الباحث القرآني

(p-٥٨)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: فِيهِ أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّ هَذا في رُؤَساءِ المُشْرِكِينَ وفُقَراءِ الصَّحابَةِ، فَإذا رَأى الشَّرِيفُ الوَضِيعَ قَدْ أسْلَمَ قَبْلَهُ أنِفَ أنْ يُسْلِمَ، فَأقامَ عَلى كُفْرِهِ لِئَلّا يَكُونَ لِلْوَضِيعِ السّابِقَةُ والفَضْلُ عَلَيْهِ؛ ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ [ الأحْقافِ: ١١] وهَذا قَوْلُ الكَلْبِيِّ والفَرّاءِ والزَّجّاجِ. وثانِيها: أنَّ هَذا عامٌّ في جَمِيعِ النّاسِ، رَوى أبُو الدَّرْداءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ويْلٌ لِلْعالِمِ مِنَ الجاهِلِ، ووَيْلٌ لِلسُّلْطانِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، ووَيْلٌ لِلرَّعِيَّةِ مِنَ السُّلْطانِ، ووَيْلٌ لِلْمالِكِ مِنَ المَمْلُوكِ، ووَيْلٌ لِلشَّدِيدِ مِنَ الضَّعِيفِ، ولِلضَّعِيفِ مِنَ الشَّدِيدِ، بَعْضُهم لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ» وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. وثالِثُها: أنَّ هَذا في أصْحابِ البَلاءِ والعافِيَةِ، هَذا يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ مِثْلَهُ في الخَلْقِ والخُلُقِ، وفي العَقْلِ وفي العِلْمِ، وفي الرِّزْقِ وفي الأجَلِ ؟ وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ. ورابِعُها: هَذا احْتِجاجٌ عَلَيْهِمْ في تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ بِالرِّسالَةِ مَعَ مُساواتِهِ إيّاهم في البَشَرِيَّةِ وصِفاتِها، فابْتَلى المُرْسَلِينَ بِالمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وأنْواعِ أذاهم، عَلى ما قالَ: ﴿ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرًا﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨٦] والمُرْسَلُ إلَيْهِمْ يَتَأذَّوْنَ أيْضًا مِنَ المُرْسَلِ بِسَبَبِ الحَسَدِ وصَيْرُورَتِهِ مُكَلَّفًا بِالخِدْمَةِ وبَذْلِ النَّفْسِ والمالِ بَعْدَ أنْ كانَ رَئِيسًا مَخْدُومًا، والأوْلى حَمْلُ الآيَةِ عَلى الكُلِّ؛ لِأنَّ بَيْنَ الجَمِيعِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ أصْحابُنا: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى القَضاءِ والقَدَرِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ قالَ الجُبّائِيُّ: هَذا الجَعْلُ هو بِمَعْنى التَّعْرِيفِ كَما يُقالُ فِيمَن سَرَقَ: إنَّ فُلانًا لِصٌّ، جَعَلَهُ لِصًّا، وهَذا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى أضافَ الجَعْلَ إلى وصْفِ كَوْنِهِ فِتْنَةً، لا إلى الحُكْمِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، بَلِ العَقْلُ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ غَيْرُ ما ذَكَرَهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ فاعِلَ السَّبَبِ فاعِلٌ لِلْمُسَبَّبِ، فَمَن خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى مِزاجِ الصَّفْراءِ والحَرارَةِ وخُلُقِ الغَضَبِ فِيهِ ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ الإدْراكَ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلى الشَّيْءِ المُغْضِبِ، فَمَن فَعَلَ هَذا المَجْمُوعَ كانَ هو الفاعِلَ لِلْغَضَبِ لا مَحالَةَ، وكَذا القَوْلُ في الحَسَدِ وسائِرِ الأخْلاقِ والأفْعالِ، وعِنْدَ هَذا يَظْهَرُ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الَّذِي جَعَلَ البَعْضَ فِتْنَةً لِلْبَعْضِ. سَلَّمْنا أنَّ المُرادَ ما قالَهُ الجُبّائِيُّ أنَّ المُرادَ مِنَ الجَعْلِ هو الحُكْمُ، ولَكِنَّ المَجْعُولَ إنِ انْقَلَبَ لَزِمَ انْقِلابُهُ انْقِلابَ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الصِّدْقِ إلى الكَذِبِ، وذَلِكَ مُحالٌ، فانْقِلابُ ذَلِكَ الجَعْلِ مُحالٌ، فانْقِلابُ المَجْعُولِ أيْضًا مُحالٌ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ القَوْلُ بِالقَضاءِ والقَدَرِ. المسألة الثّالِثَةُ: الوجه في تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّ القَوْمَ لَمّا طَعَنُوا في الرَّسُولِ ﷺ بِأنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ، وبِأنَّهُ فَقِيرٌ، كانَتْ هَذِهِ الكَلِماتُ جارِيَةً مَجْرى الخُرافاتِ، فَإنَّهُ لَمّا قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى النُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِن هَذِهِ الأشْياءِ أثَرٌ في القَدْحِ فِيها، فَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأذّى مِنهم مِن حَيْثُ إنَّهم كانُوا يَشْتُمُونَهُ، ومِن حَيْثُ إنَّهم كانُوا يَذْكُرُونَ الكَلامَ المُعْوَجَّ الفاسِدَ، وما كانُوا يَفْهَمُونَ الجَوابَ الجَيِّدَ، فَلا جَرَمَ صَبَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى كُلِّ تِلْكَ الأذِيَّةِ، وبَيَّنَ أنَّهُ جَعَلَ الخَلْقَ بَعْضَهم فِتْنَةً لِلْبَعْضِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَوْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ الخَبَرَ، لَما ذَكَرَ عَقِيبَهُ ﴿أتَصْبِرُونَ﴾؛ لِأنَّ أمْرَ العاجِزِ غَيْرُ جائِزٍ. المسألة الثّانِيَةُ: المَعْنى: أتَصْبِرُونَ عَلى البَلاءِ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ ما وعَدَ اللَّهُ الصّابِرِينَ ﴿وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ (p-٥٩)أيْ هو العالِمُ بِمَن يَصْبِرُ ومَن لا يَصْبِرُ، فَيُجازِي كُلًّا مِنهم بِما يَسْتَحِقُّهُ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ. المسألة الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أتَصْبِرُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ، والمُرادُ مِنهُ التَّقْرِيرُ، ومَوْقِعُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الفِتْنَةِ مَوْقِعُ ”أيُّكم“ بَعْدَ الِابْتِلاءِ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب