الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ . ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، أنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ النّاسِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ. وَهَذا المَعْنى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٥٣] . (p-٣٦)وَقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ ومَعْنى هَذا: أنْ كُلَّ واحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصاحِبِهِ، فالغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالفَقِيرِ عَلَيْهِ أنْ يُواسِيَهُ ولا يَسْخَرَ مِنهُ، والفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالغَنِيِّ عَلَيْهِ أنْ لا يَحْسُدَهُ ولا يَأْخُذَ مِنهُ إلّا ما أعْطاهُ، وأنْ يَصْبِرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى الحَقِّ، كَما قالَ الضَّحّاكُ في مَعْنى: ﴿أتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠]: أيْ عَلى الحَقِّ، وأصْحابُ البَلايا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعافَ ؟ والأعْمى يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كالبَصِيرِ ؟ وهَكَذا صاحِبُ كُلِّ آفَةٍ، والرَّسُولُ المَخْصُوصُ بِكَرامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأشْرافِ النّاسِ مِنَ الكُفّارِ في عَصْرِهِ وكَذَلِكَ العُلَماءُ، وحُكّامُ العَدْلِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] فالفِتْنَةُ أنْ يَحْسُدَ المُبْتَلى المُعافى، ويُحَقِّرَ المُعافى المُبْتَلى، والصَّبْرُ أنْ يَحْبِسَ كِلاهُما نَفْسَهُ، هَذا عَنِ البَطَرِ، وذَلِكَ عَنِ الضَّجَرِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ القُرْطُبِيِّ. وَإذا عَلِمْتَ مَعْنى كَوْنِ بَعْضِهِمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ. فاعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٥٣] . فِيهِ فِتْنَةُ أغْنِياءِ الكُفّارِ بِفُقَراءِ المُسْلِمِينَ، حَيْثُ احْتَقَرُوهم وازْدَرُوهم، وأنْكَرُوا أنْ يَكُونَ اللَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَهم لِأنَّهم في زَعْمِهِمْ لِفَقْرِهِمْ، ورَثاثَةِ حالِهِمْ، لا يُمْكِنُ أنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ ويُعْطِيَهم مِن فَضْلِهِ الواسِعِ كَما قالَ تَعالى عَنْهم أنَّهم قالُوا فِيهِمْ: ﴿لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١] وقالَ: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا﴾ [ص: ٨] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، وسَيُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى احْتِقارِهِمْ لَهم في الدُّنْيا كَما قالَ تَعالى: ﴿أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكم ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: ٤٩] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ ﴿وَإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ . . . . إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [البقرة: ٢١٢] وقَوْلِهِ تَعالى: (أتَصْبِرُونَ)، أيْ عَلى الحَقِّ أمْ لا تَصْبِرُونَ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب