍّ، وقَوْلُهُ: ﴿نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ كِنايَةٌ عَنِ الِاسْتِبْدالِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ ذا ثَمَنٍ لِأنَّ الثَّمَنَ لا يَشْتَرِي، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ﴿لا نَشْتَرِي﴾ لا نَبِيعُ هُنا، وإنْ كانَ ذَلِكَ في اللُّغَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ لا نَحْلِفُ بِاللَّهِ كاذِبِينَ لِأجْلِ المالِ، ولَوْ كانَ مَن نُقْسِمُ لِأجْلِهِ قَرِيبًا مِنّا، وذَلِكَ عَلى عادَتِهِمْ في صِدْقِهِمْ وأمانَتِهِمْ أبَدًا، فَإنَّهم داخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ [النساء: ١٣٥]، وإنَّما قالَ فَإنَّهم داخِلُونَ إلى آخِرِهِ؛ لِأنَّ الِاثْنَيْنِ والآخَرَيْنِ عِنْدَهُ مُؤْمِنُونَ، فانْدَرَجُوا في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ﴾ [المائدة: ٨] الآيَةَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وخَصَّ ذا القُرْبى بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ العُرْفَ مَيْلُ النَّفْسِ إلى أقْرِبائِهِمْ واسْتِسْهالُهم في جَنْبِ نَفْعِهِمْ ما لا يُسْتَسْهَلُ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ فَيَكُونُ مِن جُمْلَةِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ. وأضافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ تَعالى هو الآمِرُ بِإقامَتِها، النّاهِي عَنْ كِتْمانِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿ولا نَكْتُمُ﴾ خَبَرًا مِنهُما، أخْبَرا عَنْ أنْفُسِهِما أنَّهُما لا يَكْتُمانِ شَهادَةَ اللَّهِ، ولا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ المُقْسَمِ عَلَيْهِ. وقَرَأ الحَسَنُ والشَّعْبِيُّ ﴿ولا نَكْتُمُ﴾ بِجَزْمِ المِيمِ نَهَيا أنْفُسَهُما عَنْ كِتْمانِ الشَّهادَةِ. ودُخُولُ (لا) النّاهِيَةِ عَلى المُتَكَلِّمِ قَلِيلٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎إذا ما خَرَجْنا مِن دِمَشْقَ فَلا نَعُدْ ∗∗∗ بِها أبَدًا ما دامَ فِيها الجَراضِمُ
. وقَرَأ عَلِيٌّ ونُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والشَّعْبِيُّ بِخِلافٍ عَنْهُ ﴿شَهادَةَ اللَّهِ﴾ بِنَصْبِهِما، وتَنْوِينِ (شَهادَةً)، وانْتَصَبا بِـ (نَكْتُمُ) . التَّقْدِيرُ ولا نَكْتُمُ اللَّهَ شَهادَةً. قالَ الزَّهْراوِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى؛ ولا نَكْتُمُ شَهادَةً واللَّهِ، ثُمَّ حَذَفَ الواوَ، ونَصَبَ الفِعْلَ إيجازًا. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ والسُّلَمِيِّ والحَسَنِ البَصْرِيِّ شَهادَةً، بِالتَّنْوِينِ، وآللَّهِ، بِالمَدِّ في هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ الَّتِي هي عِوَضٌ مِن حَرْفِ القَسَمِ، دَخَلَتْ تَقْرِيرًا وتَوْقِيفًا لِنُفُوسِ المُقْسِمِينَ، أوْ لِمَن خاطَبُوهُ. ورُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وغَيْرِهِ أنَّهُ كانَ يَقِفُ عَلى (شَهادَةَ)، بِالهاءِ السّاكِنَةِ، واللَّهِ بِقَطْعِ ألِفِ الوَصْلِ دُونَ مَدِّ الِاسْتِفْهامِ. قالَ ابْنُ جِنِّي: الوَقْفُ عَلى (شَهادَةَ)، بِسُكُونِ الهاءِ واسْتِئْنافِ القَسَمِ، حَسَنٌ؛ لِأنَّ اسْتِئْنافَهُ في أوَّلِ الكَلامِ، أوْقَرُ لَهُ، وأشَدُّ هَيْبَةً مِن أنْ يَدْخُلَ في عَرَضِ القَوْلِ. ورُوِيَ عَنْ يَحْيى بْنِ آدَمَ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَيّاشٍ (شَهادَةً) بِالتَّنْوِينِ (اللَّهِ) بِقَطْعِ الألِفِ، دُونَ مَدٍّ، وخَفْضِ هاءِ الجَلالَةِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ (لَمِلّاثِمِينَ)، بِإدْغامِ نُونِ (مِن) في لامِ الآثِمِينَ بَعْدَ حَذْفِ الهَمْزَةِ، ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى اللّامِ.
﴿فَإنْ عُثِرَ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا﴾ أيْ فَإنْ عُثِرَ بَعْدَ حَلِفِهِما عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا؛ أيْ ذَنْبًا بِحِنْثِهِما في اليَمِينِ، بِأنَّها لَيْسَتْ مُطابِقَةً لِلْواقِعِ (وعُثِرَ) اسْتِعارَةٌ لِما يُوقَعُ عَلى عِلْمِهِ بَعْدَ خَفائِهِ وبَعْدَ أنْ لَمْ يَرْجُ، ولَمْ يَقْصِدْ، كَما تَقُولُ: عَلى الخَبِيرِ سَقَطْتَ ووَقَعْتَ عَلى كَذا. قالَ أبُو عَلِيٍّ: الإثْمُ هُنا، هو الشَّيْءُ المَأْخُوذُ؛ لِأنَّ أخْذَهُ إثْمٌ فَسُمِّي إثْمًا، كَما يُسَمّى ما أُخِذَ بِغَيْرِ الحَقِّ، مَظْلَمَةً. قالَ سِيبَوَيْهِ: المَظْلَمَةُ اسْمُ ما أُخِذَ مِنكَ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ هَذا المَأْخُوذُ بِاسْمِ المَصْدَرِ انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الإثْمَ هُنا لَيْسَ الشَّيْءَ المَأْخُوذَ، بَلِ الذَّنْبَ الَّذِي اسْتَحَقّا بِهِ أنْ يَكُونا مِنَ الآثِمِينَ الَّذِي تَبَرَّآ أنْ يَكُونا مِنهم في قَوْلِهِما ﴿إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ ولَوْ كانَ الإثْمُ هو الشَّيْءَ المَأْخُوذَ، ما قِيلَ فِيهِ: اسْتَحَقّا إثْمًا؛ لِأنَّهُما ظَلَما، وتَعَدَّيا، وذَلِكَ هو المُوجِبُ لِلْإثْمِ.
﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ﴾ (p-٤٥)قَرَأ الحَرَمِيّانِ والعَرَبِيّانِ والكِسائِيُّ (اسْتَحَقَّ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ (والأوْلَيانِ) مُثَنّى مَرْفُوعٌ تَثْنِيَةُ الأوْلى، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ أُبَيٍّ وعَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ في رِوايَةِ قُرَّةَ عَنْهُ. وقَرَأ حَمْزَةُ وأبُو بَكْرٍ (اسْتُحِقَّ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (والأوَّلِينَ) جَمْعُ الأوَّلِ. وقَرَأ الحَسَنُ (اسْتَحَقَّ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، الأوَّلانِ مَرْفُوعٌ، تَثْنِيَةُ أوَّلَ. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ الأوْلَيَيْنِ، تَثْنِيَةُ الأوَّلِ، فَأمّا القِراءَةُ الأُولى، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَآخَرانِ) فَشاهِدانِ آخَرانِ ﴿يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ﴾ عَلَيْهِمْ؛ أيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإثْمُ، ومَعْناهُ وهُمُ الَّذِينَ جُنِيَ عَلَيْهِمْ، وهم أهْلُ المَيِّتِ، وِعِتْرَتُهُ. وفي قِصَّةِ بُدَيْلٍ أنَّهُ لَمّا ظَهَرَتْ خِيانَةُ الرَّجُلَيْنِ، حَلَّفَ رَجُلَيْنِ مِن ورَثَتِهِ أنَّهُ إناءُ صاحِبِهِما، وأنَّ شَهادَتَهُما أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما. (والأوْلَيانِ) الأحَقّانِ بِالشَّهادَةِ لِقَرابَتِهِما ومَعْرِفَتِهِما وارْتِفاعِهِما عَلى هُما الأوْلَيانِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ومَن هُما، فَقِيلَ (الأوْلَيانِ) . وقِيلَ: هُما بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ في (يَقُومانِ) أوْ مِن آخَرانِ، ويَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعا بِاسْتَحَقَّ أيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ابْتَدَأتِ الأوْلَيَيْنِ مِنهم لِلشَّهادَةِ؛ لِاطِّلاعِهِمْ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ انْتَهى. وقَدْ سَبَقَهُ أبُو عَلِيٍّ إلى أنَّ تَخْرِيجَ رَفْعِ (الأوْلَيانِ) عَلى تَقْدِيرِ هُما الأوْلَيانِ، وعَلى البَدَلِ مِن ضَمِيرِ (يَقُومانِ)، وزادَ أبُو عَلِيٍّ وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أحَدُهُما؛ أنْ يَكُونَ (الأوْلَيانِ) مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، والخَبَرُ آخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما، كَأنَّهُ في التَّقْدِيرِ فالأوْلَيانِ بِأمْرِ المَيِّتِ آخَرانِ يَقُومانِ، فَيَجِيءُ الكَلامُ، كَقَوْلِهِمْ: تَمِيمِيٌّ أنا، والوَجْهُ الآخَرُ أنْ يَكُونَ (الأوْلَيانِ) مُسْنَدًا إلَيْهِ (اسْتَحَقَّ) . قالَ أبُو عَلِيٍّ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ (الأوْلَيانِ) صِفَةً لِآخَرانِ؛ لِأنَّهُ لَمّا وُصِفَ خُصِّصَ، فَوُصِفَ مِن أجْلِ الِاخْتِصاصِ الَّذِي صارَ لَهُ انْتَهى. وهَذا الوَجْهُ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزامِهِ هَدْمَ ما كادُوا أنْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ مِن أنَّ النَّكِرَةَ لا تُوصَفُ بِالمَعْرِفَةِ، ولا العَكْسُ. وعَلى ما جَوَّزَهُ أبُو الحَسَنِ يَكُونُ إعْرابُ قَوْلِهِ: ﴿فَآخَرانِ﴾ مُبْتَدَأً والخَبَرُ (يَقُومانِ) ويَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ، أوْ يَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ (يَقُومانِ)، والخَبَرُ ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِالخَبَرِ، أوْ يَكُونانِ صِفَتَيْنِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَآخَرانِ﴾، ويَرْتَفِعُ آخَرانِ عَلى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ فالشّاهِدانِ آخَرانِ، ويَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الفاعِلِ؛ أيْ فَلْيَشْهَدْ آخَرانِ. وأمّا مَفْعُولُ (اسْتَحَقَّ) فَتَقَدَّمَ تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإثْمَ، ويَعْنِي أنَّهُ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى الإثْمِ؛ لِأنَّ الإثْمَ مَحْذُوفٌ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ حَذْفُ المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وقَدْ سَبَقَهُ أبُو عَلِيٍّ والحَوْفِيُّ إلى هَذا التَّقْدِيرِ، وأجازُوا وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإيصاءَ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الوَصِيَّةَ. وأمّا ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ ارْتِفاعِ قَوْلِهِ (الأوْلَيانِ) بِـ (اسْتَحَقَّ)، فَقَدْ أجازَهُ أبُو عَلِيٍّ كَما تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَنَعَهُ قالَ لِأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّما يَكُونُ الوَصِيَّةَ أوْ شَيْئًا مِنها. وأمّا (الأوْلَيانِ) بِالمَيِّتِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَسْتَحِقّا فَيُسْنَدَ (اسْتَحَقَّ) إلَيْهِما، إلّا أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ إنَّما رَفَعَ قَوْلَهُ الأوْلَيانِ بِـ (اسْتَحَقَّ) عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضافٍ نابَ عَنْهُ (الأوْلَيانِ)، فَقَدَّرَهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنهم لِلشَّهادَةِ لِاطِّلاعِهِمْ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ، فَيَسُوغُ تَوْجِيهُهُ، وأجازَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَلى أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ؛ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ إثْمُ الأوَّلَيْنِ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا أنْ يَرْتَفِعَ (الأوْلَيانِ) بِـ (اسْتَحَقَّ)، وطَوَّلَ في تَقْرِيرِ ذَلِكَ، ومُلَخَّصُهُ أنَّهُ حَمَلَ اسْتَحَقَّ هُنا عَلى الِاسْتِعارَةِ بِأنَّهُ لَيْسَ اسْتِحْقاقًا حَقِيقَةً لِقَوْلِهِ: ﴿اسْتَحَقّا إثْمًا﴾، وإنَّما مَعْناهُ أنَّهم غَلَبُوا عَلى المالِ بِحُكْمِ انْفِرادِ هَذا المَيِّتِ وعَدْمِهِ لِقَرابَتِهِ، أوْ لِأهْلِ دِينِهِ، فَجَعَلَ تَسَوُّرَهم عَلَيْهِ اسْتِحْقاقًا مَجازًا، والمَعْنى مِنَ الجَماعَةِ الَّتِي غابَتْ، وكانَ حَقُّها أنْ تُحْضِرَ ولِيَّها. قالَ: فَلَمّا غابَتْ وانْفَرَدَ هَذا المُوصِي، اسْتَحَقَّتْ هَذِهِ الحالَ، وهَذانِ الشّاهِدانِ مِن غَيْرِ أهْلِ الدِّينِ الوِلايَةَ، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ عَلى هَذِهِ الجَماعَةِ، ثُمَّ يُبْنى الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ عَلى هَذا المَعْنى إيجازًا، ويُقَوِّي هَذا الغَرَضَ أنْ يُعَدّى الفِعْلُ (p-٤٦)بِعَلى لَمّا كانَ بِاقْتِدارٍ، وحُمِلَ هُنا عَلى الحالِ، ولا يُقالُ اسْتَحَقَّ مِنهُ أوْ فِيهِ، إلّا في الِاسْتِحْقاقِ الحَقِيقِيِّ عَلى وجْهِهِ، وأمّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ، فَيُقالُ في الحَمْلِ والغَلَبَةِ والِاسْتِحْقاقِ المُسْتَعارِ انْتَهى. والضَّمِيرُ في (مَقامَهُما) عائِدٌ عَلى شاهِدَيِ الزُّورِ، و﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ هم وُلاةُ المَيِّتِ. وقالَ النَّحّاسُ في قَوْلِ مَن قَدَّرَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإيصاءَ: هَذا مِن أحْسَنِ ما قِيلَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ حَرْفًا بَدَلًا مِن حَرْفٍ، يَعْنِي أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ (عَلى) بِمَعْنى (في)، ولا بِمَعْنى (مِن)، وقَدْ قِيلَ: بِهِما أيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ مِنهُمُ الإثْمَ لِقَوْلِهِ: ﴿إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ﴾ [المطففين: ٢] أيْ مِنَ النّاسِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإثْمَ، وأجازَ ابْنُ العَرَبِيِّ تَقْدِيرَ الإيصاءِ، واخْتارَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ وابْنُ الفَضْلِ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ المالَ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: وقَدْ أكْثَرَ النّاسُ في أنَّهُ لَمْ يُوصَفْ مَوالِي بِهَذا الوَصْفِ، وذَكَرُوا فِيهِ قَوْلًا، والأصَحُّ عِنْدِي فِيهِ وجْهٌ واحِدٌ؛ وهو أنَّهم وُصِفُوا بِذَلِكَ بِأنَّهُ لَمّا أخَذَ مالَهُمُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مالَهم، فَإنَّ مَن أخَذَ مالَ غَيْرِهِ، فَقَدْ حاوَلَ أنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِذَلِكَ المالِ تَعَلُّقَ مِلْكِهِ لَهُ، فَصَحَّ أنْ يُوصَفَ المالِكُ بِأنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْكَ ذَلِكَ المالَ انْتَهى. (والأوْلَيانِ) بِمَعْنى الأقْرَبَيْنِ إلى المَيِّتِ، أوِ الأوْلَيانِ بِالحَلِفِ؛ وذَلِكَ أنَّ الوَصِيَّيْنِ ادَّعَيا؛ أنَّ مُورِثَ هَذَيْنِ الشّاهِدَيْنِ باعَهُما الإناءَ، وهُما أنْكَرا ذَلِكَ، فاليَمِينُ حَقٌّ لَهُما، كَإنْسانٍ أقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ، وادَّعى أنَّهُ قَضاهُ، فَتُرَدُّ اليَمِينُ عَلى الَّذِي ادَّعى أوَّلًا؛ لِأنَّهُ صارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وتَلَخَّصَ في إعْرابِ (الأوْلَيانِ) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ وُجُوهٌ الِابْتِداءُ، والخَبَرُ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والبَدَلُ مِن ضَمِيرِ (يَقُومانِ) والبَدَلُ مِن (آخَرانِ)، والوَصْفُ لِـ (آخَرانِ) والمَفْعُولِيَّةُ بِـ (اسْتَحَقَّ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ مُخْتَلَفٍ في تَقْدِيرِهِ.
وأمّا القِراءَةُ الثّانِيَةُ، وهي بِناءُ (اسْتَحَقَّ) لِلْفاعِلِ، ورَفْعُ الأوْلَيَيْنِ، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْناهُ مِنَ الوَرَثَةِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ أوْلَيانِ مِن سَهْمٍ بِالشَّهادَةِ أنْ يُجَرِّدُوهُما لِقِيامِ الشَّهادَةِ، ويُظْهِرُوا بِهِما كَذِبَ الكاذِبِينَ انْتَهى.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ما مُلَخَّصُهُ (الأوْلَيانِ) رُفِعَ بِـ (اسْتَحَقَّ)، وذَلِكَ عَلى أنْ يَكُونَ المَعْنى ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ مالَهم وتَرَكَهم شاهِدا الزُّورِ، فَسُمِّيا أوْلَيَيْنِ؛ أيْ صَيَّرَهُما عَدَمُ النّاسِ أوْلى بِهَذا المَيِّتِ وتَرِكَتِهِ، فَجازا فِيها. أوْ يَكُونُ المَعْنى مِنَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أنْ يَكُونَ الأوْلَيانِ مِنهم، فاسْتَحَقَّ بِمَعْنى حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ. أوْ يَكُونُ (اسْتَحَقَّ) بِمَعْنى سَعى واسْتَوْجَبَ فالمَعْنى مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ حَضَرَ أوْلَيانِ مِنهم، فاسْتَحَقّا عَلَيْهِمْ؛ أيِ اسْتَحَقّا لَهم وسَعَيا فِيهِ، واسْتَوْجَباهُ بِأيْمانِهِما وقُرْبانِهِما انْتَهى. وقالَ بَعْضُهم: المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ وصِيَّتَهُما.
وأمّا القِراءَةُ الثّالِثَةُ، وهي قِراءَةُ (اسْتَحَقَّ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والأوَّلِينَ جَمْعُ الأوَّلِ، فَخُرِّجَ عَلى أنَّ الأوَّلِينَ وصْفٌ لِلَّذِينَ. قالَ أبُو البَقاءِ: أوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ بِعَلى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ مَنصُوبٌ عَلى المَدْحِ، ومَعْنى الأوَّلِيَّةِ التَّقَدُّمُ عَلى الأجانِبِ في الشَّهادَةِ؛ لِكَوْنِهِمْ أحَقَّ بِها انْتَهى. وهَذا عَلى تَفْسِيرِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ أنَّهُمُ الأجانِبُ، لا أنَّهُمُ الكُفّارُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْناها مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ أمْرَهُمْ؛ أيْ غَلَبُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ وصَفَهم بِأنَّهم أوَّلُونَ؛ أيْ في الذِّكْرِ في هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ انْتَهى.
وأمّا القِراءَةُ الرّابِعَةُ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، فالأوَّلانِ مَرْفُوعٌ بِاسْتَحَقَّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَحْتَجُّ بِهِ مَن يَرى رَدَّ اليَمِينِ عَلى المُدَّعِي، وهو أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ؛ لا يَرَوْنَ ذَلِكَ، فَوُجِّهَ عِنْدَهم أنَّ الوَرَثَةَ قَدِ ادَّعَوْا عَلى النَّصْرانِيَّيْنِ أنَّهُما أُخْتانا، فَحَلَفا، فَلَمّا ظَهَرَ كَذِبُهُما، ادَّعَيا الشِّراءَ فِيما كَتَماهُ، فَأنْكَرَ الوَرَثَةُ، فَكانَ اليَمِينُ عَلى الوَرَثَةِ؛ لِإنْكارِهِمُ الشِّراءَ.
وأمّا القِراءَةُ الخامِسَةُ، وهي قِراءَةُ ابْنِ سِيرِينَ؛ فانْتِصابُ الأوْلَيَيْنِ عَلى المَدْحِ.
﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما وما اعْتَدَيْنا﴾ أيْ فَيُقْسِمُ الآخَرانِ القائِمانِ مَقامَ شَهادَةِ التَّحْرِيفِ أنَّ ما أخْبَرا بِهِ حَقٌّ، والَّذِي ذَكَرْناهُ مِن نَصِّ القِصَّةِ أحَقُّ مِمّا ذَكَراهُ أوَّلًا وحَرَّفا فِيهِ وما زِدْنا عَلى الحَدِّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيَمِينُنا أحَقُّ مِن يَمِينِهِما ومَن (p-٤٧)قالَ: الشَّهادَةُ في أوَّلِ القِصَّةِ، لَيْسَتْ بِمَعْنى اليَمِينِ، قالَ هُنا الشَّهادَةُ يَمِينٌ، وسُمِّيَتْ شَهادَةً؛ لِأنَّها يَثْبُتُ بِها الحُكْمُ كَما يَثْبُتُ بِالشَّهادَةِ. قالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: (أحَقُّ) أصَحُّ لِكُفْرِهِما وإيمانِنا انْتَهى.
﴿إنّا إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ خَتَما بِهَذِهِ الجُمْلَةِ تَبَرِّيًا مِنَ الظُّلْمِ، واسْتِقْباحًا لَهُ، وناسَبَ الظُّلْمُ هُنا لِقَوْلِهِما: ﴿وما اعْتَدَيْنا﴾ . والِاعْتِداءُ والظُّلْمُ، مُتَقارِبانِ، وناسَبَ خَتْمُ ما أقْسَمَ عَلَيْهِ شاهِدا الزُّورِ بِقَوْلِهِ ﴿لَمِنَ الآثِمِينَ﴾ لِأنَّ عَدَمَ مُطابَقَةِ يَمِينِهِما لِلْواقِعِ، وكَتْمِهِما الشَّهادَةَ، يَجُرّانِ إلَيْهِما الإثْمَ.
﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بَعْدَ أيْمانِهِمْ﴾ أيْ ذَلِكَ الحُكْمُ السّابِقُ، ولَمّا كانَ الشّاهِدانِ لَهُما حالَتانِ: حالَةٌ يُرْتابُ فِيها إذا شَهِدا، فَإذْ ذاكَ يُحْبَسانِ بَعْدَ الصَّلاةِ، ويَحْلِفانِ اليَمِينَ المَشْرُوعَةَ في الآيَةِ، قُوبِلَتْ هَذِهِ الحالَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها﴾ أيْ عَلى ما شَهِدا حَقِيقَةً دُونَ إنْكارٍ، ولا تَحْرِيفٍ ولا كَذِبٍ، وحالَةٌ يُطَّلَعُ فِيها إذا شَهِدا عَلى إثْمِهِما بِالشَّهادَةِ، وكَذِبِهِما في الحَلِفِ، فَإذْ ذاكَ لا يُلْتَفَتُ إلى أيْمانِهِمْ، وتُرَدُّ عَلى شُهُودٍ آخَرِينَ، فَعُمِلَ بِأيْمانِهِمْ، وذَلِكَ بَعْدَ حَلِفِهِمْ وافْتِضاحِهِمْ فِيها بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ، قُوبِلَتْ هَذِهِ الحالَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بَعْدَ أيْمانِهِمْ﴾ . وكانَ العَطْفُ بِأوْ؛ لِأنَّ الشّاهِدَيْنِ إذا لَمْ يَتَّضِحْ صِدْقُهُما، لا يَخْلُوانِ مِن إحْدى هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ: إمّا حُصُولُ رِيبَةٍ في شَهادَتِهِما، وإمّا الِاطِّلاعُ عَلى خِيانَتِهِما؛ فَلِذَلِكَ كانَ العَطْفُ بِأوِ المَوْضُوعَةِ لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أوِ الأشْياءِ. فالمَعْنى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الأحْكامِ أقْرَبُ إلى حُصُولِ إقامَةِ الشَّهادَةِ عَلى ما يَنْبَغِي، أوْ خَوْفِ رَدِّ الأيْمانِ إلى غَيْرِهِمْ، فَتَسْقُطُ أيْمانُهم ولا تُقْبَلُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ذَلِكَ كُلُّهُ يُقَرِّبُ اعْتِدالَ هَذا الصِّنْفِ فِيما عَسى أنْ يَنْزِلَ مِنَ النَّوازِلِ؛ لِأنَّهم يَخافُونَ التَّحْلِيفَ المُغَلَّظَ بِعَقِبِ الصَّلاةِ، ثُمَّ يَخافُونَ الفَضِيحَةَ، ورَدَّ اليَمِينِ انْتَهى. وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى تَحْلِيفِ الشّاهِدَيْنِ في جَمْعٍ مِنَ النّاسِ. وقِيلَ: إلى الحَبْسِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَقَطْ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَظْهَرُ هَذا مِن كَلامِ السُّدِّيِّ، وأوَّلَ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: تُحِبُّنِي يا زَيْدُ، أوْ تُسْخِطُنِي، كَأنَّكَ قُلْتَ: وإلّا أسْخَطْتَنِي، فَكَذَلِكَ مَعْنى الآيَةِ (ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها وإلّا خافُوا رَدَّ الأيْمانِ) . وأمّا عَلى مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ فالمَعْنى ذَلِكَ الحُكْمُ كُلُّهُ أقْرَبُ إلى أنْ يَأْتُوا، أوْ أقْرَبُ إلى أنْ يَخافُوا انْتَهى. فَتَلَخَّصَ أنَّ (أوْ) تَكُونُ عَلى بابِها، أوْ تَكُونُ بِمَعْنى الواوِ. و(يَخافُوا) مَعْطُوفٌ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ عَلى (يَأْتُوا)، أوْ يَكُونُ بِمَعْنى إلى أنْ، كَقَوْلِكَ لَألْزَمَنَّكَ، أوْ تَقْضِينِي حَقِّي، وهي الَّتِي عَبَّرَ عَنْها ابْنُ عَطِيَّةَ بِتِلْكَ العِبارَةِ السّابِقَةِ مِن تَقْدِيرِها بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ فِعْلُهُ وجَزاؤُهُ، وإذا كانَتْ بِمَعْنى إلى أنْ، فَهي عِنْدَ البَصْرِيِّينَ عَلى بابِها مِن كَوْنِها لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ. إلّا أنَّ العَطْفَ بِها لا يَكُونُ عَلى الفِعْلِ الَّذِي هو (يَأْتُوا)، لَكِنَّهُ يَكُونُ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وذَلِكَ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ. وجُمِعَ الضَّمِيرُ في يَأْتُوا وما بَعْدَهُ، وإنْ كانَ السّابِقُ مُثَنًّى، فَقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى الشّاهِدَيْنِ بِاعْتِبارِ الصِّنْفِ والنَّوْعِ. وقِيلَ: لا يَعُودُ إلى كِلَيْهِما بِخُصُوصِيَّتِهِما، بَلْ إلى النّاسِ الشُّهُودِ، والتَّقْدِيرُ ذَلِكَ أدْنى أنْ يَحْذَرَ النّاسُ الخِيانَةَ، فَيَشْهَدُوا بِالحَقِّ؛ خَوْفَ الفَضِيحَةِ في رَدِّ اليَمِينِ عَلى المُدَّعِي.
﴿واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا﴾ أيِ احْذَرُوا عِقابَ اللَّهِ تَعالى، واتَّخِذُوا وِقايَةً مِنهُ، بِأنْ لا تَخُونُوا، ولا تَحْلِفُوا بِهِ كاذِبِينَ، وأدُّوا الأمانَةَ إلى أهْلِها، واسْمَعُوا سَماعَ إجابَةٍ وقَبُولٍ.
﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ إشارَةٌ إلى مَن حَرَّفَ الشَّهادَةَ أنَّهُ فاسِقٌ خارِجٌ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ، فاللَّهُ لا يَهْدِيهِ إلّا إذا تابَ، فاللَّفْظُ عامٌّ، والمَعْنى اشْتِراطُ انْتِفاءِ التَّوْبَةِ.
{"ayahs_start":106,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ","فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰۤ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّاۤ إِثۡمࣰا فَـَٔاخَرَانِ یَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَیَـٰنِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَـٰدَتُنَاۤ أَحَقُّ مِن شَهَـٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَیۡنَاۤ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَاۤ أَوۡ یَخَافُوۤا۟ أَن تُرَدَّ أَیۡمَـٰنُۢ بَعۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق