الباحث القرآني

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ قال: يريد كما تأكل أنت [[نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾.]] ﴿وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ يقول: فكيف يكون محمدٌ بدعًا من الرسل [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 62. قال ابن الحربي 3/ 433: وإنما كان يدخلها لحاجته، أو لتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته: ويعرض نفسه على القبائل في == مجتمعهم، لعل الله أن يرجع إلى الحق بهم. وهذا يدل على أنه ينبغي لأهل العلم والفضل دخول الأسواق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ما يتعلق بأحكام البيع والشراء، ونحو ذلك. وفي كتاب: "ظلال القرآن" 5/ 2553، كلام جيِّد في حكمة مشي الأنبياء في السوق. فليراجع. وهذه الآية أصل في تناول الأسباب، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة، وغير ذلك، وفي هذا رد على من لا يأخذ بالأسباب يزعم أنه متوكل. وقد قرر هذه المسألة القرطبي، في تفسيره 13/ 14، تقريرًا حسنًا.]]. ووجه النظم على هذا التأويل مختلف فيه؛ قال الفراء: ﴿إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ﴾ صلة لاسم متروك اكتفى بـ ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ منه؛ كقولك في الكلام: ما بعثت إليك من الناس إلا مَنْ إنَّه ليعطيك. ألا ترى أن قولك: ليعطيك [[هكذا: ليعطيك، في الموضعين، في النسخ الثلاث. وفي "معاني القرآن" للفراء 2/ 264: ليطيعك، من الطاعة. ولعله أقرب. والله أعلم.]] صلة لـ: مِن، وجاز ضميرها [[أي: حذفها. حاشية "معاني القرآن" للفراء 2/ 364.]] كما قال: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: 164] وكذلك قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71] أي: ما منكم إلا من يردها. قال: ولو لم تكن اللام جوابًا لـ ﴿إِنَّ﴾ كانت إنَّ، مكسورةً أيضًا لأنها مبتدأة، إذ كانت صلةً. انتهى كلامه [["معاني القرآن" للفراء 2/ 264. وذكر ابن جرير 18/ 194، قريباً منه. ولم ينسبه.]]. وقال أبو إسحاق: هذا احتجاج عليهم في قوله: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ فقيل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. قال: وأما دخول ﴿إِنَّهُمْ﴾ فعلى تأويل: ما أرسلنا [قبلك من المرسلين] [[ما بين المعقوفين في (ج). وهذه الزيادة غير موجودة في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60.]] إلا هم يأكلون الطعام، وإلا إنهم ليأكلون الطعام. وحذفت رسلًا لأن (إلا)، دليل على ما حذف، فأما مثل اللام بعد إلا فقول الشاعر: ما انطياني ولا سألتهما ... إلا وإني لحاجزي نسبي [[البيت لكُثَيِّر بن عبد الرحمن، وتارة ينسب لصاحبته: عزة، "ديوانه" 219، وهو من قصيدة يمدح فيها عبد الملك، وعبد العزيز ابني مروان بن الحكم ... إنما يريد أنه إذا سألهما وأعطياه حجزه كرمه عن الإلحاف في السؤال. وانطياني: أعطياني. "معاني القرآن" للزجاج 4/ 62. وعند سيبويه، والمبرد، وفي الديوان: أعطياني. وقبل هذا البيت: دع عنك سلمى إذ فات مطلبها ... واذكر خليليك من بني الحكم وقد أورده منسوبًا سيبويه 3/ 145، والمبرد في "المقتضب" 2/ 346، ولم ينسبه، قال عبد السلام هارون، في تحقيقه للكتاب: الشاهد فيه كسر: إنَّ، لدخول اللام في خبرها، والجملة واقعة موقع الحال، ولو حذف اللام لم تكن إلاَّ مكسورة أيضًا لوقوع الجملة موقع الحال. ونص البيت عند الزجاج، وفي "الكتاب"، كرمي، بدل: نسبي، كما هو في النسخ كلها.]] وقال في قول الفراء: وهو خطأ بيِّن؛ لأنه لا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 60.]]. وهذه مسألة خلاف بين الكوفيين والبصريين. ذكرنا هذا قديمًا. وعلى ما قال الزجاج، الموصوف محذوف. وعلى قول الفراء، الموصول هو المحذوف. وذكر ابن الأنباري، قول الفراء واحتج عليه بأبيات ذكرناها قديمًا، فيما مضى من الكتاب؛ منها قول ذي الرُّمة: فَظَلُّوا ومنهم دمْعُه سابقٌ له .. البيت [["ديوان ذي الرمة" ص 56، وعجزه: وآخرُ يَثني دمعة العين بالمَهْلِ= ورواية الديوان: فظلوا ومنهم دمعه غالب له وأنشده الفراء كاملاً، ونسبه لذي الرمة، وقال: يريد: منهم من دمعه سابق. "معاني القرآن" للفراء 1/ 271، في تفسير سورة النساء.]] وقول آخر: لو قلتَ ما في قومِها لم تيثمِ ... يفضُلها في حَسَبٍ ومِيسَمِ [[أنشده سيبويه 2/ 345، والفراء "معاني القرآن" 1/ 271، وابن جني، "الخصائص" 2/ 370، والبغدادي "الخزانة" 5/ 62، ولم ينسبوه. وفي حاشية الكتاب: البيت لحكيم بن معية. وأصل: تيثم: تأثم، والميسم: الجمال من الوسامة. والشاهد فيه: حذف الموصوف؛ التقدير: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها لم تكذب فتأثم.]] وذكر قولًا آخر فقال: كسرت إنَّ، بعد: إلاَّ، للاستئناف بإضمار واو بتقدير إلا وإنهم، فأضمرت الواو كما أضمرت في قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: 4] والتأويل: أو وهم قائلون. قوله تعالى: ذكروا فيه ثلاثة أقوال [[ذكر الماوردي 4/ 138، أربعة أقوال. وهي قريبة مما ذكر الواحدي.]]؛ أحدها: أن هذا في رؤساء المشركين؛ فقراءُ الصحابة جعلوا فتنة لهم [["تفسير السمرقندي" 2/ 456، ولم ينسبه.]]. وهو قول: الكلبي، واختيار الفراء [["معاني القرآن" للفراء 2/ 265.]]. قال الكلبي: ﴿فِتْنَةٌ﴾ بلية، ابتلي الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى [["تنوير المقباس" ص 302.]]، فإذا رأى الشريفُ الوضيعَ قد أسلم قبله حمي أنفًا أن يسلم فيكون مثله، وقال: أُسلم فأكون مثل هذا الوضيع شرعًا سواء [["تفسير السمرقندي" 2/ 456، ولم ينسبه. ونسبه في "الوسيط" 3/ 337، للكلبي. وكذا في البحر 6/ 450. ويشهد له قوله تعالى: قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾. "تفسير الرازي" 24/ 65.]]. وذكر أبو إسحاق هذا القول فقال: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فعلم أن مَنْ دونه في الشرف قد أسلم قَبْله فيمتنع من الإسلام لئلا يقال: أسلم مِن قَبْلِه مَنْ هو دونه [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 26. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 265.]]. ويقيم على كفره لئلا يكون له السابقة والفضل عليه. وذلك افتتان بعضهم ببعض. القول الثاني: أن هذا عام في جميع الخلق. رُوي ذلك عن أبي الدرداء، عن النبي -ﷺ- قال: "ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم [[ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب).]]، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان [[ما بين المعقوفين، في (ج).]]، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد. بعضهم لبعض فتنة" [[ذكره هود الهوّاري في تفسيره 3/ 205، فقال: ذكروا عن الحسن قال: قال رسول الله -ﷺ- .. وذكره الثعلبي 94 أ، بإسناده عن الحسن عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-. وعنه القرطبي 13/ 18. وذكره السيوطي 6/ 244، عن الحسن، يرفعه للنبي -ﷺ-، مع اختلاف في اللفظ. ونسبه لابن أبي شيبة. ولكني لم أجده عنده. والحسن، هو البصري، ثقة فقيه فاضل مشهور، لكنه كان يرسل كثيرًا، ويدلس. "السير" 4/ 563، و"جامع التحصيل" 194، و"التقريب" 236. وقد عنعن الحسن في هذا الحديث فهو بهذا الإسناد لا يصح رفعه، فلعله من كلام الحسن. والله أعلم.]]. فهو قول الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾. القول الثالث: أن هذا في أصحاب البلاء والمعافين. يقول الفقير: لِمَ لَمْ أجعل بمنزلة الغني. ويقول ذو البلاء؛ كالأعمى، والزَّمِن: لِمَ لَمْ أجعل بمنزلة المعافى [[ذكر هذا القول ابن جرير 18/ 194، عن الحسن. ونحوه عن ابن جريج. ويشهد == لهذا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ الله -ﷺ- قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ منه" البخاري، كتاب الرقاق، رقم: 6490، الفتح 11/ 322. ومسلم 4/ 2275، كتاب الزهد، رقم: 2963.]] وذكر مقاتل: أن هذا قول في ابتلاء فقراء المؤمنين، نحو: بلال، وخباب، وأبي ذر، وابن مسعود، وصهيب، وعمار، بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدًا من موالينا، [وأعواننا رذلة] [[ما بين المعقوفين، من "تفسير مقاتل" ص 44 أ. لأن ما في النسخ الثلاث لا يستقيم به المعنى.]] كل قوم، فقال الله لهؤلاء الفقراء: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ على الأذى والإستهزاء [[فليس لمن قد فتن فتنة دواء مثل الصبر. "إغاثة اللَّهفان" 2/ 157.]] ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ إن صبرتم. فصبروا، ولم يجزعوا. فأنزل الله فيهم: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [المؤمنون: 111] أي: في الدنيا على الأذى والإستهزاء من كفار قريش [["تفسير مقاتل" ص 44 أ. وذكره عن مقاتل الثعلبي 94 ب. ذكر الهواري 3/ 206، عن بعض المفسرين أن هذه الآية في الأنبياء وأقوامهم. ونسبه الماوردي 4/ 138، ليحيى بن سلام، ويشهد لهذا قوله تعالى: قال تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ومن السنة قوله -ﷺ-: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ... وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك". صحيح مسلم 4/ 2197، كتاب الجنة، رقم: 2865. ولا مانع من حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. تفسير الرازي 24/ 66. فالخطاب لجميع الناس، لاختلاف أحوالهم. "تفسير ابن جزي" 483. وانظر: "إغاثة اللَّهفان" 2/ 155. فهذه الأقوال التي ذكرها الواحدي لا تعارص بينها فهي تفسير للآية بالمثال. والله أعلم.]]. وقال الفراء، على قول الكلبي ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ [[يعني بقول الكلبي ما سبق ذكره من فتنة الشريف من قريش بمن هو دونه. وذكر == الفراء هذا القول 2/ 265، ولم ينسبه. وعلى هذا يكون الخطاب هنا لكفار قريش. أي: أتصبرون مع النبي -ﷺ- وسلمان وأصحابه حتى تكونوا معهم في الدين والأمر سواء. "تنوير المقباس" ص 302.]] يقول: هو هذا الذي ترون. فمعناه: هو هذا السبق على قدر الدرجات. وقال أبو إسحاق: أي: أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وُعِد الصابرون [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 26.]]. وقال صاحب النظم: ليس لقوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ في الظاهر انتظام ما اتصل به من اللفظ؛ لأن فيه إضمارًا كأنه يقول: لنعلم أتصبرون أم لا. فأومأ بقوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ إلى هذا الإضمار لأنه يقتضيه. وذكر عطاء عن ابن عباس قولًا آخر في هذه الآية؛ وهو: أن الله تعالى لما ذكر أن من أرسل قبله كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ذكر أنه جعل محمدًا -ﷺ- سبب ضلالة من أنكروا نبوته بقولهم: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ الآية، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ﴾ يعني: محمدًا -ﷺ- ﴿لِبَعْضٍ﴾ يعني: المشركين ﴿فِتْنَةً﴾ ضلالة، ثم قال لنبيه: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ يريد: اصبر. هذا الذي ذكرنا معنى قوله [[أي: معنى قول ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الضحاك، في معنى: قوله تعالى. ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ أي: على الحق. القرطبي 13/ 18.]]. ويجوز أن يكون الاستفهام يراد به الأمر كقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] أي: انتهوا. كذلك هاهنا أُمر النبي -ﷺ- وأصحابه بالصبر على ما يسمعون من المشركين [["تفسير السمرقندي" 2/ 456. و"تفسير أبي حيان" 6/ 450.]] ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [[في هذه الآية تكريم للنبي -ﷺ- بإضافته لربوبية الله.]] أي: بمن يصبر وبمن يجزع [[أخرج هذا ابن جرير 18/ 195، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي 94 ب، ولم ينسبه. ونسبه له الماوردي 4/ 138.]]. وقال ابن عباس: يريد بما تعملون [[أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2676، عن عبيد بن عمير: قال تعالى: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ قال: يعني: الناس عامَّة. ولم ينسبه لابن عباس. وقال السمرقندي 2/ 457: عالماً بمن يصلح له الغنى، والفقر. وقال الماوردي 4/ 139: بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة. ولا تعارض بينها. ولم يذكره الواحدي -رحمه الله- في "الوسيط" 3/ 337.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب