الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ دُنْياهم إثْرَ بَيانِ الأحْوالِ المُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ دِينِهِمْ وفِيهِ مِن إظْهارِ كَمالِ العِنايَةِ بِمَضْمُونِهِ ما لا يَخْفى ﴿شَهادَةُ بَيْنِكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنانِ﴾ لِلشَّهادَةِ مَعانٍ الإحْضارُ والقَضاءُ والحُكْمُ والحَلِفُ والعِلْمُ والإيصاءُ، والمُرادُ بِها هُنا الأخِيرُ كَما نَصَّ عَلَيْهِ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقُ ذَلِكَ وقَرَأها الجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّها مُبْتَدَأُ و(اثْنانِ) خَبَرُها والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ (p-47)مِنَ الأوَّلِ أيْ ذُو شَهادَةِ بَيْنِكُمُ اثْنانِ أوْ مِنَ الثّانِي أيْ شَهادَةُ بَيْنِكم شَهادَةُ اثْنَيْنِ، والتُزِمَ ذَلِكَ لِيَتَصادَقَ المُبْتَدَأُ والخَبَرُ وقِيلَ: الشَّهادَةُ بِمَعْنى الشُّهُودِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ فَلا حاجَةَ إلى التِزامِ الحَذْفِ، وقِيلَ: الخَبَرُ مَحْذُوفٌ (واثْنانِ) مَرْفُوعٌ بِالمَصْدَرِ الَّذِي هو (شَهادَةُ) والتَّقْدِيرُ فِيما فُرِضَ عَلَيْكم أنْ يَشْهَدَ اثْنانِ وإلى هَذا ذَهَبَ الزَّجّاجُ. والشَّهادَةُ فِيهِ عَلى مَعْناها المُتَبادَرِ مِنها لا بِمَعْنى الإشْهادِ، وكَلامُ البَعْضِ يُوهِمُ ذَلِكَ وهو في الحَقِيقَةِ بَيانٌ لِحاصِلِ مَعْنى الكَلامِ
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّها بِمَعْنى الإشْهادِ الَّذِي هو مَصْدَرُ المَجْهُولِ و(اثْنانِ) قائِمٌ مَقامَ فاعِلِهِ، وفِيهِ أنَّ الإتْيانَ لِمَصْدَرِ الفِعْلِ المَجْهُولِ بِنائِبِ فاعِلٍ وهو اسْمٌ ظاهِرٌ وإنْ جَوَّزَهُ البَصْرِيُّونَ كَما في شَرْحِ التَّسْهِيلِ لِلْمُرادِيِّ فَقَدْ مَنَعَهُ الكُوفِيُّونَ وقالُوا: إنَّهُ هو الصَّحِيحُ لِأنَّ حَذْفَ فاعِلِ المَصْدَرِ سائِغٌ شائِعٌ فَلا يَحْتاجُ إلى ما يَسُدُّ مَسَدَّ فاعِلِهِ كَفاعِلِ الفِعْلِ الصَّرِيحِ. و (إذا) ظَرْفٌ لِـ (شَهادَةُ) أيْ لِيَشْهَدْ وقْتَ حُضُورِ المَيِّتِ والمُرادُ مُشارَفَتُهُ وظُهُورُ أمارَتِهِ و﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ إمّا بَدَلٌ مِن (إذا) وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ مِنَ المُهِمّاتِ المُقَرَّرَةِ الَّتِي لا يَنْبَغِي أنْ يَتَهاوَنَ بِها المُسْلِمُ ويَذْهَلَ عَنْها
وجُوِّزَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ المَوْتِ أيْ وُقُوعِ المَوْتِ أيْ أسْبابِهِ حِينَ الوَصِيَّةِ أوْ يَحْضُرَ، وأنْ يَكُونَ (شَهادَةُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ إذا حَضَرَ أيْ وُقُوعُ الشَّهادَةِ في وقْتِ حُضُورِ المَوْتِ و﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ عَلى الأوْجُهِ السّابِقَةِ، ولا يَجُوزُ فِيهِ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلشَّهادَةِ لِئَلّا يُخْبِرُ عَنِ المَوْصُولِ قَبْلَ تَمامِ صِلَتِهِ أوْ خَبَرِهِ ﴿حِينَ الوَصِيَّةِ﴾ . و (إذا) مَنصُوبٌ بِالشَّهادَةِ ولا يَجُوزُ نَصْبُهُ بِالوَصِيَّةِ وإنْ كانَ المَعْنى عَلَيْهِ لِأنَّ مَعْمُولَ المَصْدَرِ لا يَتَقَدَّمُهُ عَلى الصَّحِيحِ مَعَ ما يَلْزَمُ مِن تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المُضافِ إلَيْهِ عَلى المُضافِ وهو لا يَجُوزُ في غَيْرِ –غَيْرَ- لِأنَّها بِمَنزِلَةِ لا. و(اثْنانِ) عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ إمّا فاعِلُ يَشْهَدُ مُقَدَّرًا أوْ خَبَرٌ لَشاهِدانِ كَذَلِكَ
وعَنِ الفَرّاءِ أنَّ (شَهادَةُ) مُبْتَدَأٌ و(اثْنانِ) فاعِلُهُ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ وجَعَلَ المَصْدَرَ بِمَعْنى الأمْرِ أيْ لِيَشْهَدْ، وفِيهِ نِيابَةُ المَصْدَرِ عَنْ فِعْلِ الطَّلَبِ وهو ضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ لِأنَّ الِاكْتِفاءَ بِالفاعِلِ مَخْصُوصٌ بِالوَصْفِ المُعْتَمَدِ. و (إذا) و(حِينَ) عَلَيْهِ مَنصُوبانِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ كَما مَرَّ، وإضافَةُ (شَهادَةُ) إلى الظَّرْفِ عَلى التَّوَسُّعِ لِأنَّهُ مُتَصَرِّفٌ ولِذا قُرِئَ (تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) بِالرَّفْعِ، وقِيلَ: إنَّ الأصْلَ ما بَيْنَكم وهو كِنايَةٌ عَنِ التَّخاصُمِ والتَّنازُعِ، وحَذْفُ (ما) جائِزٌ نَحْوَ (وإذا رَأيْتَ ثَمَّ) أيْ ما ثَمَّ، وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّ ما المَوْصُولَةَ لا يَجُوزُ حَذْفُها ومِنهم مَن جَوَّزَهُ
وقَرَأ الشَّعْبِيُّ (شَهادَةٌ بَيْنَكُمْ) بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ فَبَيْنَكم حِينَئِذٍ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ. وقَرَأ الحَسَنُ (شَهادَةً) بِالنَّصْبِ والتَّنْوِينِ، وخَرَّجَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلى أنَّها مَنصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ (اثْنانِ) فاعِلُهُ أيْ لِيُقِمْ شَهادَةَ بَيْنِكُمُ اثْنانِ
وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّ حَذْفَ الفِعْلِ وإبْقاءَ فاعِلِهِ لَمْ يُجِزْهُ النُّحاةُ إلّا إذا تَقَدَّمَ ما يُشْعِرُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ في قِراءَةِ مَن قَرَأ (يُسَبَّحُ) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وقَوْلِ الشّاعِرِ
؎لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ
أوْ أُجِيبَ بِهِ نَفْيٌ أوِ اسْتِفْهامٌ وذَلِكَ ظاهِرٌ والآيَةُ لَيْسَتْ واحِدًا مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ
وأُجِيبَ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الِاشْتِراطِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هو شَرْطُ الأكْثَرِيَّةِ، واخْتارَ في البَحْرِ وجْهَيْنِ لِلتَّخْرِيجِ، الأوَّلَ أنْ تَكُونَ (شَهادَةُ) مَنصُوبَةً عَلى المَصْدَرِ النّائِبِ مَنابَ فِعْلِ الأمْرِ و(اثْنانِ) مُرْتَفِعٌ بِهِ، والتَّقْدِيرُ: لِيَشْهَدْ بَيْنَكُمُ اثْنانِ فَيَكُونُ مِن بابِ ضَرْبًا زَيْدًا إلّا أنَّ الفاعِلَ في ضَرْبًا يَسْتَنِدُ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ لِأنَّ مَعْناهُ اضْرِبْ، وهَذا يَسْتَنِدُ إلى الظّاهِرِ لِأنَّ مَعْناهُ ما عَلِمْتَ والثّانِي أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لا بِمَعْنى الأمْرِ بَلْ خَبَرًا نابَ مَنابَ الفِعْلِ في الخَبَرِ وإنْ كانَ ذَلِكَ قَلِيلًا كَقَوْلِهِ
وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَلى مَطِيِّهِمْ
فارْتِفاعُ (p-48)صَحْبِي وانْتِصابُ مَطِيِّهِمْ بِقَوْلِهِ وُقُوفًا فَإنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالفِعْلِ في الخَبَرِ، والتَّقْدِيرُ وقِفْ صَحْبِي عَلى مَطِيِّهِمْ، والتَّقْدِيرُ في الآيَةِ يَشْهَدُ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ اثْنانِ (ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ) أيْ مِنَ المُسْلِمِينَ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ والباقِرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وابْنِ المُسَيَّبِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، أوْ مِن أقارِبِكم وقَبِيلَتِكم كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ الزُّهْرِيِّ وهُما صِفَتانِ لاثْنانِ ﴿أوْ آخَرانِ﴾ عَطْفٌ عَلى اثْنانِ في سائِرِ احْتِمالاتِهِ
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾ صِفَةٌ لَهُ أيْ كائِنانِ مِن غَيْرِكم والمُرادُ بِهِمْ غَيْرُ المُسْلِمِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ عِنْدَ الأوَّلِينَ وغَيْرُ الأقْرَبِينَ مِنَ الأجانِبِ عِنْدَ الآخِرِينَ، واخْتارَ الأوَّلَ جَماعَةٌ مِنَ المُتَأخِّرِينَ حَتّى قالَ الجَصّاصُ: إنَّ التَّفْسِيرَ الثّانِيَ لا وجْهَ لَهُ لِأنَّ الخِطابَ تَوَجَّهَ أوَّلًا إلى أهْلِ الإيمانِ فالمُغايِرَةُ تُعْتَبَرُ فِيهِ ولَمْ يَجْرِ لِلْقَرابَةِ ذِكْرٌ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ أيْضًا سَبَبُ النُّزُولِ، وسَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ﴿إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ أيْ سافَرْتُمْ، وارْتِفاعُ (أنْتُمْ) بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، والتَّقْدِيرُ إنْ ضَرَبْتُمْ فَلَمّا حُذِفَ الفِعْلُ وجَبَ أنْ يُفْصَلَ الضَّمِيرُ لِيَقُومَ بِنَفْسِهِ، وهَذا رَأْيُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، وذَهَبَ الأخْفَشُ والكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِناءً عَلى جَوازِ وُقُوعِ المُبْتَدَإ بَعْدَ (إنِ) الشَّرْطِيَّةِ كَجَوازِ وُقُوعِهِ بَعْدَ إذا فَجُمْلَةُ (ضَرَبْتُمْ) لا مَوْضِعَ لَها عَلى الأوَّلِ لِلتَّفْسِيرِ، ومَوْضِعُها الرَّفْعُ عَلى الخَبَرِيَّةِ عَلى الثّانِي
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأصابَتْكم مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ أيْ قارَبْتُمُ الأجَلَ عُطِفَ عَلى الشَّرْطِ وجَوابُهُ مَحْذُوفٌ، فَإنْ كانَ الشَّرْطُ قَيْدًا في أصْلِ الشَّهادَةِ فالتَّقْدِيرُ إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ إلَخْ فَلْيَشْهَدِ اثْنانِ مِنكم أوْ مِن غَيْرِكُمْ، وإنْ كانَ شَرْطًا في العُدُولِ إلى آخَرِينَ بِالمَعْنى الَّذِي نُقِلَ عَنِ الأوَّلِينَ فالتَّقْدِيرُ فَأشْهِدُوا آخَرِينَ مِن غَيْرِكم أوْ فالشّاهِدانِ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ، وحِينَئِذٍ تُفِيدُ الآيَةُ أنَّهُ يَعْدِلُ في الشَّهادَةِ إلى غَيْرِ المُسْلِمِينَ إلّا بِشَرْطِ الضَّرْبِ في الأرْضِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ أيْ تُلْزِمُونَهُما وتُصَبِّرُونَهُما لِلتَّحْلِيفِ، اسْتِئْنافٌ كَأنَّهُ قِيلَ كَيْفَ نَعْمَلُ إذا ارْتَبْنا بِالشّاهِدَيْنِ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ أيْ صَلاةِ العَصْرِ كَما رُوِيَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وقَتادَةَ وابْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِمْ، والتَّقْيِيدُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ وقْتُ اجْتِماعِ النّاسِ وتَكاثُرِهِمْ ولِأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيانِ يُعَظِّمُونَهُ ويَجْتَنِبُونَ الحَلِفَ الكاذِبَ فِيهِ ولِأنَّهُ وقْتُ تَصادُمِ مَلائِكَةِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وتَلاقِيهِمْ، وفي ذَلِكَ تَكْثِيرٌ لِلشُّهُودِ مِنهم عَلى صِدْقِ الحالِفِ وكَذِبِهِ فَيَكُونُ أخْوَفَ، وعَدَّ ذَلِكَ بَعْضُهم مِن بابِ التَّغْلِيظِ عَلى المُسْتَحْلَفِ بِالزَّمانِ وعِنْدَنا لا يَلْزَمُ التَّغْلِيظُ بِهِ ولا بِالمَكانِ بَلْ يَجُوزُ لِلْحاكِمِ فِعْلُهُ
وعَنِ الحَسَنِ أنَّ المُرادَ بِها صَلاةُ العَصْرِ أوِ الظَّهْرِ لِأنَّ أهْلَ الحِجازِ كانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُما وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلْجِنْسِ أيْ بَعْدِ أيِّ صَلاةٍ كانَتْ والتَّقْيِيدُ بَذْلٌ لِأنَّ الصَّلاةَ داعِيَةٌ إلى النُّطْقِ بِالصِّدْقِ ناهِيةٌ عَنِ التَّفَوُّهِ بِالكَذِبِ والزُّورِ وارْتِكابِ الفَحْشاءِ والمُنْكِرِ، وجَعَلَ الحَسَنُ التَّقْيِيدَ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلى ما تَقَدَّمَ مِن تَفْسِيرِهِ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ صِفَةً أُخْرى لَآخَرانِ، وجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرَضَةٌ فَلا يَضُرُّ الفَصْلُ بِها، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِصاصَ الحَبْسِ بِالآخَرِينَ مَعَ شُمُولِهِ (p-49)لِلْأوَّلِينَ أيْضًا عَلى اعْتِبارِ اتِّصافِهِما بِذَلِكَ يَأْباهُ مَقامُ الأمْرِ بِإشْهادِهِما إذْ مَآلُهُ: فَآخَرانِ شَأْنُهُما الحَبْسُ والتَّحْلِيفُ وإنْ أمْكَنَ إتْمامُ التَّقْرِيبِ بِاعْتِبارِ قَيْدِ الِارْتِيابِ بِهِما كَما يُفِيدُهُ الِاعْتِراضُ الآتِي ولا يَخْفى ما فِيهِ
والخِطابُ لِلْمُوصى لَهم وقِيلَ لِلْوَرَثَةِ وقِيلَ: لِلْحُكّامِ والقُضاةِ
وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ﴾ عُطِفَ عَلى (تَحْبِسُونَهُما ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أيْ شَكَكْتُمْ في صِدْقِهِما وعَدَمِ اسْتِبْدادِهِما بِشَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ، والجُمْلَةُ شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوابُها لِدَلالَةِ ما سَبَقَ مِنَ الحَبْسِ والأقْسامِ عَلَيْهِ، والشَّرْطُ مَعَ جَوابِهِ المَحْذُوفِ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ وقَدْ سِيقَ مِن جِهَتِهِ تَعالى لِلتَّنْبِيهِ عَلى اخْتِصاصِ الحَبْسِ والتَّحْلِيفِ بِحالِ الِارْتِيابِ ولَيْسَ هَذا مِن قَبِيلِ ما اجْتَمَعَ فِيهِ قَسَمٌ وشَرْطٌ فاكْتُفِيَ بِذِكْرِ جَوابِ سابِقِهِما عَنْ جَوابِ الآخَرِ كَما هو الواقِعُ غالِبًا لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ سَدِّ جَوابِ السّابِقِ مَسَدَّ جَوابِ اللّاحِقِ لِاتِّحادِ مَضْمُونِهِما كَما في قَوْلِكَ: واللَّهِ إنْ أتَيْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ ولا رَيْبَ في اسْتِحالَتِهِ هَهُنا لِأنَّ القَسَمَ وجَوابَهُ كَلامُ الشّاهِدَيْنِ والشَّرْطِيَّةَ كَما عَلِمْتَ مِن جِهَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّ (إنْ) هُنا وصْلِيَّةٌ لِأنَّها مَعَ أنَّ الواوَ لازِمَةٌ لَها لَيْسَ المَعْنى عَلَيْها كَما لا يَخْفى. وزَعَمَ بَعْضُهم جَوازَ كَوْنِها شُرْطِيَّةً و﴿لا نَشْتَرِي﴾ دَلِيلُ الجَوابِ، والمَعْنى إنِ ارْتَبْتُمْ فَلا يَنْبَغِي ذَلِكَ أوْ فَقَدْ أخْطَأْتُمْ لِأنّا لَسْنا مِمَّنْ يَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وهو بَعِيدٌ جِدًّا وتَخْلُو الآيَةُ عَلَيْهِ ظاهِرًا مِن شَرْطِ التَّحْلِيفِ وضَمِيرٍ بِهِ عائِدٍ إلى اللَّهِ تَعالى، والمَعْنى لا نَأْخُذُ لِأنْفُسِنا بَدَلًا مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ أيْ مِن حُرْمَتِهِ تَعالى عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا بِأنْ نُزِيلَها بِالحَلِفِ الكاذِبِ، وحاصِلُهُ لا نَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعالى حَلِفًا كاذِبًا لِأجْلِ المالِ، وقِيلَ: إنَّهُ عائِدٌ إلى القَسَمِ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ نَسْتَبْدِلُ بِصِحَّةِ القَسَمِ بِاللَّهِ تَعالى عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا بِأنْ نُزِيلَ عَنْهُ وصْفَ الصِّدْقِ ونَصِفَهُ بِالكَذِبِ، وقِيلَ: إلى الشَّهادَةِ بِاعْتِبارِ أنَّها قَوْلٌ ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْضًا وتَقْدِيرُ مُضافٍ في ﴿ثَمَنًا﴾ أيْ ذا ثَمَنٍ مِمّا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إلّا قِلَّةُ التَّأمُّلِ ﴿ولَوْ كانَ﴾ المُقْسَمُ لَهُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِفَحْوى الكَلامِ ﴿ذا قُرْبى﴾ أيْ قَرِيبًا مِنّا، وهَذا تَأْكِيدٌ لِتَبِرِّيهِما مِنَ الحَلِفِ الكاذِبِ ومُبالَغَةٌ في التَّنَزُّهِ عَنْهُ كَأنَّهُما قالا: لا نَأْخُذُ لِأنْفُسِنا بَدَلًا مِن ذَلِكَ مالًا ولَوِ انْضَمَّ إلَيْهِ رِعايَةُ جانِبِ الأقْرِباءِ فَكَيْفَ إذا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وصِيانَةُ أنْفُسِهِما وإنْ كانَتْ أهَمَّ مِن رِعايَةِ جانِبِ الأقْرِباءِ - لَكِنَّها كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - لَيْسَتْ ضَمِيمَةَ المالِ بَلْ هي راجِعَةٌ إلَيْهِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ عَلى مَعْنى لا نُحابِي أحَدًا بِشَهادَتِنا ولَوْ كانَ قَرِيبًا مِنّا، وجَوابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ اعْتِمادًا عَلى ما سَبَقَ عَلَيْهِ أيْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا، والجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةٍ أُخْرى مَحْذُوفَةٍ أيْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذا قُرْبى ولَوْ كانَ إلَخْ، وجَعَلَ السَّمِينُ الواوَ لِلْحالِ وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ ما يَنْفَعُكَ هُنا
وجَوَّزَ بَعْضُهم إرْجاعِ الضَّمِيرِ لِلشّاهِدِ وقَدَّرَ جَوابًا لِـ (لَوْ) غَيْرَ ما قَدَّرْناهُ أيْ ولَوْ كانَ الشّاهِدُ قَرِيبًا يُقْسِمانِ، وجَعَلَ فائِدَةَ ذَلِكَ دَفْعَ تَوَهُّمِ اخْتِصاصِ الأقْسامِ بِالأجْنَبِيِّ، ولا يَخْفى ما في التَّرْكِيبِ حِينَئِذٍ مِنَ الرَّكاكَةِ الَّتِي لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ في كَلامِ البَعْضِ فَضْلًا عَنْ كَلامِ رَبِّ الكُلِّ، ونَشْهَدُ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ حَمْلَ كَلامِهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ مِمّا لا يَلِيقُ ﴿ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ﴾ أيِ الشَّهادَةَ الَّتِي أمَرَنا سُبْحانَهُ وتَعالى بِإقامَتِها وألْزَمَنا أداءَها (p-50)فالإضافَةُ لِلِاخْتِصاصِ أوْ لِأدْنى مُلابَسَةٍ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةُ عَلى (لا نَشْتَرِي بِهِ) داخِلٌ مَعَهُ في حَيِّزِ القَسَمِ، ورُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ وقَفَ عَلى (شَهادَةْ) بِالهاءِ ثُمَّ ابْتَدَأ (آللَّهِ) بِالمَدِّ والجَرِّ عَلى حَذْفِ حَرْفِ القَسَمِ وتَعْوِيضِ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ مِنهُ ولَيْسَ هَذا مِن حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ وإبْقاءِ عَمَلِهِ وهو شاذٌّ كَقَوْلِهِ أشارَتْ كُلَيْبٌ بِالأكُفِّ الأصابِعِ
لِأنَّ ذَلِكَ حَيْثُ لا تَعْوِيضَ وفي الجَلالَةِ الكَرِيمَةِ تَعْوِيضُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ عَنِ المَحْذُوفِ، وهَلِ الجَرُّ بِهِ أوْ بِالعِوَضِ قَوْلانِ. ورُوِيَ عَنْهُ وكَذا عَنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ويَحْيى بْنِ عُمَرَ وابْنِ جَرِيرٍ وآخَرُونَ (اللَّهُ) بِدُونِ مَدٍّ وفي ذَلِكَ احْتِمالانِ
الأوَّلُ أنَّ الحَذْفَ مِن غَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ عَلى خِلافِ القِياسِ، الثّانِي أنَّ الهَمْزَةَ المَذْكُورَةَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ وهي هَمْزَةُ قَطْعٍ عَوَّضَتْ عَنِ الحَرْفِ ولَكِنَّها لَمْ تُمَدُّ وهَذا أوْلى مِن دَعْوى الشُّذُوذِ ولِذا اخْتارَهُ في الدُّرِّ المَصُونِ، وقُرِئَ بِتَنْوِينِ الشَّهادَةِ ووَصْلِ الهَمْزَةِ ونَصْبِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ مَدٍّ وخَرَّجَهُ أبُو البَقاءِ عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِفِعْلِ القَسَمِ مَحْذُوفًا ﴿إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ﴾
601
- أيْ إذا فَعَلْنا ذَلِكَ وكَتَمْنا، والعُدُولُ عَنْ آثِمُونَ إلى ما ذُكِرَ لِلْمُبالَغَةِ. وقُرِئَ (لَمِلاثِمِينَ) بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِهِما عَلى اللّامِ وإدْغامِ النُّونِ فِيها
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡـَٔاثِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق