قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ الآية، قال مقاتل: يقول: لا يستهزئ الرجل من أخيه فيقول: إنك رديء المعيشة، لئيم الحسب، وأشباه ذلك بما يتنقصه به، ولعله خير منه عند الله [[انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 94.]]، وهو قوله: ﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ ونحو هذا قال مجاهد [[أخرجه الطبري 13/ 131 عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 611.]]، والقوم: الرجال دون النساء، قاله الليث [[انظر كتاب: العين (قوم) 5/ 231، "تهذيب اللغة" (قوم) 9/ 356.]] وأبو العباس [[انظر: "تهذيب اللغة" (قوم) 9/ 356، "اللسان" (قوم) 12/ 505.]]، وأنشد الليث قول زهير:
وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أدْرِي ... أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ [[انظر: "ديوان زهير" ص 73، و"العين" (قوم) 5/ 231، "تهذيب اللغة" (قام) 9/ 356، "اللسان" (قوم) 12/ 505.]]
وعلى هذا تدل الآية لأن الله تعالى فصل بينهما فذكر الرجال بلفظ القوم، ثم ذكر النساء فقال: ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني اللمز في اللغة: العيب [[انظر: "تهذيب اللغة" (لمز) 13/ 220.]]، ذكرنا ذلك عند قوله: ﴿يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: 58]، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: لا يطعن بعضكم على بعض [[أخرج ذلك الطبري 13/ 132 عن ابن عباس، ونسبه الماوردي 5/ 332 لابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير، وأيضًا نسبه إلى هؤلاء القرطبي 16/ 327.]] والمعنى: لا تلمزوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم كما قال: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54]، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، وقد مر.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ التنابز: تفاعل من النبز، وهو المصدر والنبز الاسم، وهو كاللقب. قال المبرد: ويقال: لبني فلان نبز يعرفون به إذا كان لقباً متابعاً [[لم أقف عليه.]]، والألقاب جمع اللقب وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، قاله الليث، يقال: لقبت فلاناً تلقيباً [[انظر: كتاب "العين" (لقلب) 5/ 172، "تهذيب اللغة" (لقلب) 9/ 177.]].
قال عكرمة والحسن ومجاهد وقتادة: وهو أن يقول المسلم لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق [[أخرج ذلك الطبري 13/ 131 - 132 عن عكرمة ومجاهد وقتادة، ونسبه الثعلبي لقتادة وعكرمة 10/ 166 أ، ونسبه القرطبي 16/ 328 لقتادة ومجاهد والحسن.]].
وقال المقاتلان: لا تدعوا مسلماً بغير اسم أهل دينه، وهو أن تقول: يا يهودي يا نصراني، تدعوه بالدين الذي كان عليه في الشرك، نهاهم الله أن يتنابزوا بذلك [[أخرج ذلك الطبري 13/ 132 عن الحسن، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 95، ونسب القرطبي 16/ 328 هذا القول للحسن ومجاهد.]].
وروي عن طلحة بن عمرو أنه قال: قلت لعطاء: يا أبا محمد ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ ما هذا الذي نهى عنه؟ قال: كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، يا كلب يا حمار يا خنزير ونحو هذا [[ذكر ذلك البغوي 7/ 344 ونسبه لعطاء، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 564 لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء، ونسبه في "الوسيط" 4/ 155 لعطاء.]]، فهذا الذي نهي عنه. وقال إبراهيم: كانوا يقولون: إذا قال الرجل للرجل: يا حمار يا كلب يا خنزير، قال الله له يوم القيامة: أتراني خلقته كلباً أو حماراً أو خنزيراً [[لم أقف عليه.]].
وقال الشعبي: قال أبو جبيرة [[هو: زيد بن جبيرة بن محمد بن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري أبو جبيرة المدني، روى عن: أبيه ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الطوالة، وعنه: سويد بن عبد العزيز ويحيى بن أيوب والليث ونافع بن يزيد، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. انظر: "ميزان الاعتدال" 2/ 99، "تهذيب التهذيب" 3/ 400.]] بن الضحاك: قدم علينا رسول الله -ﷺ- المدينة [وليس له رجل [[نص العبارة في تفسير الثعلبي: (وما منا رجل إلا له اسمان ...) وهو الأصوب. انظر: 10/ 166 أ.]] إلا وله اسمان] أو ثلاثة وكان رسول الله -ﷺ- يدعو الرجل فيقول: يا فلان، فيقال: يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم، قال: ففينا أنزل الله: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ [[أخرجه الترمذي عن أبي جبيرة، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: تفسير القرآن باب (50) ومن سورة الحجرات 5/ 388، وأخرجه أبو يعلى في مسنده 12/ 253، وقال حسين سليم أسد محقق "المسند": إسناده صحيح.]]، وهذا كما قال أبو إسحاق في هذه الآية: يحتمل أن يكون في كل لقب يكرهه الإنسان؛ لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36.]]، والقول في هذا النهي هو أن يسميه باسم يضاد الإسلام والإيمان؛ لقوله: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ قال أبو إسحاق: أي: بئس الاسم أن يقول له: يا يهودي يا نصراني، وقد آمن [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36.]].
وقال غيره: معنى هذا: أن من دعا أخاه بلقب يكرهه لزمه اسم الفسق لمخالفة النهي، والله تعالى يقول ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ من فعل ما نهى الله عنه من السخرية واللمز والنبز فسق بذلك [[ذكر نحو ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 133 - 134، والبغوي في "تفسيره" 7/ 344، والقرطبي في "الجامع" 16/ 328.]]، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ أي: من هذه الأشياء ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد: من لم يتب فهو ظالم [[انظر: "زاد المسير" 7/ 469 عن ابن عباس: بلفظ: (الضارون لأنفسهم بمعصيتهم).]].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا یَسۡخَرۡ قَوۡمࣱ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُوا۟ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَاۤءࣱ مِّن نِّسَاۤءٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلۡأَلۡقَـٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن لَّمۡ یَتُبۡ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}